18 يونيو 2010

شيء عن ومن الذكريات


لا نمتلك لحظة الذكريات، بل تملكنا. لا نستطيع أن نجبر أنفسنا على عدم التذكر حين نمر في مكان كتبت فيه بعض سطور حياتنا. كما تمر على بستان في الخريف فتشم آثار الربيع فيه، كذلك هي تلك الأماكن التي تعيد نشوة زمن مضى، أو أحزانه. لا تملك المشاعر عقلاً تجعلها تعيد تصوير المشاهد كما تريد، لكنها تملك قوة لأن تدس بعض هذه المشاهد في زوايا ضيقة من الذاكرة بحيث لا نستطيع أن نستعيدها إلا بأن نمر في نفس تلك اللحظات مجددًا. كحبات الرمل الناعمة، ينزلق الزمن من بين أصابعنا فلا تبقى إلا خشونته كذلك هو يرسم علاماته، أو يضعها ولا نملك أمامها إلا التسليم، والإذعان.

.

كل البشر يخوضون يوميًا مئات الحروب 'الدونكيشوتية' ليحاربوا طواحين الذكريات، لعلهم يتخلصون من هذه الأحمال التي أثقلت ظهورهم، لكنهم لا يعلمون أن الذكريات لا نعيش معها فقط، بل تعيش فينا، وإذا استطعنا أن نخاصم أنفسنا استطعنا أن نتخلص منها، وحده الموت هو الذي يرسم حدود الهدنة ما بيننا وبين ذكرياتنا. يعتقد الكثيرون أنّه بإمكاننا أن نهزم ذكرياتنا، وإذا فشلوا بذلك آمنوا بأنهم مهزومون، تمثل هذه قمة الأوقات العصيبة عند الإنسان، حرب تخوضها نفسه بالإنابة عن نفسها. ليست كل الحروب قابلة لتحقيق النصر فيها، ثمة حروب يجب أن تخوضها، لمجرد خوضها. «رغم أنني مررت بكل ما أنا فيه الأن، غير أني لستُ نادمًا على أية صعوبات قابلتها، لأنها هي التي جلبتني إلى هذا المكان الذي أردت أن أصله. والآن كل ما أملكه هو هذا السيف، وأنا أعطيه لكل من يرغب مواصلة رحلته. إنني أحمل معي علامات المعركة وندوبها، إنها الشواهد لما عانيت، والمكافآت على ما فتحت».

.

الماضي ليس وقتًا كميًا، ليس ساعاتٍ، أو سنوات، أو أيام. الماضي هو صندوق تدخله من طرفٍ، لتخرج من الطرف الآخر له وأنت معجون بآلاف التأثيرات التي تعطيك الإجابة عمّن أنت؟ .. "من أنا؟ فأنا أنتظر الأكثر جدارة، وأنا لست جديرًا حتى أن أموت من أجله."، بعضنا يعيش هذه الحالة، ينتظر تلاشي الذكريات، وبعضنا يعيد إحيائها في كل لحظة لأنه لم يستطع أن يوجد ما هو أحسن منها، في كل الأحوال تبقى مندسة لتقفز في اللحظة المناسبة، في الوقت الذي يغلب فيه الظن بأنها اختفت وأن الإنتصار على بروزها الدائم قد تم، فالعيش معها هو إنهزامية تضفي الخجل، خجل من الحنين الدائم للماضي، أو من الهروب المتسرع إلى المستقبل.

.

«عليك أن تصبح طفلاً كي لا يزعجك الخجل» هكذا قال الحكيم ذات مرة. الطفولة لا تعود، ولكن الرغبة بها تعود، الطفل لا يعرف المجاملة، ولا الخجل فهو صريح إلى أقصى درجة، ولهذا يحنّ كل إنسان إلى طفولته، إلى تلك البراءة والمباشرة التي افتقدها، إلى عدم الخجل مما يريد، وما يرغب، وما يبحث عنه. لا أعلم ما حدث، لكني أعلم أن تلك اللحظة جرتني إلى الطفولة، لم تعد إليّ مجرد ذكريات حسبتها طويت، بل أحيتها فيّ للحظات.

.

لكل يوم من أيام الأسبوع، طعم وشعور، يوم خفيف وآخر ثقيل، لم يكن الناس يستسيغون الجمعة فهو أثقل أيام الأسبوع، ولكن هل رأيتم يومًا بدايته ثقيلة ونهايته خفيفة؟ على غير العادة، كان الجمعة كذلك عندي. يبدء يومًا ثقيلاً فصباحه آخر صباح في العطلة، وينتهي خفيفًا، يحكى أنّ أحدهم سأل آينشتاين مرة عن النسبية، فكان جوابه: إن الساعة التي تقضيها مع إمراة قبيحة تشعر بها كالدهر، والساعة التي تقضيها مع إمرأة جميلة تمر كدقيقة. ربما، يقدم هذا المثال اجابة سؤال: لماذا ينتهي ذلك اليوم خفيفًا؟ لا زلت أذكر أنني سمعت باسم «محمد بن الحنفية» لأول مرة في ذلك اليوم، ولعل ذلك يرجع لأنها الجملة العربية الوحيدة التي فهمتها، بالنسبة لطفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، ليس من اليسير عليه أن يلتقط جملة مفيدة من محاضرة طويلة بلغة غريبة عليه حينها.

.

كان إمام المسجد رحمه الله- شيخًا مسنًا، منبره على يسار المحراب، عدة درجات في نهايتها مقعد صغير من الخشب القديم المغطى بقطعة من القماش الأسود، بينما ظل المحراب أبيض اللون كلون الحيطان التي امتزجت بلون السجادة الخضراء التي بدت وكأن خيوطها قد ألقت بظلالها على الحوائط. الباب من الحديد المصنوع يدويًا عند أحد الحدادين، بعد الدخول منه ستصادفك على اليمين دورات المياه، وخارجها محلات الوضوء، وبظهر المتوضي تبقى إحدى أجمل المكتبات التي ارتبطتُ بها، كانت مساحتها صغيرة لدرجة أن متوليها بالكاد يكفيه المكان داخلها ولكني كنت أراها عظيمة. يُقال بأن أعيننا لا يتغير حجمها منذ الولادة، وهذا صحيح، فإن الأشياء هي التي تكبر وتصغر بقدر تأثيرها، وتأثرنا بها.

.

مغرب كل يوم جمعة هو الموعد الحقيقي لابتدائه، كانت الصلاة بهذا المسجد الصغير المختبئ وسط الشجيرات طقس لا يكتمل هذا اليوم دونه، وثاني الطقوس كنت أحضره متفرجًا لا أفهم معظم الحديث الذي يدور بين الرجال، كل ما أتذكره هو أنه بكل أسبوع كان «خالد خلف» المحامي يلفت ناحيتي قائلاً: "كله من يدّك! قص على أبوي وخلاه يتزوج هندية معاه" ثم يضحك وهو ممسك بسيجاره الكوبي خلف مكتبه، المكتب الذي يقع تحته واحد من أشهر مطاعم الكويت .. (نــوارة)!

.

لا أظنها صدفة أبدًا، أن أقف بالأمس على أطلال ذلك المسجد الصغير في شرق، الذي كان ينتهي مساء كل جمعة بنظرة لمأذنته الصغيرة وهي تتوارى من بعيد خلف الأشجار، بعد أن كان يبتدئ بالصلاة خلف إمامه المسن، وبين مقابلتي اليوم لمؤذن المسجد. أعادت رؤيته لذاكرتي عشرات الأوجه التي جرفتها الدنيا ولم اعد أراها، أو أضحت ضيفة تحت التراب، يبدو الخجل في أعلى درجاته الآن لأني وقفت حائرًا والذكريات تهاجمني من كل ناحية وأجد نفسي عاجزًا عن البوح بها كلها، ليس أسوء من الحديث سوى عدم القدرة عليه! كثيرة هي الأثقال التي تكبل الألسن وتسلب منا سرعة البديهة في الرد أو اتخاذ الموقف، ويهونها أنها أثقال مؤقتة إلا في مثل هذه المواقف حيث تعجز حروف اللغة الثمانية والعشرون عن تكوين كلمات تعبّر عمًا يجيش في الصدر، فنقف صامتين، ومتأملين، نتحسر على زمن الطفولة!

.

لست أدري ما الذي دفعني لأن أقود سيارتي إلى هناك مجددًا، لأقف على أطلال المسجد، ربما الشوق إلى تلك الأيام، أو الحنين إلى شعور الدفء الذي كانت تضفيه جدرانه على المصلين، أو الرغبة بالانعزال والهروب من البشر إلى الخالق عز وجل، أو لعلها الرغبة الجامحة في العودة إلى لحظات كان يجمع فيها المسجد أرواحًا ليست بيننا اليوم، وأفتقدها.

حاولت أن ألملم شتات ما بقي مندسًا بذاكرتي عن تلك الأيام، في بعض الصور، لعلها تعيد إحياء بعضًا من لحظاتي المندسة في جوانب الذاكرة.

غريب هو، كيف أنه بهدم شيء، تبنى صروح الذكريات، وكأنه درس من الحياة يعلمنا أنّ «هناك لحظات على المرء فيها أن يتصرف، ولحظات أخرى عليه فيها أن يتقبل».

.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما بين الأقواس مقتبس من:

فارس النور، كويلو.

هكذا تكلم زرادشت، نيتشه.