يُقال في المثل الفارسي ما ترجمته: العِلمُ كلبُ الشيطان.
ومعناه أنّ العلم ليس عاصمًا للإنسان، بل قد ينهشه كما ينهش كلب الصيد طريدته، وهو
في الحالة هنا كان كلبًا للشيطان أطلقه على الإنسان، فظنّ أنه قادر على أن يروّضه
وانتهى به الحال ضحية له. ما تقوله الأمثال يمكن أن نعتبره شيئًا أشبه
بـ"البديهة الإنسانية" فهي خبرة مشتركة بين كل الناس تختلف بألفاظها
وتتفق بمضمونها. ومفادها أنّ هناك شيئًا دخيلاً لا يزال مجهولاً لم يناط لثامه
بالكامل له دخالة بسلامة الإنسان وإنحرافه، شيء يفوق الأجوبة المعتادة من كون
العلم أو المعرفة أو العقل قادرة لوحدها على عصمة الإنسان من الانحراف أو الضلال!
حين تقرأ تاريخ البشرية، لا تستطيع أن تهمل التساؤلات
التي تتكاثر في الذهن عن الأسباب التي أدت لإنحراف جماعات، أو ضلال أفراد، أو كيف
نشأت الكثير من الخرافات والمعتقدات، أو تسربت اعتقادات لأذهان أخرى فاختلطت مع
أساطير وأوهام وعادات الآخرين. بل كيف نشأت الكثير من الفِرَق والمِلل، وكيف تم
إعادة تشكيل الأفكار وظهور النِّحَل. ولست وحيدًا في هذه التساؤلات، فقد طرحت من
كل صاحب فكر، وقدمت لها الإجابات من أصحاب النظر. وكنت أثناء مطالعتي تخطر علي هذه
الأسئلة فأرى أحدهم تارة يصنّف فيها، وآخر يمر عليها عارضًا، وثالث يلمّح لها
تلميحًا، إلا أنّ التساؤل لم يشبع، والنّهم لم ينته.
يذكر الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني (ت: 380 هـ) في
مقدمة كتابه "الغَيْبَة" السبب الدافع لكتابته فيقول: «فقصدت القربة إلى الله عز وجل بذكر ما جاء عن الأئمة الصادقين الطاهرين عليهم
السلام من لدن أمير المؤمنين عليه السلام إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي
عمي عن حقيقتها ونورها من أبعده الله عن العلم بها...»، فهو يعتبر عدم العلم نوعًا من العمى يصدّ
الإنسان عن رؤية النور (الذي هو نوع نور غير مادي يشير إلى صفاء الحقيقة حتى لا
تحتاج لتوسط غيرها في البَين لبيانها)، لكن ما السبب الذي يجعل هذا الشخص مبصرًا
والآخر أعمى؟ يشير النعماني إلى مفهوم "تشّكك الإيمان" أي تعدد المراتب
للحقيقة الواحدة، فيقول: «وأكثر من دخل في
هذه المذاهب إنما دخل على أحوال: فمنهم من دخله بغير رويّة ولا علم، فلما اعترضه يسير
الشبهة تاه. ومنهم من أراده طلبًا للدنيا وحطامها، فلما أمالَه الغواة والدنيويون إليها
مال مؤثرًا لها على الدين، مغترًا مع ذلك بزخرف القول غرورًا من الشياطين ... ومنهم
من تحلى بهذا الأمر للرياء والتحسن بظاهره، وطلبًا للرئاسة، وشهوة لها وشغفًا بها من
غير اعتقاد للحق، ولا إخلاص فيه، فسلب الله جماله وغير حاله، وأعد له نكاله. ومنهم
من دان به على ضعف من إيمانه، ووهن من نفسه بصحة ما نطق به منه، فلما وقعت هذه المحنة
التي آذننا أولياء الله صلى الله عليهم بها مذ ثلاثمائة سنة تحير ووقف ...».
ويمكن للحَذِق حين يَسْبُر هذه الحالات
التي ذكرها النعماني أن يرى بوضوح أنها حالات نفسانية، وجدانية، تُتَرجم بالخارج
إلى انتماء أو ترك لاعتقاد ما، فالرياء وطلب السلطة والعجلة والغرور وغيرها هي طبائع
إنسانية تنشأ من الطمع والجشع، ولا يختص ذلك بالماديّات بل حتى بالأمور المعنوية،
فالإنسان لا يبحث عن المال حتى يشبع نهمه فقط بل الكثير من الناس يبحثون عن فعلٍ
يخلدهم، ولو كان بالسلب، فلا يمتنعون من ارتكاب العجائب كمن بال في بئر زمزم، أو
أجرم وبطش في النّاس.
غير أنّ النعماني يرجع السبب في الإندفاع مع
هذه الحالات النفسانيّة والطبائع الإنسانية بحيث تصبح سببًا لمبدأ كل ضلالة، إلى
الجهل، والجهل قسمان عنده، جهلٌ يعني عدم العلم، وجهل يعني عدم أخذ العلم من موارده الصحيحة بل من أدعيائه، فيقول: «ولعمري ما أُتيَ
من تاه وتحير وافتتن وانتقل عن الحق وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية
والعلم وعدم الدراية والفهم، فإنهم الأشقياء، لم يهتموا بطلب العلم ولم يتعبوا أنفسهم
في اقتنائه وروايته من معادنه الصافية على أنهم لو رووا ثم لم يدروا لكانوا بمنزلة
من لم يرووا».
والسبب
الذي دعاه إلى وضع الجهل في هذا الموضع اعتباره أنّ العلم بما هو علم يرشد الإنسان
لهداه، ويوضح له ما اشتبه عليه، ويوقفه على حقيقة الأشياء فيعرف منها النافع،
ويتجنّب الضار، وبعبارته: «وتحقق فيهم وصف
الفرقة الثابتة على الحق التي لا تزعزعها الرياح، ولا يضرها الفتن، ولا يغرها لمع السراب،
ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم»، وبذلك يكون اليقين قرين الإنسان فلا ينقدح
الشك في قلبه ليكون سببًا في الإقدام على ما اشتبه عليه: «بما أوجبته قبائح الأفعال ومساوئ الأعمال، والشح
المطاع، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي، والشهوات المتبعة، والحقوق المضيعة
التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس، فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم كما قال أمير
المؤمنين عليه السلام في كلامه لكميل بن زياد في صفة طالبي العلم وحملته: (... أو منقادًا
لأهل الحق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ...) حتى أدّاهم ذلك إلى
التيه والحيرة والعمى والضلالة، ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين
الله، وتمسكوا بحبل الله، ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم». فالثبات على الحقيقة هو جهاد يتطلب
التعلّم الدائم، والمداومة على العمل بهذا العلم، ومقاومة نزعات النفس بجرّ هذا
العلم إلى خانة الرياء أو التكسب أو الاستفادة في تحقيق المصالح الخاصة
والأنانيّة، كما أنّ العلم ليس كل معرفة ملفقة بل هي معرفة تامة بذاتها لا تكون شرعةً لأي أحد بل لأهلها الذين استحقوا حملها.
يتضّح من هذا، أنّ النعماني يُرشد إلى أن
الضلال والإنحراف ليسا قدرًا مفروضًا على الإنسان ولكنهما ثمرة طبيعية لغرس الجهل
الذي غرسه في نفسه، وهذا الجهل هو ابن شرعي للشك، فإن نفي الحقائق، واخضاع كل علم
للشك لا لإختباره إنما لنفي الحقيقة عنه يولّد اضطرابًا عند الإنسان يسلبه كل
معيار سليم يستطيع من خلاله موازنة نفسه في الحياة، وأولى ضحايا هذا المعيار
المفقود هو العقل الذي يصبح من قوّة ايجابية ضابطة للإنسان إلى قوّة سلبية تعمل عمل
الخادم لرغباته وأهوائه واشباع شهواته وبقاء غفلته، وهكذا يميل مع كل من يغريه
باشباع هذه الحاجات ولو كان على حساب إنسانيته، فلا تعجب من كون عبقريًا أو خارق
الذكاء يكون سببًا لكل دمار وهلاك فالذكاء قوة خادمة وليس قوّة ضابطة كالعقل
النامي بالعلم، رغم أن محلّهما هو المخ.
من جهة أخرى، لا يختلف الشيخ محمد بن يعقوب
الكليني (ت: 328 هـ) كثيرًا عن النعماني، إنما يصيغ عباراته بدقة، فيقول: «فقد فهمت يا أخي ما شكوتَ من اصطلاح أهل دهرنا
على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم
معهم أن يأزر [يضعف] كله وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا
العلم وأهله» فهو هنا يشير
إلى أن الجهل ليس عدم العلم، ولكنه علم مزيّف أو مزوّر بهيئة العلم الصحيح، فهو
بنيان كامل بحيث يصبح وجودًا يُستدلّ له، ويُبرهن عليه ويُزادُ فيه، فتستطيع أن
تقول أن الجهل هو وجود مليء بالمغالطات والتركيبات الخاطئة بحيث كلما زاد التعمّق فيها
إزداد البُعد والانحراف عن جادة الصواب.
ويكمل الكليني حديثه مبينًا، أنّ مبدأ
الضلالة والهداية لا ينشأ من النفس بل من العقل لكون العقل إذا كمل صار قادرًا على
تمييز القبيح من الحسن، سواء كان ذلك القبيح من داخل النفس أو من خارجها، فيقول: «فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى
خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي،
وجعلهم جل ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة،
فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف
عن أهل الزمانة والضرر، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عزوجل سبب
بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت
الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم، وفي جواز ذلك بطلان الكتب
والرسل والآداب، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير، والرجوع إلى قول أهل الدهر،
فوجب في عدل الله عزوجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي، بالأمر
والنهي، لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه ويوحدوه، ويقروا له بالربوبية، وليعلموا
أنه خالقهم ورازقهم ...».
ومفاد كلامه -رحمه الله- أن التكليف يدور مدار العقل، ولولا
هذا العقل وقابلياته لما كان لله سبحانه أن يكلف العباد، والتكليف لا يكون إلا
بالتعلّم والأدب ليعرف الإنسان ما ينبغي عليه وما ينبغي له، ولو كان الجهل جائزًا
للناس لما أوجب عليهم التفكر والتعلّم والنظر، وقد يقول قائل فما بال المجانين
وناقصي العقول ومن كانت استعداده للتعلّم قليلاً؟ فالجواب في طيات كلامه هو أن
واجب المتعلّم تعليم الجاهل، ولو جاز للجميع البقاء على الجهل ما مضت الحياة وما
استمرت، ولا امتاز النوع الإنساني عن غيره من البهائم، ولما صحّ أن يكلّفهم الله
سبحانه لأن تكليف الجاهل العاجز خلاف الحكمة والعدل، والخالق سبحانه حكيم عادل بلا شك فلا يصدر منه -سبحانه- القبيح.
ويأتي الكليني بعد ذلك إلى السبب الذي يدفع
الشخص إلى الخروج من اليقين إلى الشك، والنزوع إلى الجهل والضلال، فيقول: «والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه
أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محمودًا عند ربه، مستوجبًا
لثوابه، وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لا يدري ما يؤدي، ولا يدري إلى
من يؤدي، وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة مما أدى، ولا مصدقاً، لأن المصدق يكون مصدقًا
حتى يكون عارفًا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة
والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عزوجل: {إلا من
شهد بالحق وهم يعلمون} فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم
بالشهادة، لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة، إلى الله
جل ذكره، إن شاء تطول عليه فقبل عمله، وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن
يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: {ومن
الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه
خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} لأنه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين،
فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم عليه السلام: "من دخل في الايمان
بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"، وقال
عليه السلام: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت
الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال"، وقال عليه السلام:
"من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن".».
فالنصّ يشير بوضوح إلى أنّ البقاء على الصحة
والسلامة، وعدم الريب والزيغ، منوط بثلاثة أمور هي: العلم واليقين والبصيرة.
بالعلم يعرف تكليفه ويعقله فلا يتجاوز حسنًا ولا يبقى على قبيح، وباليقين يكون
عمله تامًا ومتقنًا، وبالبصيرة يكون واعيًا وعارفًا، ويظهر بهذا أن الجهل له ثلاثة
مناشيء وهي عدم العلم والمعرفة، والشك، والإثنان الأوليان من مختصات العقل
والثالثة من مختصات القلب، فالشكّ إذا خرج من كونه قنطرة لليقين إلى كونه قاطرة
تهدم كل يقين، صار مرضًا قلبيًا يدل على عدم قدرة العقل على التوفيق بين ما يدركه
وما ينبغي عمله، فلا يكون له القدرة على الترجيح واتخاذ الحكم، ولا تكون للنفس الثقة بحكم العقل لتذعن له.
وعلى هذا الأساس يشير الكليني إلى سبب نشوء
الملل والنحل المختلفة: «ولهذه العلة انبثقت
على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط
الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون
إيمانه ثابتًا مستقرًا، سبب له الأسباب التي توديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة
نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي،
ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارًا مستودعًا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب
الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك
وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا،
أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، لأنه كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى
شيئًا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالِم عليه السلام: "إن الله عزوجل خلق النبيين
على النبوة، فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية، فلا يكونون إلا أوصياء،
وأعار قومًا إيمانًا فإن شاء تممه لهم، وإن شاء سلبهم إياه". قال: وفيهم جرى قوله:
فمستقر ومستودع».
فهو بعد بيان دور الجهل والعلم، يأتي لدور
العوامل الغيبية في تحديد هداية الإنسان وضلاله. والعوامل الغيبية هي عوامل معلولة
أيضًا خاضعة لنظام الأسباب والمسببات ولكن نظامها غير منكشف بكامله عندنا، وإنما
الثابت أن جزاء كل عمل هو ما يستحقه، فالهداية هي استحقاق لصاحبها نتيجة تهيئته
لأسبابها فصار المقتضى لتحققها موجود والمانع منها مفقود، ويتضّح ذلك جليًا بنصه
على «كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله»،
فتركُ العقل القطعي وجعل الهوى والميل ميزان للاستحسان والرفض للمعارف يجعل من ذات
الإنسان هي الميزان، وذات الإنسان بحكم تركبها من عقل وروح، فكر وهوى، إلى آخر هذه
الثنائيات فإنّ ميلها للدعة والراحة يجعلها تنزع نحو ما فيه لذة عاجلة على ما فيه
لذة آجلة، لذلك يكون اختيارها لما يناسب الهوى أسرع من اختيارها لما يناسب العقل
القطعي بما يتضمنه من تحليل وتركيب ونظر، ولمّا علم الله سبحانه بتوّطن نفس هذا الإنسان على ذلك كان استحقاقه للضلالة نتيجة حتمية له، فكما أن النار تنتج الحرق كذلك النفس المتوطنة على الميل نحو الهوى وعدم الفصل باستخدام العقل لا تنتج إلا الفساد.
قد يستشكل بعضهم بقول الكليني: «فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم
إيمانه، وإن شاء سلبه إياه»، والجواب في
قوله تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن
نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ
أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم
مَّشْكُورًا. كلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ
عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، فالمشيئة هنا باصرة إلى نيّة الإنسان وباعثه على
عمله، لا على عمله فقط، فإن خالصًا عن نية سليمة هداه الله جزاءً لهذه للنية، وإن
كانت مشوبة وملوثة قادته إلى الخذلان فالذي خبث لا يخرج إلا نكدًا، وكل ذلك بمشيئة
الله سبحانه الذي خلق عباده مختارين لا مجبرين، حتى لا تكون لهم حجة.
الخلاصة:
مبدأ الضلال والإنحراف، ليس وجود شيء يسمى
بالضلال والإنحراف في الخارج مع الإنسان، بل هما نابعان منه وهو مُوجِدهما، فهما
قدرٌ متولد من الإنسان يختاره بمحض إرادته، يُنّظر له ويُقدم عليه، ليحقق غاياته
وأطماعه، لذلك ترى كل ضلال وإنحراف خطابهما شعوريّ وحسي لا عقلي، وإن ظهرا بلغة
العقل إلا أن العودة للقواعد العقلية القطعية والبرهانية سرعان ما تكشف هذه الدعوى
وتظهر زيفها وبطلانها. ومن هنا كان جهاد النفس أشدّ وأقوى لأنه دائم ودقيق، وليس
مؤقتًا وعامًا كما هو مع العدو الخارجي، فالعدو ينتهي مع مرور السنوات ويتبدّل أما الضلال الذي
يتولد من سوء النفس وخبث سريرتها يتوالد ويتكاثر مع الأيّام. وعليه كل خطاب يتوجه لبيان مبدأ الضلالة لا يترك مربع النفس لغيرها لكونها المؤثر الأول فيه.
وهذه النفس هي التي فوق العلم والمعرفة والعقل، لأنها بمثابة التربة التي تهيئ لما سبق ذكره أن ينتج ثمره، فإن فسدت التربة فسدت الثمرة وإن كانت البذرة من أجود الأنواع، وهكذا هو الإنسان، فإن الضلال والإنحراف الذي ينتجه يعود لانحراف الساحة التي تمارس فيها قواه سابقة الذكر تأثيراتها فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
جميع الاقتباسات هي من:
(1) كتاب الغّيْبَة، للشيخ الأجل محمد بن ابراهيم بن جعفر النعماني، المعروف بأبي زينب.
الطبعة الأولى، 2013م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ص (9-22).
(2) كتاب أصول الكافي، لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني.
الطبعة الأولى، 2005م، دار المرتضى، بيروت - لبنان، ص (5-9).