31 أغسطس 2011

العيد الذي عاد

هناك شعور متجذر بالدين عند الإنسان، فـ"الحاجة الدينية مغروسة في الشروط الأساسية لوجود النوع الإنساني" بغض النظر كون هذا الدين مرتبط بالله الواحد الأحد أم بغيره من المخلوقات. يُعرّف إريك فروم الدين على أنه: "نظام للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعًا يكرس من أجله حياته"[1]. وعليه يكون تعريفه شاملاً لكل الأنظمة الفكرية بما فيها الإلحادية على أنها دين يعتنقه أفرادٌ من النّاس. وهذا التحزّب أو التنمّط أو الاعتناق هو استجابة لشعور متجذر بضرورة الإرتباط بما يغذي الجانب الروحي عند الإنسان على تفاوت مراتب هذا الغذاء، سطحيًا كان أم عميقًا.
للعلامة الطباطبائي استنباط لطيف مرتبط بهذه النقطة في ذيل الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فهو يشير أن غاية خلق البشر والجن غرض مرتبط بهم، لا بالله عز وجل، «و أن الغرض هو العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودًا للناس» فلو كان خلقهم كي يصبح معبودًا لكان يريد الاستكمال بعبادتهم، «فقد قال "ليعبدون" و لم يقل لأعبد أو لأكون معبودا لهم» كما في الحديث القدسي "خَـلَـقتُ الخلق لكي أُعرف" لا لكي يعرفوني. فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليها هي وما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك [2].
وقد يُطرح سؤال عمّا هي العبادة؟
وجوابه: بمعناها الشامل لاتقتصر فقط على مجرد أداء الشعائر الدينية الجسمية الروحية من صلاة وصوم وحج وغيرها ، وإنما تعني الالتزام المخلص والأمين بمباديء الإسلام وتعليماته فى كل شؤون الحياة . فحسن استغلال البيئة عبادة والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر إلى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتي يرث الله الأرض ومن عليها عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة وعدم تلويث الماء والهواء عبادة، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة (مدارس ـ مستشفيات ـ مصانع وغيرها) بأسلوبٍ راشدٍ عاقلٍ عبادة[3].
العيد في كل الأديان هو عنصر جوهر من عناصر العبادة[4]. حتى في الأنظمة العلمانية، والشيوعية التي هي أكثرها معاداةً وانفكاكًا عن الدين بمعناه الخاص جلّ ما فعلته هو استبدال الأيام المقدّسة، الأعياد التي هي «المحفل المقدس» كما يعبّر عنها في العبرية أو «أيّام المقابلة مع الله» كما في المسيحية[5]، إلى أيّام المقابلة مع فكر القيادة والاحتفاء بالشجرة والجيش! إنزالٌ من المقدّس العالي إلى تقديس الداني كمحاولة للتغلّب على هذه الضرورة التي لا تغيب عن الإنسان.
تكمن إحدى فلسفات العيد في إعادة الإنسان إلى توازنه بعد الاستغراق إما في الدنيا، وإما في العبادة، فكلاهما يعمل على فصله إما عن واقعه الخارجي المتمثل بما يحيط به، أوعن واقعه الداخلي المتمثل بجوهره النفساني الذي يربطه بـ اللا متناهي، الوجود الأعلى. كانت الطقوس الدينية المرتبط بالأيام المقدسة في الأزمان القديمة تعبيرٌ عن الشعور الوجداني عند الإنسان بوجود قوة قاهرة تتحكم في مسير حياته، وهذه القوة تدفعه إلى أن يحاول استرضاءها نتيجة إمّا بُعده عنها باقي الأيام، أو نتيجة احساسه بأنّها تملّ من كثرة إلحاحه عليها، ويكون ذلك بتقديم القرابين أو بممارسة شعائر يتفرغ فيها إلى خدمة هذه القوة بما يتصورّه مستجلبًا لرضاها ومن ثم لا تتدخل سلبًا في حياته.
الشعوب البدائية كانت تعيش حالة مستمرة من الخلق اليومي لعالمها، بمعنى أنّ العقاب والجزاء لا يرتبط بمرحلة الزمن الأخروي إنما الزمن الأول – الذي يعيد انتاج الأحداث اليومية دائمًا - وطالما مارست طقوسها الدينية بشكلها الصحيح - كما تتوهم - فإنها تخلق نوعًا من الأبدية الدائمة لـ يومها، وما يرتبط به فقط دون أي أثر أو اعتبار لمفهوم المعاد بمعناه الدارج[6]، فهي تعيش ضمن دائرة مغلقة هي مبتدأها ومنتهاها ولاشيء قبلها أوبعدها.
هي نفسها الشعوب التي نتيجة لرؤيتها السطحية هذه للزمن، تصوّرت الإله في التجلّيات التي رأتها لقدرته في فيضان الأنهر، أو الأعاصير وأعراضها، أو حيوانات الطبيعة المفترسة التي تهدد وجود هذه التجمعات البشرية وتُحّجم من قوتها، وتهددها. كثيرة هي التفسيرات التي حاولت تفسير هذا الخلط ما بين تجلّي القدرة وما بين صاحب [علّة] القدرة، الدكتور شايغان يطرح فكرة «الوعي غير الناضج» أي أنّ الـ أنا عند أفراد هذه المجتمعات غير منفصلة عن وعيهم، ومن ثمّ فإن إدراكهم لأي شيء هو إدراك بصورة مشوّهة ومنقوصة للواقع لكونه قائم على صور جزئية تزوده بها حواسه المحدودة، ولم يتطور الوعي بالأنا إلى درجة فصلها عمًا سواها. كان لا يتصور وجود الفاصلة ما بين ذاته هو وما بين فعله، كما لم يتصور أنّ حالاته البشرية من غضب وفرح وحزن وإحساس بالرغبات العارمة هي أشياء لا تنطبق على تلك القوة القاهرة، لقد تصوّرها بذهنه، مثله .. إنسانٌ إنما بطاقة أكبر.
ورغم تطوّر الوعي الإنساني بإحداثه لشرخ جعل وعيه يستقل عن الـ أنا[7]، ومن ثم تطور مفهوم الزمن عنده، ومن خلال هذا التطور توسعت مداركه وبات أكثر فهمًا لمنظومة العالم، إلا أنّ هذا الإحساس لم يسلب منه الشعور بالتوجه ناحية شيء ما يقهره بغيبه وغموضه وسطوته مهما اختلفت تسمياته: اليد الغيبية للطبيعة، أو الإرادة العبثية، أو الوجود، أو العلم الذي بات يرتدي أثوابًا ليست له ليتقمص دورًا ليس له، أو الدولة، وصولاً إلى كل المفاهيم التي اخترعها ليبتعد عن الله عز وجل، رغم أنّ كماله في التوجه له لا لغيره. ونتيجة لذلك لا يزال للعيد ذلك المعنى الذي لم يندثر رغم تطور الإنسان، «ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى ، غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الإجتماع ، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية»[8]
هكذا، يظهر أن كل الأشياء ليست خاضعة لمفهوم التبدّل والتغيّر، قد نضيف عليها بعض الأشياء كنكهات وبهارات لكنها تحت أطنان الماكياج هذه تظل كما هي بصورتها الأوليّة، منها العبادة التي هي دورٌ لن يستطيع الإنسان تجاوزه. إحساسه بالنقص يجبره على استلهام عبادة يسد بها هذا الشعور، ومهما وصل به غروره واستكباره فإن غاية ما يفعله هو "تحوير" لمظاهر ومعاني عبادته ويظل جوهرها واحدًا، ويبقى العيد يعود دائمًا مذكرًا الإنسان بأنه بحاجة لأن يتطهر من الأدران التي يكتسبها من معيشته بكل ما فيها من مماحكات ومراوغات وإلتفاف على الذات ولا يكون ذلك إلا بالتوجه لمن له القدرة على ذلك، وأنه بحاجة لأن يعيد للزمن اعتباره كشاهٍد على كون الإنسان مهما أتى بتعاريفٍ جديدة له فإنه يتوقف على اعتابه معتبرًا إياه دائمًا المنطلق نحو «البداية الجديدة» لكونه إلى اليوم لازال يكرر نفس نهايات الإنسان الأوّل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الإنسان بين الحقيقة والمظهر، ص127 و128

[2] راجع تفسير الآية في الميزان المجلّد 18 والتفصيل في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري الدرس 46

[3] راجع العدل الإلهي، الحيدري، درس 46 وفيه عدة إشكالات وأجوبتها على هذه الآية.

[4] الأعياد السيدية، الأب يوحنّا ميشيل.

[5] المصدر السابق.

[6] داريوش شايغان، الأصنام الذهنية، ص 134.

[7] نفس المصدر

[8] الطباطبائي، الميزان المجلّد 4.

19 أغسطس 2011

لأنك .. علي


أن يعطيك أحدهم بكفه شيئًا، فتقطعها طمعًا بما في جيبه، هي حادثة تختزل في ثناياها طبائع الناس منذ الأزل، كانوا ولا زالوا متحركين بالأطماع، ناقمين على الأوضاع. وما أسهل أن تبكِ على شجرة قُطعت ثم تمسح عينيك بمنديلٍ صُنع من جذعها المقطوع!
تلّون الأيام الجارية النفوس بأصباغها، تارة تنيرها بإشراقاتٌ من ضيائها وأطوارٌ أخرى تضفي عليها ظِلال ظُلماتها. وفي أرض لم تعد سوى مسرح تُعاد عليه أحداث البشر باتت النجوم المتلألئة فيه تَفِلُ واحدة بعد أخرى متيقنة أنّ نفسًا ترتدي حواجب عن حقائقها لا تستحق إلا أن تجابه مصيرها الذي تختاره بيدها .. مصير الظُلمة.
الإنسان ليس شرًا، وفي داخله جذوة الخير دائمًا مشتعلة، لكنه غالبًا لا يعرف كيف يُخرج هذه الشعلة .. فيُطفؤها، كما عرف ابليس وفرعون ما همّ عليه من قدرة وطاقة وقوة لكنهم لم يعرفوا تصويرها والاستفادة منها. كمجرى ماء عذب غَلَبَه عنفوانه فانحاز في مساره ليصُبَّ في مستنقعٍ آسن، فلا عاد الماء عذبًا، ولا صار المستنقع نَضبًا.
يجد الإنسانُ نفسه مقذوفًا في هذه الأرض، يصارع نفسه، ومحيطه، تدفعه الرغبة للبقاء إلى المزيد من الإستئثار والسعي خلف المصلحة التي يتلّمس منها بقاءه، ويتصوّر فيها نجاته واستمراره. تمزّقه نزعات تجذبه بعضها نحو ذلك المطلق الذي يراه متمثلاً بروحيته ومخيلته وعقله غير المكبل بقيود الواقع، وأخرى تسحبه نحو أبعاد ذلك المحدود المتمثل بفقاعة «الوجود» الدنيوي، في صراعاته ونزعاته ومخالفاته ، وكلمّا انغمس فيها أكثر، واندفع نحوها كلمّا تغرّبت حياته بصورة أكبر.
يعيش ضمن نطاق الأفكار التي تطرح نفسها كتأكيد لحريّة الإنسان، فيقاتل ويكتب ويتحرك محطمًا القيود في سبيل الدعوة لهذه الأفكار، يريد أن يفرضها بالقوّة لأنه يعلم أنّ الإنسان منطقه منطق القوة والمغالبة ولا يختلف كثيرًا عن سائر المخلوقات إلا بقدرته على جعل الجريمة تبدو مبررة وكأنها «غنيمة» لابد منها لحياة أفضل، وهو في الواقع لا يؤكد في فعله ودعوته المبطنة إلا الحاجة إلى استغلال الإنسان تحت عباءة إطلاق حريّاته وإثبات وجوديّته، للاستمرار في حالة الفوضى وحرب الجميع مع الجميع.
ومن دلالات الخوف الذي يسيطر عليه، يخلق أفعاله وتصرفاته وميوله. خوفه من الطبيعة القاسية التي تضيّق خناقها عليه، وخوفه من الإنسان بما يثيره من دمار وهلاك في طريقه للاستحواذ، وخوفه من شهواته التي تحرّك سلوكياته. لا يخاف من وجوداتها فقط إنما خوفه الأكبر ممّا يتوقع حدوثه منها فيظل محبوسًا في سجن التوتر والقلق، يرى كل شيء بعين الريبة، ويتصرف مع كل شيء من باب المصلحة، ويُقيّم كل شيء بناء على الحاجة.
يلتزم بمظاهر الأخلاق لأنه يحتاج للنّاس، فلا قدرة له على مجابهة الكون وحده، ولكنه في قرارة نفسه يحتقرها لأنها تكبله بآدابها التي توّلدها عن الاعتداء على غيره تحت ضوء النهار. يعشق الدين لأنه يعطيه هويّة أمام الناس، ويكره الإلتزام به لأنه يحجبه عن تقديم الـ أنا الخاصة بذاته على مشاركيه، وهكذا يعيش حربًا لا تقل هوادة عن حروب الإنسان مع بني جنسه في داخل نفسه التي لا يشغل باله في معرفتها رغم أنها سبب وجوده، حربٌ بين تلك النشأة «الملكوتية» التي تبحث عن الجمال والكمال وبين هذه النشأة «المُلكية» التي تريد السيطرة والمنفعة سعيًا خلف الهويّات الزائفة.
كان «علي» نقيضًا لهذه الصفات والطبائع، ضِدًا لهذه الرغبات والصنائع، كان «قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظة وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه»*.
ومثله في هذه الأرض يزيد من خوف النّاس، يتحول لعدوٍّ لمَلَكاتهم الباطنيّة التي تتجسد في صورهم الظاهرية، يُعيد لهم التذكرة بأنّ كمال الإنسان في نفسه لا في استحواذه، وأنّ معنى الإنسانية كامن في وجودهم لا في وجودات غيرهم. خوفهم منه هو خوف من الإنجذاب نحوه فيسقط ما بذلوا لأجله كل ما يملكون من أيديهم، خوفٌ يتحول إلى قوّة دافعة تجعلهم لا يحاربونه شخصأ فقط بل تمتد حربهم لتاريخه لطمسه، ولوجوده لتقليله حتى لا يجدوا لهم عذرًا في استمرار ولعهم بالظلم والاعتداء والإنحياز نحو ما فيه تدعيم لاستغلاليتهم.
إنّ البشر في وجودهم الدنيوي إنما يقيّمون العظماء كما يقيّمون الشمس من شعاعها، وحدودهم غير قادرة على سبر ما هو أعمق من هذا الشعاع، وبدلاً من الاستفادة منه، يُحجب ويُصدّ حتى لا تنقشع ظلمة النفس، فتستمر الحرب التي تعطيهم المسوغ لعيشهم في حلقة التاريخ الذي يكرر نفسه.
ينجذبون بروحهم إليه لأنه يخاطبها، ويقاتلونه بأبدانهم، ووجوداتهم لأنه يعارض مساعيها، وفي ظِلِّ «جمع الأضداد» هذا، وقف وحيدًا يُنادي: «أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأُبْرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟» فقد أعاد التاريخ نفسه، وانحاز الناس مجددًا إلى طمس نجوم الهداية تحت سُتَرِ الضلالة والغواية لأنهم على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل.
إين چهان كوه است وفعل ما ندا
بــاز آيـد سـوى ما از كُـه صـدا**
كان، ولا يزال البشر يكتبون مصائرهم بأيديهم ويخطون مقاديرهم بأقلامهم، وكان ولا يزال التاريخ يعيد نفسه معهم، ضاحكًا مستهزءًا بهم لأنهم في اللحظة التي يدعون بها حبّ هذا «المثال» يزاحمونه بكره كل ما أرساه هذا «المثال». وفي اللحظة التي ينجذبون بها إليه، يغطون أعينهم عن النظر إليه، فلا عجب أنّنا ندنو أمام التاريخ، ويعلو هو عليه .. لأنّه «علي».
__________________________
* شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج11
** البيت لجلال الدين الرومي، وترجمته: العالم كالجبل وأفعالنا أصواتنا تجاهه، كما نطلقها يعود صداها لنا.