27 ديسمبر 2009

وبعده لا كنت أن تكوني

من دروس عاشوراء [6]
الأخيرة
إنا لله وإنا إليه راجعون.
1370 سنة، اليوم تمر على ما جرى في كربلاء، قرونٌ توالت فيها الاحداث، تغيرت فيها الأفكار، تبدلت فيها الرؤى، تحول كل شيء إلى شيء آخر، وظل شيء واحد ثابت كما هو، هذا الشيء يُسمى بالإنسان.
مهما تغيرت الدنيا، ومهما تبدلت الأحوال، تطورت أو تراجعت، تقدمت او انتكست، تظل الطباع حاكمة، تفرض وجودها وتسيّر صاحبها كما سيّرت أجداده وإن اختلفت أدواته.
.
هكذا، تستمر الحقيقة الإنسانية بالتواجد مدى الدهر، تبقى ثابتة وسط المتغيرات ويصبح الشيء الوحيد المتسالم به هو أن التغيير لا يطول جوهر الإنسانية التي لا تزال متعطشة للسير نحو «اللا محدود» لتتخلص من شعور الضعف، والمحدودية، والضآلة، فتبحث عمن ينتشلها من هذا القاع، بالنجوم الهداة.
.
قبل سنة، كتبت تعليقًا، لكن تعليق آخر قرأته اليوم أعاده لذهني، فرأيت أن أعيد نشره:
في سورة يوسف اشارة لطيفة ، عندما رأت صويحبات زليخة يوسف عليه السلام «فلما رأينه اكبرنه وقطعن أيديهن»
كيف لرؤية يوسف – عليه وعلى نبينا و آله السلام - أن تجعل الإنسان ينذهل و ينصرف حتى عن نفسه لدرجة ان يقطع يده دون أن يشعر ؟
علماء العرفان يصنفونها إلى الذهول ثم الإندكاك ثم الاتحاد .
الذهول هو حين يصبح شخص ما هو الآخذ بفكرهم و لبهم لدرجة تمنعهم من الالتفات لما بين ايديهم حبًا للنظر إليه وشوقًا له .
اما الاندكاك فهو أن يتمثل الإنسان بكل صفات محبوبه و ينتحلها و يطبقها بحيث يصبح نسخة عن من يحب، كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن سلمان رضي الله عنه : سلمان منّا أهل البيت.
اما الاتحاد فهو أن تكون كينونة الفرد بكاملها عبارة عن تمثيل مُحبّه ، بمعنى أنه لا انفصال بين إرادة المتبوع واتباع التابع.
.
الحسين عليه السلام هو مثال الإتحاد ، و تمام الإندكاك ، و كل الذهول في الله سبحانه وتعالى، حياته، أوامره، سيرته كلها تمثيل لما أراده الله سبحانه لعباده، فهو أسوة ومقتدى للنّاس أجمعين، وهذا مستمد من مقام جده الأعظم صلى الله عليه وآله، لذلك لا عجب أن ينجذب إليه الناس لأن الفطرة فيهم تقودهم للانقياد إلى الكمال والجمال المطلق، إلى (اللانهائي) والوصول لذلك يكون عبر سبيل واحد هو الإتباع والإقتداء بهؤلاء المُثل ومحاولة انتحالهم والحسين عليه السلام هو بلاشك كذلك، فكلهم نورٌ واحد من نور النبي الأكرم صلى الله عليه وآله .
.
وإحياء عاشوراء وما يجري فيها نوعٌ من الإمداد الروحي والاخلاقي للناس المنشغلين في غمرة حياتهم و مشاغلهم الدنيوية، تأتيهم الذكرى ليعيدوا شحن أنفسهم بما مثله الحسين من قيم ومبادئ و اسلوب حياة وثورة إيجابية توقظهم من غيّ الدنيا إلى سعادة الآخرة و اصلاح نفوسهم المتأثرة فيصبح حالهم كحال صويحبات يوسف عليه السلام، شغلٌ عما يكدر حياتهم اليومية بما هو ماثل أمامهم، هناك كان يوسف عليه السلام، وهنا مصاب أبي عبد الله عليه السلام.

-- -- -- -- -- -- -- -- -- -- --

هل كان البحث عن السلطة هو الدافع للثورة؟
.
إجابة هذا السؤال تحتاج لمجلدات ولا تكفيها الكلمات، لأنها تستدعي استقراء حياته وبيئته وأسرته، ثم مقامه ودعواته، وأخيرًا مواقفه وآرائه، بالتفصيل كي يمكن استنباط الإجابة مدعمة بأدلة لا ترد. كل ما يمكن قوله أن السلطة هي مجرد حكومة، أداة تنفيذية باطنها الصراع.
.
دينيًا، هذا الاشكال يسقط بمجرد معرفة مقام الإمامة، وماهو؟ وما هي مستلزماته؟
ما يعنيه هذا المسمى بمعناه الخاص، يقود إلى فهمٍ واضح أن الرئاسة الدنيوية لا تعني الإمامة، والإمامة ليست بحاجة لرئاسة دنيوية، أو البقاء على رأس سلطة كي تثبت. فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله ابتدأ الدعوة وهو مُحارب ومعزول في مكة المكرمة، ولم يقم الإمام علي عليه السلام على رأس الخلافة أو الحكومة الظاهرية إلا بعد ثلاثين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وهذا الإمام الحسن عليه السلام في هدنته يترك الكوفة عائدًا للمدينة المنورة، ولا يوجد طوال التاريخ من أنكر المقام الديني لهم بمجرد عدم حيازة مقام الرئاسة.
.
اجتماعيًا، فإن البيئة التي خرج الإمام الحسين عليه السلام من رحمها لا تغذيه بمفهوم البحث عن السلطة، وإذا كانت الظروف الإجتماعية هي من تصنع الإنسان أخلاقيًا وسلوكيًا وتصيغه بقالبها كما يذهب لذلك الحداثيين من عُلماء الاجتماع فإن هذه الظروف في حال دراستها لا تظهر أنها تقود للبحث عن رئاسة ظاهرية وضعية، فمن أين يأتي هذا الشغف بها؟ يظل هذا السؤال حائرًا في بحثه عن إجابة منطقية.
.
سياسيًا، فإن الإمام عليه السلام حورب في حياته، وبعد مماته، وهذا قبره يقف شاهدًا على الاهوال التي جرت عليه وكم من مرة دمر ونهب ووصل الامر إلى حرثه في عهد المتوكل وإجراء ماء الفرات عليه، وقتل الزائرين وتخويفهم، والإساءة إليه حتى قال ابن العربي عنه أنه قتل بسيف جده! والعياذ بالله، مع هذا كله لم يجرا أحد على أن يشير في كل المصادر والمقاتل والتواريخ التي وصلت لنا أن لسانه نطق يومًا بان تحركه كان هدفه السلطة. تفاهة هذا الإتهام تتضح من موقف أبيه عليه السلام منها.
.
تاريخيًا، فإن الذي يطلب السلطة، لا يطلب الموت، والذي يطلب السلطة لا يرفض المداهنة، والذي يطلب السلطة، لا يقاتل 30 ألفًا بـ 72 رجلاً.
هذا البحث يمكن التوسع فيه أكثر، ولكن ليس مجاله الآن، غاية ما يمكن أن يُقال أن الإلتباس في فهم معنى الإمامة وما فرضته الظروف من قيام الحسين عليه السلام هو الذي يدفع غير المطلعين لمثل هذه الاتهامات الباطلة.


-- -- -- -- -- -- -- -- -- .


يصف العقاد بعض المؤرخين بالتجار، لانهم يقيسون الحوادث بمقاييس الربح والخسارة، فإذا خسر طرف ظاهريًا هو خاسر بكل شيء، وإذا ربح فهو المنتصر الوحيد.
أصحاب هذا المفهوم ينظرون من زاوية ضيقة إلى زوايا أضيق في الحوادث التاريخية، ومنها الثورات. المنطق يقتضي معرفة ما يصبو إليه صاحب الثورة، ومنها يتحدد ربحه من خسارته، ففي أحيان كثيرة تكون الهزيمة خيرٌ من ألف انتصار.
فيما سبق كتبت «.. فإذا صارت يتم محاسبتها –أي الثورة- على انجازاتها، والتي هي مقايسة ما بين الشعارات التي رفعتها وما بين ما حققته منها في الواقع..»، وهكذا يتم القياس، بين الهدف والغاية، وما ترسله دعواتهما في التاريخ.
ألقت ثورة الحسين عليه السلام الحجة على كل الناس، ومن يومها صارت عنوانًا لطلب أي إصلاح، ومعالجة أي فساد ظاهر، فمقتل اولئك الثوار كان لهدف، وهذا الهدف يعيش إلى يومنا هذا ويحضر.
ولكن أين أصحاب النصر ذلك اليوم؟
.

  • لبيك داعي الله إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري.

26 ديسمبر 2009

تنزه عن عرض المطمع

من دروس عاشوراء [5]
.
«اليوم اُقتل وتقتلون كلّكم معي، ولايبقى منكم أحد ..» هذا ممّا قاله الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه صبيحة العاشر من المحرم، وحين بدأت سهام القوم تقبل عليهم قال عليه السلام لأصحابه «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإن هذه السهام رُسل القوم إليكم».
.حين يفكر شخص ما بالثورة فإن أسباب هذه الثورة تكون موجودة، وقيامه هو أخذ بهذه الأسباب لرفع ما يراه منها، وكلما ازداد ضغط هذه الأسباب ارتفعت وتيرة الثورة حتى تتحقق على أرض الواقع، فإذا صارت يتم محاسبتها –أي الثورة- على انجازاتها، والتي هي مقايسة ما بين الشعارات التي رفعتها وما بين ما حققته منها في الواقع، ولكن على الضفة الأخرى هناك ثورات تحدث ويتم الإعداد لها خدمة لأهداف شخصية، إنما طرحها بهذه الصيغة يصيبها وأصحابها بمقتل، فمن المستحيل على النّاس أن يضعوا أنفسهم على خط النار إذا كانت الغاية من ذلك لا تمسهم من قريب أو بعيد، وحتى يتم تفادي على الأمر تُصاغ هذه الغايات بشعارات واهية عن المُثل الإنسانية مثل العدالة والحرية والمساواة وغيرها، وهي تمثل قاسمًا مشتركًا ليس بين دعاتها المخلصين فحسب، بل ولسخرية القدر، بين جميع الطغاة والديكتاتوريات وأصحاب المصالح الشخصية في العالم.
.
هناك فرق خفي بين الاثنين، يتمثل في قدرة أصحاب الدعوة الثورية على تطبيق شعاراتهم على أنفسهم أولاً، حين تتولد هذه الثورة من اعتقاد راسخ فإن أصحابها يتماهون مع مبادئهم، ولا يكون هناك إنفصال ما بين (سلوكهم) و(شعاراتهم) وعلى عكس الصنف الثاني، فإن هؤلاء لا يملكون ولا يبدون الإستعداد للتحول أو التبدل أو التنازل عن أيٍّ من معتقداتهم، فضوابطهم وقواعدهم التي يرفعون راياتها لا تخسر دورها بل تمثل هوية واضحة وجودها يشكل ضرورة لألا يرى الإنسان نفسه يسير في اتجاهات مختلفة ومتناقضة في آنٍ واحد.
.في ثورة عاشوراء الحسين عليه السلام، تتباين هويتان، الأولى موقف عمر بن سعد الذي كان يصوّر خروجه لقتال الحسين عليه السلام مصلحة للأمة، وجهادًا في سبيل الله ويحرض الناس على ذلك بصيحته «يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري» وباطنها طمع بمُلك الريّ، وهوية أخرى أراد الحسين عليه السلام غرسها في وجدان الأمة لتشكل شجرة ثابتة تلقي بظلالها على السائرين في دربه مدى الحياة، تذكر التواريخ أن الأمر حين عُرض على ابن سعد رفض وتمثلت حيرته فيما يُنسب إليه من الشعر «أ أترك ملك الري والري منيتي .. أم أصبح مأثومًا بقتل حسين»، ولكنه عدَل عن موقفه وقلب الامر من الإثم إلى الجهاد في سبيل الله بمجرد أن دخلت الريّ وجرجان في المعادلة، بينما ظلت هوية الحسين عليه السلام كما هي «..ألا وإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا..»، برغم كل المغريات التي عُرضت عليه.
.
كلا الموقفين إذا تجسدا أمام الناظر لهما سيتفاجئ من وحدة الشعارات، كلاهما يدعي الحق والإيمان، وكلاهما يبشر بالجنة، وكلاهما يقول بالإصلاح، المنطق الذي يضع حدًا فاصلاً بينهما حتى لا تختلط الحقيقة بالشبهة هو السلوك الذي يستتبع ذلك الشعار، والإمتحان في الموقف، والمطابقة بينهما، في صبيحة عاشوراء أراد مُسلم بن عوسجة أن يرمي شمر بن ذي الجوشن بسهم فقال عليه السلام: لا ترمه فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال.
في نفس اللحظات رمى ابن سعد بسهم وقال: اشهدوا لي عند الامير باني أول من رمى.
.
من هنا يستظهر أمر ثورة الحسين عليه السلام، أنه أراد بها تقديم نموذج لما تكون عليه المطابقة بين الشعار والسلوك وإن أدى ذلك إلى موته ومن معه في سبيل هذا المبدأ الذي عبّر عنه المرحوم محسن أبو الحَب ببيته الخالد: «إن كان دين محمد لن يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني» الثائر الذي يخرج بقلة قليلة من الرجال، متيقن من الموت، ولا يشتري الحياة، هو ثائر يريد أن يرسم لوحة تناسب الشعار الذي يرفعه، شعار ليس كالذي يرفعه المقتاتون على موائد حاجات الناس لمصالحهم الشخصية، إنما شعار يخلق مادة ثورية تحرك الناس باستمرار وتبعث فيهم الحياة ليواجهوا التحديات على مرّ العصور، فهو يرسل صرخة يتردد صداها في كل موقف يتحيّر فيه الإنسان مما يراه وهو بين طرفين متناقضين يرفعان ذات الشعار، وهدف الصرخة أن تزوده بوسائل الحكم، ليستخلص ذلك "المُخلِص" من المتستر بلباس الإخلاص.
.
إن الإنسان هو الإنسان على مر التاريخ، احتياجاته ومطالباته واحدة، لكنها عند بعضهم تنحى منحى الأنانية فيستغلون حاجات الآخرين بضغط من رغباتهم الشخصية لدفعهم إلى تأييدهم حتى إذا ما انتصروا تنكروا لكل ما وعدوا به يومًا، أو جعلوه مفرغًا من كل معنى، وعند البعض الآخر تأخذ منحى التضحية المثالية، ويضربون بذلك مثلاً على أن سيادة العقل لا تعني في معظم الأحيان حفظ النفس وتحقيق مطالبها، فهذا دور الغريزة، إنما دور العقل يكمن في وضع المبادئ التي ترفع الإنسان إلى مستوى أن يتطلع إليه الباقين، ويستلهموا منه كيف يحييون بما يليق بإنسانيتهم.
.
الدرس الذي يضربه هذا الإقدام على الموت دون محاولة دفعه، هو أن الإنجاز الذي يبحث عنه هذا الثائر الحقيقي ليس من سنخية الإنجازات التي يبحث عنها من يدعي نفس المبادئ، وعينه مشخصة نحو النفع الذي ينتظره، لأن ما نتصوره تهلكة يكون لمن يربط انجازه بذاته، فإذا ذهبت ذاته ذهب انجازه، بينما ذلك الذي يبحث عن انجاز للبشرية جمعاء هو الذي يرى في موته، في سبيل ذلك، حياةً له، وبذلك يكون هو من يضع المعنى للشعار، لا الشعار من يعطيه المعنى.
.
«وانهزم الحسين في كربلاء وأصيب هو وذووه من بعده ولكنه ترك الدعوة التي قام بها مُلك العباسيين والفاطميين وتعلل بها أناس من الأيوبيين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والامراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار»*وللحديث – إن شاء الله – بقية بجزئه الأخير.


  • في جامع الأحاديث، عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا.____________
    * عباس العقاد، أبو الشهداء، ص122.

24 ديسمبر 2009

إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلاء

من دروس عاشوراء [4]
على أطراف منطقة في بدايات كربلاء تُسمى شراف إلتقى الجيشان، جيش قوامه ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي أخرجهم ابن زياد من الكوفة لجعجعة الطريق بالحسين عليه السلام، وجيش آخر هو ما بقي مع الحسين عليه السلام من أصحابه، كانت الخطة أن يسبق فرسان الحر الحسين عليه السلام للماء في منطقة تسمى (ذو حسم) ليستسقوا منه ثم يمنعوا معسكر الحسين عليه السلام من التزود به أملاً في حضّهم على الإستسلام، ولكنهم تفاجؤوا بأن عَدَل الحسين عليه السلام بسيره، وأسرع بحركة مفاجئة وسبقهم إلى الماء.
.
في ظهيرة ذلك اليوم، وبعد مناورة عسكرية فاشلة وصل الحر على رأس عسكره إلى (ذو الحسم)[1] منهكًا عطشًا بعد المجهود الذي بذلوه، ووقفوا قبال عسكر الحسين عليه السلام، فصدر منه عليه السلام الأمر: اسقوا القوم، وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفًا.
.
هذا الموقف، وما فيه من العبر والدروس لا يمكن اختزاله ببضع كلمات لا توفيه حقه، فجوانبه التي يشير إليها، والدلائل التي يضعها تتفرع لعشرات المواضيع، أهمها هو الإرتباط ما بين السؤال الأخلاقي والسؤال الاجتماعي والسياسي، وهذه قضية إلى يومنا تمثل نزاعًا وخلافًا على مستوى التنظير ومستوى التطبيق.
.
يتمثل السؤال الأخلاقي في الأسئلة التي نطرحها على انفسنا في محاولة لإيجاد التبرير الذي يشير لصحة عملنا أمام نظرات الآخرين مثل: أين تكون حدودي؟ وما هو الأفضل للعمل؟ وهل هناك ضرر؟ وهل النتيجة أولى أم المنهج؟ وما شاكلها من الأسئلة التي نبحث عن إجاباتها بسبب أن المحيط الذي نعيش فيه تختل موازينه الأخلاقية في أحيانٍ كثيرة، ولذا نبحث عن إجابة تبرر لنا فعلنا من خلال طرح هذه الأسئلة، فلا يكون فعل الخير هو للخير بذاته، وإنما هو غلاف برّاق لرغباتنا وإراداتنا وانفعالاتنا التي تشكل الطرف المقابل للـ(ماهيّة) الخيّرة للإنسان.
.
العالم الذي نعيش به ممتلئ بالشر، والشر عارض ينتج من انسحاب الخير، وهذا الخير يعتبره أفلاطون جوهرًا أي أصلاً متأصلاً في الوجود ويصفه بالحياة، ويقول بأن كل حياة هي صورة من صور الخير، فالبقال حياته خير، والشاعر حياته خير، والفارس حياته خير وهكذا كل النّاس حياتهم هي خير بشرط أن يقوم صاحبها بالعمل لتحويلها لوجود فعلي، بدلاً من الصورة اللا متجسدة، بمعنى أنّ الحياة (كل حياة) في ذاتها كصورة نحملها لها في أذهاننا بكل ما فيها من قيم رفيعة هي خير، ولكن صاحبها إذا لم يقم بعمله على أكمل وجه ولم يستطع أن 'يتملك' حياته التي اختارها فإنها تتحول لشر يضر الآخرين، وهو مفهوم فيه الكثير من الصحة ونرى أثره الواقعي.
.
فكل الشرور في العالم هي ناتجة من عدم 'تملك' الإنسان للحياة بل 'تتملكه' الحياة فيتحول إلى أسير لها ولا تصير تلك الحياة إلى شيء متمثل على أرض الواقع، هكذا، نرى عالمًا شريرًا فنتصور أن الشر والظلم بسبب الله وهو في حقيقته منّا ومن قصورنا عن إدراك تقصيرنا، وكم في حياتنا اليومية نرى أشخاصًا (ونحن بطبيعة الحال منهم) بعد أن نقيسهم في أذهاننا نطلق عليهم أوصافًا سلبية لأنهم لم يستطيعوا ان يحولوا حياتهم إلى شيء واقعي يماثل الصورة الذهنية الموجودة لها عندنا، كم مرة قلنا: لم أعتقد بأن فلان (المفكر) أو (الممثل) أو (النائب) ..إلخ سيكون بمثل هذا المستوى النازل! وعلى هذه العبارة وأمثالها قِس الباقي.
.
ثم يأتي أرسطاطاليس ليقول بأن الخير صنفين، مطلق وهو الكمالات النفسية، ومضاف وهي الأشياء التي نعدها لتوصلنا لتلك الكمالات النفسية مثل الصحة والتعلّم وغيرها، والاولى متعلقة بالنفس، والثانية بالبدن، وهنا يذكر المولى النراقي[2] رحمه الله الآراء المتعددة عند الفلاسفة والحكماء والعارفين في التوفيق ما بين السعادة والخير، أي بين النفس والبدن، ولكن اللافت للنظر هو شبه الإتفاق على كون (الأخلاق الفاضلة) هي السعادة، لأن النفس (أو الروح) هي الحاكمة فيه وبالتالي كل كمال في الأخلاق هو سعادة للإنسان.
.
والكمال ليس كالطعام أو الشراب أو كأي شهوة أخرى موجودة في الإنسان، فهو يأكل حين يجوع وإذا شبع لا يعود بحاجة لمزيد من الطعام، وإذا عطش شرب الماء فلا يعود بحاجة لمزيد الماء بل لا يقترب منه إلا إذا عطش مرة أخرى، بينما الكمال لا يشبع منه الإنسان، لأنه شيء لا محدود والنفس الإنسانية لا محدودة ما هو محدود فيها هي قواها الغضبية والشهوية و «مشكلة المجتمع هي الأمراض النفسية من خوف وكسل وحب الذات والانشداد الى الدنيا والروح المصلحية، هذه الاشياء هي التي تجعل الناس يخضعون للسلطات الطاغوتية»[3]، فيحاولون تبرير ذلك بإشغال أنفسهم بطرح الأسئلة الأخلاقية.
.
عالمنا اليوم على صعيده السياسي، والإنساني بكافة جوانبه يُعاني من هذا المأزق، وهو تشويه مفهوم الأخلاق والخير فما يقابل قولهم بنسبية الأولى إلا قولهم بأن الخير هو مجرد (موضوع تفضيل)[4]، فغدا حتى السؤال الأخلاقي مفصولاً ومُبعدًا وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة، وأصبحت النتيجة التي تحقق المصلحة الذاتية، وترضي الطموح الأناني تمنع وتحجب أي تساؤل عن مدى شرعية أو 'خيرية' الفعل الذي نقوم به، فتكاثرت الحروب، والمجاعات، وأصبح عالمنا اليوم عالمًا فوضويًا مليء بالظلم بامتياز وكل ذلك بحجة العدل والحرية والسلام وأول من يطمس هذه المُثل العُليا هي القوى التي تبرر قتل الابرياء وتشن الحروب وتفرض قوانينها على العالم وتتعامل بإزدواجية واضحة بين الجلاد والضحية.
.
واحدة من أهم الدروس التي نتعلمها من عاشوراء هو الدرس الذي علمنا إياه الحسين عليه السلام في موقفه من عسكر الحر، لم يمنعهم من الماء كما فعلوا هم معه، بل أدّى حتى حق الحيوان الذي يستغله أعداؤه في محاربته، لم يضع الامر تحت سقف الحسابات ليرى مدى نفعيته أو مصلحته به، لم يشغل نفسه بالأسئلة ومحاولة الإجابة، بل فعله وأقدم عليه دون تردد، وهدفه من ذلك هو أن يضرب لنا مثلاًً في جعل الخير المطلق منطلقنا، وأن نركز على الخير بذاته أكثر من نفعيته، وأن فعل هذا الخير يجب أن يكون لإرضاء الذات التي تنشد الكمال، وسعي لها نحو الكمالات النفسية، وليس لأجل 'النتيجة' وإلا سيتحول أي عمل نقوم به إلى عمل نفعي أناني، وسيصبح كل ظلمٍ وشقاء قابلٌ للتبرير تحت عناوين متعددة.
.
لم يكن الحسين عليه السلام سوى كمالٌ تمثل في امتلاكه لحياته، فحولها لصورة تفوق حتى الصورة الذهنية لنا له كإمامٍ، وغدا أمثولة للإقتداء للناس كافة تبين أن إلتزام الخير هو سعادة لنا، مهما كانت نتيجته علينا، فالسعادة تنبع من ذاتنا لا من مكتسباتنا.
.
«.. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برمًا ..» *
  • روى الصدوق في (الأمالي) بسنده، قال الإمام الرضا عليه السلام: من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
    _____________
    [1] الصحيح (ذي حسم)، ولكن أوردتها بالرفع من باب ذكر الاسم على حقيقته.
    [2] راجع: جامع السعادات للمولى مهدي النراقي رضوان الله عليه ج 1 ص 51 وما بعدها في فصل: الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينهما.
    [3] معرفة النفس، حسن موسى، ص 27.
    [4] وهو رأي الفيلسوف الإنجليزي "ثوماس هوبز"
    * من خطاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

22 ديسمبر 2009

جلّوا فجلّ مصابٌ حلّ ساحتهم

من دروس عاشوراء [3]
حين دخل خولي بن يزيد الأصبحي على عبيد الله بن زياد في الكوفة حاملاً رأس الحسين عليه السلام، أنشد قائلاً:
.
إملأ ركابي فضة وذهبا .. إني قتلت السيد المحجبا
قتلتُ خير الناس أمًا وأبا
.
هذا الخبر المروي يُصيب الناظر إليه بالقشعريرة، فما بين اعتراف بالجريمة، و الطمع بالجائزة من الذهب والفضة، يكمن التفريق بين الصواب والباطل، وبين الإلتزام والباعث على الإلتزام.
لم يشك خولي بن يزيد للحظة بانه قد ارتكب جريمة يندى لها الجبين، بل إنه قام بارتكابها عالمًا بها، عارفًا بسوئها، ولكن ذلك كله لم يمنعه من الإقدام عليها، فلا الاوامر الدينية ولا الإلتزامات الأخلاقية ولا المشاعر الإنسانية استطاعت أن تقف أمامه لتمنعه من هذا الفعل المشين، الذي ورغم اعترافه بأنه ارتكبه لم يرتد إليه طرفٌ وهو يصف ضحيته بكل مفاخرها وحسناتها، دلالة على براءة ساحتها.
.
امتلك "خولي" القدرة على تمييز الخطأ من الصواب، وامتلك حرية الاختيار والفعل، ربما لو لم يعده ابن زياد بالمكافأة المالية لكان - ربما - ضمن السبعين الذين استشهدوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء ولكتب اسمه في لوحة الخلود، ولكنّ ما حدث كان نوعًا من الإبتلاء، المكر إن صح التعبير الذي يُصّفي النّاس ليُبقي على الخُلّص منهم، فمثلهم من يستحق الخلود والبقاء، أما من يعرف الحق ويدير ظهره له فلا يستحق سوى اقتران اسمه باللعن.
.
الفارق بين خولي وبين هؤلاء كان الباعث على ارتكاب الفعل، من الوجهة الأخرى يمكن أن نعقد مقارنة بسيطة بينه وبين الحر بن يزيد الرياحي الذي كان قائد الجيش الذي جعجع بالحسين عليه السلام إلى كربلاء، ففي صبيحة عاشوراء إنحاز لمعسكر الحسين عليه السلام واستشهد بين يديه، وحجته بذلك كان باعثه الذي هو (إنّي و الله أخيّر نفسي بين الجنّة و النار ، و لا أختار على الجنة شيئًا و لو قطعت و أحرقت)، وهذه هي النقطة الفاصلة، ليس أن تعرف الحق من الباطل، ولكن أن تلتزم بالحق.
.
كحاجات بشرية واضحة، نحتاج ونبحث عن الأمانة والصدق والعدل والحرية، ويسعى معظمنا إلى الإلتزام بها لأقصى درجة حفاظًا على وجوده في المجتمع لكونها سبيل بقائه فاعلاً بها، ولهذا نملك قدرة التمييز بين ما هو صحيح وما هو غير ذلك، ونسعى جاهدين لأن نلتزم بالقوانين التي وضعت حفاظًا على تماسك المجتمع العام، ولكن في نفس الوقت يكون ذلك هو السبب في الإلتزام بهذه القوانين وهذه الأخلاقيات، الباعث على ذلك هو الخوف من عقوبة كسر القانون، أو الخوف من النبذ الاجتماعي، أو الخوف من الإشارة بالسوء إليه، أو الخوف من تضعضع المجتمع ومن ثمّ نفقد أي غطاء يؤمنه لنا بقوته وتماسكه.
.
هناك فرق بين من يلتزم بالأخلاقيات، والقوانين إيمانًا منه بها، وبين من يلتزم خوفًا من عقوبة كسرها، والفرق يتضح حين تتم إزالة أسباب هذا الخوف، ويتم أخذ الفعل بتجرد تام، كما حدث لـ"خولي بن يزيد" فهو مقدم على ارتكاب جريمة قتل لو كان في ظل حكومة أخرى، وظروف أخرى لما أقدم عليها، ولكنه أعطي باعثًا ساعده على ارتكابها، ويتضح من ذلك أنّه لا يلتزم بالأخلاقيات أو القيم الإنسانية والدينية اعتقادًا منه بها، بقدر خشيته من فقدان أثرها، والذي لو تم تعويضه عنها لما تردد في ارتكاب أبشع المظالم، وعلى العكس كان الحسين عليه السلام يضرب مثلاً في الإلتزام إيمانًا منه بهذا الإلتزام لا خوفًا ولا طمعًا ولا رهبة مما ينتج من عدم الإلتزام.
.
إنّ الباعث يختلف باختلاف الموارد فتارة يكون عملاً وتارة يكون ظرفًا وتارة نتيجة وفي كل الأحوال يقدم تبريرًا لمرتكب الفعل، فالعمل بحد ذاته يكون دافعًا لفعل شيء، والظرف الذي يتواجد به المرء قد يولد الباعث، كما أن النتيجة التي يخلُص لها الفاعل في غالب الأحيان تكون هي الباعث الأبرز، فهي إما (علوية) وإما (سفلية)، إما صادرة من الانا العليا أو من السفلى.
.
جوهر الإنسانية يتلألأ حين يوضع في الظلمات، هناك يمكن معرفة الماهيّة الحقيقية لهذا الإنسان، فحين لا يجد أي إجبار على أي إلتزام تظهر بواطنه كما هي دون تورية، ودون مداراة لأنه لا يعود بحاجة للآخرين لإدامة استقراره أو الحفاظ عليه، وهنا تظهر مزيّة الباعث لكونه الذي يحدد الغاية من العمل، أي عمل يقوم به الإنسان، ولا يكفي مجرد كون العمل صحيحًا، بل يجب أن يكون منطلقه ونتيجته وكل ما يرتبط به يقود إلى نفس النتيجة الصحيحة، في حالة خولي بن يزيد هو نفذ أمرًا ميدانيًا بحكم قيادته العسكرية، لإضفاء صفة الصحة والسلامة عليه، وهذا عمل وفق هذا المقياس الضيق صحيح، ولكنه جريمة في حق الإنسانية.
.
عندما تصبح الدوافع مجرد مصالح آنية وأرباح عاجلة، ولأجل ذلك تمتلك حركة متغيرة، تبدل جلدها وفق المصلحة وعندها أن الغاية تبرر الوسيلة، لا يعود لمعاني الصدق والأمانة والعدالة وغيرها من المُـثل الإنسانية الرفيعة التي يصرف حياته سعيًا لتحقيقها إلا معاني مشوهة تجعل من معيار المصلحة الشخصية هو الحاكم، تماما كما حدث لـ خولي الذي كانت رغبته منحصرة بالذهب والفضة، وهي مصلحة أنانية تنبع من حب الإستئثار الحيواني في الإنسان. بينما على الطرف الآخر كان الحسين عليه السلام، الذي جعل من الدوافع أسسًا ثابتة، لا تتحول ولا تتغير، وتقوم على أساس كونها حسنة بذاتها، غير خاضعة لمصلحة شخصية، من باب اعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، إن الدين جاء في الحقيقة ليصيغ نظامًا للبواعث والمبادئ يكون الثبات لا التحول، وعلى السمّو والرفعة لا التنّزل، وعلى التأكيد على خضوع الإنسان لها، لا خضوعها لهواه الإنسان، لذلك كان ثبات الحسين عليه السلام على الموقف الصواب الذي اختاره، لم يتزلزل أو يتزحزح عنه أبدًا، إن سلامة الباعث وصحته، هو الذي يميّز بين الأعمال، ويرسم الفارق بين أصحابها، وبقدر سمّو الباعث تكون عصمته لصاحبه من الوقوع بالزلل .
.
«طبيعي أن الآيدلوجية الوحيدة التي تستطيع أن تكون ذات ماهية إنسانية تقوم على أساس القيم الإنسانية، هي الآيدلوجية الإنسانية لا الفئوية، هي الآيدلوجية الموحدة لا القائمة على أساس تجزئة الإنسان، هي الآيدلوجية الفطرية لا المصلحية»*
  • في (كامل الزيارات):عَن أَبِي عُمارة الْمُنشِدِ قَالَ: مَا ذكِرَ الحسَينُ بن عليٍّ عند أَبِي عَبدِ الله [جعفر الصادق] فِي يوم قَطُّ فرُئِيَ أَبو عبد اللهِ عليه السلام مُتبسّمًا فِي ذَلِك الْيوم إِلَى الليلِ، و كانَ أبو عبد الله عليه السلام يقول: الحسينُ عَبْرَةُ كلِّ مُؤمنٍ.

ــــــــــــــــــــــــــ

* من كلمات الشهيد مطهري.


20 ديسمبر 2009

وألوم نفسي في امتداد بقائها

من دروس عاشوراء [2]

قبل أن يتوجه لمكة ومنها إلى كربلاء، دعا الوليد بن عتبة الحسين عليه السلام إلى دار الإمارة في المدينة بحضور مروان بن الحكم، طالبًا بيعته ليزيد، فكان من قوله : «.. إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمّة، معلن بالفسق، ومثلي لا يُبايـع مثله..».
.
لطالما استوقفتني هذه الكلمة الأخيرة، مثلي لا يُبايع مثله، لم يقل أنا الحسين لا أبايع يزيد، لم يكن خلافه شخصيًا، بل خلاف بالحُكم، والمنزلة، وعلى هذا أتى التمهيد قبل إطلاق الكلمة، تمهيد يرصف الطريق ليوضح أنّ التفاضل على أساس العمل، وأن التساوي في قيمة الإنسانية لا يعني التساوي في المنزلة والمكانة.
.
هذا المُثال يُستصعب فهمه على من يرى الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده، يراوغ ويناور ويكدح، ويفصل السؤال الأخلاقي عن أفعاله، لكي يحقق مصلحته التي يراها كامنة في استمرارية وجوده فقط ويضمن إزالة العقبات من الدرب الذي يسلكه لذلك، وهذا هو منطق الماديين القاصرين عن فهم حقيقة الوجود الإنساني، فينظرون له بناءً على ما يمتلكه، و يصفون استحقاق وجوده بمدى قدرته على ضمان حياته ولو بأتعس الصور، فهم ينظرون من زاوية ضيقة «هي زاوية العمل الفردي الذي يُراض بأساليب المعيشة اليومية ويدور على النفع العاجل للقائمين به والداعين إليه»[1].
.
لم يكن الحسين عليه السلام كذلك، كان إنسانًا يروم بفعله إلى فهم الوجود، على مستوى المجتمع وعلى مستوى الفرد، ومن ثمّ وضع مثال للبشر يتطلعون إليه ليدركوا معنى (الوجود)، وعلى ذلك كان خطابه يتناول المكانة، ولا يتناول الشخص إلا بما يقوم به من فعل يُحدد المكانة التي يستحقها. فمن أعظم الاخطاء التي ترتكب بإسم الإنسانية هو نفي التمايز بين البشر، وهذه المفاهيم المستحدثة هي مفاهيم مشوهة تخلط ما بين الحقوق وما بين الواجبات، نحن نتساوى بالحقوق، لكننا لا نتساوى بالواجبات، ومهما تعاظمت التنظيرات عن هذا التساوى نرى النزوع واضحًا بخلق الاشتراطات لأي منصب مُتاح، فمن يريد تسلم إدارة مركز عليه تحقيق تلك الشروط، وكلما تعاظم المنصب تصاعدت اشتراطاته، ولو قال قائل: لم لا نضع البقال على رأس الدولة؟ لاستنكر قوله العقلاء، فهو إنسان يمتلك التساوي في إنسانيته، لكنه لا يملك التمايز الذي يعطيه الأهلية لتسلم مثل هذا المنصب.
.
فهم التساوي على أنه «عدم التمييز» صحيح، إلا أنه لا يعني عدم «التمايز»، المخجل أننا نرى من يقف صاغرًا عند هذا القول إذا ظهر من 'مونتسكيو'[2] ويقيم الدنيا ولا يقعدها إذا صدر من غيره، دون أن يتوقف قليلاً مع نفسه ليفهم ما يدور حوله.
.
فماذا أراد الحسين عليه السلام من قوله؟
.
إحدى رؤى ماكس فايبر، رائد علم الإجتماع، أنّ "المصلحة تملك الأولوية على القيم، وأن القيمة مرهونة بمدى المنفعة التي تجلبها على صاحبها"، وهذا القول يملك الآن قبولاً كبيرًا بين طبقات المثقفين إن صح التعبير عنهم بذلك، بحيث أصبح هذا القول قاعدة في العمل السياسي، والعمل الإجتماعي، وحتى على مستوى العمل الفردي. معظم الفلسفات الاجتماعية والاخلاقية الحديثة التي تشكل الأساس للأفكار الحاكمة في الغرب بهذا العصر، تقوم على أرضية «الإنتخاب» هذه للقيم، ومن هنا يتولد الإشكال الذي سعى الكثيرون لإيجاد حلٍّ له وعلى رأسهم "إيمانويل كانط"، فالقسم الأكبر من التصرفات البشرية هو تعبير عن هذه القيم التي يستبطنها داخله، و وضع هذه القيم في دائرة الانتخاب وقبولها بتلك الذريعة يؤدي إلى عدم القدرة على وصف الأفعال البشرية بأنها (خيّرة) أو (شريرة)، وهو إشكال لا يزال يطرح نفسه بقوة على الساحة، فلا يعرف حينها على أي أساس يمكننا أن نطلق أحكامنا على الأفعال! كان ردّ كانط هو رفضٌ لهذه النظرة، وتأكيد على طابع (الأمر) للوصايا الأخلاقية، و (الأمر) ثابت لا نقاش فيه عنده.
.
هذا مثال بسيط على الجدل الدائر الآن لديهم، ولكنه حُسم عندنا منذ سنة 61هـ حين أطلق الحسين عليه السلام تلك الكلمة، ليضع نقطة نهاية السطر. إن التمايز يقوم بناءً على الفعل الأخلاقي، ومدى الإلتزام به، أهل بيت النبوة دلالة على ذلك الاجتباء الذي استحقوه بصفاتهم وأعمالهم لينالوا شرف هذه الرسالة، ومعدن الرسالة هو دلالة على مدى الإرتباط ما بين تلك المبادئ وما بينهم حتى صاروا التمثيل والمصداق الأمثل لها، وإن كل فعل يُضاد هذه الأشياء، في قبوله إهانة للإنسانيّة، وظلم لها، وليس الظلم مقتصر على سلب ما يستحقه الشخص، إنما الظلم الأعظم هو بإعطاء من لا يستحق، هذه القاعدة التي أراد الحسين عليه السلام تأصيلها: مثلي لا يبايع مثله، لانه لو بايع لصار للظالم عونًا، وللظلم مبررًا، وللطغيان مسوغًا، وهذا محال لأن القيمة أولى من المصلحة فنحن بشر، ومن طبيعتنا أننا نتمايز، ولو نفينا هذا الأمر لظلمنا المستحق بجريرة من لا يستحق، وأن أفعالنا يجب أن تقوم على ميزان أخلاقي واضح، لا يرضخ، ولا يتبدل، ولا يتحول، فالعدالة واحدة لا يتغير معناها بتغير الزمن، إلا عند من طمست بصيرته، وأصبح أسيرًا لهواه.
.
كلمة الحسين عليه السلام، درسٌ مفاده أن القيم ثابتة، وأننا نصنع قيمة أنفسنا، وأن القيمة لا تنبع من المصلحة إنما تنبع من المَثل الأعلى، وبقدر إلتزامك بهذه القيمة، يكون مقامك، وحينها تنازلك عن هذا المقام لمن لا يستحق، ليس ظلمًا تعود جريرته عليك فقط، إنما على كل من سار على دربك بإلتزامه بالقيم العالية، ورضاك بالدَون هو خيانة لكل من آمن وإلتزم بها وذا الذي لم يرضَ به الحسين عليه السلام.
.
وعلى هذا يكون «منطق الشهيد، هو منطق الإحتراق والإضاءة، منطق الإنصهار في المجتمع لإحيائه، منطق إحياء القيم الإنسانية، ومنطق خلق البطولات»[3]
  • مما رواه الشيخ الصدوق بسند صحيح، في ثواب الأعمال: كان من دعاء الإمام الصادق عليه السلام في سجوده: "...اللهم أنّ أعدائنا أعابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافا عليهم ، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس ، وأرحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، وارحم تلك العيون التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا اللهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش "، راجع الحديث كاملا ص 122.

______________
[1] عباس محمود العقاد – أبو الشهداء.
[2] إشارة لقوله في (روح القوانين) :" دائما يوجد في الدولة أفراد متميزون ... إلخ".
[3] من مقولات الشهيد مرتضى مطهري.

18 ديسمبر 2009

اليوم أصبغ بعزاك ملابسي سودًا

من دروس عاشوراء [1]

.

هـل الـمحرم فاستهلت أدمعي - وورى زناد الحزن بين الأضلع

مـذ أبصرت عيني بزوغ هلاله - ملأ الشجا جسمي ففارق مضجعي

وتـنغصت فـيه عليَّ مطاعمي - و مـشاربي وازداد فيه توجعي

الله يـا شـهر المحرم ما جرى - فـيه عـلى آل الوصي الأنزع

الله مـن شهر أطل على الورى - بـمصائب شـيّبن حتى الرّضع

شـهر لـقد فـجع النبي محمد - فـيه وأيُّ مـوحد لـم يفجعِ

شـهر بـه نزل الحسين بكربلا - فـي خير صحب كالبدور اللمّعِ

فـتلألات تـلك الـربوع بنوره - و علت على هام السماء الأرفعِ.

.


هذه الأبيات، في كل عام، تصدح بها آلاف المنابر وهي تستقبل شهر المحرم، أبيات كتب لها الخلود كما كتب لآلاف القصائد غيرها التي ارتبطت بقضية الحسين عليه السلام حتى «أنّه لم يُرث شخص في تاريخ الدنيا بأكثر ممّا رُثي به سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام»[1].
.
قد لا يعرف غالب النّاس عن قائلها سوى أنّ اسمه هو عبد الكريم العوامي المولود بالقطيف قبل قرنٍ من الزمان تقريبًا والمدفون بكربلاء ، كما أنهم لولا قصائد دعبل والسيد الحِمْيري وأبوهارون والكميت وأبي فراس والشريف الرضي وغيرهم من آلاف الشعراء الذين وجهوا دفة الكلمة إلى إحياء الحزن الحسيني، لربما لم يعرفوهم ولمروا عليهم مرور الكرام أو ربما لتناستهم الدنيا ودفنتهم كما دفنت مليارات البشر الذين انتهى ذكرهم، بذهاب آثارهم.

.
لقد كانت الكلمة لوحدها كفيلة بكتابة الخلود لهؤلاء، ففي الحين الذي يحفر فيه الآخرون الصخر ليتركوا أثرًا يُبقى ذكراهم حيّة، بقي هؤلاء خالدون ما بقيت الكلمة وبقيت المصيبة تعيش في وجداننا، بقي خلودهم محفزًا إيجابيًا أعطاهم مكانة مستمدة من مكانة الحسين عليه السلام، لأنها حفرت أثرها بالقلوب المتطلعة إلى ذلك «المقدّس» الذي يسعر جذوة المثال الأعلى لنا، لم يكونوا بحاجة لمعاول تبني الجمادات أو لسياط تضرب ظهور العبيد لتختلط دماهم بتلك الصخور التي بقيت شاهدة على مدى ظلم الإنسان، ونسيانه لإنسانيته، كل احتاجوا إليه كلمة هي نفثة المصدور في مصيبة الحسين عليه السلام.
.
إنّ قلب الإنسان غافل، فمتى ما اشتغل بالدنيا سحبته لقاعها، حتى يتشتت ويمتنع هذا القلب عن الحضور في حريم المبادئ والمُثل، فيحتاج لتذكير دائم حتى لا يسلب نفسه لدرجة قتلها، فـ«مثل الدنيا كماء البحر، كلما شربه عطشان زاد عطشه حتى يقتله»[2]. وهذا أحد أوجه فلسفة العبادة وهي أنها أداة تذكير دائمة بأن الدنيا مرحلة، وما يليها هو الأدوم والأبقى، فالعمل للآخرة لا يقل عن العمل للدنيا، وهي أداة تذكير بأن دوامة الحياة نحن من يبقيها دائرة لنوهم أنفسنا بأن الحياة ستتوقف إن توقفنا للحظات لنعالج روحانيتنا، ونعيد بناء قيمنا، وشرائط تقييمنا.
.
يصف الله سبحانه الصلاة بمعناها الحقيقي أنها «كبيرة إلا على الخاشعين»، فهي كأفعال يمارسها الفاسق والملتزم لكن الاول يخضع لها بجوارحه، والآخر يخشع لها بقلبه، فتعطيه أثرها الواقعي. غاية الصلاة ليست الحركات لوحدها، إنما ما يتزامن معها من تمامية الخضوع والخشوع للبدن والروح (القلب)، لذلك هي كبيرة فليس من السهل أن يحضر القلب إذا تعلّق بزخارف الدنيا التي تدنس كل المبادئ في سبيل الأنانية الذاتية.
.
إذا كانت العبادة التي نمارسها يوميًا أداة جذب تعطينا فسحة نختلي فيها بأنفسنا، ونرمم فيها اندفاعنا المفرط نحو الإنشغال بهذه الدنيا، فإحيائنا لثورة الحسين عليه السلام جزءٌ يتكامل مع هذه الفلسفة، لأنها ثورة تسحبنا لنبني مواقفنا على مواقفها، ونستلهم منها معنى الثبات على المبدأ، و نعظم دور الفعل في رسم الهويّة الخاصة بنا، نحن نصلي كل يوم، ونصوم مرة بالسنة، ونحج مرة، هناك علاقات بحاجة لتذكير دائم لأنها تؤثر على المستوى الفردي، وهناك علاقات تؤثر على مستوى المجتمع ومبادئه، فعلى قدر الحجم يكون التذكير.
.
إحياء عاشوراء الحسين هي ترسيم لعلاقاتنا مع المبادئ السامية التي تشكل ضمانة، لكي لا نقف يومًا أمام ظالمٍ نردد معه « دع المساجد للعباد تسكنها .. وقف على دكة الخمار واسقينا»، ولكي لا تتشوش رؤيتنا فنؤيد الظلمة طمعًا بالمصلحة، وحتى لا ننسى أن العدالة هي القيمة الأسمى، ولكي لا تحركنا تلك الأمراض الأخلاقية التي يُعاني منها عالم اليوم. إحياء عاشوراء هو إحياء لمبادئ الحسين عليه السلام، هو جرس التنبيه والتذكير بمعاني التضحية والثبات والشجاعة والأهم من ذلك كله، المقيـاس لتصنيف أفعال الناس والحكم عليها.، ليست المصلحة الشخصية، ولا مصلحة المجتمع المتحولة، هي التي تحكم، بل المبدأ والموقف الثابت القائم على العدل.
.
رسم الحسين عليه السلام بثورته حدًا فاصلاً، حيث لا يطلب الحق بالباطل، ولا يطلب الباطل بالحق، إنما الحق لا يُنال إلا بالحق، وإذا كان ثمن ذلك الدماء، فلتكن. هذا هو جوهر الإحياء، جوهر الاستذكار، وجوهر الإصرار على حمل القضية بمثل هذا الحمل، لترفع راية تبقى تذكرنا دائمًا وأبدًا: إنّ عزاء الحسين عليه السلام هو إحياء لمصيبته، واستعبار لرزيته، وإبقاءُ لما نادى به، «ينهض الثائر ثم يموت .. فيثير بموته ثوارًا آخرين. وبهذا تتلاحق قافلة الثائرين جيلاً بعد جيل، وهم في كل مرة يضيفون إلى شعلة النور لهيبًا جديدًا»[3]
على أعتاب المحرّم، نصبغ ملابسنا سودًا لنحيي بها مصاب الحسين عليه السلام.
  • عن الإمام علي بن موسى الرّضا (عليه السلام) قال : كان أبي [ الإمام موسى بن جعفر ] صلوات الله عليه اذ دخل شهر المحرّم لم ير ضاحكاً وكانت كآبته تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام فاذا كان اليوم العاشِر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحُزنه وبكائه ويقول هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) .
    _______
    [1] الشعائر الحسينية – الشيخ د. محمّد جمعة.
    [2] مضمون –وليس نص- رواية عن الإمام الصادق عليه السلام
    [3] كمة لعلي الوردي متحدثُا فيها عن ثورة الحسين عليه السلام.

11 ديسمبر 2009

شلون شكلك؟

قبل سنوات معدودة كنت أمر بفترة جنون ماركسية*، لحية كثة، شعر بدأ الشيب يرسم دروبه على جوانبه، ولباس رسمي لا يخرج من الخزانة إلا في المناسبات، إحداها هي يوم خطبة أخي الأكبر. كعادة هذه المناسبات، سيطر الروتين على الأجواء، أحاديث مكررة، وابتسامات موزعة هنا وهناك، لحظات فرح ممزوجة ببعض الإحراج، والناس منشغلون وأنا في عالمٍ لم يخرجني منه إلا سيل أسئلة وجهها والد "العروسة" لي! سألني بشكل غير مباشر عن وظيفته، وشهادته، وغيرها من الأمور. لا أحب الإجابة على الأسئلة غير المباشرة،على الرغم من إِبْطال العلم للإعتقاد السائد بأن أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، فإن طبيعتي لا تزال "كلاسيكية" تحب الموروث أكثر من "الحداثة"!
.
في برنامج (الحصن) كانت هناك لعبة طريفة: على المتسابقين أن يتزحلقوا على جسر قصير في وسط بركة ماء و يتوقفوا قبل نهايته وإلا سقطوا بماءٍ موحل. ما هو شعورك عندما ترى نفسك على طرف الجسر وأنك على وشك التوقف والفوز بالمسابقة ولكن تكتشف أن دفعتك في البداية كانت أقوى من اللازم بقليل لتسقط في اللحظات الأخيرة؟ هذا الشعور الفاصل بين الاحساس بطعم الفوز، وتذوق وحل الخسارة، وتلاشي نشوة الإنتصار هو قريب من شعوري تلك اللحظة التي سألني فيها عن: أولادي!
.
هناك لحظات غريبة في التجمعات البشرية تبدو وكأن الحاضرين يتفقون فيها على انهاء أحاديثهم في نفس الوقت، ليلف الصمت المكان باللحظة التي انطلق بها لساني: عمي .. ترى هو الكبير مو أنا! ولا أظن أن ابتسامتي شفعت في إزالة (إحراج الموقف) عنه!
.
هذه القصة هي المدخل لاستفسار سألني إيّاه أحد الأعزّاء: هل تحكم على النّاس بناءً على الشكل أو المظهر؟
.
رغم تمتّع الموقف بعفوية كبيرة فإنّه يتمتع بدلالة عالية على طريقة النزوع اللا شعوري نحو الحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم أو أشكالهم، من غير الضروري كون هذا الحكم سلبيًا كما يتبادر إلى الذهن أو إيجابيًا، ففي بعض الأحيان يكون متوقفًا في المنطقة الرمادية وهي المنطقة المحايدة، كما حدث معي عندما استخلص من منظري الخارجي أنني اكبر سنًا من أخي الأكبر فتصرّف بهذا النحو بناءً على هذا الأمر.
.
كل الأشخاص يلجؤون، بصورة أو أخرى، إلى الإتخاذ من المظهر طريقًا للحكم على الأشخاص، ومهما ادعى الشخص أنه ينظر للجوهر، ويبحث عنه فإن هذا الشيء لا يبرح كونه مجرد إدعاءٍ، فما يحدث هو تبادل في سلّم الاولويات، حيث يتراجع المظهر إلى أدنى درجة من الأهمية، وترتفع أشياء أخرى إلى أعلى السلّم، قد تكون الأصل أو المركز الاجتماعي أو الوظيفة أو مقدار الثروة أو سعة العلم أو حتى الأخلاق الرفيعة، كلها تتخذ أماكن متقدمة في مقياس التقييم الذاتي للشخص المقابل، ويتراجع مقياس المظهر أو الشكل.
.
حين تتعارض المبادئ التي يعتنقها الإنسان مع التكوين النفسي له، فإنه يلجأ إلى دفن هذه المشاعر النفسية في ناحية «اللا شعور» داخله، وهذه الناحية بحسب فرويد تتحول إلى سلوك يتناقض مع المبادئ المدّعاة ويملك عدة مظاهر تتشكل على هيئة تصرفات عفوية أو أحلام وتخيلات عابرة أو فلتات يزل بها اللسان، ففي المجتمعات التي تدعي التدين والإلتزام المفرط – كمثال- على صعيد المبادئ بحيث تخالف الطبيعة البشرية التي تميل إلى التحرر من كل قيد، بما فيه الدين، إذا لم يكن متجذرًا ومحركًا للسلوك بذاته فيها، فإنها تتصرف بطريقة تظهر تعارض هذه المبادئ مع الأفعال**، فاللسان يلهج بذكر الله واليد تصافح الشيطان.
.
كذلك، حين يتم الإدعاء بأن المظهر لا يهم وأنه لا يعتبر مقياسًا للتقييم، تقييم أي إنسان، ويتم نفي كل ماله صلة باعتبار المظهر مدخلاً لإصدار حكمٍ ما بشكل قاطع، فإن الطبيعة البشرية تمارس كما في الموقف الأوّل، حيلة دفاعية بتحويل الأمر إلى ناحية «اللا شعور» ويُترك له الأمر لاصدار حكم مسبق من خلال المظهر دون وعيٍ بذلك ، وهكذا يتم التخلص من الشعور غير المريح بالتناقض.
.
تعتبر الصورة شرطًا أساسيًا لقبول آراء وكلمات الآخرين، ولو من باب الاستماع، ويمكن الاستدلال على ذلك بكوننا نرسم صورًا ذهنية لمن نقرأ لهم، ونستمع لهم أو عنهم، فمهمة المخيلة تتوسع لتأخذ على عاتقها رسم صور الشخصيات التي تغيب بذاتها عن ناظرنا، أو لا نملك لها صورة محفوظة في أذهاننا وذلك لإزالة الغموض، فالنفس تجنح إلى تكوين هذه الصور المتخيلة والمتوهمة «لا إراديًا» وبدون وعي تام، وتركب عليها الكلمات والأصوات حتى تتمثل بصورة «إنسان» ذي مظهر وهيئة تقترب للكمال كلّما كان الصوت أكثر دفئًا، والكلمات أكثر حكمة أو عاطفية، وتقترب من النقصان كلما كانت الكلمات أو الأصوات بعكس ما ذكر سابقًا.
.
ولهذا السبب بالتحديد، ننصدم في معظم الأحيان عندما نشاهد على الطبيعة شخصًا ما أو نشاهد صورته، لأول مرة، بعد أن اطلعنا على نتاجه الأدبي، أو آرائه في أي مجال، أو استمعنا لصوته في يوم من الأيام وأعجبنا به، بأن مظهره الواقعي يختلف كثيرًا عن الصورة التي رسمناها له بأذهاننا وتبدأ عبارات مثل «كلش ما توقعتك جذي» وأخواتها بالصدور، لأنه يخالف بمظهره الصورة الكاملة التي رسمناها له وحركناها بالمخيلة.
.
في خبرٍ قرأته قبل أيّام عن اكتشاف الباحثين في معهد علوم التصوير ببرلين أنّ تمثال نفرتيتي الشهير يملك وجهًا معدّلاً تجميليًا ، والسبب كما تقول الدراسة هو «حرص طبقة النبلاء والحكام على تقديم أنفسهم في أكمل صورة»، والكمال مرتبط بالجمال الذي يتوقف على «الكيفية التي يتم بها إدراك الإنسان لنفسه وواقعه ووجوده»***، وبما أنّ الإنسان منجذب على الدوام نحو الجمال ويبحث عنه ويتصوّر غاية الجمال بـ الكمال، فدرجة جمال الشيء هي بمقدار كماله، فهو يطوّع إدراكه ليمارس «الإغلاق» الذي يعني الميل نحو إكمال الأشياء الناقصة وسد الثغرات الموجودة، بمعنى تحسين صورة من نتلطفه، وإساءة صورة من نكرهه، بغض النظر عن درجة جماله (الحقيقية)، مثلما نقبل صورة غاندي ملاكًا، وصدام ابليسًا، كما تكون ردة فعلنا غالبًا على من لا نستسيغه : إنت شايف شكلك قبل؟ ولو كانَ آيةً بمقاييس الجمال البشرية.
.
وفي الواقع، فإن الجميع يُمارسون هذا النوع من الحكم، بلا استثناء، الفارق هو في مدى اعتماديتهم عليها، فالبعض يعتبرها احكام غير قابلة للجدال، ويمارسها بكافة شعوره ووعيه ويركن إليها، بينما تعمل عند البعض الآخر في «اللا شعور» لتزيح همّ السؤال، والبحث والاستقصاء ثم إطلاق الحكم عند الآخرين عنه، وكل ما يفعله هو أنّه يضيف إلى جانب الحكم على المظهر بعض الأحكام الخاصة ببعض الجوانب الأخرى مثل ذكائه، وطباعه، وأخلاقه، وغيرها.
.
فإجابة السؤال هي أن الميل نحو استخدام المظهر في اصدار الحكم، طبيعة بشرية بحتة عند الجميع بلا استثناء، تارة تكون بتحريض الشعور، واخرى عفوية من اللا شعور، وغالبًا ما يتم استخدامها لتجنب عناء السؤال وإحراجه ومن ثمّ اخضاع اجابات الطرف المقابل لمقاييس التقييم الذاتية حتى يتم اصدار حكم ٍ لا يعتمد على المظهر الخارجي "وحده"، كما حدث معي!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نسبةً لـ كارل ماركس .. من ناحية المظهر فقط!
** انظر:
اشكَد انتوا مؤمنين؟
*** حامد سرمك، فلسفة الفن والجمال.

28 نوفمبر 2009

الأوقـات الـقـذرة


.
في بعض الأحيان قد تغيب أقرب الأشياء لنا عن أنظارنا، لأننا لا نشاء رؤيتها، بل نتمنى وندعو ونرجو في نفس الوقت أن تكون بعيدة، لذا نبحث في ذلك البعيد، ولا نلتفت لما هو قريب. حين تكتشف أن سببًا ما يُعطلك هو من صنعك، وحدث بإرادتك، وأنك أنت من تتحكم به تشعر بالغثيان، في معظم الأحيان يكون غثيانًا معنويًا -نفسيًا- وليس بمعناه المرَضي.
.
أمراض النفس وأعراضها، ليست كأمراض البدن، قد يزول الصداع بحبة بنادول، ولكن من الصعب أن تزول الكآبة أو يختفي الشعور بالاغتراب بقرص اسبرين. الأعراض النفسية هي باطنية يعيش معها الإنسان بكامل كيانه ويتطبّع بها، وفي غالب الأحيان لا يحب الإنسان أن يتوقف ليُعيد تقييم طباعه وتصرفاته ويُطلق عليها أحكامًا: هذه حسنة وتلك سيئة!
.
فهناك جنبة في كل إنسان، أنه «يتقوقع» على ذاته، ويعتبر أن الأطوار التي يمر بها من سعادة وفرح وحزن واكتئاب وأسبابها هي وحدها التي تعطيه المقياس الأفضل لكل شيء، فهو إن شعر بالفرح أراد للناس كلهم أن يشعروا بذلك مثله، و إن حزن لا يستحمل أن يرى أحدًا يفرح أو حتى يبتسم أمامه. لانه حزين أو مكتئب فعلى النّاس كلهم أن يكونوا مثله وإلا فهم قليلي الأدب، ولا يملكون التقدير المناسب.
.
حاولت طوال الأمس أن أعصر ذهني محاولاً الوصول للإجابة، ولم أستطع! كأنّ هناك حاجزًا يمنعني من التقدم أكثر في ذاكرتي، الإجابة التي أبحث عنها مختصة بسؤال: أين قرأت هذا التعريف للاوقات القذرة؟ باءت كل محاولاتي بالفشل، وبدأت ذاكرتي تلعب لعبتها المفضلة معي، لعبة تشبه تلك التي نمارسها مع الأطفال حين نقرب اللقمة من أفواههم فإذا فتحوها ليأكلوها سحبنا اللقمة بعيدًا.
.
قررت أنني وصلت لمرحلة اليأس، لا يهم أين قرأت ذلك، لم تعد هناك من حاجة إلى التذكر طالما أن المعنى لا زال حاضرًا في ذهني، وأنه يشرح إلى حدٍّ ما هذا الجمود والكسل و عدم الرغبة بإنجاز أي شيء الذي تسلل لي منذ فترة حتى بات يتملكني كما تملّك الغبار أجواءنا، لتحررنا أمطار اليومين السابقين من قيود الغبار، وتشرق في نفسي الحاجة إلى البحث عن طريق العودة إلى «أوقاتي النظيفة»، التي افتقدتها منذ مدة، كما افتقدت قطع الأثاث النظافة قبل أن يصدر (الفرمان) بتنظيفها.
.
تمسح الأثاث بمنشفة، يظهر لمعان أسطحها المفقود من جرّاء هجمات الغبار المتوالية، تكتسب المنشفة بعض الغبار، لكنها تستطيع أن تقوم بنفس المهمة مرة أخرى، وأخرى، وأخرى، حتى لا تعود صالحة لمسح المزيد من الغبار بسبب توسخها، وحين تمطر السماء تستخدم المنشفة لتمسح الماء المتسرب، فينتهي عمل المنشفة، لم تعد جافة ليُعاد استخدامها فإنها باتت مبللة لا تصلح لأن تقوم بنفس المهمة مجددًا.
.
نوعًا ما، نحن مثل هذه المنشفة، نظيفة ومستعدة للعمل، كما أننا مستعدون لأن نكتب، ونضحك، و"نتغشمر"، ونتفاعل مع كل الذين حولنا كما يريدون، ونريد، وما أن نبدأ بهذا الشيء حتى نفقد نقاوتنا شيئًا فشيئًا. كلما ازداد احتكاكنا بالناس، وزاد انهماكنا بأعمالنا، واستغرقنا بتفاصيل الحياة المتعبة والمملة، نفقد شيئًا من نظافتنا لصالح ذرات الغبار التي نكتسبها من هذه التفاعلات حتى نصل إلى مرحلة «الوقت القذر» عندها تتعكر قدرتنا على التواصل و التفاعل السليم ونصبح عرضة للاحتقان و الإنزواء و العصبية، قد يصل بعضنا مبكرًا لهذه المرحلة لأنه استعمل لامتصاص الماء، وقد يتأخر البعض الآخر لانه يكتسب الغبار شيئًا فشيئًا، في النهاية جميعنا نصل إلى خط النهاية هذا.
.
هل قلّت مشاكلنا أم زادت؟ لم تقل ولم تزد، عندما أقرأ كتابًا يتناول تاريخ مرحلة معينة بتفاصيلها، لا أجدها تختلف عمّا نعيشه الآن إلا بدرجتها، لكن الذين عاشوا في الماضي افتقدوا وسائل الإعلام التي أصبحت تحاصر المرء بأنبائها في كل لحظة، وكل مكان، كانوا يملكون فسحة يسعون فيها إلى تنقية أنفسهم بينما أصبحت أوقاتنا القذرة لا تقتصر على وقت العمل وضغوطاته المتعبة، ولا على وقت نشرة السابعة والنصف أو التاسعة مساءً، ولا على مواسم الخطابات السياسية وأيامها، بل دارت عجلتها لتوقعنا في شباكها طوال اليوم حتى صارت قدرتنا على امتصاص المزيد منها معدومة، كالمنشفة التي نستعملها لنمسح بقع الدهن .. أو تسرب مياه الأمطار.
.
وهذا الذي نغيبه عامدين عن أنظارنا، وهو أننا نشغل أنفسنا بامتصاص المعارك الكلامية، وبمواقف الآخرين، بشعاراتهم، وجريانهم نحو مصالحهم التي يلونونها بالأصباغ البرّاقة حتى ننخدع بها، ونعيش في دوامة الشعور بالذنب نتيجة التقصير تجاههم، ويأخذنا الهوس الجماعي بأننا لا نفعل شيئًا تجاه تلك التضحيات الجسام التي يقومون بها، أو أننا لا نجازيهم حق جزائهم عليها، وبسبب وسائل الإعلام التي ' تـزن ' على رؤوسنا لا نفرغ من هذه الضجة لنتساءل عن الدافع الحقيقي لهؤلاء؟ أو هل أن المبدء يتجزأ؟ حتى نصفق ونهلك أنفسنا في يوم لمدعي مبدءٍ كان هو أول من أهمله في زمنٍ مضى.
.
في الواقع، نحن لا نبحث ولا نريد البحث عن الإجابة على هذه الأسئلة، لأنها ستصدمنا بمقدار الوهم الذي نوهم به أنفسنا حين نعتقد أنّ مللنا وغثياننا هو من صنع غيرنا، ونتيجة لأفعالهم، ونفضل إلقاء تبعات عدم تقبلنا لحياتنا الاجتماعية، وسوء تصرفنا مع القريبين من حولنا، وعدم قدرتنا على أن نلتفت لمشاكلنا الصغيرة تحت حجة انشغالنا بالدفاع عن القيم والمبادئ و (المشاكل الكبيرة) ولكن: هل هناك فائدة لقيم عظمى توضع لمجتمع يُهمل أفراده قيمه الصغرى؟
.
حسنًا، من الصعب التفكر قليلاً، فهذه العملية تتطلب إعادة تقييم أفعالنا، وتصرفاتنا، فسهولة إطلاق الأحكام على الآخرين لا يقابلها إلا صعوبة إطلاق حكم قاسٍ على أنفسنا.
أصبحت عملية البحث عن «الأوقات النظيفة» نتيجة «التقوقع» تحمل بين طياتها إتهاماتٍ جاهزة لصاحبها بأنه غير متفاعل، ولا يقر الحرية، ولا ينادي بالديمقراطية، ولا يرفع شعارات حقوق الإنسان، رغم أن المسألة باختصار هي: لقد تم إغراقنا بـ«الأوقات القذرة»، وحُرمّ البحث عن «الأوقات النظيفة»علينا.

12 نوفمبر 2009

الرمز ناصر المحمد


في الأيام الأخيرة تابعت ما يحدث على الساحة بخصوص حملة (إرحل)، وفضلت الوقوف على الحياد، إن كان من شيء قررت الإلتزام به هو أن أغيّر من نفسي قبل مطالبتي بتغيير غيري[1]، لم أشارك سلبًا أو إيجابًا سوى بتساؤلات وخواطر بسيطة في بعض المدونات هنا وهناك. وعلى هذا الأساس لن يكون هذا الموضوع هو دعم لجهة أو تأييد لجهة أخرى، وليس في نيتي ذلك، ما سأتحدث عنه هو شتات لأفكار هي ابنة نظرة اجتماعية لظاهرة أراها امامي اليوم.



* * *
معظم الثورات تفشل بسبب أنها تفقد كل مكاسبها بعد لحظات من تخطيها للعقبة الأولى، لكونها غير قادرة على التعامل مع ما حققته، كانت الجماهير التي هي نواة الثورات تهدف إلى الاعتراض على واقع الحال، فتطوّرت حركتها من الاعتراض إلى الطمع بالسلطة بسبب شعور تلك الجماهير بالقوة. وفي الحقيقة أنّ هذه لعبة سياسية ماكرة مارسها الإستعمار بصورة مذهلة، أعطى السلطة والمكانة لرجال وطنيين ثم سحب رجاله من الواجهة العامة ليثبت للشعب أنّ هؤلاء يملكون شعارات ولكنهم لا يملكون أفعالاً ترقى إلى مستوى تلك الشعارات، والدليل هو فشلهم بإدارة الدولة.

.
قبل سنوات كانت الأوضاع في فرنسا تتجه إلى حالة معبأة ومستعدة لإحداث ثورة، لكنها افتقدت تلك الشرارة التي تقدحها. بينما في إيران وسنة 1979 كانت الثورة قد نضجت بعد أن استوعبت الدرس من ثلاث ثورات سابقة انتهت بالفشل. الدرس الذي تعلمته كان وضع تصوّر لما ستكون عليه الأوضاع بعد انتهاء الثورة، كانت الصورة المرسومة مقسمة بين اثنين الشيوعيين والإسلاميين[2]، وربح الحزب الذي قدّم صورة متكاملة لكيفية التحرّك بعد الإنقلاب وهذا الذي لم يحدث في فرنسا.
.
هذه المقدمة تهدف إلى توضيح أن الثورة هي وسيلة، وليست غاية فإن افتقدت للهدف أو الخطة لن تكون سوى حركة عبثية، كمن يرمي حجرًا بالماء ليتعكر ثم يعود لصفوه المعتاد بعد أن ينتهي تأثير الحجر. التطوّر الإنساني طوّر مفهوم الثورة من القتال على السلطة بالسيف والرمح إلى تغيير ديمقراطي، ومن الرصاصة إلى ورقة الإنتخاب والترشيح ما حدث في الولايات المتحدة مؤخرًا كان ثورة أزاحت حزبًا وأتت بآخر على هرم السلطة، فالثورة الآن تشير إلى إرادة التغيير بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى الضيق الذي ارتبط بالأذهان.
.
إلا أنّه من الخطأ فهم الثورة على أنّها تحركٌ لفرد واحد، أو أنّها تقوم على آيدلوجيّة رجل واحد، لأنها نتيجة لعمل جماعي تتقاطع فيه قدرة القيادة للجماهير مع الرغبة العارمة في التغيير، بحيث ينحصر دور القيادة في توجيه هذا التحرك الجماهيري نحو الحفاظ على مكاسبه. معظم الثورات الفاشلة (او ما يتم تصويره بالثورة من قِبل أصحابها فقط!) يكون سبب فشلها هو أنها ثورات قيادية وليست شعبية، بمعنى أن قيادتها حاولت خلق التحرك الجماهيري نحو اهداف خاصة بها لا تمانع باستغلال الجموع لأجلها ، لذلك كانت أشهر كلمات سعد زغلول هي: «مفيش فايدة» لانه حاول صنع ثورة مصطنعة، بينما الثورة الناجحة هي تلك العفوية الناتجة من الرغبة الحقيقية بالتغيير لا الناتجة من الرغبة الخاضعة لحسابات الربح والخسارة «الشخصية».


* * *


من طبيعة البشر ميلهم نحو «النـزوع» الذي هو الإتجاه إلى الفعل، وهذه الطبيعة تقف في قبال الإدراك والوجدان، بمعنى أن الدافع للفعل هو في غالب الأحيان أقوى من الدافع إلى التفكر والتروي في اتخاذ المواقف، وهذه يمكن ملاحظتها في «غباء التفكير الجمعي» لأن الذكاء يُستعاض عنه بالشعور بالقوة أثناء التحرك الجماهيري، إنّ التصرفات التي يتم ارتكابها من الجموع والخطوات التي يقدمون عليها والإجابات التي يقدمونها تبريرًا لأفعالهم في معظمها من المستحيل على الفرد لو كان لوحده أن يرتكبها أو يقدمها.
.
التغذية بالشعارات والإستعاضة بها لرسم الحال لاحقًا لا يمكن لها أن تقدّم وعيًا حقيقيًا، كما أنّ الإنطلاق نحو التغيير أو التبديل دون تشخيص دقيق للهدف، ودون رسم رؤية واقعية لما سيكون عليه الحال هو نوع من العبثية أقرب لأثر الشحنات الكهربائية في الاجساد الميتة، مجرد تحريك للعضلات و الانقباضات.
.
إنّ من شروط التحركات الجماهيرية أنها بحاجة إلى مقاييس تقيس أهدافها المرجوة لتتناسب مع المحيط الذي تتحرك به، وهذا يعني أنها يجب ألاّ تكون مقاييسًا مثالية لا تتواجد إلا بالمدن الفاضلة الأفلاطونية، فهذا يجعلها أقرب للإستحالة في التطبيق، ولن يكون هناك من يناسبها بحكم أنها تبحث عن كمالٍ لا يوجد في المجتمع.
.
كما أنّ المطالبة بالتغيير شيء جميل، ولكن لا يصح أن يكون التغيير لأجل التغيير فقط ودون تقديم البديل، أحد الذين شاركوا – ولا يزال – بفعالية بهذه الحملة أشار إلى أنّ رغبته تنحصر في تغيير رئيس مجلس الوزراء ومن ثم يكون الأمر للأمير كما ينصّ الدستور.
.
قوله هذا يشبه شعار «لا حبًا بعلي ولكن بغضًا بمعاوية»، فالمطالبة هي لتغيير شخص، وليست لتغيير منهج، بينما جميع الاخطاء التي تم الإشارة إليها أصبحت عرفًا وليست بدعًا من الرئيس. فلا ضمانة في حال تم تغيير رئيس مجلس الوزراء أن يأتي مكانه من يغيّر الحالة العامّة السائدة، كما أنّه من الخطأ الإعتقاد بان تغيير (الرأس) سيؤدي إلى تغيير (الكل)، وهذه نظرة مفعمة بالمثالية، الواقع يثبت أن الرئيس أو الرأس هو ابن للمجتمع والبيئة وقوانين المجتمع هي مثل الظواهر الطبيعية لا يغيرها الإنسان إنما يتعايش معها وبتعبير ابن خلدون «يخضع لها».
.
إن رئيس مجلس الوزراء هو تعبير حقيقي عن المجتمع الذي أنتجه، فهو ليس حالة شاذة عن الواقع السياسي السائد من فترة زمنية طويلة على الساحة السياسية الكويتية، هذه المطالبات الأخيرة من وجهة نظري لا تتعدى كونها مطالبات بإزالة شخص وإبقاء الوضع كما هو عليه، وهذا ما يجعلني أتساءل عن سبب الزخم الإعلامي الذي يحاول اخفاء هذه الحقيقة تحت ستار ( إرحـل )!


* * *


المجتمع البشري هو مجتمع رمزي، يستخدم الرموز ليعبر عن جانب اللا وعي عنده بحسب فرويد، وهذا الجانب يشكل الجزء الأكبر من اعتقادات وميول المرء نحو القضايا العامّة. قضية الإنتماء إلى الاحزاب أو الحركات والتيارات السياسيّة هي نوع من التعبير (البليد) عن اللاوعي، كونها تقدّم للمنتمي إليها مواقف جاهزة تجاه أغلب القضايا فلا يحتاج لأن يُشغل فكره في تفكيك أجزاء القضية وتحليلها.
.
اللجوء إلى الترميز يهدف إلى صنع تقييم ثنائي «خيـر» و «شـر»، ومن ثمّ يسهل إطلاق الحكم من باب التمسك بالخير، والبُعد عن الشر. تتنوّع الرموز، ما بين الإشارات، والكلمات، والرسومات، لتصل في النهاية إلى رموز حيّة وهي الشخصيات القياديّة في المجتمع، لكونها تعتبر المؤثر والمحرّك عادةً للجموع الجماهيريّة، فمن خلال تصنيفها يتم تصنيف هذه الجموع ككل.
.
في مجتمع يفتقد إلى معايير دقيقة في تحديد الخير والشر، من الطبيعي أن لا "يُجمع أمره على تقدير زعيم من الزعماء فهو نقّاد من طراز عجيب. فلو عاش مع الأنبياء لوجد فيهم كثيرًا من الهنّات والمعائب"[3]، ثم بعد ذهاب ذلك الزعيم يبدء بتنقية سيرته حتى يُصبح بطلاً من أبطال التاريخ أقرب منه للعصمة والكمال أو أنّه يلجأ إلى وصفه بأقذع الألفاظ ويربط ما بينه وبين كل سيئة حدثت في التاريخ.
.
هذه الحالة تتكرر في معظم المجتمعات البشرية وهي طبيعية جدًا، فهناك أشخاص يُعتبرون كرموز يكتسبون صفة الكمال مع مرور الأيًام وهناك العكس، ولكن حين ندرس سيرتهم الذاتية نكتشف أنهم لا يختلفون بعوائدهم وطبائعهم عن أيّ إنسانٍ آخر، كلهم يخضعون لتكوينهم النفسي/الوجداني ومحيطهم الاجتماعي.
.
ناصر المحمد لا يختلف عن غيره كثيرًا، ولكنه تحوّل اليوم إلى «رمــز» يمثل كل الإخفاقات عند طرف، ويمثل رمزًا للخروج من هذه الإخفاقات عند طرف آخر، وفي كل الأحوال كلا الطرفين يهملان حقيقة أنّ الإخفاق لا يتحمله طرف واحد، بل هو نتيجة تظافر عدة أطراف.
الجنوح نحو إلقاء اللوم على أحدهما هو نوع من الهروب من المسؤولية عن صنع التردّي الحاصل.




_________
[1] راجع: 3- سفيد : .. لكن مختلف !
[2] راجع: 1- عن إيران أتحدث ..
[3] وعاظ السلاطين – د. علي الوردي

7 نوفمبر 2009

2- بـوحُ العتاب في معرض الكتاب

.
في الجناح اللبناني قررت المرور على أحد الأصدقاء، حين وصلت باركت له مقدمًا الـ 15 عنوانًا الممنوعين، فنظر لي مشدوهًا: شو ما عرفت، صاروا 17 وأضاف مبتسمًا: بيظلوا يمنعوا حتى يمنعونا نحنا كمان!
.
لم أستغرب هذه الزيادة في عدد العناوين الممنوعة، لكنّي استغربت من منع كتاب لمؤلف والسماح لكتاب آخر لنفس المؤلف يُعتبر من وجهة نظر الرقيب أشد وأنكى من الأوّل. هذا السر لا زال يحيّرني فطريقة اختيار العناوين الممنوعة من التي يتم الافساح لها، مبهمة ولا تعتمد على ركائز معينة يصح اعتمادها.
.
أنا أعرف أنّ الإنسان كائن معياري، فهو حتى يضمن وجوده واستمراريته بحاجة لمعايير تحكم مسيرته، وهذه المعايير تتخذ صورًا متعددة لتعابير مختلفة في كل مجال يرتبط بحياة هذا الكائن، وعلى وفق هذه المعايير يتم إصدار الحكم واتخاذ المواقف القيميّة من كل الأشياء، وبطبيعة الحال يُعتبر المنع أو الحظر هو نوع من هذه التعابير المستندة إلى معايير خاصة أقرّها المشرّع أو المجتمع للحفاظ – من وجهة نظره – على اتجاه القيم عند أبناء المجتمع.
.
غير أنّ هذه المعايير بحاجة لأن تكون واضحة، وقادرة على أن تقدم إجابة صريحة على الأسئلة التي يطرحها المرء حين يواجه هذا الموقف من قبيل: لماذا المنع؟ وما هي أسس المنع؟ وأين تقف حدودي في فرض مثل هذا المنع؟ وغيرها من الأسئلة التي ترتبط بهذا الموضوع.
.
في الكويت، لا زالت الإجابة على مثل هذه الأسئلة مبهمة، وحتى المسؤولين عن الرقابة والمنع لا يستطيعون تقديم إجابة مباشرة يُمكن لها أن تقدم تبريرًا مقبولاً على الأقل لما يجري في المعرض. من غير المعقول مثلاً أن تمنع مذكرات الدكتور أحمد الخطيب بجزئها الثاني، وهي التي نُشرت على صفحات جريدة الجريدة قبل عام داخل الكويت. كما أنّه من المُستغرب أن يُمنع كتاب عبقرية الإمام للعقاد من البيع، ولكن في نفس الوقت يُسمح لعدة مجلدات تحتوي على تأليفات العقاد كلها بالبيع في نفس المعرض. لن أطيل أكثر بذكر الامثلة، فالرسالة قد وصلت بأنّ قرار المنع في العادة هو قرار إرتجالي وإعتباطي بالدرجة الأولى.
.
أحد أصحاب دور النشر، وأثناء تجاذب أطراف الحديث معه ذكر أنّه قام بعملية (رقابة ذاتية) واستخلص لائحة بها 42 عنوانًا قدمها للجنة، ليُفاجئ بعد ذلك بانهم سمحوا له بـ22 عنوانًا فقط! ولأجل هذا لم أستغرب وأنا أشاهد مكتبة بيسان تشارك بالمعرض برفيّن وطاولة، وهي أشهر المكتبات في الحمراء ببيروت.
.
كمحاولة لفهم ما يجري، طرحت سؤالاً على نفسي: ما هي فلسفة المنع؟
فكرة الحفاظ على قيم المجتمع، أو منع أسباب الخلاف بهذه الصيغة العامة رائعة، ولكنها تظل كذلك في دائرة كونها "فكرة"، أما إذا تحولت لفعل فإنها بحاجة لميزان منطقي، يتخذ القبول العام لأحكامه مبررًا له بذريعة أنّ هذا الأمر هو أفضل ما يمكن أن نقوم به، إلا أنّه إذا كان التطبيق للمنع في حقيقته يهدف إلى هذا الشيء، فما هو سبب هذا التخبط في قرارات المنع؟
.
الجمود على هيئة فكرية معينة، ومحاربة كل ما من شانه أن يؤثر عليها، أو يخالفها، يعني بقاء الفكر أو القيم في محلها، لأنها حتى تتغير فهي بحاجة لتدافع أو صراع يهيئ الأرضية لإزاحة الأفكار القديمة ويحل محلها الأفكار الجديدة، وطالما أن هذه العملية لا تحدث بسبب محاربة الرقابة لها، فما هو الداعي إلى تبدّل موقفها من السماح إلى المنع لكتب معينة، أو العكس في تارة أخرى؟
.
يبقى السؤال يبحث عن إجابة، بعيدًا عن اسطوانة المصلحة العامة التي يقولونها. المصلحة مشتقة من الصلاح، وهي بحاجة لتشخيص مواردها بدقة حتى ينطبق عنوانها على مصداقها، الأمثلة التي تفيد في إيضاح هذه الصورة كثيرة، مريض السكر على سبيل المثال فإن من المصلحة منعه من الحلويات، المصلحة هنا مشخصة بحدوث الضرر الواقعي، ولكن هذا المنع لا يجوز أو يصح تطبيقه على جميع النّاس، حسنًا، الكتب لا تختلف كثيرًا عن هذا المثال.
.
فلسفة المنع تقوم على الصيغة الأخلاقية، أو الأوامر الأخلاقية التي تهدف إلى تصنيف الأشياء بالخير أو الشر ومن ثم نطلق الأحكام عليها، بناءً على عواقبها وتداعياتها ونتائجها، إلا أنّ الأوامر الأخلاقية ليست كالأخلاق، فأن (لا تسرق) هي قاعدة أخلاقية تملك تفسيرًا موحدًا، ولكن حتى نطلق على عمل ما (سرقة) نحن بحاجة إلى تحديد دقيق، يكشف لنا إن كان هذا الفعل سرقة أم لا. وهذا ما تفتقده لجنة الرقابة عمومًا في الكويت، وفي أغلب بلداننا بطبيعة الحال.
.
سبب التخبط هو ضبابية هذه المعايير، ورجوعها إلى المزاج الشخصي للرقيب، بالإضافة إلى تداخل الاختصاصات، فنائب مجلس الأمة يملك السلطة بالمنع من خلال تصريح صحفي، وعضو لجنة الراقبة يملك نفس الصلاحية، وفي ظل عدم وجود مستند يحدد بدقة مهام كلٍ منهما، فإن التخبّط يكون سيد الموقف.
.
من المؤسف أن يُصبح الكتاب بضاعة تُصرف في سوق المكاسب السياسية، حين وصل الشيخ أحمد الفهد لوزارة الإعلام شهد معرض الكتاب انفراجًا واضحًا، لم يكن السبب هو تغيّر اللعبة، ولكن كان تغيّر اللاعب، وهذا ما أثبتته الأيام بعد تدويره، شخصية اللاعب فرضت إيقاعها، ولم تحصل حفلات الزار التي نراها مع كل معرض كتاب، حتى أصبح هاجس الرقيب لا القيام بمهام عمله بدقة، إنما هو ترضية الجميع دون وعي بأن الخلاف طبيعة بشرية، وأن محاولة حجب هذه الطبيعة أو تغطيتها هو ضحك على الذقون، ونتيجة لذلك أصبحنا نرى كتبًا تُباع وتُشارك في معارض دول مجاورة، وتمنع في الكويت بحجة إساءتها لتلك البلدان، غدونا ملكيين أكثر من الملك!
.
حين انتهت زيارتي للمعرض، وخرجت صادفت جموع المعتصمين، ابتسمت ومضيت بطريقي، لم أشأ ان أشاركهم اعتصامهم، فهم ليسوا – من وجهة نظري – سوى وجه آخر للرقيب، هم يفتقدون للضابطة التي تحدد مطالبهم، كما افتقد الرقيب للضابطة التي تحدد مهام عمله، لا أختلف معهم بمدى صحة مدعاهم ومطالبتهم ولكن العبرة هو في خدمتها لهدف صحيح، و إلا فلا عبرة لأي كلمة حتى و إن كانت (صحيحة) في ذاتها طالما انها موضوعة أو موجهة لخدمة هدف خاطئ .
.
الرقابة، والمنع أشياء يتحتم اللجوء إليها، فهي بذاتها مطلوبة، فالحرية المبالغ بها لا تقل ضررًا عن التضييق الشديد، وكليهما بحاجة لقواعد واضحة وصريحة تكفل العودة إلى النظام الذي يحافظ على بنية المجتمع متى ما تم خرقها، وهذه القواعد تساهم بشكل كبير في «إيجاد الحلول للمواقف بل و للإحراجات الأخلاقية التي قد تنشأ بسبب الصراع بين الموجبات المهنية وبين المطالب العامة التي يُنادى بها»*، ومن المؤسف أننا لا زلنا نتعامل بمنطلق ردّات الفعل على الأفعال، دون أن يستطيع أن يقدم الطرفين خلاصة منطقية لما يدعو له بعيدًا عن الشعارات التي يرفعها.
.
انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــ
*مونيك كانتو :الفلسفة الأخلاقية.

1 نوفمبر 2009

1- بـوحُ العتاب في معرض الكتاب

.
.
أحب تأمّل المناظر وأنا أقود سيارتي، تستهويني الحدائق والمسطحات الخضراء بشكلٍ كبير، لا أعلم سببًا لهذا ولكن يبدو أنها موروثات جينية، وأوضح دليل هو أن مطاعم الكباب والباكه لا تخلو أبدًا من صورة لمنظر طبيعي لحدائق غنّاء (!)، شاهدت العديد من مداخل الحدائق لكن يلفت نظري بشكل عام تلك البوابات المكونة من الكونوكاربس وكيف يشذبها أصحابها لتكوّن جسرًا معلقًا يمر من تحته الداخلون. حبلٌ رفيع يربط في نهاية الشجرة الأولى أوّل ما تُزرع، ويُشدُّ بنهاية الشجرة الثانية المزروعة للتو، ومع مرور الأيًام تلتحم الشجرتان لتكوّنا مدخلاً كما أراده وتصوره صاحب الحديقة.
.
شهر نوفمبر من كل عام، تتجدد فيه مناسبتان الأولى أنه الشهر الذي أفقد فيه عامًا إضافيًا من عُمري، والثاني أنه الذي يذكرني بزيارتي للمعرض مع والدي رحمه الله. كان يفعل بي مثلما يفعل أولئك بالكونوكاربس، يربطني بحبل في كتب معينة لا يستخسر بها مالاً أبدًا، وفي نفس الوقت يرفض شراء بعض الكتب لي رغم أنّها كانت أرخص ثمنًا فاضطر لشرائها من مصروفي الشخصي. اليوم أقف شاهدًا وأنا أرى الحصيلة [1] على اللوحة التي أراد - رحمه الله - رسمها لي.
.
يبدو أنّه كلما زادت الأرقام التي تشير لعمر الإنسان، زاد (سأمه) أو نفوره مما كان يتصور به المتعة حين طفولته، كما يشمئز المرء من حليب أمه اليوم، كان يترقب اللحظة التي يحين موعد شربه له في طفولته. لم تعد اللهفة موجودة، واستبدلت بالترّفع والاشمئزاز لمجرد أن معدته تطوّرت وبدأت تفضّل ألبان البقر ولحوم الخرفان، هكذا لم تعد متعة معرض الكتاب، كما كانت في الصغر، بالنسبة لي.
.
ارتباطي بالمعرض بات ارتباطًا وجدانيًا أكثر من كونه ارتباطًا ثقافيًا، بالنسبة لشخص عليه - غالبًا - أن يأتي بكتبه من الخارج لأن القائمين على المعرض (والرقابة عمومًا) يحكّمون أمزجتهم فيمنعون كتابًا تارة، وأخرى يسمحون به، وفق أهوائهم فهذا يعني أنه عليّ أن أتآلف مع المكتبات في بيروت ومشهد وقم، وهذه الأخيرة كلما تذكرت حال «باساج قدس»[2] فيها، ضحكت من تظاهرة تُسمّى زورًا ثقافية عندنا متمثلة بمعرض الكتاب!
.
ممرات معرض الكتاب تعيد ذلك العبق لي، في بعض الأحيان القيمة الجمالية التي تملكها اللحظة في الذهن أكبر من آلاف اللحظات الجمالية التي يمكن أن نقتنصها في الواقع، لا زلت أشتري الكتب من المعرض، ولكنه شراءٌ لـ"تبرئة الذمة"، أصبح كأنه ديوانية رمضانية، تفتح أبوابها مرة بالسنة نسلّم ونستفسر عن الأصحاب الذين شغلتنا الحياة عنهم، ونستقصي أخبار من نفتقدهم أو فقدناهم.
.
هذه السنة، فقدت عدّة منهم، لم أشاهد الجناح الإيراني، هذه خسارة إضافية لمعرض الكتاب، عرجت على من أعرفهم في باقي الأجنحة، بطريقي أبصرت أحدهم، يا الله! عرفته قارئًا نهمًا، في مكتبته تجد كتبًا لا تجدها في أيِّ مكانٍ آخر، تأملت الشعيرات البيضاء التي غزت لحيته الخفيفة، وقطار الأبناء خلفه، وهو يحاول استرضاء هذه، ومتابعة ذاك، مَسح فم ابنته الصغرى من بقايا "البوظة" ..
.
- يقولون ما خليت لنا شي بالمعرض :)
أمسك رواية هي أشبه بـ (سوالف منتدياتية) اشتراها لابنته الكبرى، ملوحًا بها تجاه وجهي:
- آخر عمري اشتري هالخرابيط!
- ما عليه، المهم يقرون، إنتَ شخذيت؟
- ولاشي!
.
عرفت أن الكتب عنده صارت كأنها أكوام حجارة بجانب قسيمة انتهت للتو من البناء، مجرد تجمعات غير منتظمة الشكل في غرف المنزل، همّ البورصة اتعب قلبه، وبنيان البيت أخلى جيوبه، ومتطلبّات الأولاد جعلته يحمد الله إن استطاع أن ينهي قراءة جريدة.
.
حين عدت للبيت مع كتبي كانت أختي تزور أمي، سمعتُ التعليق المميز:
- فـراغة!
.
هذا التعليق إمّا أن يجري على لسان كل من يشاهد كتابًا بيدي، أو أنّه يفضل الإطلال برأسه من خلال تعابير وجه من (يخزني). أن تجلس بالقهوة لساعات وتدخن الشيشة فانت تملئ وقتك، أو تتابع فلمًا تلو الآخر فأنت تستفيد من وقتك، أو أن تقضي الساعات تتابع أخبار اللاعبين أو الممثلين أو أبناء وبنات العائلة والجيران والكويت والكرة الأرضية كلها، الأحياء منهم والأموات، فأنت تستغل وقتك، أما أن تمسك كتابًا وتقرأ فهذا إما أنه من زود الفضاوة أو فـراغة!
.
لا يهم، بتُّ أملك مناعة مكتسبة الآن تجاه هذه التعليقات، ومع هذا لا زلت أفكر من الفارغ، أنا أم النّاس؟
هل أقدم على ما أقدم عليه الملك وأشرب من نهر الجنون حتى لا أصبح العاقل الوحيد بينهم؟ هل يُعقل أن توفيق الحكيم اكتشفَ الحل المثالي؟ أن نصبح كلنا مجانين؟
أم لا، أحتفظ بعقلانيتي و إن كلفتني منصبي، على الأقل لستُ ملكًا لأخاف من إزاحتي، وهذه من فوائد كونك من الطبقة الكادحة.
.
من جانب آخر، ألا يُمكن أن أكون أنا المجنون وأولئك هم العُقّال؟ لا يوجد ما يمنع ذلك، المجانين دائمًا يتصورون أنهم أعقل النّاس، وأنّ العوام أقل من أن يفهموا كلماتهم، كان بهلول يدّعي الجنون، يضحك عليه الناس في زمنه، لكنّهم اليوم يقفون احترامًا لحكمته، ونفاذ بصيرته.. لو كان المجانين كلهم بهاليل، لكنّا نعيش في عالم جميـل.. بعيدًا عن زين العقلاء!
.
تذكرت الشيخ بهلول رحمه الله، وصفه والده بأنّه (بهلول) أمام قائد الشرطة ليخلص نفسه من تبعات أفعاله، نسى الناس اسمه وتذكروا لقبه، رغم أنه قاد ثورة لازال التاريخ يذكرها بإجلال.
.
« إنني أحب الشجعان، ولكن لا يكفي أن تكون مقاتلاً شجاعًا يستخدم السيف القاطع، عليك كذلك أن تعرف من تقطعه بسيفك!» [3]
.
وللحديث - إن شاء الله - بقيّة ..


_____________
[1] ما ترونه في الصورة من كتب مستلقية على سطح المكتب.
[2] سوق الكتب في قم، كل ما تبحث عنه من كتب – مهما كانت – ستجدها هناك!
[3] القول لـ نيتشه، على لسان زرادشت.

24 أكتوبر 2009

السـعادة بالحـزن




هذا الموضوع بُـدء برسالة، ثم بجملة، ثم تقاطرت الأفكار فأصبح طويلاً ولازال عاجزًا عن لم شمل كل الأفكار .. إن هذا هو مجرد مثال بسيط على ما سيأتي!

.

السعادة مفهوم لازال طريح طاولة التشريح، لا أحد يدعي الوصول إلى المفهوم التام له، كما أنّ الحزن هو متلازم للسعادة و لم يصل أحد إلى المفهوم الشامل له. كل ما أبحر به الإنسان و أنتجه هو مباحث في "عوارض" السعادة والحزن، فنحن نقيس السعادة بآثارها، بالراحة، بالطمأنينة، بالدعة والسكينة، ولكن لا نقيس السعادة بذاتها، وفي نفس الوقت نحن نقيس الحزن بعوارضه لا بذاته، بألمه، وقلقه، و انقباض النفس، وضيق الحال.

.
هذه العوارض التي نقيسها ينطلق منها عامّة الباحثين إلى فهم السعادة والحزن، وماهيتهما، فهم يقولون بأن السعادة هي دفع الألم، كل ألم يحل بالإنسان، ألم الجوع، أو ألم الفقد، أو ألم العطش، أو ألم الحاجة كلها حين يتم دفعها يشعر الإنسان بالسعادة أو أحد مظاهرها. ومن جانب آخر فإن الاحساس المتزايد بهذه الحاجات و هذه الآلام يؤدي إلى الشعور بالحزن، والضيق، حين تلح حاجة ما وتبدو غير قادر على أن تحققها أو تشبعها في نفسك، يسيطر عليك الحزن، ويستبد بك الألم سواء كان الألم المادي، أو الألم المعنوي.

.
غير أنّ تساؤلاً يطرح نفسه، حتى ذلك الإنسان الغني القادر على اشباع كل احتياجاته، أو ما نتصوره من احتياج يشعر بالحزن، لماذا؟ أيضًا، حتى هذا الفقير الذي لا يملك قوت يومه يشعر بالسعادة، لماذا؟

.
لا أحد يمكنه أن يقدم إجابة وافية، لذلك يلجأ البعض إلى حمل القضية على أبسط محاملها، ليقتصر السعادة على أنها «لا تأتي من خارج الإنسان، بل هي تنبعث من داخله»[1] ويكتفي بهذه الإجابة، وفي الواقع هو لم يتعب نفسه في استكشاف لماذا تنبعث من الداخل؟ وكيف يمكن معرفتها؟ أو قياسها؟ أو حتى استيعاب سبب نفي السبب الخارجي في توليد السعادة، أو ماهي ماهيّتها، مما تكون؟ وكيف تكون؟ نحن "نشعر" بها، لكن لا نعرف مما هي، هذه كلها أسئلة يتصادم فيها الحكماء مع الفلاسفة من الروحانيين مع علماء النفس والاجتماع، وتبقى الحقيقة الوحيدة ثابتة، وهي أنّ الإنسان عاجز حتى عن بلوغ ما فيه!

.
اللاجواب الذي يسبح في غمراته الإنسان، يدفعه إلى الشعور بالعزلة في هذا العالم، فهو المخلوق الوحيد (العـالة) على البيئة، والمخلوق الوحيد (غير المنسجم) مع ما حوله، الحيوانات والحشرات وكل المخلوقات تقوم بأدوار دقيقة تكمل فيها حلقة الحياة، وتقوم بجزء يشكل بتكامله مع الآخرين الدورة الطبيعية الكاملة، إلا الإنسان الذي يشعر بأنه (مقذوف) في وسط هذا المحيط المنسجم كغدة 'سرطانية' تنهش فيه، وهو يملك خاصية "التحكم" بمواردهذه الدنيا دون غيره، رغم أنه على عكس الباقين يدمرها أكثر مما يخدمها ليبقيها، ويصبح عالة عليها أكثر من كونه جزءًا منها!

.
في تعقيبه، يذهب إريك فروم[2] إلى أنّ الجنّة، أو مملكة الله باصطلاحه، هي غاية الإنسان، سواء كما يطرحها الفكر الديني من حيث كونها كائنة في نهاية التاريخ، الآخرة، أو من ناحية الفكر ' المادي ' الحديث الذي يراها قابلة للحصول على أرض الواقع دون الحاجة لانتظار نهاية التاريخ / الزمن، وبرزت هذه الفكرة من خلال الحديث المتزايد عن الـ"يوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، ويشير إلى أن ذلك بسبب أمل الإنسان بالوصول إلى «الكمال الإنساني على الصعيد الإجتماعي و الفردي».

.
هذا الأمل، يصفه شريعتي[3]، بأنه نتيجة لنقائص البشر، فكل فن من الفنون، هو تعبير عن النقص الذي يعيشه الإنسان في ذلك المجال، لهذا كانت (الجنة) موجودة في كل المذاهب و الأديان في السماء كانت، أم في الأرض. إن الإنسان لا يتحدث عمّا يملكه بقدر حديثه عمّا لا يملكه، و لا يبحث عن الاستزادة بما لديه، كما يبحث عن الاستزادة بما يفتقده، فهو ينجذب للشعر لأنه يختلف عن الحديث الاعتيادي في حياتنا اليومية، ويبحث عن الجمال في البشر و الأدب والفن وغيرها، لأنّ الجمال لا يعتبر حالة عامة في هذه الدنيا، هذا السعي الإنساني نحو (المفتـقد) عنده، في ظل نقصه، وعدم انسجامه، يجعله مقيّدًا ومكبوحًا في دائرة صغيرة تصيبه بتوتر شديد، وتعب طويل. الشيء الوحيد الذي يبقيه ساعيًا، في هذا المجال هو هذا الأمل في «الكمال» الذي ينتظره أو يتأمّله.

.
الإنسان، بصفته وذاته، كما يقول الشيخ الرئيس ابن سينا كائن «متنـاه»[4]، فهو يعيش برهة من الزمن بعد أن وُجد من العدم، لتنتهي مسيرته على الأرض بالموت، يرافقه طوال هذا المسير شعور بـ«اللا محدودية»، فهو لا يحب أن يصدق أو يؤمن بأن الموت يعني نهاية الطريق له، سواء كانت نهاية للوجود في هذه الدنيا كالمؤمنين، أو نهاية عدمية كما هي عند الملحدين وغيرهم.

.

«العقل المتناهي متجذر في اللا تناهي»[5]، لذلك يحمل الإنسان أعماله و آماله ويحاول ربطها بالذي لا ينتهي، حتى يصل هو بنفسه إلى التخلّص من عقدة ضيق الحياة، وقِصر الدنيا، إلى الخلود، وهذا الإحساس ليس عبثيًا، لأن العقل البشري كإمكانات يفوق بكثير الحدود الدنيوية لعمره، وما تمنّي الموت عند بعضهم إلا لأنه لم يعد يطيق ذلك التناقض بين ضيق «الدنيا» وسعة «العقل» حتى يصل لدرجة السأم، كمّا عبّر عنها حكيم الجاهلية زهير بن أبي سلمى.

.
الكمال، حاجة إنسانية، عجز المرء عن سدها يوّلد عنده ألم، وهذا الألم مشابه للألم «السـادي» من حيث اللذة، ومن حيث السعادة التي ينشرها في النفس، قارب «نيتشه» هذا المعنى كثيرًا، لأنه استوعب أن «مشاركة المعاناة» مع الآخرين تبعد النظر عن المعاناة الذاتية، فيتتج الفرح والنشوة أو التسلية، لكنّه حول ذلك إلى «عدمية»[6] بدلاً من تحويلها إلى طريقٍ للتكامل.

.
فلا عجب أن يصبح الحزن، ملاذًا للسعادة، منذ القدم و أن يكون هناك من يتلذذ بالحزن كتلذذه بالسعادة، بل إنّه يستمتع بهذا الحزن، لانه يعطيه الشعور «بالإنسانية»، إنسانيةَ الآمال و الأحلام التي يسعى إليها كل شخص، ويكون محملاً بها ليتصادم مع مرور الأيام بعقبات ومطبات تجعل هذه الأحلام مجرد خربشات على صفحات الذاكرة. الاستمتاع بالحزن هو استمتاع بالمواساة التي تقدمها حقيقة عجز الإنسان عن الوصول إلى الكمال المُطلق، واستمتاع بالتذكير المستمر بقصور هذا الإنسان، وأنّه ليس الوحيد الذي تعلقت أرجله بهذا المحل، انبهارنا بمشاعر الحزن التي تبثها الأفلام، وتلك التي نستوحيها من الصور الكئيبة، وانجذابنا إلى التراجيديا في الأدب هو مجرد شاهد آخر على استمتاعنا بالحزن، لأن هذا هو الشعور الوحيد الذي يخاطبنا كبشر وينفذ لداخلنا، ونحن نرى أنفسنا في هذا العالم الذي نشعر فيه بعدم الإنتماء.

.
_______________
[1] علي الوردي، مقالة: وهم السعادة.
وهذه النظرة، وإن كانت توحي بباطن عميق إلا أنّها عند أصحابها مجرد إجابة تبعد عنهم همّ التفكير بواقع السعادة وماهيّتها وسبب تولدها في النفس وفي محاولة لتبرير حالة القصور عن إدراك ذلك يكون إطلاق مثل هذا الحكم البديهي.
[2] راجع: حلم 1984 الجميل.
والواقع أنّ النظرة المادية الحديثة، ليست سوى نظرة وضعت في قبال النظرة الدينية عن الجنّة، فهي وضعت من باب المقابلة، لكونها فطرة لم يستطع أولئك غض البصر عنها!
[3] علي شريعتي، الإمام علي في محنه الثلاث.
[4] يقول ابن سينا: (لا يجوز أن يكون جسم من الأجسام ولا بُعد من الأبعاد لا خلاء ولا ملاء و لا عدد يترتب في الطبع موجودًا بالفعل بلا نهاية ...).
فهو – أي الإنسان – كائن كانت له بداية، وُجد بالفيض، وله نهاية في كل مرحلة إلاّ ما شاء الله، وليس قديمًا أزليًا.
[5] د.ت. سوزوكي، دراسات في بوذية زن.
[6] المفهوم (العدمي) للحياة، ليس سوى محاولة من اولئك العاجزين للقفز على 'دقائق' النفس الإنسانية في سعيها المطلق نحو الكمال والخلود (الأخلاقي).