21 ديسمبر 2010

الآراء الموءُودة


في الكويت، جلست معه وكصاحب تجربة غنية وقلم سيّال وفكر غني، احتدم الحوار، فاضطررت في إحدى الأحايين إلى أن أسرد له موقفًا سمعته عن "شخص ما" حتى أدلل على موقفي، ليفاجأني بكلمة جمدت الدم في وجهي: هذا الشخص چـذاب![كذاب]، إذًا لماذا لا تنشر ذلك للعلن؟ لا جواب.

بعدها بأسابيع قليلة، وفي بغداد التي تنتشي من عبق الحزن وهو يشتمل زواياها، وتتناغم أصوات المولدات مصدرة آهات دائمة تحاكي مصاب هذه المدينة المكلومة، جلست مع أحد الأصدقاء، أم أقول المعلمين، هذا الشخص صاحب تجارب وخبرات أخالها لو قسمت على الناس لفاضت، ولو قُطعت ووزعت على الكائنات لزادت، ورغم ميله الشديد للحديث إلا أنه لا يفلت من زمام فمه إلا أقل القليل، فالكلمات عنده فيما عدا المسامرة، محسوبة وموزونة وقاطعة، لا أذكر تحديدًا ما الذي أتى على ذكر تلك الشخصية مجددًا، ولكنه فاجاني بأن وصمها بـ"الكذب"، شبه اتفاق على تلك الشخصية، ويتجمد الدم مجددًا في وجهي!

يبدو أنه لاحظ ذلك، فبدأ بسرد بعض الحوادث المدللة على ذلك، ويؤكد لي أنه لولا المعرفة التي تربطني به لما تحدث بهذا أبدًا!

ما أعاد لذاكرتي هذين الموقفين، نقاش جرى بيني وبين أحد زملاء العمل الذي كان يصر على تدعيم آرائه بأقوال تلك الشخصية، واعتبارها حدًا لا يمكن تجاوزه نظرًا لما تتمع به هذه الشخصية من مكانة اجتماعية، وسياسية، وقداسة دينية أضفتها السلطة عليه، وتقبلها المجتمع بقبول حسن.

في الوقت الذي لم يعد بقدرتي أن أرد تلك الأقوال رغم تهافتها، ليس باستطاعتي أن أبدي طعنًا بما فيها، أو بصاحبها، وحتى ولو كان متوجهًا ناحية فكره ومنهجه السياسي أو أطروحته الدينية بعيدًا عن شخصه.

أرجو تعميم الصورة أكثر، لأبين اشكالية كثيرًا ما اجد نفسي فيها، حين ينعقد لساني عن التحدث في موضوع ما، لكون قائله يتمتع بمثل تلك الهالة، فمجابهتها يعني حتمًا الإنتحار، والسكوت عنها قد يُفسر على أنه عجز عن الإجابة، وكلا الموقفين مصيبته أشدّ من الآخر.

لا يمكن مجابهة المجتمع، لأن سيله يجرف كل ما يقف بوجهه، ومن الطبيعي جدًا، وفي مجتمعات قابلة للشحن، أن تُصنّف في أسوء الخانات لمجرد معارضتك للتيّار العام، وكونك مطلعًا على ما لم يطلع عليه الآخرون، لا يغفر لك مثل هذا الموقف، فتضطر لأن تداهن أو تصمت أو تحتال وتستعين بكل ما اخترعه اللغويون وابتكروه من أساليب التورية والتضمين!

ومن ناحية أخرى، سكوتك قد يفسّر على أنه انعدام للجواب، أو عجز، أو استسلام، والأسوء من ذلك أنه قد يعطي انطباعًا بكون موقفك مبنيًا على شخصانية تفتقد لأي ضرب من ضروب المنطق.

ونظرًا للسرعة التي باتت سمة للعقود الأخيرة، أصبح البحث عن رأي أوموقف أولى من تكوينه، كما استغني عن الطعام بالوجبات السريعة الجاهزة، بدأت الاستعانة بالمواقف الجاهزة والآراء المعلبة حتى تتماشى مع تسارع الأحداث الجارية التي تغذيها وسائل الإعلام وتعيد تصفيفها وتبثها بسرعة شديدة، فالوقت لا يسمح بالبحث والتحليل لكل هذه القضايا على حدة.

والبحث عن رأي ليتم اقتباسه، يحتاج لشخصية قابلة لأن تعطيه وعلى هذا الأساس أصبحت سمات الرمزية تسبغ بالعشرات يوميًا، فكل صاحب رأي يلقى هوى في النفوس، يكون عضوًا فاعلاً في دائرة الرموز التي لا تكتمل إلا بأن تُلحق بمسميات لا يُختلف عليها. ففلان رمز الحرية، والآخر رمز العدالة وعلى هذا الدرب سِر.

وتتعاظم هذه الصفات إذا ما امتلكت «منزلة» تتيح لها تصدّر الآراء نتيجة لخلفية اجتماعية أو سياسية أو ما شابه ذلك، سيّما إن خدمتها الظروف الراهنة بأن جعلتها تقف في جانب المطالبة بما تريده الأغلبية، أو تتوهم أنها تريده، وهذا موضوع منفصل.

الإنسان كائن رمزي يميل إلى ترميز كل شيء بما فيها الشخوص والآراء ليستمدّ منها ما يدعم وقوفه في طرف مقابل الآخر، ليس من السهل (إن لم يكن من شبه المستحيل) كسر الأصنام الذهنية التي يخلقها البشر، ويحولونها إلى رموز.

أعود لزميلي في العمل، لأعيد تشكيل الموقف الذي دسني بين نارين، أن أقول له ما أعرفه عن هذا الشخص أم أصمت، هل أحاول هدم الصورة النقية المصطنعة لهذه الشخصية؟ في الوقت الذي تتمتع به بقبول واسع على أنها شخصية نزيهة ورائعة، هذا يعني أنني أعارض الأغلبية وأضع نفسي أنا النكرة- في قبال ذلك العلم، بما يعنيه ذلك من سلّة التهم الجاهزة، وأن أسكت فهذا يعني قبولي لمصادرة اختلافي بكل بساطة، في حالة تشبه ما كان يجري في القرون الوسطى بأوروبا بحيث يكفي أن يقول أحدهم (قال أرسطو كذا) ليُقطع كل نقاش، ويرسل قوله إرسال المسلمات مهما كان.

أحيانًا تكون المعرفة نقمة، واليوم بعد أن مررت ولا أزال بمثل هذه الحالة، بدأت أشعر بمعاناتهما وهما يسمعان ويريان الخديعة تتحول إلى حقيقة، وهما مجبران على الصمت. فلا يمكن للإنسان أن يضع نفسه تحت رحمة الجموع التي لا تقبل بما يُعارضها، طالما أنّه يمس «القداسة المتوهمة» لصنّاع الرأي.

ربما هذا الذي يدفع العديد ممن قابلت، وأنا أعلم علم اليقين بما يملكون من معرفة، للاكتفاء بابتسامة أو ألفاظ مبهمة بدلاً من التحدث بما يجر عليهم النقمة. وربما هذا ما دفعني إلى الابتسام ومجاراته بحديثه حتى لا أفتح أبوابًا مغلقة تزيد ضيق العمل ضيقًا!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرى من المناسب في هذا المقام،

مراجعة هذين الموضوعين:




17 ديسمبر 2010

ولم تكن بثورة ..

خواطر عاشوراء [4]

تأمّلت الكثير من الخطابات مؤخرًا وهي تصر وتؤكد على أنّ الحسين عليه السلام ثائر، ونهضته ثورة، سجلها التاريخ مع ثورات البشر.

الحسين عليه السلام ليس ثورة، ولم يكن في يوم من الأيام مشروع ثورة بالصورة التي تتبادر للذهن، وليس أسوء من الأحكام الخاطئة، إلا ظهور كونها مبنية على مقدمات خاطئة. وللأسف فإن أسس بناء الرأي لا يتم الاهتمام بها بقدر الإهتمام بإبداء الرأي!

وبدا لي أنّ معظمها يتحدث من انفعالات لحظية ومنطلقات غير محررة. من المؤسف كون كثير من الأحكام عندنا تبنى على مقدمات خاطئة، بعضها قد يصدف أن تكون نتيجته صحيحة، لكن لا يمكن أن يتم الاعتماد عليها في تكوين الموقف أو الرأي الصحيح دائمًا، وهذا يرجع إلى خلل في بنية التفكير بالإعتماد على مقدمات غير يقينية أو غير محددة بشكل قاطع.

لم يكن هدف الحسين عليه السلام احداث انقلاب آني على الحكم، ولم تكن الثورة كما تصوّر على أنها في طلب السلطة، كما أنّ الخطأ الشنيع يزداد حين يُحاكم الحسين عليه السلام على أنه قاصر عن معرفة مصيره المحتوم، المصير الذي عرفه جميع من قابله في المدينة المنورة وحثه على البقاء، وأسدى له النصيحة محذرًا إيّاه من أهل عراق ذلك العصر، وكأنهم كانوا يرون ما كان هو عمّيٌ عنه، وخدع بما لم يُخدعوا به.

لا يوجد من يولد غبيًا، في الوقت الذي يوجد فيه من يستغبي نفسه. في قراءة سيرة الحسين عليه السلام ما يكشف عن الكثير بمجرّد التأمّل، لم تكن الظروف الاجتماعية، والمعطيات السياسية، ولا الاستعدادات العسكرية تشير إلى البحث عن انتصار، أو الرغبة بإنتزاع السلطة، وثورة – بمعناها الحالي – تخرج من رحم هذا الثالوث هي ثورة بلا أنياب، موؤودة في مهدها.

كم هو مؤسف أن نضع النتائج مفصلة على أهوائنا، نرى الحسين عليه السلام ثورة عسكرية مجردة ونغمض العين عن شهادة محتمة، وكأن رسالته كانت قيامًا بالسيف الذي لا يُصلح الأمور سواه، بغض النظر عمّا كان وراءَ هذا السيف. في رسالته لبني هاشم، يقول عليه السلام «.. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد، فإن من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.»

كان عليه السلام مشروع استشهاد لترسيخ المشيئة الإلهية، لا مشروع حركة عسكرية، وكان عليه السلام ثورة على المفاهيم المقلوبة، ماضيًا نحو الموت، لم يبدء بقتال، ولا يحمل عبء ما يتم تحميله الآن. كم آسي على الإنغماس في التأويل والتحوير، وإهمال الحقيقة، كمن زار مكة وأهمل الكعبة!

الطف، قبل أن تكون معركة، هي فاجعة (وهنا استذكر شطرًا للسيد الحلي: أ ترى تجيء فجيعة بأمضّ من تلك الفجيعة؟)، وعلى هذا يجب أن تُبنى النتائج، وعليه تستخلص المواقف، كان القتال طارئًا في نفسه، أصيلاً في وجوده، لتبذر بذرة الحسين وتُسقى بفيض المنحر فتنمو على مدى الدهور ترسم منهاج الاستقامة في وجه الإنحراف. هذه هي الطف، ثورة على الثورات المزعومة، التي تنطفيء بعد حين، وتبقى هي مشتعلة، ومظلومية باقية ما دام في كربلاء شيء اسمه «الحسين».

12 ديسمبر 2010

مبدأ الهداية

خواطر عاشوراء [3]


الأخلاق هي مبدأ الهداية، ممّا قرأت وشاهدت وتباحثت ازدت يقينًا بهذه الحقيقة.

كلمّا كان المرء أكثر صفاءً كان طريقه للهداية أقرب من غيره.

يتيه أحدهم، ويضيع فيسأل عن الطريق. تارة يشير له أحدهم ويدله على الطريق، وتارة أخرى، لا، يأخذ بيده ويسير به حتى الجهة المقصودة، فلم يكتف بالوصف بل قرنه بالفعل.

كل شخص في هذه الدنيا تأتيه نفحات الهداية هذه، مرة كإشارة، وأخرى كتنبيه، أغلبهم يهملها، فلا يلتفت إليها رغم كثرتها، وبعضهم يصغي إليها فتتكاثر أمامه لترسم له الطريق. أمّا لماذا يهملها هؤلاء؟

فجواب السؤال فيه تفصيلات كثيرة. سأقتصر على جانبٍ منها.

يُشار للفطرة على الغالب ويُقصد بها الغريزة أو الطبيعة التي ينشأ عليها الإنسان، ولكن هذا التحديد للفطرة خاطئ وهو السبب في سوء فهمها. لا يمكن اقتصار الفطرة على الغرائز فهي موضوعة لبقاء الجنس، الأكل والشرب والتكاثر والاجتماع المقصود منها الحفاظ على الوجود. أما الطبيعة فهي تعني استعدادات أو استجابة هذا الإنسان لهذه الغرائز، وهو مجبور على الاستجابة لها، استجابة متوحشة تجعله ينزل من مكانته كإنسان ليتحول إلى "أضل من الأنعام" أم استجابة إنسانية يرتفع بها لما فوق مستوى "الملائكة".

فالفطرة أوسع من هذه التعريفات الضيقة التي لا تعطيها حقها. هي قيم أو أفكار إنسانية بحتة لا يمكن نكرانها، تجعل الإنسان ينجذب تجاه مُثلٍ عُليا كـ"الكمال، والجمال، والعدل، والخلود، وغيرها"، وهي انجذابات لم تفارق البشر منذ الإنسان الأول إلى هذا اليوم الذي لا يزال يرفع فيه هذه القيم وعليها يبني كل نظمه الفكرية. لا تجد طوال تاريخ البشرية دعوة انطلقت إلا وهي تحمل هذه العناوين، وبها تخاطب الجماهير، وعليها تعدهم بالسعادة المنشودة.

أعجبني إلتفات العلامة* لهذه النقطة في ضمن حديثه عن الفطرة ليدلل على وحدتها، فلو كانت السعادة تختلف باختلاف الأفراد لما انعقد مجتمع واحد يضمن سعادة الأفراد، ولو كانت تختلف باختلاف الأقطار لاختلف الإنسان باختلافها، ولو كانت باختلاف الأزمنة لم يسر المجتمع الإنساني سير التكامل هذا، وهو ما يدل على وجود أمر مشترك ثابت وموّحد بينهم.

ولكن كيف نوفق بين هذا الأمر، وما نراه من الاختلاف؟

بطبيعة الحال ليست المشكلة في هذه القيم، لكن المشكلة في التعريف الذي يُصاغ لها.

للأسف أنها تنتزع من معناها السامي ليتم توظيفها في خدمة الأنانية، والاستبداد، والمصالح الشخصية، والإعجاب بالنفس.

وما بُني على أساس باطل، لا يقود إلاّ إلى الباطل. وهو منشأ الإختلاف. وهذا ما يحدث حين ننغمس في هذه الحياة فتصعد المغريات على القيم والمبادئ، وتتلوث الأخلاق، وتنطمس الفطرة. وهذا يدل على أنها لا تجبره على شيء، إنما هو مخيّر في أعماله لتتم الحجة عليه فيها كلها.

لذلك فالأخلاق هي وجود معنوي يفصح عن النفسية التي يمتلكها الفرد، هل هي ملوثة بعالم الرغبات والإنفعالات، أم أنها لا تزال على صفائها و "خيريتها". وعلى هذا الأساس تكون الهداية لصاحب الأخلاق، لخيريته فإنه يلتفت لما فيه الخير، وينتبه لهذه الإشارات و«إذا كانت النقائص موجودة أيضًا فسترتفع بواسطة هذه التجليات الرحمانية»**، فكأنه أخذ بيده للغاية المنشودة لما وضعت له الفطرة، وهي سعادة الإنسان، وهذه هي الهداية الخاصة.

هذه الخاطرة مرّت بذهني وانا أقرأ موقف الحر رضوان الله عليه حين جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وحاصره في كربلاء ومنعه من اكمال سيره، وبعد ما جرى من حديث بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام فكان ممّا قاله في ختام كلامه: « .. والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه».

فلا عجب أن تكون نهايته شهيدًا بين يدي الحسين عليه السلام، وهو الذي قال: صدقت أمّك إذ سمتك حرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*راجع: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، في قوله تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..]

**جنود العقل والجهل، ص 416.

10 ديسمبر 2010

لأنهم طغاة، أبغضوه


 
خواطر عاشوراء [2]

هذه الدنيا محل اعتبارات، ومقر اختبارات. لم يُترك الناس فيها سدى، أُعطوا من كل شيء شيئًا وحُتّم عليهم أن يجدوا طريقهم.

حين أقرأ أنّ هناك ما يقارب 124 ألف نبي ومرسل، مقابل هؤلاء المليارات من البشر الذين أنجبوا الطغاة جيلاً بعد آخر، أتعجب، فأتذكر الليل يعمّه السواد، ولا يخترقه إلا ضوء أنجم معدودة. وأحاول أن أفهم ذلك وفق هذه الصورة: سيرة البشر، سوداء إلا من نقاط مضيئة هي هؤلاء العظماء.

أقرا التاريخ فلا أجد مقايسة بين عدد الطغاة الذين لا زال التاريخ يحتفظ بذكراهم وبين من يقابلهم من القديسين. كفة الطغاة دائمًا أرجح. ورد على خاطري التساؤل لماذا؟

القديسون ليست مهمتهم سوى أن يرسموا المُثل للناس، ويضعوا لهم النموذج الأمثل، ويحددوا لهم الطريق، منطقهم كما يقول الشهيد مطهري عليه الرحمة منطق الشمعة التي تحرق نفسها لأجل الآخرين. بينما الطغاة منطقهم منطق القوة التي لا تظهر إلا بقهر الآخرين، يحرقون الآخرين لأجل أنفسهم! 

شاء الله أن تكون حكمته في خلقنا التخيير، بأنفسنا نحدد أي شيء نكون وأي دربٍ نسلك؛ وحتى يكون ذلك لابد من دربين.

في الليل يمكن لنا بسهولة أن نلبس السواد فنتماهى مع ظلامه ونصبح جزءًا منه، لكن لا يمكن لنا كلنا أن نتحول إلى نجوم زاهرة فيه. فهي قضية استعدادات وقدرات لا يملك إرادتها كل شخص، والوصول إلى ما يقربها يحتاج إلى مجاهدة عظيمة و وعي بالذات وهي الاجتهاد بالعفة والسداد، فيما يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد».

لم يولد الطغاة هكذا! لكنهم فشلوا في أن يميزوا أنفسهم عن ظلام الدنيا، فأصبحوا جزءًا منه، و"المرءُ حيث وضع نفسه"[1]. كانوا أجبن من أن يتخذوا قرارًا فسُلبت الثقة من أنفسهم، وتمّزق حس الهوية عندهم، وتعاظمت الحاجة إلى أن يكونوا موضع الإعجاب والمحبة عند الناس لشكهم بذاتهم، ولمّا فشلوا في سدّ هذه الحاجة عمدوا إلى فرضها على الآخرين بالقهر والقوة. فهذا أسهل من التغلب على النفس الأمارة بالسوء.

مخطئ من يظن أن كون المرء طاغوتًا، يستلزم منه أن يكون حاكمًا ومتصرفًا برقاب الناس. إن مجاوزة الحدَّ، وتضخم الإعتقاد بالذات يمكن أن يحدث عند كل فرد في عمله، في منزله مع زوجته، ومع أولاده، أو من هو أدنى منه وحتى نفسه، وفي أي مكان. و"المرء يُكتب طاغوتاً وليس له إلا أهله"[2].

هذا الوهم الذي يعيشه الطاغوت بعظمة نفسه ونرجسيته يجعله في صراعٍ دائمٍ مع من يمثّل النقيض له. يؤرقه، ودائمًا ما يدس نفسه في مقارنة معه، ويجعل من شخصه طرفًا يحارب مقابله في كل شيء، ويتصور نفسه في معركة مستمرة هو أحد أطرافها ويقابله نقيضه.

هكذا كان الحسين عليه السلام مع الطواغيت على مدى الدهور إلى هذا اليوم. محلاً لسهامهم، ومصبًا لأحقادهم، لا لشيء سوى أنه يكشف زيفهم، وزيف مدعياتهم وسوء دواخلهم. حاربوه بشخصه، ثم حاربوا اسمه، وكل من ارتبط به، و والآن يحاربون كل ما يشير إليه. فجعلوه عدوًا لهم غرسوا مسامير حقدهم في صدره. وفاتهم أن الأشجار الباسقة لا يميتها الخدش.

جعل الله أولياؤه مناراتٍ وسبلاً للهداية، ومرشدين للكرامة. حاربهم الناس في حياتهم لظلمهم وجهلهم. فأبى الله سبحانه أن تندرس آثارهم.

ينقل العميد الركن نجيب الصالحي[3] أن الطاغية الهالك حسين كامل وقف أثناء الانتفاضة الشعبانية سنة 91 أمام قبة الحسين عليه السلام قائلاً: «أنت حسين .. وأنا حسين كامل» وكان الجواب بعد أقل من أربع سنوات قتلاً وسحلاً ورميًا وسوء عاقبة أحاطت به وبمن معه. إشارة ربانية إلى أن هذا الشخص ليس بشرًا فقط إنما طريق هداية به تتم الحجة.

سيرة جرت مع كل من تطاول يومًا على الحسين عليه السلام من يزيد الأموي إلى المتوكل العباسي إلى صدام مرورًا بمن كان بينهم، ناصبوه العداء بغضًا منهم لما يمثله. لم يكفهم ما جرى عليه وأهله وأنصاره، فوجهوا حروبهم تجاه ذكراه، ولكنه كالنجم لاح في قلب السماء، نوره يمزق الظلمات مهما تكالبت حوله، فالله يأبى إلا أن يتم نوره لتكون له الحجة البالغة على خلقه: هل يتلحفون برداء الليل فينضوون بالظلمات، أم يسترشدون بضوء أبى أن تطمسه هذه الظلمات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مضمون رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام راجع: غرر الحكم. وشرح النهج ج2.

[2] رواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

[3]رئيس أركان الفرقة المدرعة السادسة في الغزو العراقي، الزلزال ص280.

7 ديسمبر 2010

العودة إلى الحسين


خواطر عاشوراء [1]
في شهر صفر من سنة 1397 للهجرة (يناير/ 1977) حدثت انتفاضة ضد الحكم البعثي في العراق هي من أوائل الانتفاضات ضد هذا النظام الطاغوتي الذي حكم الناس بالحديد والنار. في تلك السنة صدر الأمر من وزير الداخلية العراقي بمنع المواكب الحسينية من الخروج، وفي أيّام المرجع الأعلى في ذلك الوقت الذي تسنم المنصب بعد رحيل السيد محسن الحكيم قدس سره،  السيد أبوالقاسم الخوئي رضوان الله عليه قررت الحكومة أن يبدأ هذا الحظر من النجف الأشرف.

في تلك السنة، جوبهت المواكب الحسينية التي خرجت من النجف الأشرف قاصدة كربلاء بألوية الجيش وقُصفت بطائرات "الميغ"، وسقط الشهداء أولهم شاب عمره 14 سنة، ولم يثن كل ذلك من عزمهم، فكانت واحدة من أوائل الانتفاضات المشهودة التي حدثت ضد النظام البعثي الطاغي العراق.

يومها، كسر الحظر الذي يمنع ذكر الإمام الحسين عليه السلام في الأماكن العامة وحرّك الجماهير الملا رسول محيي الدين الذي كتب قصيدة أمطر فيها التاريخ على الحاضر، ولا تزال إلى يومنا هذا علامة بارزة تقرأ في كل محفل، وتردد على كل لسان. أخذها وقرأها الشيخ ياسين الرميثي في موكب مهيب بالعراق تحدى فيه جلاوزة النظام، تحدٍّ لم يفارقه حيث أصبح اسمه بارزًا في كل انتفاضة آخرها الإنتفاضة الشعبانية سنة 1991 ليعيش بعدها متنقلاً بين المنافي حتى توفي رحمه الله.

هذه القصيدة أطلق عليها «سيمفونية الشيعة» لما فيها من وهج؛ غريب هو كيف تصبح الكلمات على بساطتها وبساطة نظمها عظيمة التأثير، حيث تشق طريقها في القلوب، ويحتفظ بها الزمان مكتوبة على صفحاته. حين أنشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية الشهيرة في مجلس الإمام الرضا عليه السلام قال له: «لقد نطق الروح القدس على لسانك». هكذا تكون بعض الكلمات، تعبير عن حالات وجدانية تخاطب القلوب، وتناغي الأرواح، وتضم تحت جناحيها الأنفس المهمومة المثقلة بأحمال متطلباتها، تعير السماء لسانها لينطق بكلماته على أفواه البشر.

«افرض نشذ عن خطّك.. ونسير على خــــط ابعيـد

افرض يجتذبنه الكاس.. ويســحرنه هـوى التجديـد

افرض ننفتـن بافكـار..ونتـــــــسمـم وفتـره نحيـد

افرض نلتهـي نقامـر.. ونـــــــتصـرف بـلا تقييـد

اشما تفرض بعد يحسين..اشم نعـمل بعـد ونزيـد

لابـد ماتجـي الساعـه.. البيهـا نـــــــنتبـه ونعـيـد

لابـد ماهـو الرحمـه..يدركنـا ونــــــــرد اجديـد»*

مهما ابتعدنا عنه، ومهما جذبتنا الأفكار، وغرتنا الحياة الدنيا، لا زال قادرًا على أن يجذبنا نحوه.

ليست المبادئ ولا القيم ولا الشعارات، هذه كلها نجدها عند الكثيرين، يدعونها، يؤمنون بها، ويسوقون لها، وقد يخدعون البشر بها، ولربما ننقاد نحوها، لكننا لا نجد الحسين إلا عند الحسين.

الدمعة الساكبة، والمصيبة الراتبة التي تخاطب وجداننا الملقى تحت أطنان من الملوثات، نقطة العودة التي تنادينا كلما ضللنا عن الطريق، ملتقى الأرواح التي يضمها مهما حادت في مسيرها، الكتف الحنون الذي بمصيبته يزيل آلام صدورنا، وبعطشه نرتوي من عذب مائه.

كلما أقرأ هذه القصيدة، وأصل إلى هذا المقطع المذكور، أتذكر تلك الجموع التي اختلفت فيما بينها كثيرًا ولكنها باسم الحسين توحدت. أراها أحرف بسيطة، استطاعت أن تحيط بالوقائع العظيمة، خرجت من الضمير لتخاطب الضمائر، فاستقرّت بها.

 كل شيء يرتبط بالحسين، يُكتب له الخلود لأنه يُكتب بماء الروح الخالدة التي تسري في هذا العالم. العودة للحسين هي العودة لهذه الروح العظيمة؛ أيام العودة هي أيامٌ نخلع فيها حِلل الأبدان الكئيبة، ونبقى نفوسنا مشرعة لاستقبال الفيض الذي يغسل بمصيبته برادة مصائبنا.
هي أيام تجذبنا نحوها لا إراديًا، تنادينا، فنجيب النداء طوعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* للحصول على القصيدة كاملة: اضغط