21 ديسمبر 2010

الآراء الموءُودة


في الكويت، جلست معه وكصاحب تجربة غنية وقلم سيّال وفكر غني، احتدم الحوار، فاضطررت في إحدى الأحايين إلى أن أسرد له موقفًا سمعته عن "شخص ما" حتى أدلل على موقفي، ليفاجأني بكلمة جمدت الدم في وجهي: هذا الشخص چـذاب![كذاب]، إذًا لماذا لا تنشر ذلك للعلن؟ لا جواب.

بعدها بأسابيع قليلة، وفي بغداد التي تنتشي من عبق الحزن وهو يشتمل زواياها، وتتناغم أصوات المولدات مصدرة آهات دائمة تحاكي مصاب هذه المدينة المكلومة، جلست مع أحد الأصدقاء، أم أقول المعلمين، هذا الشخص صاحب تجارب وخبرات أخالها لو قسمت على الناس لفاضت، ولو قُطعت ووزعت على الكائنات لزادت، ورغم ميله الشديد للحديث إلا أنه لا يفلت من زمام فمه إلا أقل القليل، فالكلمات عنده فيما عدا المسامرة، محسوبة وموزونة وقاطعة، لا أذكر تحديدًا ما الذي أتى على ذكر تلك الشخصية مجددًا، ولكنه فاجاني بأن وصمها بـ"الكذب"، شبه اتفاق على تلك الشخصية، ويتجمد الدم مجددًا في وجهي!

يبدو أنه لاحظ ذلك، فبدأ بسرد بعض الحوادث المدللة على ذلك، ويؤكد لي أنه لولا المعرفة التي تربطني به لما تحدث بهذا أبدًا!

ما أعاد لذاكرتي هذين الموقفين، نقاش جرى بيني وبين أحد زملاء العمل الذي كان يصر على تدعيم آرائه بأقوال تلك الشخصية، واعتبارها حدًا لا يمكن تجاوزه نظرًا لما تتمع به هذه الشخصية من مكانة اجتماعية، وسياسية، وقداسة دينية أضفتها السلطة عليه، وتقبلها المجتمع بقبول حسن.

في الوقت الذي لم يعد بقدرتي أن أرد تلك الأقوال رغم تهافتها، ليس باستطاعتي أن أبدي طعنًا بما فيها، أو بصاحبها، وحتى ولو كان متوجهًا ناحية فكره ومنهجه السياسي أو أطروحته الدينية بعيدًا عن شخصه.

أرجو تعميم الصورة أكثر، لأبين اشكالية كثيرًا ما اجد نفسي فيها، حين ينعقد لساني عن التحدث في موضوع ما، لكون قائله يتمتع بمثل تلك الهالة، فمجابهتها يعني حتمًا الإنتحار، والسكوت عنها قد يُفسر على أنه عجز عن الإجابة، وكلا الموقفين مصيبته أشدّ من الآخر.

لا يمكن مجابهة المجتمع، لأن سيله يجرف كل ما يقف بوجهه، ومن الطبيعي جدًا، وفي مجتمعات قابلة للشحن، أن تُصنّف في أسوء الخانات لمجرد معارضتك للتيّار العام، وكونك مطلعًا على ما لم يطلع عليه الآخرون، لا يغفر لك مثل هذا الموقف، فتضطر لأن تداهن أو تصمت أو تحتال وتستعين بكل ما اخترعه اللغويون وابتكروه من أساليب التورية والتضمين!

ومن ناحية أخرى، سكوتك قد يفسّر على أنه انعدام للجواب، أو عجز، أو استسلام، والأسوء من ذلك أنه قد يعطي انطباعًا بكون موقفك مبنيًا على شخصانية تفتقد لأي ضرب من ضروب المنطق.

ونظرًا للسرعة التي باتت سمة للعقود الأخيرة، أصبح البحث عن رأي أوموقف أولى من تكوينه، كما استغني عن الطعام بالوجبات السريعة الجاهزة، بدأت الاستعانة بالمواقف الجاهزة والآراء المعلبة حتى تتماشى مع تسارع الأحداث الجارية التي تغذيها وسائل الإعلام وتعيد تصفيفها وتبثها بسرعة شديدة، فالوقت لا يسمح بالبحث والتحليل لكل هذه القضايا على حدة.

والبحث عن رأي ليتم اقتباسه، يحتاج لشخصية قابلة لأن تعطيه وعلى هذا الأساس أصبحت سمات الرمزية تسبغ بالعشرات يوميًا، فكل صاحب رأي يلقى هوى في النفوس، يكون عضوًا فاعلاً في دائرة الرموز التي لا تكتمل إلا بأن تُلحق بمسميات لا يُختلف عليها. ففلان رمز الحرية، والآخر رمز العدالة وعلى هذا الدرب سِر.

وتتعاظم هذه الصفات إذا ما امتلكت «منزلة» تتيح لها تصدّر الآراء نتيجة لخلفية اجتماعية أو سياسية أو ما شابه ذلك، سيّما إن خدمتها الظروف الراهنة بأن جعلتها تقف في جانب المطالبة بما تريده الأغلبية، أو تتوهم أنها تريده، وهذا موضوع منفصل.

الإنسان كائن رمزي يميل إلى ترميز كل شيء بما فيها الشخوص والآراء ليستمدّ منها ما يدعم وقوفه في طرف مقابل الآخر، ليس من السهل (إن لم يكن من شبه المستحيل) كسر الأصنام الذهنية التي يخلقها البشر، ويحولونها إلى رموز.

أعود لزميلي في العمل، لأعيد تشكيل الموقف الذي دسني بين نارين، أن أقول له ما أعرفه عن هذا الشخص أم أصمت، هل أحاول هدم الصورة النقية المصطنعة لهذه الشخصية؟ في الوقت الذي تتمتع به بقبول واسع على أنها شخصية نزيهة ورائعة، هذا يعني أنني أعارض الأغلبية وأضع نفسي أنا النكرة- في قبال ذلك العلم، بما يعنيه ذلك من سلّة التهم الجاهزة، وأن أسكت فهذا يعني قبولي لمصادرة اختلافي بكل بساطة، في حالة تشبه ما كان يجري في القرون الوسطى بأوروبا بحيث يكفي أن يقول أحدهم (قال أرسطو كذا) ليُقطع كل نقاش، ويرسل قوله إرسال المسلمات مهما كان.

أحيانًا تكون المعرفة نقمة، واليوم بعد أن مررت ولا أزال بمثل هذه الحالة، بدأت أشعر بمعاناتهما وهما يسمعان ويريان الخديعة تتحول إلى حقيقة، وهما مجبران على الصمت. فلا يمكن للإنسان أن يضع نفسه تحت رحمة الجموع التي لا تقبل بما يُعارضها، طالما أنّه يمس «القداسة المتوهمة» لصنّاع الرأي.

ربما هذا الذي يدفع العديد ممن قابلت، وأنا أعلم علم اليقين بما يملكون من معرفة، للاكتفاء بابتسامة أو ألفاظ مبهمة بدلاً من التحدث بما يجر عليهم النقمة. وربما هذا ما دفعني إلى الابتسام ومجاراته بحديثه حتى لا أفتح أبوابًا مغلقة تزيد ضيق العمل ضيقًا!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرى من المناسب في هذا المقام،

مراجعة هذين الموضوعين:




17 ديسمبر 2010

ولم تكن بثورة ..

خواطر عاشوراء [4]

تأمّلت الكثير من الخطابات مؤخرًا وهي تصر وتؤكد على أنّ الحسين عليه السلام ثائر، ونهضته ثورة، سجلها التاريخ مع ثورات البشر.

الحسين عليه السلام ليس ثورة، ولم يكن في يوم من الأيام مشروع ثورة بالصورة التي تتبادر للذهن، وليس أسوء من الأحكام الخاطئة، إلا ظهور كونها مبنية على مقدمات خاطئة. وللأسف فإن أسس بناء الرأي لا يتم الاهتمام بها بقدر الإهتمام بإبداء الرأي!

وبدا لي أنّ معظمها يتحدث من انفعالات لحظية ومنطلقات غير محررة. من المؤسف كون كثير من الأحكام عندنا تبنى على مقدمات خاطئة، بعضها قد يصدف أن تكون نتيجته صحيحة، لكن لا يمكن أن يتم الاعتماد عليها في تكوين الموقف أو الرأي الصحيح دائمًا، وهذا يرجع إلى خلل في بنية التفكير بالإعتماد على مقدمات غير يقينية أو غير محددة بشكل قاطع.

لم يكن هدف الحسين عليه السلام احداث انقلاب آني على الحكم، ولم تكن الثورة كما تصوّر على أنها في طلب السلطة، كما أنّ الخطأ الشنيع يزداد حين يُحاكم الحسين عليه السلام على أنه قاصر عن معرفة مصيره المحتوم، المصير الذي عرفه جميع من قابله في المدينة المنورة وحثه على البقاء، وأسدى له النصيحة محذرًا إيّاه من أهل عراق ذلك العصر، وكأنهم كانوا يرون ما كان هو عمّيٌ عنه، وخدع بما لم يُخدعوا به.

لا يوجد من يولد غبيًا، في الوقت الذي يوجد فيه من يستغبي نفسه. في قراءة سيرة الحسين عليه السلام ما يكشف عن الكثير بمجرّد التأمّل، لم تكن الظروف الاجتماعية، والمعطيات السياسية، ولا الاستعدادات العسكرية تشير إلى البحث عن انتصار، أو الرغبة بإنتزاع السلطة، وثورة – بمعناها الحالي – تخرج من رحم هذا الثالوث هي ثورة بلا أنياب، موؤودة في مهدها.

كم هو مؤسف أن نضع النتائج مفصلة على أهوائنا، نرى الحسين عليه السلام ثورة عسكرية مجردة ونغمض العين عن شهادة محتمة، وكأن رسالته كانت قيامًا بالسيف الذي لا يُصلح الأمور سواه، بغض النظر عمّا كان وراءَ هذا السيف. في رسالته لبني هاشم، يقول عليه السلام «.. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد، فإن من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.»

كان عليه السلام مشروع استشهاد لترسيخ المشيئة الإلهية، لا مشروع حركة عسكرية، وكان عليه السلام ثورة على المفاهيم المقلوبة، ماضيًا نحو الموت، لم يبدء بقتال، ولا يحمل عبء ما يتم تحميله الآن. كم آسي على الإنغماس في التأويل والتحوير، وإهمال الحقيقة، كمن زار مكة وأهمل الكعبة!

الطف، قبل أن تكون معركة، هي فاجعة (وهنا استذكر شطرًا للسيد الحلي: أ ترى تجيء فجيعة بأمضّ من تلك الفجيعة؟)، وعلى هذا يجب أن تُبنى النتائج، وعليه تستخلص المواقف، كان القتال طارئًا في نفسه، أصيلاً في وجوده، لتبذر بذرة الحسين وتُسقى بفيض المنحر فتنمو على مدى الدهور ترسم منهاج الاستقامة في وجه الإنحراف. هذه هي الطف، ثورة على الثورات المزعومة، التي تنطفيء بعد حين، وتبقى هي مشتعلة، ومظلومية باقية ما دام في كربلاء شيء اسمه «الحسين».

12 ديسمبر 2010

مبدأ الهداية

خواطر عاشوراء [3]


الأخلاق هي مبدأ الهداية، ممّا قرأت وشاهدت وتباحثت ازدت يقينًا بهذه الحقيقة.

كلمّا كان المرء أكثر صفاءً كان طريقه للهداية أقرب من غيره.

يتيه أحدهم، ويضيع فيسأل عن الطريق. تارة يشير له أحدهم ويدله على الطريق، وتارة أخرى، لا، يأخذ بيده ويسير به حتى الجهة المقصودة، فلم يكتف بالوصف بل قرنه بالفعل.

كل شخص في هذه الدنيا تأتيه نفحات الهداية هذه، مرة كإشارة، وأخرى كتنبيه، أغلبهم يهملها، فلا يلتفت إليها رغم كثرتها، وبعضهم يصغي إليها فتتكاثر أمامه لترسم له الطريق. أمّا لماذا يهملها هؤلاء؟

فجواب السؤال فيه تفصيلات كثيرة. سأقتصر على جانبٍ منها.

يُشار للفطرة على الغالب ويُقصد بها الغريزة أو الطبيعة التي ينشأ عليها الإنسان، ولكن هذا التحديد للفطرة خاطئ وهو السبب في سوء فهمها. لا يمكن اقتصار الفطرة على الغرائز فهي موضوعة لبقاء الجنس، الأكل والشرب والتكاثر والاجتماع المقصود منها الحفاظ على الوجود. أما الطبيعة فهي تعني استعدادات أو استجابة هذا الإنسان لهذه الغرائز، وهو مجبور على الاستجابة لها، استجابة متوحشة تجعله ينزل من مكانته كإنسان ليتحول إلى "أضل من الأنعام" أم استجابة إنسانية يرتفع بها لما فوق مستوى "الملائكة".

فالفطرة أوسع من هذه التعريفات الضيقة التي لا تعطيها حقها. هي قيم أو أفكار إنسانية بحتة لا يمكن نكرانها، تجعل الإنسان ينجذب تجاه مُثلٍ عُليا كـ"الكمال، والجمال، والعدل، والخلود، وغيرها"، وهي انجذابات لم تفارق البشر منذ الإنسان الأول إلى هذا اليوم الذي لا يزال يرفع فيه هذه القيم وعليها يبني كل نظمه الفكرية. لا تجد طوال تاريخ البشرية دعوة انطلقت إلا وهي تحمل هذه العناوين، وبها تخاطب الجماهير، وعليها تعدهم بالسعادة المنشودة.

أعجبني إلتفات العلامة* لهذه النقطة في ضمن حديثه عن الفطرة ليدلل على وحدتها، فلو كانت السعادة تختلف باختلاف الأفراد لما انعقد مجتمع واحد يضمن سعادة الأفراد، ولو كانت تختلف باختلاف الأقطار لاختلف الإنسان باختلافها، ولو كانت باختلاف الأزمنة لم يسر المجتمع الإنساني سير التكامل هذا، وهو ما يدل على وجود أمر مشترك ثابت وموّحد بينهم.

ولكن كيف نوفق بين هذا الأمر، وما نراه من الاختلاف؟

بطبيعة الحال ليست المشكلة في هذه القيم، لكن المشكلة في التعريف الذي يُصاغ لها.

للأسف أنها تنتزع من معناها السامي ليتم توظيفها في خدمة الأنانية، والاستبداد، والمصالح الشخصية، والإعجاب بالنفس.

وما بُني على أساس باطل، لا يقود إلاّ إلى الباطل. وهو منشأ الإختلاف. وهذا ما يحدث حين ننغمس في هذه الحياة فتصعد المغريات على القيم والمبادئ، وتتلوث الأخلاق، وتنطمس الفطرة. وهذا يدل على أنها لا تجبره على شيء، إنما هو مخيّر في أعماله لتتم الحجة عليه فيها كلها.

لذلك فالأخلاق هي وجود معنوي يفصح عن النفسية التي يمتلكها الفرد، هل هي ملوثة بعالم الرغبات والإنفعالات، أم أنها لا تزال على صفائها و "خيريتها". وعلى هذا الأساس تكون الهداية لصاحب الأخلاق، لخيريته فإنه يلتفت لما فيه الخير، وينتبه لهذه الإشارات و«إذا كانت النقائص موجودة أيضًا فسترتفع بواسطة هذه التجليات الرحمانية»**، فكأنه أخذ بيده للغاية المنشودة لما وضعت له الفطرة، وهي سعادة الإنسان، وهذه هي الهداية الخاصة.

هذه الخاطرة مرّت بذهني وانا أقرأ موقف الحر رضوان الله عليه حين جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وحاصره في كربلاء ومنعه من اكمال سيره، وبعد ما جرى من حديث بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام فكان ممّا قاله في ختام كلامه: « .. والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه».

فلا عجب أن تكون نهايته شهيدًا بين يدي الحسين عليه السلام، وهو الذي قال: صدقت أمّك إذ سمتك حرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*راجع: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، في قوله تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..]

**جنود العقل والجهل، ص 416.

10 ديسمبر 2010

لأنهم طغاة، أبغضوه


 
خواطر عاشوراء [2]

هذه الدنيا محل اعتبارات، ومقر اختبارات. لم يُترك الناس فيها سدى، أُعطوا من كل شيء شيئًا وحُتّم عليهم أن يجدوا طريقهم.

حين أقرأ أنّ هناك ما يقارب 124 ألف نبي ومرسل، مقابل هؤلاء المليارات من البشر الذين أنجبوا الطغاة جيلاً بعد آخر، أتعجب، فأتذكر الليل يعمّه السواد، ولا يخترقه إلا ضوء أنجم معدودة. وأحاول أن أفهم ذلك وفق هذه الصورة: سيرة البشر، سوداء إلا من نقاط مضيئة هي هؤلاء العظماء.

أقرا التاريخ فلا أجد مقايسة بين عدد الطغاة الذين لا زال التاريخ يحتفظ بذكراهم وبين من يقابلهم من القديسين. كفة الطغاة دائمًا أرجح. ورد على خاطري التساؤل لماذا؟

القديسون ليست مهمتهم سوى أن يرسموا المُثل للناس، ويضعوا لهم النموذج الأمثل، ويحددوا لهم الطريق، منطقهم كما يقول الشهيد مطهري عليه الرحمة منطق الشمعة التي تحرق نفسها لأجل الآخرين. بينما الطغاة منطقهم منطق القوة التي لا تظهر إلا بقهر الآخرين، يحرقون الآخرين لأجل أنفسهم! 

شاء الله أن تكون حكمته في خلقنا التخيير، بأنفسنا نحدد أي شيء نكون وأي دربٍ نسلك؛ وحتى يكون ذلك لابد من دربين.

في الليل يمكن لنا بسهولة أن نلبس السواد فنتماهى مع ظلامه ونصبح جزءًا منه، لكن لا يمكن لنا كلنا أن نتحول إلى نجوم زاهرة فيه. فهي قضية استعدادات وقدرات لا يملك إرادتها كل شخص، والوصول إلى ما يقربها يحتاج إلى مجاهدة عظيمة و وعي بالذات وهي الاجتهاد بالعفة والسداد، فيما يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد».

لم يولد الطغاة هكذا! لكنهم فشلوا في أن يميزوا أنفسهم عن ظلام الدنيا، فأصبحوا جزءًا منه، و"المرءُ حيث وضع نفسه"[1]. كانوا أجبن من أن يتخذوا قرارًا فسُلبت الثقة من أنفسهم، وتمّزق حس الهوية عندهم، وتعاظمت الحاجة إلى أن يكونوا موضع الإعجاب والمحبة عند الناس لشكهم بذاتهم، ولمّا فشلوا في سدّ هذه الحاجة عمدوا إلى فرضها على الآخرين بالقهر والقوة. فهذا أسهل من التغلب على النفس الأمارة بالسوء.

مخطئ من يظن أن كون المرء طاغوتًا، يستلزم منه أن يكون حاكمًا ومتصرفًا برقاب الناس. إن مجاوزة الحدَّ، وتضخم الإعتقاد بالذات يمكن أن يحدث عند كل فرد في عمله، في منزله مع زوجته، ومع أولاده، أو من هو أدنى منه وحتى نفسه، وفي أي مكان. و"المرء يُكتب طاغوتاً وليس له إلا أهله"[2].

هذا الوهم الذي يعيشه الطاغوت بعظمة نفسه ونرجسيته يجعله في صراعٍ دائمٍ مع من يمثّل النقيض له. يؤرقه، ودائمًا ما يدس نفسه في مقارنة معه، ويجعل من شخصه طرفًا يحارب مقابله في كل شيء، ويتصور نفسه في معركة مستمرة هو أحد أطرافها ويقابله نقيضه.

هكذا كان الحسين عليه السلام مع الطواغيت على مدى الدهور إلى هذا اليوم. محلاً لسهامهم، ومصبًا لأحقادهم، لا لشيء سوى أنه يكشف زيفهم، وزيف مدعياتهم وسوء دواخلهم. حاربوه بشخصه، ثم حاربوا اسمه، وكل من ارتبط به، و والآن يحاربون كل ما يشير إليه. فجعلوه عدوًا لهم غرسوا مسامير حقدهم في صدره. وفاتهم أن الأشجار الباسقة لا يميتها الخدش.

جعل الله أولياؤه مناراتٍ وسبلاً للهداية، ومرشدين للكرامة. حاربهم الناس في حياتهم لظلمهم وجهلهم. فأبى الله سبحانه أن تندرس آثارهم.

ينقل العميد الركن نجيب الصالحي[3] أن الطاغية الهالك حسين كامل وقف أثناء الانتفاضة الشعبانية سنة 91 أمام قبة الحسين عليه السلام قائلاً: «أنت حسين .. وأنا حسين كامل» وكان الجواب بعد أقل من أربع سنوات قتلاً وسحلاً ورميًا وسوء عاقبة أحاطت به وبمن معه. إشارة ربانية إلى أن هذا الشخص ليس بشرًا فقط إنما طريق هداية به تتم الحجة.

سيرة جرت مع كل من تطاول يومًا على الحسين عليه السلام من يزيد الأموي إلى المتوكل العباسي إلى صدام مرورًا بمن كان بينهم، ناصبوه العداء بغضًا منهم لما يمثله. لم يكفهم ما جرى عليه وأهله وأنصاره، فوجهوا حروبهم تجاه ذكراه، ولكنه كالنجم لاح في قلب السماء، نوره يمزق الظلمات مهما تكالبت حوله، فالله يأبى إلا أن يتم نوره لتكون له الحجة البالغة على خلقه: هل يتلحفون برداء الليل فينضوون بالظلمات، أم يسترشدون بضوء أبى أن تطمسه هذه الظلمات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مضمون رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام راجع: غرر الحكم. وشرح النهج ج2.

[2] رواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

[3]رئيس أركان الفرقة المدرعة السادسة في الغزو العراقي، الزلزال ص280.

7 ديسمبر 2010

العودة إلى الحسين


خواطر عاشوراء [1]
في شهر صفر من سنة 1397 للهجرة (يناير/ 1977) حدثت انتفاضة ضد الحكم البعثي في العراق هي من أوائل الانتفاضات ضد هذا النظام الطاغوتي الذي حكم الناس بالحديد والنار. في تلك السنة صدر الأمر من وزير الداخلية العراقي بمنع المواكب الحسينية من الخروج، وفي أيّام المرجع الأعلى في ذلك الوقت الذي تسنم المنصب بعد رحيل السيد محسن الحكيم قدس سره،  السيد أبوالقاسم الخوئي رضوان الله عليه قررت الحكومة أن يبدأ هذا الحظر من النجف الأشرف.

في تلك السنة، جوبهت المواكب الحسينية التي خرجت من النجف الأشرف قاصدة كربلاء بألوية الجيش وقُصفت بطائرات "الميغ"، وسقط الشهداء أولهم شاب عمره 14 سنة، ولم يثن كل ذلك من عزمهم، فكانت واحدة من أوائل الانتفاضات المشهودة التي حدثت ضد النظام البعثي الطاغي العراق.

يومها، كسر الحظر الذي يمنع ذكر الإمام الحسين عليه السلام في الأماكن العامة وحرّك الجماهير الملا رسول محيي الدين الذي كتب قصيدة أمطر فيها التاريخ على الحاضر، ولا تزال إلى يومنا هذا علامة بارزة تقرأ في كل محفل، وتردد على كل لسان. أخذها وقرأها الشيخ ياسين الرميثي في موكب مهيب بالعراق تحدى فيه جلاوزة النظام، تحدٍّ لم يفارقه حيث أصبح اسمه بارزًا في كل انتفاضة آخرها الإنتفاضة الشعبانية سنة 1991 ليعيش بعدها متنقلاً بين المنافي حتى توفي رحمه الله.

هذه القصيدة أطلق عليها «سيمفونية الشيعة» لما فيها من وهج؛ غريب هو كيف تصبح الكلمات على بساطتها وبساطة نظمها عظيمة التأثير، حيث تشق طريقها في القلوب، ويحتفظ بها الزمان مكتوبة على صفحاته. حين أنشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية الشهيرة في مجلس الإمام الرضا عليه السلام قال له: «لقد نطق الروح القدس على لسانك». هكذا تكون بعض الكلمات، تعبير عن حالات وجدانية تخاطب القلوب، وتناغي الأرواح، وتضم تحت جناحيها الأنفس المهمومة المثقلة بأحمال متطلباتها، تعير السماء لسانها لينطق بكلماته على أفواه البشر.

«افرض نشذ عن خطّك.. ونسير على خــــط ابعيـد

افرض يجتذبنه الكاس.. ويســحرنه هـوى التجديـد

افرض ننفتـن بافكـار..ونتـــــــسمـم وفتـره نحيـد

افرض نلتهـي نقامـر.. ونـــــــتصـرف بـلا تقييـد

اشما تفرض بعد يحسين..اشم نعـمل بعـد ونزيـد

لابـد ماتجـي الساعـه.. البيهـا نـــــــنتبـه ونعـيـد

لابـد ماهـو الرحمـه..يدركنـا ونــــــــرد اجديـد»*

مهما ابتعدنا عنه، ومهما جذبتنا الأفكار، وغرتنا الحياة الدنيا، لا زال قادرًا على أن يجذبنا نحوه.

ليست المبادئ ولا القيم ولا الشعارات، هذه كلها نجدها عند الكثيرين، يدعونها، يؤمنون بها، ويسوقون لها، وقد يخدعون البشر بها، ولربما ننقاد نحوها، لكننا لا نجد الحسين إلا عند الحسين.

الدمعة الساكبة، والمصيبة الراتبة التي تخاطب وجداننا الملقى تحت أطنان من الملوثات، نقطة العودة التي تنادينا كلما ضللنا عن الطريق، ملتقى الأرواح التي يضمها مهما حادت في مسيرها، الكتف الحنون الذي بمصيبته يزيل آلام صدورنا، وبعطشه نرتوي من عذب مائه.

كلما أقرأ هذه القصيدة، وأصل إلى هذا المقطع المذكور، أتذكر تلك الجموع التي اختلفت فيما بينها كثيرًا ولكنها باسم الحسين توحدت. أراها أحرف بسيطة، استطاعت أن تحيط بالوقائع العظيمة، خرجت من الضمير لتخاطب الضمائر، فاستقرّت بها.

 كل شيء يرتبط بالحسين، يُكتب له الخلود لأنه يُكتب بماء الروح الخالدة التي تسري في هذا العالم. العودة للحسين هي العودة لهذه الروح العظيمة؛ أيام العودة هي أيامٌ نخلع فيها حِلل الأبدان الكئيبة، ونبقى نفوسنا مشرعة لاستقبال الفيض الذي يغسل بمصيبته برادة مصائبنا.
هي أيام تجذبنا نحوها لا إراديًا، تنادينا، فنجيب النداء طوعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* للحصول على القصيدة كاملة: اضغط


24 نوفمبر 2010

دروشة النفس


تظل النفس إلى اليوم لغزًا لم يُحلّ، ولا أظن أنّ لهذا اللغز حلاً يلوح بالأفق.

سر أركع البشر إلى يومنا هذا، علماء نفس، حكماء، فلاسفة، عرفانيون، متكلمون إلى آخر ما ظهر من اصطلاحات تشير إلى متخصصين بعلمٍ من العلوم التي تقع النفس في دائرتها، كلهم لا يزالون عاجزين عن فهمها وإدراكها. فكان من درسها عن طريق تحليل الحالات التي تعتريها كما فعل ويفعل معظم علماء النفس والتحليل النفسي، وهناك من حاول دراسة ماهيتها، ومعنى الماهية هو تحقق الوجود، أي دراسة هذه النفس من حيث كونها موجودة ودلائل وجودها كالفلاسفة أو الحكماء بالإصطلاح الإمامي. وما بين الإثنين عشرات المصنفين والتصنيفات.

وقد اعتبرت النفس على الدوام أنها طريق الكمال، والبدن على أنه منبع النقص والخسران. فـ"الإنسان ينتظم ذاته من جوهرين: أحدهما نوراني، والآخر ظلماني. أما النوراني فهو النفس، وأمّا الظلماني فهو الجسد. فالنفس حيّة علاّمة فعّالة خفيفة، والجسد ميّت جاهل ثقيل"[1].

حاجات البدن في الإنسان كلها محدودة، ومقيّدة بشهوات واستمتاعات قائمة على دفع الألم الحسي، وكلها تدور في دائرة الماديّات الحسيّة التي تعتبر أخلاقيًا مبتذلة لكونها تمثل الجري خلف أشياء فانية تستهلك العمر لأجل الدنيا مهملةً كل الأخلاقيات وحاجات الروح، فتطغى النفعية وتبرز الأنانية ويتشتت الانتباه عن التجربة الجمالية في هذه الحياة.

بينما حاجات النفس ليست ماديّة، لذلك هي تنجذب نحو الكمال والجمال، الإبداع والتأمل والسمو، وهي مفاهيم وأشياء ذهنية/عقلية بحتة، وإنما تكون قوى البدن المادي آلة لتحصيل تلك الكمالات، وبحسب العلامة الطباطبائي "فالنفس جوهر مجرد من المادة ذاتًا متعلّق بها فعلاً" أي أنّ «النفس في مقام فعلها محتاجة إلى المادة: فتبصر الأشياء بواسطة العين (الأداة الباصرة) وتسمع الأصوات بواسطة الأذن (الأداة السامعة) .. إلخ»[2]

وبحسب "أفلوطين" فإن النفس ذات وجهين: أعلى وهي التي تعلو على المادة، وأدنى وهي التي ترتبط بالجسم وهي ما تُسمّى بالطبيعة[3] ففجور النفس هو بجانبها الذي يتعلق بالطبيعة التي تسيطر عليها القوى الغضبية والشهوية والسبعية (الحيوانية)، ورفعتها أو تقواها هو بقواها العقلية التي تستغني بها عن البدن، لذلك اشتهر الدراويش والكهنة بأجسامهم الناحلة وعيونهم الغائرة في كل زمانٍ ومكان.

«ولهذا يُرى الإنسان كلما كمل عقله وازداد في عمره وحصل له تجاربه التي كانت في قوته، ازداد في بدنه وهنًا وفي قواه كلالاً وضعفًا –لاستغنائه عنه شيئًا فشيئًا- فكلّما ازداد الروح حياةً في تحصيل الكمال، ازداد البدن موتًا، إلى أن يحيي ها كلاً، ويموت هذا كلاً- سواء كانت كمالاته مُسعدة أو مُشقية»[4]

ومعنى ذلك، أنّ ارتقاء النفس نحو الكمال الذي هو غاية الجمال يتطلّب تجريدها من متطلبات البدن، فمجاهدة النفس تعني محاربتها، وتقليل حاجات البدن يؤدي إلى ضعفه، وإذا ضعف قل ارتباط النفس بالبدن، وتوجهت إلى تلبية الكمالات الأخرى (الأخروية). وعليه مضى المتصوفون بقولهم: (التخلية قبل التحلية) أي اخلاء النفس من ارتباطها بهذه الدنيا، «فأما الفضائل أنفسها فليست تحصل لنا إلا بعد أن نطهر نفوسنا من الرذائل التي هي أضدادها، أعني شهواتها الرديئة الجسمانية ونزواتها الفاحشة البهيمية»[5] وتلك هي الخطوة الأولى للوصول إلى مرتبة "المَحْق"[6] في النهاية، كما يعبر عن ذلك الجنيد البغدادي:

وجودي أن أغيب عن الوجودِ .. بما يبدو عليَّ من الشهودِ

والحلاّج:

منية المتمني غيبتني بك عني .. أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني

ومنذ عهد أفلاطون وما تلاه ترسخت هذه النظرة حتى باتت مشاهدة في كل الأديان، والطرق، والمذاهب في أنّ الوصول إلى الكمال والجمال هو بالزهد في الدنيا، وتركيع حاجات البدن، ومجاهدتها حتى تتروض فتطيع النفس، لا أن تتروض النفس لتطيع البدن. فتميّز كل فكر إنساني بجانبٍ تصوّفي يجذب الإنسان بعيدًا عن دوامة الحياة الخانقة التي تحجبه عن الوصول إلى درب الإرتفاع عن سفاسف المتناهيات.

يقول "بوذا" في (الداماباد):

«في التخلّي تُنشد المتعة،

حيث المتعة تبدو صعبة.

في التخلّي عن المسرّات كلها،

في التخلي عن الممتلك كله.

يتطهر الحكيم مما يُثقل ذهنه.»[7]

ولكنّ ترويض البدن، بمنعه وحبسه، لا يعني الوصول أبدًا إلى الطريق الصحيح. والسعي نحو الإشراق[8] أو حتى الوصول إليه ليس دليلاً على السلامة، ولا دليل أوضح من رهبان التيبت وكهنة الصين ودراويش الهند الذين مع عظم مجاهدتهم لأنفسهم ما وصلوا إلى «البرهان العرشي» الذي يراه أصحاب القلوب الصافية المتجلية بنور الدين وطاعة الشرع المبين، فإذا كان عملهم غير مقارن برؤية البرهان ومؤيدًا بتأييدٍ إلهي ومؤكدًا بالعناية الأزلية، «لم يزدهم إلا عجبًا، وحسبانًا، وغرورًا، وقساوة وطغيانًا»[9].فليس سلوك الطريق هو المهم، إنما اختيار الطريق الصحيح القائم على البرهان هو الأهم.

يقول المولى النراقي: «الأمراض النفسانية هي انحرافات الأخلاق عن الاعتدال»[10]. فالزهد والبعد عن ملهيات الحياة الدنيا والإنعزال عن الناس وترويض النفس ومجاهدة الشهوات هي أرقى الأفعال الإنسانية، ولكن كما يُعطي الغني رغبة بالسمعة، كذلك يروّض بعضهم نفسه طمعًا بها. وكلهم تحكمهم الأنانية وهي رأس الإنحرافات الأخلاقية وهم لا يشعرون. فالنفس الدنيا خدّاعة[11]، «إن كثيرًا من الأشخاص يحيون الليالي في السهر والإعتكاف، لا يحصّلون أكثر من الهم والغم والنحول واصفرار الوجه، ومع ذلك لا يُعدّون من أهل الله، وذلك لأنهم غافلون منذ البدء عن حقيقة التصوّف، واعتقادهم لا يخلو من الخداع وحب الدنيا..»[12].

لا أظن أن زمنًا يحرم فيه البدن ويروّض مرّ كزمننا هذا، فجلّ الناس يعملون ويعانون ويقاسون ويصبرون لذلك، ولكن لا تهذيبًا للبدن ولا ابتعادًا عن الرذائل حتى تنعتق النفس فيصلون إلى قمة السعادة بقربهم من الكمال ولا ترويضًا لشهواتهم، ولكن إما اتباعًا لأهواءهم في "الريجيم" و "الموضة" لمسايرة مقاييس المجتمع الشكلية وإمّا طمعًا في الحصولهم على الثناء من أفراده!
فصارت الدنيا أكبر همهم ولو على حساب أنفسهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كسر أصنام الجاهلية – الملا صدر المتألهين. ص49

[2] بداية الحكمة – العلامة الطباطبائي. ج1 ص 365

واللفظ للعلامة الحيدري في شرحه للمطلب.

[3] خريف الفكر اليوناني – عبد الرحمن بدوي. ص 146

[4] الإنسان في منازل خلقه وموته وبعثه – الملا الفيض الكاشاني. ص 25

[5] تهذيب الأخلاق – ابن مسكويه. ص 91

[6] المحق: المرتبة الأخيرة بعد (المحو) و (الطمس) وتعني فناء وجود الشخص في وجود الله تعالى، أي أنه لا يرى –بالمعنى المجازي- سوى الله عز وجل، حتى نفسه لا يشعر بها في حضرة الجليل عزّ وجلّ.

[7] الداماباد – الكتاب المقدس لبوذا. ص 30.


[9] كسر أصنام الجاهلية – الملا صدر المتألهين. ص 46.

[10] جامع السعادات – محمد مهدي النراقي. ج1 ص 92.

[11] [12] «..إنّ من يعد نفسه من أهل الحقيقة يجب أن يبتعد عن دنس الدنيا ومنازع النفس الأمّارة والهوى، لان أنفاس الدنيا الشيطانية وتجلياتها المتنوعة تخدع الناس كل ساعة بأسلوب، وكل لحظة بشكل مختلف، تنقلهم من حال إلى حال دون علم منهم أو معرفة ..» التدين والنفاق.. – العلامة البهائي. ص 78 و ص116.

6 نوفمبر 2010

رؤى ربع قرن


«منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل. وها أنا ذا كلمة مبهمة، ملتبسة المعاني، ترمز تارة إلى لا شيء، وطورًا إلى أشياء كثيرة»*

***

يحزن الناس حين ينقص شيءٌ مما يملكون.

ويعتبرون يوم الفقد هذا، يوم حزن ذي شجون.

ولكنّي – وياللعجب – أراهم يفرحون،

حين تنقص من أعمارهم، سنةٌ ممّا

يعدّون!

***

زميلي في العمل قصير، صلعته دخلت في سباق تسارع مع كرشته، كلماته أقرب للهمس، يحب الجلوس متكورًا على نفسه. قرر يوم الخميس البدأ في الشكوى من مسؤولياته الأسرية، ومتطلبات زوجته وأولاده، وهي اسطوانة مللت من سماعها منه يوميًا، فقررت أن أقطع الشريط من بدايته بالحكم الفصل من لسان المعري:

تعبٌ كلها الحياة فمـا .. عجبي إلا من راغبٍ في ازدياد.

انسحبت شكواه لداخل حلقه، وبلع باقي كلماته وهو يمسح صلعته بأصابعه القصيرة المنتفخة، لينظر لي قائلاً: هوّه إنتَ تصوفت ولا إيه؟

لا أعلم.

لكنّي أرى تساؤل الفأر الحكيم جديرٌ بالبحث عن إجابة: ما هي فائدة معرفتك أمورًا عن التصوف، إن لم تصل أنت إلى مرتبة الكمال والوصال، وتنكشف أمامك الحجب؟**

***

أصبحت الحياة بالنسبة لي كفيلم، تشاهده للمرة العاشرة. مشاهدٌ تعيد نفسها، مناسبة لتضييع الوقت حتى تصل إلى النهاية: نهاية الفيلم، أو نهاية انتظارك.

تحوّل كل شيء إلى مشهد مكرر، تولد وتكبر وتموت وأنت تعيش في نفس الحلقة التي عاش فيها والداك، وسيعيش فيها أبناؤك، وأحفادك. شاهدت برنامجًا لـ نبي الملحدين ريتشارد داوكينز، قلت لنفسي لعلّه يقدم اكسير العلاج لهذا الأمر، فيما يدعيه من علم، لكنه كان يكذب عليّ وعلى نفسه بقوله: يكفي للإحساس بالسعادة –وسط هذه الأمواج المتلاطمة من التعاسة- أننا أحفاد الأقوياء الذين نجوا!

هل تكون سعادة الحياة باستعارة انتصارات الماضين؟

وهل يحق لنا الشعور بالسعادة، لأن جدًا من جدودنا كان قويًا واستطاع أن يتغلب على الشمبانزي؟

برأيي، وحدهم العاجزين عن خلق الانتصار، والشاعرين بالضعف، يعتقدون ذلك.

***

أجد نفسي اليوم واقفًا على مفترق الطرق، أنبش فيها بحثًا عن مستقبل، ولا أرى سوى الماضي!

وعلى أنغام أبيات الخيّام:

ﭽون حاصل آدمي در اين شورستان .. جز خوردن غصه نيست تا كندن جان

خرّم دل آنكه زين جهان زود برفت .. وآسوده كسي كه خود نيامد به جهان ***

تبدو الحياة وكأنها لا تملك جديدًا!

بل هي بابٍ في بطن باب حتى أسأمتني الأبواب المغلقة، كلما فتحت بابًا وجدتُ آخر، فقررت الاكتفاء بالنظر من خلال النافذة.

أراقب الناس وأنبهر من تصرفاتهم وشغفهم المبالغ به تجاه الحياة، وصراعهم الذين يحول كل شيء إلى وقود يحرق لأجلها: أوقاتهم، أفكارهم، أنفاسهم، وأبناءهم، صحتهم وسقمهم، أحلامهم وآمالهم. من المفترض أن ينتهي الشغف بمرور الوقت، فهو مثل الحزن يولد كبيرًا ويتلاشى مبقيًا الذكريات تسبح في الوجدان.

إلا أنني أرى شغف الحياة، يولد كبيرًا ولا يموت.. والناس يموتون.

***

حاول "سارتر" أن يستعجل الجحيم، فقرر أنه في الأرض، وأن الجحيم بعينه هو وجود الإنسان مع الآخر، وهذا هو العقاب الأبدي!

هكذا يهرب هؤلاء ممّا وراء الموت. بوصفهم الحياة على أنها شغبٌ، وعبث، وهربٌ، ولهثٌ.

فهل هناك جحيم أكبر من كون «الحياة كلها ألم ومشاق لا تتخلص منها ما دامت الروح في بدنك؟»****

لكن لا يخبرون النّاس أنّ هذه الأشياء هي وليدة طمعهم في الحياة، وليست طبيعة الحياة.

فهل يتذمر من النقص، إلا الذي يشعر به؟

لذا أراهم، يزّهدون الناس بحياة، على قدر تذمرهم منها، يتشبثون بها!

***

- ماذا تقرأ؟

- كل شيء

-اممم .. لماذا؟

-لأنجح في الإختبار

- أي اختبار؟

- اختبار الحياة!

- الحياة تختبرك بالعراك، فهي معركة، حرب، مصارعة المهم أنّها قتال وسعي مستمر.

- هكذا تراها أنت!

- وأنت، كيف تراها؟

- أراها كسؤال متعدد الاختيارات في اختبار مدرسي: إجابات متعددة، و واحدة صحيحة.

الإعتماد على الحظ، أو العضل، أو الغش لا يفيد في الوصول إليها.

والخطأ في اختيار الإجابة لا يتحمله واضع السؤال، بل أنا.

لذلك أقرأ، صحيح أنني أسلب بالقراءة متعة الإكتشاف،

ولكنّي أفضل اختيار الإجابة الصحيحة بلا متعة، على أنّ أعيش إثارة الكفاح في الجهة الخاطئة!

***

قبل أن أضع رأسي على المخدة، أعدت تشغيل ساعة المنبه في الهاتف.

تذكرت أن رسالة وصلتني ولم أقرأها، فتحتها..

وبعد 8 ساعات كنت أتفق مع مرسلها على مرافقته للحج.

رحلة فجائية، أرى أنها إشارة  لإعادة اكتشاف 'شغف الحياة'

فالرتابة فيها كالذبابة .. لا يقتلها إلا صفعة مفاجئة!
________________________

*جبران خليل جبران، يوم مولدي، من كتاب (دمعة وابتسامة).

**عن "التدين والنفاق بلسان القط والفأر" للعلامة البهائي (رحمه الله).

*** من رباعيّات عمر الخيام، ومعناها:

لا يحصد المرء من هذه الأرض الملحية إلا الغصص.

فهو حليف الغصة حتى تفارق روحه بدنه. فالسعيد من يرحل عن هذه الدنيا بسرعة، وأسعد منه من لم يولد فيها أبدًا!

*** جملة مقطتفة من نصّ لـ شوبنهاور.

17 أكتوبر 2010

كتاب الخرفان


أرسل الشتاء نسماته لتستطلع سكنه في الشهور القادمة.

لملمَ الربيع متاعه ورحل متعلقًا بأذيال أسراب العزاء التي نظمتها الطيور

واختلط نشيجها بصوت صفير الرياح الباردة الآتية من بعيد، التي

قدمت هذا العام متثاقلة الخطى لتخنق حرارة الشمس مبكرًا بردائها.

وأُجبرت الأرض على الشحوب، فأسقطت الأشجار أوراقها على خديها

حزنًا حتى انحسر الغطاء عن رأسها.

***

محتارًا، انتصب أمام النافذة، يشاهد بعينه الحمراء الجدب يرخي سدوله حوله.

وصوت الجوع يقترب بألحانه الكئيبة من غنمه.

- لم يعد هناك ما يكفي.

مشى قليلاً، ثم جلس على الأرض، وضع يديه على رأسه، ودسهم بقبر أعده بين ركبتيه وهو يسترجي الظلام أن يطرق الباب ليدخل ويعميه عن رؤية ما يخشاه. بعد دقائق، بُعثت فيه الروح، رفع بصره، نظر يمنة ويسرة ..

أنارت بقايا النجوم ظلاً يقف بهدوء في الزاوية البعيدة، تهللت نفسه: وجدتها!

***

مضى الأسبوع الأول، تبعه الثاني، وأتى الثالث.

ومعه بدأت الغنمات تسمن أكثر فأكثر مبشرة بربح وفير هذا العيد,

- رائع! قال وهو يترقبهم.

أكمل: أخيرا .. هناك فائدة من هذه التركة الثقيلة.

***

في بداية الأسبوع الرابع، قررت السماء أن تبكي.

فتح الباب المحشور في الزاوية، مد يده داخل البطن الذي خوى،

بحث كثيرًا هذه المرة حتى وجد شيئًا أخرجه منه، وخرج.

على وقع ارتطام دموع السماء بوجنات الأرض،مزّق الصفحات، ومع كل صفحة يصمت طيرٌ من الشادين في الخارج. بقيت الصفحة الأخيرة مزقها وهي تئنّ مع صوت الرعد: الصوت الوحيد الذي نجا من مصيدة المطر.

انتهى .. فتوج المأدبة اليومية لأغنامه بها!
***

آثر أن يبقي مع الغنمات يؤنسها بطعامها، ويتسامر معها، يربت على ظهورها، ويتأمل الأحلام التي رفع ظلام الزريبة ستارتها، ريثما تهدء فورة الحزن السماوي التي حبسته بين أطباقها.

و حيث بقي بين غنماته، يسافر من حلم إلى آخر بعقله، وينتقل من غنمة إلى أخرى برجله، تعثر بغلاف الكتاب الذي مزق صفحاته،قام يشتم، ويصرخ هذا الحظ السيء، وهو ينفض الغبار من ملابسه أنار البرق لحظتها الدهماء حوله ..

فكشف عن عنوان الكتاب، وكان: «الأدمغة الفارغة»*


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأدمغة الفارغة اسم لكتاب حقيقي، مؤلفه هو جرجي كنعان، وهو بالمناسبة غير مجاز من الرقابة في معرض الكتاب!

1 أكتوبر 2010

حساسية: حوار

- في بداية البالتوك كنت أدخل غرف المسيح والملحدين وأسمعهم يسبون الله والنبي وما اتحمل اطلع منها وأنا جسمي تحوشه قشعريره، موشي سهل انك تسمع مقدساتك تنهان جدامك.

بعدها قمت ادخل واسمع وابحث عن ردود .. بعدها لا، قمت ادخل وشارك .. والحين صار عندي قبول إن هذي هي الدنيا لابد وأن يكون فيها مثل هالناس

- طبيعة المماحكة إنها تزيل الحساسية، كل شي في بدايته يكون صادم ومع الأيام يتم التعود عليه وبعدين يتحول إلى جزء من بيئته ثم بعدها يصير مكوّن أساسي من مكوناتها.. ويصير مثل ما يقول "كويلو" واقع تم ايجاده للعيش وفقه!

وإذا ما قدر يكسر دائرته الإنسان، راح يظل في مكانه ..

- شوف أنا قاعد افهم اللي قاعد يصير الحين بناء على رؤية (هيغل) .. التطور يحدث نتيجة لطرح فكرة، هذي الفكرة تحمل في ذاتها نقيضها، ويستغل الآخرين هذا النقيض في طرح فكرة مستولدة منها لكن محسنة .. وجذي تبدي مسيرة التطور .. فكرة لها جوانب سيئة وجوانب حسنة .. مع الزمن تاخذ الاجيال القادمة الحسن منها وتهذبه وتطرح السيء وترميه

- يعني نوعٌ ما من (التحدي والاستجابة)  .. المثقفون أو من يفترض انهم مثقفين يتولون مهمة طرح الأفكار كتحديات ويستجيب لها المجتمع وبحسب درجة الاستجابة يتطور .. لكن السؤال هو: هل مجتمعنا قادر على الاستجابة؟

- عوام الناس ما عليهم حرج فطبيعة العوام إنهم مثل ما قال الإمام علي عليه السلام: همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح .. فدورهم هو دور التابع لا المتبوع .. فجواب السؤال يكون بسؤال وهو هل يوجد مثقفين؟

أقدر أقول إنه للأسف : لا يوجد. من أهم مسؤوليات المثقف إنه يختصر المراحل التاريخية لمجتمعه لايصاله لآخر مراحل التطور لكن اللي قاعد يصير عندنا هو سحبهم للخلف .. في إحياء طبائع وصفات المفروض إنها تندثر ..

- مو مشكلة، بهالكلام تُثبت الأصل وهو أنّ هناك مثقفين لكنهم مثقفين سلبيين .. ما عندهم القدرة على الاستفادة من التاريخ للمدى البعيد لكنهم يملكون القدرة على الاستفادة من طبيعة المجتمع الفكرية للاستفادة الآنية

- شلون يعني؟

- طبيعة المجتمع عندنا انه للأسف يتفاخر بأشياء مو من انجازاته، قرأت مرة مثال لطيف وهو إن الشخص عندنا يركب سيارة بأحدث موديل كأنه هو مخترعها وصانعها بينما حتى الفأر لو جمع فلوسها يقدر يشتريها! هذا المثال يبين إن المجتمع قاعد يغرق نفسه في أشياء مستوردة ويتعامل معاها تعامل سطحي جدا، ولهالسبب صارت مثل هالقضايا منجم ذهب للمتكسبين لانهم بتحفيزهم وتجييشهم للناس يوحون لهم بأنهم هم أصحاب (القرار) والربحانين بينما يسرق هذيل قرارهم بدون ما يحسون..

- ذكرتني بقضية تكلم عنها (...) لما صارت سالفة الرسوم الدنماركية وهو كيف تم تجييش هذي الشعوب كلها في حملة عالمية ضد جريدة ورسام مغمور وفي نفس الوقت أبشع من هذي الرسوم موجود عندنا وفي العالم ويبث حتى الفضائيات وما صار هيجان مثل اللي كان .. هالشي رجعني لكلام مالك بن نبي لما كان يشرح كيف أن الاستعمار كان يصنع رجال وطنيين – وهم بالواقع كذلك – لكنهم من حيث انهم يعتقدون انهم يحاربون الاستعمار فهم يخدمونه بدون ما يحسون

مثل سالفة الدب اللي اراد انقاذ صاحبه من الذباب فهشم وجهه بصخرة

- ممكن .. ليش لأ؟ بس واضح إن اللي قاعد يصير له مسارين الاول واضح جدا وهو استغلال الوضع لتحقيق اكبر قدر من المكتسبات وللي الذراع وإعلاء الصوت .. والمسار الثاني هو (القوة/ اليد الخفية) بحسب مفهوم آدم سميث .. القوة اللي تخليهم يعيشون حالة (الدب) وبالتالي يساهمون في إزالة الحساسية من هالمواضيع من حيث إنهم يبون يزيدون هالحساسية .. مثل ما صارت سالفة الرسومات حاليا تمر مرور الكرام ومثل ما صار مع الملحدين بأن لهم وجود فعلي يمكن يكون مضحك .. لكن هذي الدنيا صندوق يجمع المتناقضات .. وعلينا تقبلها

- أنا اشوف هاللحظات لحظات تاريخية بمعنى الكلمة .. كانط يقول بأن التاريخ هو سجل لحماقات البشر .. من يكتب التاريخ أو يصنعه غير ثلاثة إما عبقري أو مجنون أو أحمق وهو الغالب؟

مع كل هالحماقات فاحنا نستفيد من التاريخ لانه لولا حماقات التنافس والغرور أو المصادمة وغيرها لصار عندنا جمود وسقف الحرية بحاجة لمثل هالاشياء لرفعه

- يعني إنّ اللي قاعد يصير أو صار هو بمثابة (حتمية تاريخية) .. وجهة يفرضها علينا التاريخ لازم تكون موجودة أو توجد .. وابن خلدون يقول بأن الحوادث التاريخية تجري مجرى الظواهر الطبيعية لا يمكن لنا السيطرة عليها!.. وأكبر دليل هو إن الصوت الواعي في ظل هالصياح يتم اخماده أو اهماله .. كعادة التاريخ!

- أو تقدر تقول (ضرورة تاريخية)، شوف برجع مرة ثانية لسالفة الرسوم الدنماركية كان واضح انها متاجرة باسم الرسول –صلى الله عليه وآله- من قِبل كيانات أو أشخاص والناس كعادتهم اتبعوا الصيحة وركبوا الموجة .. كانت حالة انفعالية من عامة الناس و واضح جدا انها حالة مدعومة ومستغلة من قِبل أطراف ..

- جذي نرجع للمربع الأول: مشاكلنا مستوردة ومصطنعة ... بمعنى إنها بأغلبها قضايا وأمور تمر علينا يوميا مرور الكرام .. لكنها فجأة تتحول لقضية الشارع بدون مسوّغ منطقي ..

- طالما إن العامة هم اللي بإيدهم القرار فمثل هالشي غير مستغرب، إذا كان في الماضي هناك (نخب) تقود الشارع بفكرها فالحين هناك (نخب) يقودها شارع مستثار بشرارة يُطلقها أي طموح لمنصب (نخبوي) ..والشارع مثل الفرس الجامح تستثيره بسهولة وتستفيد من طاقته لكنك ما تضمن لأي درجة يمكنك السيطرة عليه

* * * * *
المكتوب هو أجزاء مقتطعة من حوارات مختلفة مع صديقي العزيز ، بعضها كُتب كما هو، وبعضها كُتب بتصرف بسيط، وهناك الكثير ممّا لم يُكتب.

9 سبتمبر 2010

مرحبا، هل تعرفني؟

مرحبا


هل تعرفني؟ أنا أعرفك جيدا ..
أعتذر عن الإزعاج، اعلم أنني كثير الشكوى ومزعج جدا ولكن ماذا أفعل؟

 زياراتي قليلة، وغيباتي طويلة .. وغصاتي كثيرة


أحمل في داخلي همومًا أثقل من وزني.. ولا يوجد من يستمع لي ..


صدقوني لا أريد أن آخذ أفراحكم وأبدلها بأشجاني .. لا ..


ولكني أتساءل لماذا كلهم يطلبونني .. وحين أحضر


لا أرى سوى ظهورهم!


لماذا يلاطفوني ثم يمتطون ظهري؟


خذ مثلاً هذه المرة، أتيت بموعدي المعتاد ولم أجد من يستقبلني بما أستحق!


وكأنني كابوس أتى على نائمٍ بعد عشاءٍ دسم.


يحثونني على القدوم، فأقطع راحتي .. وأضطر إلى نكث نُذر الصمت التي أمارسها ..


وأحضر وبدلا من أن يفرحوا .. يجعلوني شاهدًا على خلافاتهم!


ومادة لنزاعاتهم!


هل من مصيبة أكبر من أن تجد نفسك متداولاً على الألسن ومتمزقًا بالمعارك

ولا تستطيع أن تدافع عن نفسك ولو بكلمة؟


كم أكره الشعور بالعجز والإهمال .. أقف في الوسط ألتفت يمنة ويسرة ..


وأتساءل عن طريقة أدفن نفسي فيها في مقبرة الزمن حتى اتخلص من تذمرهم..


أحيانًا أشك بوجودي، لا أعلم هل أنا حقيقي أم مجرد طيف ..


ما يحدث أمامي لا يشعرني بأنني واقعي ولكن حين أسمعهم يقولون اسمي


أنتبه لنفسي ..


فالناس لا ينادون ما هو غير موجود..


ولكنهم على استعداد لـ"تطنيشه" حين يوجد!


عندما أرى الأطفال يبتسمون حين أطرق الأبواب يحدوني شعور بالأمل بأنني لا زلت كما كنت ..


مصنعًا للذكريات..


أهرع لمقابلة الكبار لأرى هل لا زالوا على عهدهم بي؟


أصطدم بتعابير وجوههم .. يشيحون بوجوههم ... ويصافحونني بتثاقل..


لا أعلم لماذا يحاولون التخلص مني بأي طريقة؟


كل الأعذار تجد لها سوقًا اليوم،


هذا ينام، وذاك يسافر، وذا يبحث عن أوقات عملٍ إضافية.. كلهم يعلمون بقدومي!


ورغم ذلك يتجاهلونني .. وباسمي الذي يتأففون حين يذكرونه .. يفعلون كل الشرور..

وكأن مقدمي هو ربيع الأباليس.


صحيح أن الحياة تمضي .. وأن التجاهل في بعض الأحيان مجدي ..


ولكن السكوت مؤلم ..


انظر لهؤلاء .. يجلسون معي على مائدة واحدة


صافحتهم واحدًا واحدًا .. مروّا عليّ وهم غافلون..


رؤيتهم تُفرح قلبي .. ولا يروني ..فأعينهم تحولت لسرب من الطيور..


يتقافز من مكان ٍلآخر .. هذا يشتكي من قدومي مبكرًا..


وهذا يبكي على جيوبه التي فرغت..


والآخر يتألم لأنه اضطر للجلوس وسط العقارب..


وتلك المسكينة – التي تحرق نفسها - لا تشكر الخبزة التي بين أيديها ..


بل تشكو الحليَّ التي لم ترتديها!


اليوم، زرت المقبرة.. سأقول لك لماذا؟


لأن الموتى أفضل مستمعين.. صدورهم رحبة لكل شيء.. ولا يتذمرون


يلفهم الصمت .. صمت لا تسمع فيه شيء.. أغبطهم عليه ..


الحكمة التي يوصلونها دون كلمات .. تطهرني بعظمتها..

كيف يتحول هؤلاء الصامتون إلى أفضل وعاظ؟ وصمتهم لأفضل موعظة؟



اليوم تعلمت منهم أنّ المَنح فرحة .. والعطاء سعادة.. وأن الحياة شوقًا ..

أفضل من الموت تذمرًا ومللا..


أعلم أن بأعماق الناس فرحًا لحضوري

 حتى وإن تظاهروا بالعكس

رغباتهم المزدوجة لوثتهم..


رغبتهم بالشعور بالفرح ..

ورغبتهم باستغلالي لمصالحهم ..


لا يهم .. من يتعود على العطاء .. لا يلتفت للرغبة.


من يبسط يده، لا يشعر بألم قبضها ..

ذكرياتهم معي قبل أن يتلوثوا تكفي..


كالعادة .. أعلم بأني  فشلت في ايصال مأساتي ..


كما فشل القمر بايصال وحدته ..


فالشعور بالجمال .. يسلب منّا الكلمات ..

وأنجح القضايا دائمًا يترافع عنها أفشل محام ..


تأخرت، سأذهب الآن .. اعتذر عن ازعاجي مجددًا ..


أووه، نسيت .. أن أعرفك باسمي قبل أن أذهب ..



 اسمي : عـيـد سعـيد





30 أغسطس 2010

وحـيدًا

وحيدًا .. يأبى الاجتماع، يسير بهدوء وكأنه لم يخلق للدنيا ولا هي خُلقت له، يقطع غابات النخيل بصمت، ويدفن في تربتها الحمراء أنينه المستمر.


هطلت دموع السماء، نزلت قطرات، وتحولت إلى نهر حفر طريقه بالحزن والشجن، تسكن الضباع "حويجاته".. يمضي صابرًا .. ومن بطنه يُطعم السكان حوله وعلى ضفافه يتباطئ .. يسمع شكواهم .. يناجونه .. يضم نجواهم لصدره .. ويكتم آهاته العبرى في قلبه .. ويسير..


مع مطلع كل يوم، تعير الشمس أشعتها له، يصبغ بها صفحته الزرقاء، تظهر رقراقة، وبكل جبروتها تبدو منكسرة. .. يبحث عن غابة نخيل جديدة، يتوارى خلفها .. يقطع نفسه قطعًا خفية عن أعين الناس ..ويبث روحه تجاه ذلك «البحر» .. يزوره كل يوم .. يجد فيه السلوى .. يعلم أنّ همومه .. وما يحمله .. تصل عنده .. سيعالجها ويتكفل بها .. سيحنو على أصحابها .. وبقلبه الكبير .. سيجد مكانًا لهم كلهم ..



يرى «بحر النجف» .. تستقبله أشعة النور المنعكسة من القبة البيضاء.. يطأطئ الرأس .. يدخله منكسرًا .. .. ينساب برويّة .. يثني ركبتيه .. ويشكو دهره .. لمن شكى من صبره الدهر!



كم أغبط هذا .. الـفـرات.. يصل إليه كل يوم ..


.. يسليه بوحدته .. التي طالت ..

وحيدًا .. تؤلمه الصباحات وهو يرى تراثه نهبًا، فيسدل ثوبه عنها، ويطوي عنها كشحًا، ويصبر و"في العين قذى، وفي الحلق شجًا على طول المدة وشدة المحنة" [1]، ولا من معين ..



وحيدًا .. " وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضـاً على لحيته، يتململ تململ السـليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقـول: يا دنيا غري غيري.. إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت؟



هيهات هيهات!



قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعمرك قصير، وخطؤك حقير.



آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق." [2]



وحيدًا .. كصباحٍ تاه بين قطع الليل المظلم، منحيًا، يحثو على قبر حبيبته التراب، ولا مُعزٍّ أو ناصر، يناجي أبيها بالآلام: " أما حزني فسرمَدٌ، وأما ليلي فمُسهّدٌ، إلى أن يختارَ الله لي دارك الّتي أنت بها مقيم. وستنبئك ابنتك بتضافر أُمتك على هضمها، فأَحْفها السُّؤال، واستخبرها الحال.



هذا ولم يطل العهدُ، ولم يخل منك الذِّكرُ، والسلام عليكما سلام مُوَدِّع، لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرفُ فلا عن ملالة، وإنْ أُقِمْ فلا عن سوء ظنٍّ بما وعَدَ الله الصابرين "[3]



وحيدًا .. استضعفه القوم، وتناهشوا أمره، وكادوا يقتلون، نهض بهم "فنكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} بلى والله لقد سمعوها و وعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"[4] ..



وحيدًا .. ضاع بين جهال. يصيح فيهم أسفًا: "لله أنتم! أ تتوقعون إمامًا غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟"[5].. ولا من مجيب .. أو معتبر ..



وحيدًا .. يرى نفسه كنخلة أجدب ما حولها، باسقة تؤتي ثمارها، فتلتقطها الأرض الجرداء، لتواسيها عن عزوف الناس عنها.." أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذوالشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، وأُبْرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟"[6]



وحيدًا .. يناظر السماء، يخاطب سوادها .. يحدثه عمّا يكون، ويأنس بوحشة الليل .. يتأمل ظلمته .. ينشغل باستغفاره .. ويقطعه صياح إوزّ، يراهنّ: "صوائح تتبعها نوائح"[7]



وحيدًا .. يضمّه الباب .. يأبى رحيله .. يلف أذرعته حوله .. ويقطع حزامه .. فينحلّ مئزره .. يخاطب الباب " اشدد حيازيمك للموت.. فإنّ الموت لاقيكَ



ولا تجزع من الموت .. إذا حلّ بناديكا.."



وحيدًا .. في المحراب .. يناجي ربه ..يطلبه .. فيرحل إليه .. مخضبًا بدمائه ..


وحيدًا .. "أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة"[8] ..

وحيدًا .. يجرف بسيل صبره .. نشارة همومنا ..

السلام عليك يا أبا اليتامى والمساكين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] نهج البلاغة الخطبة الثالثة، المعروفة بالشقشقية.

[2] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج6.


[3] نهج البلاغة الخطبة 200.


[4] نهج البلاغة ص 56.

[5] نفس المصدر، خ 180.


[6] نقس المصدر أعلاه.

[7] منتهى الآمال، ج1.

[8] صحيح البخاري، ح 3965.