لا أزال أعتقد أن الصراع الحاصل، الآن وسابقًا، في الكويت هو صراع اجتماعي لا صراع حركي ناشيء من النظام السياسي. بل إن النظام السياسي في حد ذاته هو صورة من صورة الاجتماع وطبيعة المجتمعات، ومع هذا، فإنّه وفي الكويت تحديدًا لا يتحمل وزر ما يحدث، وليس سببًا أو منطلقًا للحراك إنما المساوئ التي تُلصق به هي ناتجة عن هذا الحراك. يمكنك أن ترى الصورة كيفما تشاء، تارة تراها من داخلها وتصنفها على هذا الأساس، وتارة أخرى تفضل رؤيتها من الخارج وتقيّمها وفق هذا المنظور، في كل الحالات فإنّ الإنغماس في أيّ شيء يعني أنك لن ترى سواه، والصورة من داخل الفقاعة تختلف عن الصورة من خارجها.
الصراعات الاجتماعية ليست ذات هيئة واحدة بل تختلف صورها بحسب بواعثها وهي تقوم على دعامتين، الأولى هي «القوة» والثانية هي «التعصب الأعمى». الأنظمة الحديثة، الديمقراطية منها على وجه التحديد، لم تأتِ لتلغي هاتين الدعامتين بل أتت لتعيد تشكيلهما وفق هيئة جديدة. لم تعد الدول القومية، بمفهومها القديم، موجودة وعلى عكس تاريخ العالم ليست القوة العظمى في هذا العصر امبراطورية تنتسب لعرق معيّن، كما كانت روما أو فارس، بل أضحت دولاً تعددية تختلف فيها الأعراق والأفكار والأديان وهذا التحوّل جرّ معه تحولاً آخر وهو «الإعتراف بالأمراض».
لطالما كان الإنسان يقابل أي مشكلة بالإنكار حتى تتفاقم لتقضي عليه في النهاية، ليعيد اكتشاف العجلة من جديد. في دراسته للحضارة الإنسانية يذكر ويل ديورانت صعود وهبوط الحضارات من التطرف بالالتزام إلى أقصى درجات الانحلال والسبب - برأيه - هو أن الإنسان بطبعه صاحب غرائز منفلتة وجامحة يضطر لأن يكبحها في سبيل خلق الاجتماع ومتى ما استقر بذلك عادت هذه الغرائز للظهور مجددًا بعد تحقق الأمن والرفاهية ومن ثمّ زوال أسباب كبحها وطمسها، ولو على سبيل الوقتية. هذه الدورة الاجتماعية أسبابها باتت تعرف بالأمراض الاجتماعية، وهي عوارض تصيب المجتمعات بالتصدّع ثم التفكك وبعد ذلك الإنحلال والتلاشي، لأنّ المجتمعات كانت تقوم على ديكتاتورية الفرد والفرد بطبعه يرفض الإعتراف بجوانب النقص فيه فيستكبر حتى يفاجئ بسقوطه تحت هجوم البرابرة، بحسب تعبير إدوارد جيبون.
من هنا كان الهدف الرئيسي لنشأة الدول المتحضرة أن ترتبط بالقانون، فتخرج من دكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية القانون وهو ما تعنيه الدولة المدنية حيث أن الناس سواسية أمام القانون الذي يمكن تمثيله بالمجرى الذي يجبر الماء [الإنسان] على السير وفقه، لا العكس، وعليه يكون أي إنحراف عن القانون أو تخاذل عنه هو مرض يستوجب العلاج حتى لا يتصدع المجتمع. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ هذا الأمر يتبلور بصورة أكمل وأمثل، كان الهدف من القانون هو تحويل القوة من قوة العضلة إلى قوة الحق الذي تفرضه الشرائع التي تنظر للإنسان بما هو إنسان، وتحويل التعصب من المتعلقات الشخصية كالجنس والعِرق على سبيل المثال إلى فضاء أوسع هو الحزب والدولة وغيرها من الأمور التي تمثّل مظلة أوسع تستظل بها شرائح أكبر من المجتمع المتعدد، فهدف القانون هو إخضاع الجموع، بصرف النظر الآن عن واقعية هذا الأمر.
إنّ غريزة الإستخدام، والإستئثار غرائز بشرية تجد دائمًا طريقها للظهور متى ما أحست أنها انطوت تحت مجتمع ما، لتبدأ بالصراع في سبيل اشباعهما من هذا المجتمع. إنّ مفهوم الديمقراطية لا يقوم على حفظ حقوق الأقلية وتطبيق رأي الأكثرية إنما هدفه الرئيس هو منع استبداد الأغلبية لذلك تخضع - الديمقراطية - لقانون ودستور ينّظِمانها، يعمل على تطبيقهما أفراد ينتخبهم الشعب لهذه المهمة لكنّ مجرد كتابة دستور أو وجوده لا يكفي، بحسب هيغل «الدستور المكتوب، عندما يُمنح، لا يُغيّر شيئًا من الدستور الحقيقي، الموجود قبله، والذي يبقى يعمل باستمرار تحت غطائه»[1] هذا الدستور الحقيقي هو الأعراف والقابليات الاجتماعية الكامنة في الشعب.
إنّ أهم ما يجب ملاحظته في أي مجتمع هو التوافق ما بين تطوّر نظامه السياسي وأعرافه وقيمه الاجتماعية، بمجرد ما تكون هناك فجوة فيما بينهما فإنّ الأمور تتجه، حتمًا، إلى العطالة التي هي «قوة سلبية تمنع الإنسان من الانفتاح على الواقع والفهم السليم له»[2] ومن ثم الإنهيار أو الركود. أوضح ملامح هذه العطالة تظهر في طبيعة الحراك أو الصراع في المجتمع، حين ينقسم إلى معسكرات وأطراف يحرّك كل منهما الإندفاع نحو الإستئثار والتغلّب على الآخر لمنفعته الخاصة، في الكويت يتجلّى هذا الأمر في الصراع الأزلي بين الحكومة [أو السلطة] والمعارضة.
لا يمكن لأحد أن يدّعي أن أي طرف فيهما يقدم مشروعًا أو رؤية للدولة، وفي حين تتنازل الحكومة عن دورها في تطبيق القانون فإنّ المشرّع يتجاهل عن عمد صياغة أي قانون، ويهمل ممارسة دوره الرقابي على تطبيق الموجود منها ويتحول إلى مجرد آلة شعاراتية ذات نبرة عالية، لأنه أساسًا لا يهدف إلاّ لحلب ضرع الحكومة وهي لا تهدف إلا لإسكات الأفواه. الشيء الوحيد الذي يجيدانه هو لعبة الإبتزاز المتبادل، ولا يهتمان إلا بخطاب الصراخ المتبادل، وبينما تلعب المعارضة على حبل تقصير الحكومة في أداء مهامها فإنّ الأخيرة تعزف وتناور على وتر تصيّد هفوات المعارضة وأخطائها. إنّ أي قضية إدارية بسيطة مرشحة لأن تكون قضية رأي عام طالما أنه يمكن توظيفها في اكتساب عاطفة عامّة الناس ومن ثم استغلال ذلك في الوصول إلى الأهداف الخاصة، سيّما في مجتمع قابل للإنقسام بسرعة كالمجتمع الكويتي.
مبدأ الفصل بين السلطات، وعدم تداخل الاختصاصات هي مبادئ ورقية حتى عند مدعيها لأنها تسقط أمام أوّل اختبار، القانون الذي يُدعى لتطبيقه هو القانون الذي يكفل المصالح الشخصية لداعيه ومتى ما انتفت عنه هذه الصفة كان تطبيقه إعلانًا للويل والثبور وعظائم الأمور، الفرد في هذا المجتمع يتصور أنّ الحقوق هي وليدة المطالبة بها على لسان أيّ كان، بينما هي وليدة الممارسة الصحيحة لها.
التطوّر في أي مجتمع لا يكون إلا بالاعتراف بوجود «المرض الاجتماعي» وفي ظل الخطاب الحالي فإن أي اشارة لذلك تفسر على أنها سلبية تستهدف النيل من طرف وتعمل على سلب استقرار المجتمع وتفتيت نسيجه، رغم أنه لا تزال معظم الأطراف تستحضر انتماءاتها وعنصريتها وإقصائيتها في حواراتها وتغلّف ذلك بغلاف الدفاع عن النفس أو الوطن أو الدين وحتى الدفاع عن دول الجوار، لا يوجد هناك رغبة في الإنعتاق منها لأن ذلك يعني انتهاء صلاحية أدوات الابتزاز التي يستخدمونها في تنمية منافعهم وفقدانهم للهويّة الحقيقية لهم التي تخالف الهويّة المُدّعاة! إنّ الطرفين لا يبحثان عن حلول واقعية لهذا الصراع، ولا يريدانها، لأنهما يعتاشان على وجوده في خلق الحاجة لهما عند النّاس، كما أنّ الصراع، في جوهره، هو صراع بين طبقات اجتماعية مثقلة بتاريخيتها ولا تملك إلا استحضار هذه الأمور لتبرر تنازعها فيما بينها.
في المفهوم الحديث للدولة يقف المجموع أمام القانون أمّا في دولنا فالقانون خاضع للمجموع لذلك تمتاز لعبة «إدّعاء الأكثرية أو الأغلبية» بشعبية كبيرة هدفها لا يتجاوز التبارز بالعضلات في معارك تحقيق المصالح بين الحكومة والمعارضة، غاية كل طرف هو جرّ النار إلى قرصه، وتحوّل مفهوم الدولة الحديثة للسلطة من وسيلة لخدمة الناس إلى غاية يطلبها هؤلاء. وأبرز ما يُلاحظ أنّ المعارضة تقتصر مطالبها على العناوين العامّة: الديمقراطية، الحريّة، والعدالة، وتطبيق القانون، والحفاظ على الدستور. لكنها لا تتجاوز هذه العناوين أبدًا إلى ما ورائها وماهيّتها، لا يوجد في خطابها من يضع تحديدًا لهذه المفاهيم والعناوين، ولا من يضع برنامجًا لها، لأنّ تحديدها يعني تقييد أيديهم عمّا يفعلونه وكشفٌ لتلّون مواقفهم وتباين شخصياتهم رغم أنّ عملهم كله قائم عليها، ومن ناحية الطرف الآخر فإنّ بقاء هذه العناوين ضبابية وعائمة هكذا يعني إمكانية استغلالها في تبرير أي موقف يتم اتخاذه من قِبلها، والشعب في خضم هذا الصراع هو متراس يحتمي به كل طرف ويرفع قميصه، وينساق الناس غالبًا طوعًا تحت ضغط العاطفة إلى الإصطفاف مع طرف.
النظام السياسي في الكويت يملك الفاعلية والقابلية لعلاج هذه السلبيات لكنها قابليات غير مفعلّة، لا لشيء إلا لأنّ المجتمع يسير وفق «دستوره الحقيقي الخاص به» لا الدستور المكتوب ويغطي هذا بإصراره على العيش في زخم الصراخ الذي يمارسه، وهي حالة مرضية إذا استمر إنكارها وإدّعاء أنّ الخلل في النظام لا في الصورة الذي يُمارس به فإنّ النهاية لن تخرج عن الوقوع إما في ديكتاتورية مقننة، في عودة لحقيقة الإنسان الأوّل، أو الإنزلاق في صراع دموي يعيد بناء المجتمع كما حدث في أوروبا طوال النصف الأول من القرن العشرين.
إنّ الحديث لا يمكن اختصاره بمقالة واحدة ، وكل ما كُتب هو مجرد مدخل أوّلي لفهم حالة الصراع، لا أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مفهوم الدولة، العروي، 24.
[2] العطالة والتجاوز، أحمد حيدر.