قبل أشهر قليلة كنت أمشي في إحدى الطرق القديمة لمدينة
عريقة في دولة مجاورة مع صديق عزيز، جرنا الحديث للسياسة، سألني سؤالاً فأجبته
وكان أن تحوّل الصديق إلى وحش كاسر لو صار الأمر بيده لافترسني وما أبقى بي شيئًا.
هي حالة طبيعية تتكرر كثيرًا، لا يحتمل الإنسان الصراحة
ليس لأنها صراحة ولكن لأنها تصطدم بشكل مباشر مع ما يرغب به. الإنسان ككائن ضمن
سلسلة هذا الوجود يتميّز بالوعي، وهي حالة أعلى من الإدراك الذي يمتلكه كل مخلوق
ذي حركة، ولأن الوعي من ضمن امكاناته التي لا تنفك عنه يكون الإيمان صفة أصيلة
للإنسان لأن الإيمان هو القدرة على الإعتقاد، والقدرة هنا معناها الإنتخاب من بين
خياراتٍ عديدة، وهو جوهر الوعي، لذلك يُساءل الإنسان عن خيره وشرّه، فعله ونيّته،
كلامه وإشارته.
على كل حال، لولا وجود هذا الوعي في الإنسان لما كان له
أن يكون مستقبِلاً للرسالة الإلهية لكن وجود الرسالة الإلهية بنفسها أمرٌ يستحق
الاختبار ليعرف الإنسان مدى استحقاقه لحملها، إنّ هنا طرفة يسردها القرآن الكريم
عن هذا الإنسان {إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أبت
المخلوقات حمل الرسالة لكن حملها الإنسان بظلمه وجهله لأن تلك المخلوقات أدركت
إلتزاماتها وإن لم تع علّو وشرف هذه الرسالة، كما أدرك الإنسان إلتزاماتها لكنه
رفع ما يرغب به من إثبات علّوه على وعيه. فالوعي وحده ليس منجاة للإنسان كما
يصورون لك بل هو في كثير من الأحيان مهلكة له لأنه يخبرك بحقيقة موقفك وآثاره الواقعية لكنه لا يملك السلطة على نفسك، فترى البشر ينساقون مع ما يريدون ويرغبون،
فيكذبون وينافقون ويقتلون ويسرقون مع علمهم بخطئهم لكنهم يبررونه، وهذا هو الظلم
والجهل ومنه ظهر الاختبار «فتعقب ذلك أن انقسم
الإنسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض
والجبال فما منها إلا مؤمن مطيع»*.
أعود لصديقي في ذلك
اليوم الربيعي اللطيف، بعد أن انتهى النقاش أقرّ بفكرتي لكنه لا زال يجادل فيها
بذريعة الأسلوب الخاطيء، وأن ذلك هو ما يحجزه عن قبول كلامي كما هو، مثل ذلك،
أيضًا للأسف، يتكرر كثيرًا مثل هذه العبارات تفترض دائمًا أن الإنسان يقبل الآراء
إذا عرضت بلطافة لكن يرفضها إذا عرضت بخشونة وإن كانت حقًا، والواقع أن هذا الافتراض
خطأ، مشكلة الإنسان ليست مع الأسلوب لكنها مع الحقيقة ذاتها، إنه يرفض الإذعان لها
ما لم يقيسها مع رغباته وأهوائه ويناسب فيما بينهما، قد يكثر الحديث عن الهوى بحيث
يصبح مملاً لكنه واقع والواقع ممل لأنه يتكرر بسبب الطبيعة البشرية التي تقوده
وتدفعه لارتكاب ذات الأخطاء مرة تلو الأخرى في متوالية نسميها: التكرار التاريخي.
لا يمكن أن نفصل أثر الهوى والرغبة طالما نحن نتحدث عن كائن تدفعه مشاعره في أغلب
الأحيان إلى أن يرفض حكم العقل ويعمل بعكسه مندفعًا من ذاته، بل إن الأدب الإنساني
كله تمجيد وتخليد بمن يفعل ذلك ومحاولة التغاضي عن ذلك هي تغاضي عن أهم جوانب
الخلود الإنساني، الملاحم!
إذا نظرنا للوعي ضمن نطاقه البشري وجب علينا أن نعلم أن
المؤشرات عليه ضمن البشر ضعيفة، فهو سلاح يشبه الورقة المدون عليها تعاليم السباحة
أمام فرد لا يعرف السباحة ويندفع بسرعة نحو المحيط، وهنا تكمن الإشكالية أننا بطبيعة الحال كبشر
نفضل الانسياق مع الأسهل والذي يخاطب ما نريد بسرعة وتسليم أكبر مكتفين ببعض
التعليمات وبعض الكلمات والأفكار الفلسفية المقتبسة لنصور أنفسنا قادرين على
التعامل مع الواقع كما هو، لا كما نراه، والحال أنه العكس. في مناظرة حضرتها قبل فترة لفت
أحد الأصدقاء - مستهزئًا - نظري إلى قول المتحدث: «لا شيء مؤكد، هذا مؤكد». والناس يصفقون وينقلون كلامه وكأنه أتى بفتح العظيم
مهملين التناقضات الصارخة التي ترسم ثقوبًا واضحة في منهجيته وتضع تساؤلات لا
متناهية عن المستوى العقلي الواعي الذي يتحدث إنطلاقًا منه! لكن هذا يقف لا شيء
أمام تصفيق من يطلق عليهم ولو عرفًا النخبة له، إنها نخبة تتصور نفسها واعية وتنطلق من هذا الأساس،
والتصور لا يغني عن الواقع فالتعامل مع الحقائق المجردة ليس كالتعامل مع الحقائق
في أرض الواقع حيث يختلط السليم بالسقيم والعقل بالعاطفة والميول بالأهواء، إنّ
التنظير دائمًا سهل يسير ولكن التطبيق صعب عسير، وهنا يتمايز صاحب الفهم عن حامل
العلم.
بالأمس كنت أشاهد فيلمًا مع صديق، فيلمًا يحاكي شيئًا من
الخيال العلمي، أخبرته أن يتأمل هذا المخلوق الفضائي المصنوع من أحدث صيحات
تكنولوجيا الرسوميات، لم يكن يختلف عن الإنسان الطبيعي سوى بمواده وحركته وقدراته،
لا يدل ذلك إلا على أن الإبداع الإنساني تحكمه حدود لا يستطيع أن يتعداها، فهو لا
يزال غير قادر على صنع مخلوق خيالي بلا رجلين أو يدين أو رأس وعينين! هذا ينبيك عن
الوعي الزائف الذي يتصوره الناس، فالكثير من الوعي هو في الحقيقة نوع من المحاكاة
لما يجري بداخل النفس من رغبات مختلطة بأهواء وخلفيات ثقافية وفكرية جزء منها
نشأنا عليه وآخر استحققناه ضمن منظومة طويلة من العوالم تعرف بـ: العدل الإلهي.
الوعي، لا يأتي بقراءة المخالفين ولا بضرورة الإنسلاخ من
محيطك ولا باستحداث مواقف تتصور فيها التحرر من موروثك ولا بتكرار عبارات لفلاسفة غربيين أكاد أجزم، كما أخبرني أحد أساتذة الفلسفة
قبل فترة ضمن جلسة ضاحكة، أن قائليها أنفسهم لم يعرفوا عن ماذا كانوا يتحدثون حينها، هذا
ما تدفعك «الميديا» لتتصوره وعيًا بينما هو مجرد هامش من الوعي يعطونك إيّاه بحيث لا تتعداه فتتصور
نفسك مدركًا واعيًا وأنت مرتهن وبحاجة دائمة لوسائل الإعلام والتواصل لتعيد
صياغة مواقفك وآرائك وفقها ومن ههنا يتم إبراز صنّاع الوعي المزيف، كصاحب التناقضات المذكور آنفًا وأمثاله الذين يغذون عقول الناس بما يُراد لهم أن يكونوا عليه، فترى أصحاب الوعي الزئف كثيرًا ما يدفعون الآخرين دفعًا لاتباع هؤلاء ليماثلوهم، فدرجة الوعي المعطاة ثابتة عند مستوى معيّن بحيث ترى الخلل المتوهم
عند غيرها وتبرر ما هو أسوأ منه الموجود فيها وتغمض عينها عن كثير من التفاصيل
الدقيقة التي تعيد "فلترتها" لتناسب أحكامها المسبقة، رغم أنه خطأ
بميزانها لكنه الوعي المزيف الناتج من الخلط بين المبدأ والغاية، والرغبة والحاجة.
الحديث عن الوعي لا يصنع وعيًا، مرحلة الوعي لا يصل لها كل شخص لأنها تتطلب قدرة
كبيرة على المقاومة، مقاومة النزعات التشكيكية التي تدفع للإنسلاخ عمّا أنت عليه في
الحقيقة، ومقاومة الإنجاذابات النفسانية التي تجعلك
تعتقد أنه بإنفصالك عن الآخرين وإنفرادك فأنت تتميز عنهم وتعلو عليهم، وتصوره بالتعليم، مهما ارتفع مستواه مغالطة، فأقصى ما يمكن له
هو إيجاد الوعي بالموقف النفسي تجاه القضايا المختلفة أما معالجة هذا الموقف فيرجع إليك، أما الذكاء مرتبط بالربط والتحليل، وهما من فروع
الإدراك المختص بمعرفة الآلية، أما الوعي فحالة فوق الإدراك وهي معرفة الغاية ولأن الإنسان كائن غائي فإمكانك أن تقيس درجة وعيه من
مدى معرفته بغاية وجوده والأهم حركته نحو هذه الغاية لا مجرد تبصرتها،{لنجعلها لكم تذكرة
وتعيها أذن واعية}؛ فالتذكرة من الله عزّ وجلّ والوعي من الإنسان، وإن غاب الوعي صارت
التذكرة حجة بالغة عليه، وفي كليهما إثبات أن القول بالعبثية لا يتسق مع ادعاء الوعي و«هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»**.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الميزان للعلامة الطباطبائي / الأحزاب 72.
** عن الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد.
** عن الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد.
هناك تعليقان (2):
هذه هي المشكلة التي نواجهها، فالإنسان لا يقبل سوى ما يتوافق مع رغباته أو ما يستحسنه عقلهِ القاصر ... نحن الآن في زمن نحتاج فيه إلى توسيع إداركنا ووعينا للأحداث الجارية فيما حولنا.
أحسنتم كثيراً :)
فعلاً المدونة من أهم المدونات والموضوعات مهمة جداً ، مشكووووووووووووووور
إرسال تعليق