قراءة ثورة الحسين عليه السلام على أنها ثورة أو حركة قامت بناء على رد فعل معين في زمنٍ معين هو إساءة لهذه الثورة و لما أضافته أو بالأحرى أحيته من قيم إنسانية ثابتة قبل أن تكون ركائز إسلامية / دينية متأصلة ، هذه الحركة لم تكن لتأخذ مجراها المرسوم لها لولا الأرضية التي تهيأت لتفسح مجالا لتشييد بناء قضية كربلاء الخالدة فهي خاتمة بناء متراكب رُسم بعناية فائقة ليناسب هذه النتيجة التي ستحفر في ذاكرة البشرية ، هذا الدور العظيم الذي يُعتبر مجهولا عند الكثيرين كان مناطًا بالإمام الحسن عليه السلام ، سياسته و سيرته كانتا تعبيرا حركيا واضحا عن السياسة الإلهية إن صح التعبير عنها بهذا المصطلح .
.
لله سبحانه و تعالى سياسة تتمثل في أمرين مهمين لا يمكن فصلهما ، فهما و إن انفصلا لغويًا يظلان مندمجين فعليا الأول هو " الامداد " حتى تثبت الحجة فتكــون " الحجة البالغة " هي لله سبحانه و تعالى و بهذا يتم تحقيق الأمر الثاني .
سيرة الطغاة و الظلمة و المنحرفين دائما ما تكون سلسلة من التوفيقات إن جاز التعبير لتقريب المعنى للأذهان ، هذه السياسة تتمثل في الإمداد الإلهي لإزالة المعوقات { الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } حتى تكون أفعال الإنسان شاهدة عليه حين يُلزم طائره في عنقه { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } فالحكم عليه ليس سوى نتاج حكمه هو على نفسه و اقراره بفعله ، فقد من وقّع عليه بإرادته .
.
أما الحجة القائمة فهي تتمثل في سياسة الله سبحانه في بعث الرسل لاتمام الحجة { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } أي لا يكون لهم سبيل أو مأخذ على ما سيصيرون إليه فهو بذلك قد أوضح للإنسان المخير صراطاته فإما حقًا و إما باطلاً و لكلٍ جزاؤه ، هذه السياسة تتمثل بالدنيا في ما يفعله من ارتضاه سبحانه ليكون هاديًا لسبيله فسيرة الرسل و الأنبياء و الأوصياء هي اقتباس واضح لممارسة هذه السياسة في اثبات الحجة و إلقائها و التصرف بمقتضاها دون إجبار { لئلا يكون للناس عليكم حجة الا الذين ظلموا منهم } لأن الإقرار على النفس لا يرده دليل و بذلك تتم حجة الله البالغة على عباده { قل فلله الحجة البالغة } و لا يكون لهم بعد ذلك ما يردون به الحكم .
.
دور الإمام الحسن عليه السلام في تشييد هذا الصرح في حضارة البشر لا يزال يُنظر له بنظرة قاصرة عن إدراك معناه لأنه يُربط بفترة زمنية معينة و أحداثها بينما من اللازم أن يُنظر له على أنه دورٌ ينظر للنتائج التي ستترتب على هذا الفعل في المدى البعيد ، فهو في حقيقته ليس تنازلا كما يحاولون تصويره إنما إثباتا للحجة و إلقاءً لها ، و امدادًا للطغاة حتى يروا الناس الفارق بين الاثنين ، فعله كان حجر الزاوية لرسم الحد الفاصل بين سياسة الدين و دين السياسة .
.
قيادته للأمة بعد استشهاد أبيه عليه السلام لم تكن قيادة دنيوية كما يدّعون أو يحاولون ذلك بل كانت قيادة دينية " و قضية الدين – و هو العلاقة بين العبد و ربه و هو النقطة التي يرتكز عليها مستقبله في حياته الأخرى – لا تشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها لهوى النفس أو لتقاليد البيئة أو لعواطف الإنسان و ميوله و عصبياته " [1] .
.
موقف الإمام الحسن عليه السلام في هدنته و شروطه بها كانت اتمامًا للحجة الإلهية على هؤلاء الناس و اثباتا لموقف الإمامة الديني المُنصب من قِبل الله عز و جل فهو أوسع و أشمل من مفهوم إمارة دنيوية " تنال بحد السيف تارة و بالمكيدة و السياسة تارة أخرى " [2] فالدين أجل و أسمى من حد السيف و مكائد النفس ، أما لماذا كان موقفه حجة ؟
فإجابته هي نفسها الإجابة عن سبب مسير هذه السياسة الإلهية في البشر طوال تاريخهم و هي { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } ، فليس بمعجزٍ لله سبحانه أن يهدي الناس كلهم أو يضلهم كلهم و لكن في هذا خلاف العدل و اللطف و هو إجبارٌ ينافي التخيير الذي خلق وفقه الإنسان .
.
هذا الموقف النابع من البصيرة بهذا المجتمع يبين أن المرحلة لا تتحمل أكثر من تسجيل الموقف الصريح من معاوية نظريًا ليكون محفوظًا لأجيال المسلمين [3] و به يهيئ الأرضية لحركة الإمام الحسين عليه السلام ، بموقفه هذا يكون قد سحب كل تبرير يُمكن أن يُساق من قبل الظلمة و الطغاة و أصحاب الفتنة و من سار بركبهم و أقام الدليل على شرعية حركة أخيه الشهيد و ضرورتها و يؤيد ذلك ما روي عنه عليه السلام : " .. و قد رأيت أن أسالمه و أن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } .. " .
.
لا يمكن اختزال مثل هذا الموقف و أسبابه و حيثياته في مقالة بسيطة لأن ما جرى من أحداث و ما رسمت من سياسات و قامت من براهين ساطعة على هذه الأساسات لا يمكن احتواؤها في سطورٍ قليلة قادرة على أن تدرك جميع زوايا الصورة ، و لكن يمكن استشفاف خلاصة الحديث في محاولة إدراك بعض مصاديق حركته عليه السلام و ما نتج عنها و من خلال هذه النتائج يمكن استنباط سبب مواقفه عليه السلام التي لم يستوعب كنهها الكثيرون ممن كانوا في ذلك العهد ، محاولة حصرها على فهم بعض من كانوا في ذلك الوقت مثل سفيان بن أبي ليلى على جلالة قدره و مكانته هو جريمة ترتكب في حق التاريخ لأن تلك المواقف منه عليه السلام لم تكن تنظر إلى واقعها الحالي بقدر ما كانت تنظر إلى ما ستولده في المستقبل و هذا سبب جهالة قدرها في زمنها و سبب عدم وضوحها عند بعض معاصريها ، و أماط اللثام عن جوهرها الحسين عليه السلام في عاشوراء لتبقى خالدة إلى هذا اليوم و حتى تقوم الساعة .
.
في أمالي الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام زين العابدين عليه السلام :
" إن الحسين بن علي عليهما السلام دخل يوما إلى الحسن (عليه السلام ) فلما نظر إليه بكى فقال له : ما يبكيكَ يا أبا عبد الله ؟
قال : أبكي لما يُصنع بك !.
فقال له الحسن عليه السلام :إن الذي يُؤتى إليّ سم يُدس إليّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله
يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدنا محمد (صلى الله عليه و آله) وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني امية اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار ... ".
.
في السابع من شهر صفر سنة 49 هـ
كانت شهادة الإمام الحسن المجتبى
فسلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يُبعث حيا .
- عنوان الموضوع :
هو شطر بيت من قصيدة للملا هاشم بن حردان الكعبي رحمه الله ( ت 1231 هـ ) ، و فيها يصور بعض مصائب و أحزان السيدة زينب عليها السلام ، و من أبيات هذه القصيدة :
و ثواكل في النوح تُسعد مثلها .. أ رأيت ذا ثكـل يكون سعـيدا
ناحــت فــلم تر مثلـهن نوائـحا .. إذ ليـس مـثل فقيــدهـن فقــيدا
لا العيس تحكيها إذا حنت و لا .. الورقاء تحسن عندها الترديدا
إن تنع اعطت كل قلب حسـرة .. أو تدع صدعت الجبال الميدا
عبراتها تحي الثرى لو لم تكن .. زفراتها تدع الرياض همودا
________________
[1] صُلح الحسن عليه السلام – الشيخ راضي آل ياسين .
[2] تاريخ الإسلام السياسي
[3] جواهر التاريخ ، ج 3 .
هناك 17 تعليقًا:
كالعادة ..
الموضوع قيم ثري بالمعلومات ..
والأهم أنه لا يطعن بمعتقدات الآخرين ..
يقرب ولا يفرق ..
بارك الله فيك أخي ..
إلى الأمام دائما ..
سفيد
لماذا أنت متعصب كثيراً لدينك ؟
أغلب مواضيعك هي عن عادات وتقاليد الطائفة الشيعية الشقيقة ؟
هل توجُه مودنتك إسلامية أم علمية أم أدبية أم ماذا ؟
عظم الله أجركم
أحسنت يا سفيد
عظم الله لكم الاجر باستشهاد سيد شباب اهل الجنة الذي ظلم في حياته وبعد مماته
ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
عطم الله اجوركم اخي سفيد
والله اعلم ان مواضيعك تنور وتزيد بالمعرفة
شكرا
:)
السلام على الإمام المظلوم
آجركم الله جميعا
تدوينه جميله
جزاك الله خير عليها:)
غريب وأطراف الديار تحوطه ...
ألا كل من تحت التراب غريب
عظم الله اجركم اخي ..
عظم الله لك الأجر
أحمد الحيدر ،،
من يرى في ذكر التاريخ تفريقا و طعنا بمعتقده فهو يُعاني مشكلة مزمنة في فهمه و عقيدته .
هذه المواضيع لا تحتمل هذه الأشياء لأنها تقوم على قراءات تاريخية بحتة ، فمن يرى فيها طعنا عليه محو تاريخه .
شكرا لمرورك القيم :)
.
.
غير معرف ،،
و ما المشكلة فيما أطرح ؟
كما تقرأ لليبرالي و هو ينظر لليبراليته ، و للشيوعي و هو ينظر لاشتراكيته ، و للمادي و هو ينظر لتفاهات إلحاده و يتعصب لها ، فاغفر لي توجهي نحو الصوت غير المسموع لهذه الأنوار الإلهية التي وجدت فيها ضالتي بعد متاهات من ذكرتُ اعلاه بفضل من الله و رحمته .
هذه مدونة و ليست موسوعة علمية او اطروحة دكتوراه حتى تحتمل كلمات علمية رصينة مجردة ، بل هي تعتمد على روح الشخص و هويته لأنها بمثابة أوراقه الخاصة التي تعبر عن هويته ، و هويتي هي ما أكتبه هُنا .
هي شيء من كل شيء اهتم به ، ليس مطلوبا مني أن أخصصها بباب معين سواء كان إسلامي او سياسي او علمي ام أدبي ، فكينونتي متعددة :)
اعتبر هذا التراث المجهول الذي تراه الآن صوتًا للوجهة الأخرى لم يُسمع سابقا .
Salah ،،
و أجركم إن شاء الله .
.
.
فريج سعود ،،
ظلامته تمتد حتى إلى سيرته سلام الله عليه ، فكم من مسكوت عنه فيها مراعاة لفلان أو فلان و مداراة لمن يرى في التاريخ " طعنا فيه و تهجما عليه " .
ظلامة أبناء هذا البيت الطاهر لا تدانيها ظلامة ، فهم ظلموا بحياتهم و ظلموا بجهل قدرهم و ظلموا بإرغام الناس على السكوت عمّا جرى عليهم تحت دعاوى الطعن بمعتقدات الآخرين (!!).
و لك فيما جرى بجنازة هذا الإمام المظلوم عِبرة و عَبرة .
آجركم الله .
Manal ،،
الخواجه الطوسي رضوان الله عليه وصفهم عليهم السلام بأنهم اللطف الإلهي ، أي أن من لطف الله بعباده ان جعل هؤلاء منارات لهم يهدونهم لسبيله عز و جل.
فكل ما يصدر هو قطرة من فيض وجودهم و علومهم عليهم السلام فالشكر لله سبحانه على ايجادهم أولى :).
عظم الله لكم الأجر .
.
.
سيدة التنبيب ،،
اقصوصة ،،
مطعم باكه ،،
Yang ،،
آجركم الله جميعا .
احسنت اخوي سفيد و بارك الله فيك
و عظم الله لك الأجر
TruTh ،،
أجورنا و أجوركم ،
و أنتم من المحسنين إن شاء الله .
عظم الله لكم الأجر جميعا
لكل امام خاصية، ولكل زمن ظروفه ومجرياته التي تصدر المواقف بناءً عليها
قرار الهدنة كان من أجل منع هدر الدماء
وحتى تزيد الحجة تأكيداً على أحقية ومظلومية طرف ما، وبالمقابل بغي وظلم الطرف الآخر.
ومن قال أن دور الإمام توقف بعد شهادته!
فحتى بعد استشهاده لم تزل تضحياته مستمرة، بتقديمه أبنائه لنصرة أخيه الغريب المظلوم.
هكذا هم الأئمة عليهم السلام أرواحي لترابهم الفداء
بذلوا مهجهم دوننا وفي سبيل إعلاء كلمة الدين
كبرياء وردة ،،
آجركم الله ،
شكرًا للإضافة المكملة ، نعم الإتجاه الدنيوي في كل عصر هو الذي حدد واجبات الأئمة عليهم السلام و دورهم فيه ، و أقصد دور الممارسة الظاهرية لهم عليهم السلام و ليس دور كشف المعارف الإلهية .
نعم عطاء الإمام الحسن عليه السلام كما يظهر بوصيته لابنه القاسم عليه السلام كان مستمرا لعاشوراء ماديا و لما بعدها معنويا و تاريخيا ، و لا يمكن أبدا قصره على سنتين بعد استشهاد والده أمير المؤمنين عليه السلام لانه كان أعمق و أشمل من ذلك ، و أي محاولة لتجاوز دوره هو تعدٍ صارخ على الوقائع التاريخية .
للاسف الشديد ان قصيدة الملا هاشم (رحمه الله) لم تذكر كامله وهي من روائع شعر الرثاء ... نشيد بالاخوة القائمين على الموقع ان يتفظلوا بتكمة القصيدة
إرسال تعليق