وحي عاشوراء [ 10 ]
عظم الله أجوركم
إنّا لله و إنا إليه راجعون
لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
( 1 )
لم يكن قراري أن أكتب هذه الحلقات في وحي عاشوراء ، كل ما كان في بالي موضوعان أردت الإشارة لهما ضمن هذه العشرة الحزينة من باب الإحياء ، و لكن نشاء و الله يفعل ما يشاء فكانت هذه الحلقات ، كلها كتبت دون إعداد و دون فكرة مسبقة بل إن معظمها كتبته قبل نشرها بمدة قصيرة جدًا لا تتعدى الدقائق المعدودة و نشرت آليا على كثرة مشاغلي هذه الأيام و عدم التوفيق في تقاسم الوقت ، و الحمد لله على هذا التشريف .
في هذه الحلقات كان السير فيها بطرف أحيانًا ، و بطرفٍ آخر أحيانٌ أخرى لذا فأنا استغفر الله سبحانه و تعالى على أي زلة فيها ، و أعتذر لمن تشرفت بالكتابة عنهم إن كان فيما كتبت منقصة بسبب قصوري في إدراك هذا الوجود النوراني أو تقصيري في البحث عن مطالبه ، و كلي أمل بأنها كانت ذات فائدة و لو قليلة بمضمونها .
( 2 )
ورد في المعتبر عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام حال احتضاره قوله لأخيه : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله .
ثورة كربلاء المقدسة ليست حدثًا قابلاً للمقايسة مع أي حدث آخر ، و إن اشترك معه بعنوان المظلومية و غيره من العناوين الثانوية.
ما يحدث في غزة اليوم مصيبة ، و كارثة إنسانية مفجعة ، مهما كان الفكر الذي يحملونه أو الأحقاد الموجودة إلا أنهم يظلون بشرًا يملكون نفس المشاعر و الأحاسيس و التكوين الذي نمتلكه ، إن كنّا لا نستطيع ضمان أقلاً حتى الدعاء لهم فعلينا مراجعة أنفسنا لنرى هل نحن حقًا من بني البشر ؟
ما يحدث في غزة فاجعة ، تستحق التضامن و الوقوف بجانبها بكل ما أمكن ، و عنوان مظلوميتهم مرسوم في جبين العصر الحاضر ، و لكنّ كربلاء هي واحدة كانت في الغاضرية و الحسين عليه السلام واحدٌ استشهد فيها سنة 61 هـ ، إن ظلامة أهل غزة و كربتهم على وقعها المؤلم لا يجب إقرانها بكربلاء و ما حدث فيها ، فهذه ليست من سنخ تلك .. فلا يوم كعاشوراء و لا أرض ككربلاء و لا شخص كالحسين عليه السلام ، و هذا ما فاتني التذكير به و التنبيه له في موضوع : لماذا إحياء الثورة ؟.
و أستغفر الله سبحانه عن هذا الزلل .
انطباق مفهوم المظلومية على كليهما ، لا يعني انطباق معيارها ، و هذا مما يجب الإلتفات إليه ، نعم بلاشك أن القيم التي حملتها معركة كربلاء توجد بعض مصاديقها هناك و هذا مما لاشك فيه ، كل ما يمكننا أن نقوله في الوصف يجب أن يكون من ناحية التمثيل لا القياس .
أسأل الله عز و جل بفضله و منّه أن يفرج عن هؤلاء المظلومين المستضعفين بحق شهيد كربلاء عليه السلام ،
و هذا أقل ما يمكننا أن نعمل و هو الدعاء لهم بالفرج و النصرة ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
( 3 )
حالة ( المنافقية ) ، هي حالة يستلهم فيها بعض الناس سمة من سمات المنافقين على أنّ هذا الأمر - أي النفاق - قد لا يكون متأصلاً بهم .
هذه الحالة عبّر الله عز و جل عنها بقوله { .. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ .. } فهم لضعفٍ يجدونه في أنفسهم يعتبرون كل ما يحدث موجه في الأصل لهم ، و أنّ الكلام عليهم ، في هذه الأيام الحزينة نوع من الهستيريا أصابت بعض هؤلاء المصابين بفوبيا عاشوراء فأعادوا تصوير حالة المنافقية لتظهر آيات الله في الآفاق تبين لنا أن كلامه سبحانه و تعالى عنهم حق .
و لنا وقفة أخرى إن شاء الله في هذا المجال .
( 4 )
يقول الشاعر :
كل من تلقاه يشكو دهره .. ليت شعري هذه الدنيا لمن ؟
ما يجمع كل البشر هو أنهم مشتركون بهذه الحياة ، بكل ما فيها من تناقضات من أفراح و أحزان و راحة و تعب و خلافها ، لا يوجد هناك سعادة تامة عند البشر فهي منقوصة مهما طالت أقلاً بالموت ، فالسعادة الدائمة في هذه الدنيا هي وهم يقترب من الواقع أحيانًا و لكنه اقتراب حذر لا يدوم ، لان الديمومة ليست من طبع من كتب عليه الفناء .
إذن فهناك مأساة يعيشها كل البشر ، كلهم يشتكي من شيء ما ، فالجانب المأساوي يشكل جانبا كبيرًا من خلقة الإنسان و حياته و هذا ما يقوده بالتبعية إلى الإستئناس بمصائب غيره لأنه يعتبرها بمثابة السلوى لمصيبته و مأساته ؛ كم شخص يحفظ الأمثال و ابيات الشعر فيما جرى و يجري على المرء من تعب و كد و هموم و غموم تلبد سماء حياته ؟
مردّ القضية إلى أن هذه المآسي تشكل جاذبًا للناس لانهم من خلال يشعرون بألفة الاشتراك في المصاب مع غيرهم ، و هذه الألفة تعطيهم القناعة في هذه الحياة و الاستمرار بالقتال فيها ، و من هنا كان قول العرب : من راى مصيبة غيره ، هانت عليه مصيبته .
المآسي تقاس بآثارها ، بما تبقيه من آلام في صدور المطلعين عليها و كلما كانت كبيرة كلما كان قرّها في النفوس أكبر ، فمأساة القضايا أحد أسباب بقائها و توارثها ، و انظر لتاريخ البشرية منذ أول كتاب كتبه هيرودوتس إلى يومنا هذا ، و انظر بعين المقارنة فيها بين احتوائها على التأريخ المحزن لبني آدم و لحظات الفرح و السلام فيها .. لا وجه للمقارنة !
مُصيبة الحسين عليه السلام في مثل هذا اليوم سنة 61 هـ لعظمها و تفردها بتلك الظلامة التي ما عرفها بشرٌ من قبل فاقت في ذكرها و خلودها كل مأساة أخرى ، لقضيته عليه السلام تفرد خاص كفل لها البقاء فأهدافها السامية التي آمنت بها البشرية كمبادئ أخلاقية رفيعة شكلت الجانب العقلي الذي اتفقت عليه جموع البشرية على اختلاف مشاربهم في الإيمان بها ، لأنها كانت إحياء و مطالبة لحقوقٍ لا يختلف عليها الناس .
بينما شكلت المأساة الجانب العاطفي من هذه الثورة الخالدة ، الجانب الذي يخاطب البشر من حيث كونهم بشرًا يملكون أحاسيس التعاطف و مشاعر التأثر ، لذلك ظلت حرارة هذه المأساة مشتعلة في قلوب الناس يتأثر بها كل من استمع لها أو قرأ عنها بعين النفس الإنسانية .
من مصائب كربلاء الخالدة التي تدمي العيون هي مصيبة عبد الله الرضيع بن الحسين عليه السلام .فقد كثر نحيبه يوم عاشوراء بعد أن جف الحليب في ضرع أمه ، و أخذ العطش مأخذه منهم فوقف الحسين عليه السلام على باب الخيمة و طلب من أخته زينب عليها السلام أن تأتيه بطفله ليودعه فأخذه في حجره و قبله و أتى به قبال معسكر الأعداء و هو يقول :
« يا قوم إن ترحموني ، فارحموا هذا الطفل »
فاختلف القوم فيما بينهم ، فمنهم من قال : لا تسقوه .
ومنهم من قال : أُسقوه .
ومنهم من قال : لا تُبقُوا لأهل هذا البيت باقية
عندها إلتفت عُمَر بن سعد إلى حرملة بن كاهل الأسدي ( لعنه الله ) وقال له : يا حرملة ، إقطع نزاع القوم .
فقال : أ أسقيه ؟
فقال : ويحك ، أما ترى بياض نحره .
فرماه حرملة بسهم ذي ثلاث شعب أصاب نحر الطفل .
فبكى الحسين عليه السلام و تلقى دمه بكفه و رمى به نحو السماء و قال :
« هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله »
مصيبة الرضيع عليه السلام هذه ليست سوى نقطة صغيرة من بحر المصائب التي شكلت يوم عاشوراء عديم المثال في التاريخ إلى يومنا هذا و حتى تقوم الساعة ، لا يمكن لأي قلم مهما برع أن يرسم لوحة هذا المُصاب بدقائقه ، يبقى ما نكتبه مغلفٌ بشعور السامع لا بمصيبة الرائي ، ما تشكله هذه الفاجعة الكبرى في الوجدان كان أحد أسباب بقائها خالدة لأنها المصيبة التي ينظر لها كل إنسان و يستلهم منها عبر الصبر و الرضا بقضاء الله سبحانه و تعالى ، فيها قدم الله حجة للناس لا تكون لهم بعدها حجة عليه سبحانه في بيان كيف أنّ هذه الدنيا و ما نمر به فيها لا يُعد شيئًا قبال هذه الرزية العظيمة .
السلام على الحسين الشهيد ، و على ابنه الرضيع
و على أبنائه و اخوانه و سائر المستشهدين بين يديه .
جاء في زيارة الناحية المقدسة :
السَّلامُ عَلى المُغسَّلِ بِدَمِ الجِرَاحِ ، السَّلامُ عَلى المُجَرَّعِ بِكاسَاتِ الرِّمَاحِ ، السَّلامُ عَلى المُضَامِ المُستَبَاحِ .
السَّلامُ عَلى المَنْحُورِ في الوَرَى ، السَّلامُ عَلى مَن دَفنَهُ أهْلُ القُرَى ، السَّلامُ عَلى المَقْطُوعِ الوَتِينِ ، السَّلامُ عَلى المُحَامي بِلا مُعِينٍ .
السَّلامُ عَلى الشَّيْبِ الخَضِيبِ ، السَّلامُ عَلى الخَدِّ التَّرِيْبِ ، السَّلامُ عَلى البَدَنِ السَّلِيْبِ ، السَّلامُ عَلى الثَّغْرِ المَقْرُوعِ بالقَضِيبِ ، السَّلامُ عَلى الرَّأسِ المَرفُوعِ .
السَّلامُ عَلى الأجْسَامِ العَارِيَةِ في الفَلَوَاتِ ، تَنْهَشُهَا الذِّئَابُ العَادِيَاتُ ، وتَخْتَلِفُ إِلَيها السِّباعُ الضَّارِيَاتُ .
السَّلامُ عَليْكَ يَا مَولاَيَ وعَلى المَلائِكَةِ المَرْفُوفينَ حَولَ قُبَّتِكَ ، الحَافِّينَ بِتُربَتِكَ ، الطَّائِفِين بِعَرَصَتِكَ ، الوَاردِينَ لِزَيَارَتِكَ .