و في مثل هذا اليـوم ، من مناسبة الشأن تذكر بعض وصاياه و كلماته النورانية فهو من قومٍ كما قال عنهم في الزيارة الجامعة : «.. كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوى وفعلكم الخير وعادتكم الإحسان وسجيتكم الكرم وشأنكم الحق والصدق والرفق وقولكم حكم وحتم ورأيكم علم وحلم وحزم ، إنْ ذُكِرَ الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه.. »
من كلماته : ( إن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا إذا عوتب قبل).
- و سبب الخير هو عدم المكابرة ، القبول بالخطأ إن حدث و الإعتراف به هو دليل على نزع صفة التكبر من صاحيها و إذا نزعت كان الإستعداد عنده لاستماع القول و اتباع أحسنه أكبر من غيره ، فقبول العتاب سواءٌ كان لخطأ أم لا يدل على سعة نفس الإنسان.
و سعة النفس أي قدرتها على قبول جميع الإدراكات و الآراء و الأقوال و احتوائها ، فالنفس من هنا يظهر انها بعكس الأجسام المادية لديها القدرة على التوسع و التمدد دون حد ، و يُمكن أن يُفهم من ذلك أن (سعة النفس) هي من مصاديق الخير الذي يهبه الله سبحانه لعباده ، لأنها بذلك تكون قادرة على الحصول على قبول جميع الناس دون حد ، فصاحب النفس الواسعة يقبل كلام الجميع و متى ما شعر الآخرون بأن لكلامهم و لو من باب الاستماع فقط دون التطبيق قدرة على الوصول للآخرين انجذبوا نحوهم.
و هذا شيء نلاحظه في حياتنا اليومية ، نقابل عشرات الناس يوميًا و قلة من ننجذب لهم بحديثنا ، و نوّد لو أن كلامنا معهم يطول حتى و إن كنا نعلم بأنه سيظل في خانة الكلام ، مجرد رؤيتنا لمن يقبل الاستماع لنا يفرحنا و يجعلنا نقبله و نجله ، و هذا من أفضل مصاديق "الخير" التي يتمناها كل شخص لنفسه.
و من كلماته عليه السلام أيضًا : (إن الظالم الحالم يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه ، و إن المحق السفيه يكاد أن يطفئ نور حقه بسفهه).
- من هذه الكلمات ، يمكن استنباط عدة مفاهيم عالية القدر منها :
أن الظلم و الحلم يمكن أن يكونا موجودين في الإنسان و لا يتعارضان ، و أن سبب عدم ظلم بعض الجبابرة ليس عدم قدرتهم على ذلك و إنما لأن حلمهم أسبق و أسرع ، فنتصورهم عادلين ، و لكن الواقع أنهم إذا انتهى حلمهم أو نفد بان ظلمهم بأجلى صوره و كانت بطشتهم شديدة.
في التاريخ هناك شخصيات عديدة نقرأ عنها و عن حلمها و محبة شعوبها لها ، و مع هذا فهي كانت جبارة ظالمة على أعدائها ، و الواقع أنها ظالمة فالظلم لا يمكن أن يُبرر الظالم لعدوه كالظالم لصديقه لا فرق ، و لكنّ أحباؤه ينسون ظلمه لأعدائه بسبب حلمه بهم و هذا مصداق قوله عليه السلام (يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه) فالتاريخ بعد ذلك يذكر حلمه و عدله و يضفيه صفات أقرب للقداسة لأن ما ذُكر عن حلمه غلب ما ذكر عن ظلمه.
أما الشطر الثاني من كلمته فتؤدي إلى معنى لطيف و هو أن الحق حتى يصل للآخرين يعتمد على شخصية قائله و المدافع عنه أكثر من أصل (الحق و الحقيقة) ، فكم من قضية حقة كان لها محامٍ فاشل!
السفيه الذي لا يستطيع أن يصيغ أفعاله و كلماته بما يناسب الآخرين يولد النفور منه ، فيبتعدون عنه و لا يقبلون منه الحديث ، و أسوأ من نكران الحقيقة هو أن تكون ظاهرة و لا يقربها أحد لأن حاملها ملوث.
من يُريد أن يوصل حقيقة ما ، أو يكون ممثلاً عنها ، فقبل حمل رايتها يجب أن يخلص نفسه من كل ما يتعارض معها.
و من كلماته أيضًا : (.. و أنّى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه و الأوهام أن تناله و الخطرات أن تحده و الأبصار عن الإحاطة به نأى في قربه و قرب في نأيه ..).
- في هذه الكلمة المقتطعة من سؤال وجهه له أحد الأصحاب عن وصف الله عز و جل ، إشارة عميقة.
الحواس معلومة و هي لكونها تعتمد البرهان و الحس فهي محدودة لذلك تعجز عن الإحاطة بالله عز و جل ، و لكنّ الأوهام هي ما تفرزه مخيلة الإنسان و المخيلة لا تتقيد بقيود العالم المادي المحدود الذي نعيشه ، نحن لا يمكننا أن نطير في الواقع و لكننا نطير بأوهامنا و مخيلاتنا ، و نصنع عوالمًا غير موجودة و نؤلف قصصًا غير مذكورة كل ذلك بقوة (الوهـم و التخيّـل) ، فهي قدرة غير محدودة و تتفوق على الواقع .
لذلك كان وصفه بانه على الرغم من قوة هذا (الوهم) فإنه أقل من أن (يناله) أي أن يتوصل حتى إلى بداية كنه الله عز و جل ، فهو تعالى عن الإحاطة به بحواسنا القاصرة و كذلك بعقولنا العاجزة التي طوعت العالم و وقفت قباله - سبحانه - متحيرة.
و من كلماته عليه السلام التي أختم بها هذه المقالة القاصرة عن نورانيّة جواهره المبثوثة قوله في وصيته الأخيرة :
( .. اتقوا الله و كونوا زينًا و لا تكونوا شينًا ، جروا إلينا كل مودة و ادفعوا عنّا كل قبيح ، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ، و ما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك.
لنا حق في كتاب الله و قرابة من رسول الله و تطهير من الله لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذاب.
أكثروا ذكر الله و ذكر الموت و تلاوة القرآن و الصلاة على النبي - صلى الله عليه و آله- ، فإن للصلاة على رسول الله عشر حسنات.
احفظوا ما وصيتكم به و أستودعكم الله و أقرأ عليكم السلام. ).
عمامة الإمام الهادي عليه السلام بعد تفجير مرقده الشريف - سامرّاء