
.
هذا الشيء فطن إليه كل من أراد أن يقيم وطنًا بسواعد أبنائه. استطاع هتلر بإيمانه العميق بالنازية وطرحه لهذه الآيدلوجية أمام شعبه على أنها المخلّصة والموحدة لهم، أن يخرج أبناء ألمانيا من شعور التفرّد والتمزق إلى العمل الجمعي، فأضحى العمل لأجل ألمانيا هو الهدف عند الجميع، لا العمل لأجل المصلحة الشخصية. على هذا النسق استطاع الشيوعيون بناء دولهم، وهي وللمفارقة، قامت في أكبر الدول مساحة وشعبًا وتنوعًا إثنيًا وعقائديًا كما في الصين والإتحاد السوفييتي، كما استطاع «الآباء المؤسسون» في الولايات المتحدة أن يصنعوا وطنًا من لاشيء ويرجع الفضل بذلك إلى صياغتهم لهدف وهو «الحريّة»، وهذا الهدف جعلوا استمراره وتواجده مشروطًا بدوام الدولة الحامية له، التي أسسوها، فارتبط الوطن بقيمة إنسانية سامية، وأصبح العمل لأجل الوطن هو نفسه العمل لأجل هذه القيمة لضمانها لهم، ولأبنائهم، وللعالم أجمع، وبقاؤه ومنعته من بقاء هذه القيمة ومِنعتها.
.
من هذه الأهداف، تكتسب الوطنية صبغتها، وتمتلك المظهر الذي يعكس صورتها عند أبناء الوطن. بمعنى أنّ الوطنية تتحول إلى سلوك يحافظ، وفي نفس الوقت، يعبّر عن كيان الوطن الذي تنتسب إليه، فالهدف هو الذي يضمن، بحسب تعبير د.البيطار: أن لا يخسر الإنسان تطلعاته المستقبلية التي تعطي معنى للتاريخ الذي يعيشه. والسبب هو لأنه لكي يُمكن للشعب أن يواجه التحديات المستقبلية أمامه عليه أن يؤمن بهدف أكبر من أهدافه الشخصية، ومشاغله اليومية، لذلك يعتبر اليوم الوطني هو يوم إحياء لما يمثله هذا الوطن، ولما يريد التبشير به، باختصار شديد اليوم الوطني هو تبشير بالرسـالة التي تريد البلاد إرسالها لثقافات ودول العالم أجمع. وأسلوب الإحتفال به هو صيغة الخطاب الذي توجهه هذه البلاد للناس كافة.
.
وعلى قدر فراغ الرسالة، يكون فراغ التعبير عنها. فعندما يكتشف المواطن (أو ما يُطلق عليه كذلك) أنّ الرسالة التي يُطلب منه أن يؤمن بها، وأن الأمن والطمأنينة والرفاه الذي يتوقعه من الوطن، غير متوفران يشعر بالفراغ، فيرى نفسه، مجددًا بحسب ما ينقله د. نديم البيطار، «واقفًا في وسط من الفوضى الذي يقترن باضطراب خارجي في مجتمعه»[1]، هذا الفراغ يحدث عند أفراد المجتمع حين لا يتمكنون من اثبات معرفتهم بالأشياء، وهذه الأشياء يمكن القول هنا بأنها: الوطن، فلا يملكون رؤية مستقبلية تعطيهم تباشيرًا تجعل الإحساس بالأمن والديمومة متواجدًا عندهم، ولا يتمكنون من ايجاد الإجابة عن: ما هو هذا الوطن؟ وما هو تأثيره، ودوره؟ وما هي رسالة شعبه للعالم، والإنسانية؟
.
وتنعكس عدم القدرة على اجابة هذه الأسئلة بآثار نفسية وأخلاقية سيئة، ويبدو أثرها واضحًا فيما جرى قبل أسابيع قليلة.
سنة بعد سنة، بدء الإحتفال بالعيد الوطني ويوم التحرير يتحول إلى مناسبة تعبّر بوضوح عمّا يشكلانه في وجدان الشعب، حيث لم تعد هناك قناعة داخلية بوجود رسالة، وهدف، ولم تعد هناك رؤية لمستقبل هذا الوطن، لا يوجد شيء ما يعطي أملاً، ولو زائفًا، بأن ما هو قادم سيكون أفضل حالاً، وأنّ هذا (الأفضل) مرهون بمدى جديّة العمل لأجله. بل تحولا إلى مناسبة تعطي الذريعة لأن يتحول البشر فيها إلى كتلة تمارس همجيتها بأبلغ صورها.
.
لقد كانت رسالتنا هذه السنة، إحدى عشر قتيلاً[2]، وكان التعبير عنها بفوضى أخلاقية، وسلوكية، وقانونية.
.
المشكلة هي أننا لا نملك رسالة، ولا قناعات، ولا إيمان بالوطن، أو إيمان بأننا نشكل شيئًا مفيدًا لا عبئًا على العالم، ولم ننجح في أن نربط هذا الوطن بقيم يعبّر –بوجوده- عنها، وهذا هو الفشل الذريع، أننا إلى اليوم لم ننجح في زرع الثقة بدوام الوطن، أو نوجد التطلع عند أبنائه نحو المستقبل المشرق.
ما حدث كان ولا زال رسالة للآخرين، ولنا، بأننا فشلنا في تحقيق الدافع للعمل على تحقيق ما نريده لمستقبلنا، وفضلنا الجلوس على مقاعدنا حتى تحولت الطاقات المكبوتة عندنا إلى حالات مَرَضية.
_________________
[1] الحزب الثوري، ص144.
[2] انظر: جريدة الرؤية.