28 سبتمبر 2009

جريمة في مطعم باكه

.

أمـس ..
بعد صلاة الفجر، طالعت الساعة، فقررت أن أغفو قليلاً، فلا زال بالوقت متسع حتى وقت الاستيقاظ لأوّل يوم عمل بعد الإجازة المتعبة جدًا.

رنّ المنبه، طالعت الساعة مجددًا، كانت (30:..)، جيّـد، عندي ما يكفي من الوقت، سخنّت الماء، اتيت بـكوبي، وبدأت بشرب قهوتي الصباحيّة و أنا على جهاز الكمبيوتر.
.
انتهيت من مراجعة الرسائل في "ايميلي"، وقعت عيني على سطح المكتب مجددًا، فخنقتني العبرة! منذ أسبوعين كلمّا شاهدت عدد الكتب و الأوراق على مكتبي تخنقني نفس العبرة، منذ أسبوعين لم أذق طعم النوم الهانئ، منذ أسبوعين و أنا بالي منشغل بـ"مليون" شغلة يجب أن انتهي منها بأسرع وقت، ويبدو أن الوقت دخل في تحدّي بسباق السرعة معي، عشرات الصفحات يجب أن أكتبها و أرسلها قبل الموعد المحدد وبعضها لم أبدء بخطِّ حرفٍ فيها حتى اللحظة، منذ أسبوعين و انا عقلي بإجازة عن كل ما حولي إلى الآن، حتى بدأت صديقتي الثعلبة تزورني مجددًا، لأخفف لحيتي حتى كادت تختفي بعد 6 أشهر من خدمتها على وجهي ..!
.
قررت أن اترك عبرتي تجري بعد أن أعود من العمل! لأقتنص اللحظات الباقية و أراجع بعض المدونات، فتحت مدونة فريج الهيلق، بدأت بالقراءة حتى وصلت لختام التدوينة.. و أنا منصدم!

و لأن المصائب تأتي تباعًا وقعت عيني بالصدفة على ساعة الكمبيوتر لأراها 7.55 صباحًا و أنا الذي كنت أظنها 6.55 دقيقة!
.
هذا يعني أن "التوقيع" انشال، و أن الدوام رسميًا بدأ منذ نصف ساعة! و أنا للحين ببجامتي وقهوتي .. و شعري المنفوش!
شنو لبست؟ شلون طلعت؟ شلون وصلت لمقر عملي خلال 10 دقائق، إلى هذه الساعة لا أعرف!
كل ما أعرفه أن هناك قطعة سوداء في ذاكرتي ما بين الساعة 7.55 صباحًا إلى الساعة 8.15 صباحًا بتوقيت مدينة الكويت و ضواحيها!
.
حين وصلت، صديقي المفترض به أن يكون عزيزًا هناك لفت نظري (ونظر الجالسين كلهم بالأحرى) إلى أنني (لابس ساعتي بالمقلوب)، لولا أنّها هديّة، لكانت اليوم جزءًا من رأسه، فحجمها يساعدها على أن تحفر مكانها جـيـدًا بالجمجمة !
.
أحيانًا كثيرة تكون الإجابة حاضرة عندي و لكن تخونني الكلمات، لا أعرف ما أقـول أو كيف أعبّر بالكلمة عمّا يجيش بصدري، في هذه اللحظات تتمنّى لو أن ريحًا شديدة مغبرة تأتي لتغطيك والجالسين فتختبئ داخلها، لانها الوحيدة التي تجبر الجميع على الصمت و عدم التكلم : فنتساوى كلنا في نفس الموقف.

كانت إحدى تلك اللحظات، عندما قرأت الحلقة الاخيرة لـ مطعم باكه، ثم أتت زميلتها حين وصلت لمقر عملي و أمام مسؤولي .. و لا يفصل بينهما سوى دقائق!

* * * * * * * * *
.
أنا مؤمنٌ بأنّ للنفوس إدبارٌ و إقبال، فهي و أرواحنا مثل البحر و الموج، البحر موجود و لكن مظهره يكون وديعًا إن هدء و مرعبًا إن عصف، هكذا نحن، أرواحنا موجودة، و نفوسنا تهدء تارة و تعصف أخرى، و لأنني آمنت بهذه الحقيقة، فقد قررت أن أجعل كل مظاهري في الحياة مثلها، إن أقبلت نفسي عبّرت عنها، و إن أدبرت صعدتُ إلى الهواء !


ما لم أذكره في "الصعـود إلى الهواء"، أننا في محيط حياتنا نؤمن و نعتقد بأوهامٍ كثيرة، نعتبرها مسلمّات، و أشياء مفروغ منها، لذلك نعتبر الصراع معها أمرٌ لابد منه، ولكن صعودنا للهواء يحررنا من هذا الوهـم، دائمًا أتساءل مع نفسي كما يفعل غيري عن حقيقة وضعي الآن، هل كان من الممكن أن يكون أحسن؟ هل هناك ما أندم عليه؟ هل ارتكبت أخطاءً؟ هل بما أفعله الآن "أخنق" نفسي؟
.
في الواقع، نعم ارتكبت أخطاءً كثيرة، و هناك أشياء عديدة لو رجع بي الزمان لما فعلتها أو أقدمت عليها، وندمت على بعضها، وهناك أشياء كنت أعتقدها ولكني حين صعدت للهواء اكتشفت أنني واهم!
.
لو عدت بالزمن إلى تلك اللحظات التي اتخذت فيها تلك القرارات، لما اختلف اختياري، إنّ خطأ اختياري ذلك الوقت لم يكن معلومًا عندي إلا بعد أن ارتكبته، وبعد أن ازداد وعيي و كبرَ سنّي، لقد عرفت أنه من غير المنطقي أن أحاكم نفسي على مواقف سابقة بناءً على خبرات حاليّة، لولا أنني وقعت في تلك المطبّات، لما عرفت كيف أتجنب غيرها.. ومنها عرفت أنني قادر و مهيأ لأن أتعايش مع نتائج تلك الأخطاء.
.
قبل عدة أسابيع كنت مع أحد أصدقائي، أثناء حديثنا صعقني بسؤال: إنت سفيد،صح؟
.
وانفرطت العقدة بعدها، في موضوع (ســنــة) ذكرتُ أنّ هناك عدة مدونات أنشأتها و الآن أذكر لكم أنني حذفتها لأن هناك من اكتشف شخصيتي الحقيقية بها، كان عندي اعتقاد أو وهـم بأنّ سفيد على أرض الواقع شيء، و خلف الشاشة شيء آخر، سفيد في "المحيط" الإفتراضي يتكلم و يكتب، مثل البحر إن هاج، وسفيد على أرض الواقع يفضّل الصمت أحيانًا كثيرة ، وهذا الصراع بين السفيدين كان لابد و أن ينتهي لمصلحة أحدهما، وهذا هو ما توهمته، و كان الواقعي هو من ينتصر دائمًـا، حتى أتت هذه المرة.
.
لم يعد هناك واقعي، و آخر افتراضي، بدلاً من أن يكونا طرفي نقيض، كان يمكن أن يكونا متكاملين فالبحث عن المشتركات دائمًا أسهل من البحث عن المختلفات، و لكن لأننا بشر فإننا نفضل أن نتصارع دائمًا، فإن لم يقتل أحدنا الآخر بحثنا عن السلام .. بعد أن أنهكنا قوانا في الحرب!
.
وهذا ما حدث.. أو بالأحرى هذا ما استوعبته حين صعودي للهواء. نعم أنـا هو، كانت إجابتي على سؤال صديقي، وعلى غير العادة حين عدت للبيت لم أغلق وأحذف المدونة!
.
لقد قررت أن أعيش معهـا هذه المرّة .. دون أرتكب فيها تلك الجريمة المعتادة!

.

هذه الرسالة موجهة لـ مـطعـم باكـه، الواقع في فريج الهيلـق، و آمل أنّها بحروفها هذه قد وصلت لألاّ يرتكب نفس الجريمة.

.


ملاحظة: البريد الإلكتروني لمطعم باكه، اللي يعني صايد الحركة و شاله من المدونة موجود عندي، لذلك فإن لم أشاهد تراجعًا و إنسحابًا منه عن موقفه خلال 72 ساعة، فإنني سأرتكب جريمة تضاف لسجلّي الإجرامي في "الدعـوة إلى التشاؤم"، بنشر بريده الإلكتروني للجميـع :).


بعد استجابة مطعم باكه لنداءات الشعب، تم سحب التهديد .. ودمتم بخير :)

23 سبتمبر 2009

الصـعود إلى الهـواء

الصعود إلى الهواء.
الحوت سمكة أم حيوان ثدي؟ السلحفاة ما هي؟ الفقمة؟ البطريق؟
لا يهم تصنيفها، كلها لا تستطيع الإبتعاد عن الماء، ولكنها كلها تضطر للإبتعاد عنه! إذا استمرت طويلاً تحت الماء تختنق، ثم تنتهي. إذا استمررنا نحن مع النّاس، نختنق و ننتهي! و لكن ليس بالموت كهؤلاء، إنما نصبح أرقامًا على هامش الوجود، كنّا في يوم من الأيام ذوي كيان، و اليوم لاكنّا و لا كيان سوى أننا نعيش حياتنا على انتظار للنهاية المحتومة، نعيش للانتظار أكثر مما نعيش لأننا أحياء.
.
نعيش كالحوت في محيط الحياة، لا نستطيع أن نركن أنفسنا خارجها، لأننا مجبرون على الغوص داخلها، و مابين هذا و ذاك .. نصعد بين الفينة و الأخرى إلى السطح، في لحظات بسيطة، كما يصعد الحوت ليقتنص الهواء، لنقتنص نحن الحياة!
ثم نعود مجددًا لنشّخص أبصارنا نحو الإنتـظار، ونحن في الأعماق.
.
هناك أشخاص « تكمن موهبتهم و متعتهم الأساسية في الحياة باستباق وقوع المصائب الصغيرة فقط لأنها لا تهتم بالكبيرة كالحروب و المجاعات و الزلازل و الأوبئة و الثورات، فكل ما يهمها هو أسعار الزبدة المرتفعة و فواتير الغاز الضخمة و أحذية الأولاد البالية .. »
مجرد تذمر يومي، لأنّ ما اهتم به يختلف عمّا يهتم به الناس حولي. ليس من السهل أن تشعر بأن حياتك وصلت إلى مرحلة لم يعد لها فيها أي معنى، لحظة تشعر بنفسك معلقًا بالمنتصف، ما بين الأعماق، و ما بين السطح.
.
أعماق حياتك اليوميّة : مشاغل الحياة، مشاكل الأولاد، ظروف العيش، قلة الوقت، تعاسة الموظفين حولك، و تسلط المسؤول عليك، ثم تقف لتسأل: إلى أين تتجه هذه الدولة؟!
.
كل ما حولك يجمد، و هو يسمع هذا السؤال، من يسأل عن دولة، وسط الإنشغال بتربية الأولاد و البحث عن أرخص سوبر ماركت، و أوفر عرض سفر، و تعداد أيّام الإجازة؟
.
« تكمن المشكلة الرئيسية في وهمنا بأننا نملك شيئًا قد نخسره ..»، و الحقيقة أننا لا نملك شيء!
نملك ذكريات، و نملك أبدانًا، كانت فيما مضى تحمل مشاعرًا و لكنها اليوم أصبحت لا مبالية، طرأت على بالي الكائنات التي ذكرتها بأول الموضوع: لماذا كلها سمينة؟
« افترض أن شخصًا له حدبة أو هو أحول او بشفة [ أرنبية ] هل يجوز أن نناديه باسم يذكره بعيبه دائمًا؟
لكن مع الرجل البدين يصبح الأمر بديهيًا و اللقب طبيعيًا!
»
و لهذا « يصفعه الناس على قفاه آليًا و يقرصونه تحت الأضلاع » لأنهم يعتقدون أنّه يحب ذلك.
.
« أشك بان الرجل البدين منذ ولادته و تعلمّه المشي بأنه يعرف العواطف الحقيقية العميقة، إذ كيف يمكنه ذلك وهو بلا تجربة في هذه الأمور، و لا يمكنه التواجد في المشهد المأساوي لأنه يعيش دائمًا في المشهد الهزلي، فهل يمكن تخيّـل هاملت بدينًا؟ أو أوليفر هاردي يمثل دور روميو؟»
.
و لكننا نعتاد على الأشياء مع مرور الزمن، فالنساء ليسوا بأحسن حالاً، متعجبًا تتساءل «لماذا هنّ هكذا، و كيف يصبحن، و هل يفعلن هذا عن سابق تصميم و تصوّر؟ فتبدو لي السرعة المفاجئة التي تتحطم بها النساء جسديًا و معنويًا بعد الزواج مخيفة جدًا، و كأنهنّ متماسكات و مخصصات لعمل شيء واحد فقط، و بعد إنجازه يذبلن كالزهرة التي تطرح بذورها. »
.
هكذا، تـتـناسى هذه التساؤلات حين تبقى معلقا بالهواء .. تراها تبتعد عنك شيئًا فشيئًا، لم يعد سعر الزبدة مهمًا، لا يهم شكل زوجتك، كما أن كل خطابات السياسين تصبح مجرد ضوضاء!

تبحث عن السطح لتستنشق منه الهواء، طـال مكثوك بالأعماق هذه المرة حتى بدأت تفقد الإدراك بأنك تتنفس برئة لا بخياشيم حتى الآن.. غريب هو الهدوء داخل الأعماق، هـدوء و لكنه يحمل التوتّر بين جنباته، ليس كنوع الهدوء الذي تبحث عنه .. حين تكون على مرمى حجر من الإستسلام للأعماق، تتذكر السطح فتهرع إليه..
.
تصعد إلى الهـواء: الهواء النقي فوق السطح، و ليس المذاب في الماء، في هذه الحالة، الصعود للهواء هو عودة للذكريات، تبعد عنك صورة الذين « يتحملون الذل لأنهم خائفون » أو أولئك الذين « يطلبون منك أن تهينهم، لانهم يطيعون الأوامر، و مبدؤهم الزبون دائمًا على حق »، هذه الذكريات « فجأة تسبح في ذهنك دفعة واحدة كأنك صحوت من النوم» تدفعك دفعًا لأن تحاول السير على خطى الماضي، تحاول إعادة إحياء طفولتك مجددًا، لعلّك بذلك تلقي ثقل المسؤولية، و ضغوط الأعماق عن كاهلك: هذا هو صعودك للهواء.
.
لحظة تتجمد فيها كل الأشياء، لتبقى انت و ذكرياتك، إما تجلس لتستذكرها في منزلك ليلاً، و إما أن تهرب من محيطك لربوع طفولتك تحاول تتبع آثارها، أو أن تتخيلها بعد أن تعيد رسمها مجددًا، هنا كان والدي، هناك جلس عمّي، و في تلك الزاوية شاهدت أمّي، و على تلك البقعة اصطدت أول سمكة، أو هكذا أحب أن أتخيله لأنني لم أفلح أبدًا باصطياد سمكة!

في هذا المكان رفضت أن أدخل هذه الكليّة، و هناك قابلت زوجتي للمرة الأولى.. ماذا لو لم أقابلها؟ و كيف سيكون وضعي لو تزوجت ابنة جارنا التي عشقتها؟ أو فضلت الدخول للكلية بدلاً من العسكريّة؟ أو ربما أن أبقى في نفس البلدة التي ولدت بها لأكمل سيرة عائلتي بها؟
.
لم تعد هناك أماكن آمنـة، رغم أنك « عندما تسكن في بيت مثل بيتنا و ترزح تحت عبء زوجة و أولاد، يصبح من المستحسن الخروج إلى جو العزوبية حيث لا تشعر بأهمية شيء سوى الكتب و الشعر و التماثيل الإغريقية، إذ لا شيء يستحق الذكر منذ أن غزا القوطيون روما. يا لها من راحة! »، مع هذا، حتى من يمنحوك هذا (الـوهم الآمـن) من الأصدقاء، بمرور الوقت يتحولون لأحد أنواع (العبء) المُلقى على كاهلك أيضًا.. فتحتاج للهرب منهم.

.
ولكن ماذا بعد أن تحاول إعادة إحياء ذكريات طفولتك، بعد أن تجاوزت تلك الفترة منذ زمنٍ بعيد، أو أن تحاول أن تكتشف أو تستكشف الإجابة عن تساؤلاتك عن حياتك.. لوهلة تظن أنّك وصلت للسطح، و بدأت باستنشاق الهواء النقي، عندها يتملكك « شعور يمكنك من رؤية الأشياء الهامة بمنظور أفضل. و هكذا أدركت بأنَّ كل الأشياء التي كنت أشك في صحتها أصبحت أكيدة الآن »
«هل يمكن العودة إلى الحياة التي عشناها سابقًا أم هي ولّت إلى الأبد؟
حسنًا، لقد حصلت على إجاباتي، لقد انتهت الحياة القديمة نهائيًا، و عملية البحث عنها مضيعة للوقت.
»
.
فتقرر الرجوع للأعماق، بعد أن تركت السطح للمرة الأخيرة!


* * * * * * * *

جميـع الإقتباسات بين الأقواس هي من رواية «الصـعود إلى الهـواء» لـ جورج أورويل.
رواية كتبها، وهو ينتظر نشوب الحرب العالميّة الثانية، ليصف حالة الخشية و الخوف و الترقب التي تدفع الإنسان إلى أن يحاول الهرب منها بعودته لذكريات الطفولة.
كلنا، نمر بمثل تلك المشاعر و الهواجس بدءًا من شكل أسناننا و أجسامنا إلى التساؤل عن صحة القرارات التي اتخذناها طوال حياتنا، و تصل حتى لما نعتبره ' ثوابتًا ' فيها، ولكن قلة منّا من يقررون معرفة :
هل يمكن إعادة الحياة القديمة؟ أو إعادة تشكيل الماضي؟
أحدهم كان جورج بولينغ، الرجل الأربعيني، بطل هذه الرواية.

19 سبتمبر 2009

عيد الفطر و عيد القندرة!

.
في كل الأحوال، سواء كان العيد الأحد أو الإثنين فإن ما يفصلنا عنه ساعات معدودة في عمر الزمـان، و بناءً على هذا تكون التهنئة مقبولة عرفًا: عـيدكم مبارك، و كل عام و أنتم بخير إن شاء الله، و تقبل الله طاعتكم بأفضل القبول بإذنه سبحانه، وجعلنا الله و إيّاكم من المرحومين لا المحرومين من بركات هذا الشهر العظيم .. آمـين.
.
في الوقت الذي نتهيئ لاستقبال عيد الفطر السعيد، كانت أمواج بشرية هائلة، بكلماتها و اموالها و مشاعرها و ذواتها على استعداد لاستقبال عيد (الـقـنـدرة) و صاحبه منتظر الزيدي*، قد لا يكون منتظر قصد أن يتحول إلى رمز أو أن يُحتفى به كبطل قومي، أو يتحول يوم القندرة إلى عيد وطني، ولكن ما فعله لم تكن شعوب تُعاني من الاضطراب و الإزدواجيّة قادرة إلا على فهمه بهذه الصيغة.
.
كتبتُ مقالة طويلة في محاولة لسبر غور سبب هذا الإحتفاء و الإحتفال المبالغ به لهذه الحادثة عندنا و استكشافه. متسائلاً فيها عن سبب تعامل الغرب معها بروح الفكاهة، و كيف صُنفت هنا على أنها بطولة و شجاعة بينما صنّفت هناك على أنها حريّة لا أكثر؟! وكيف تحول منتظر الزيدي لبطل قومي تارة و لـ Bozo the clown تارة أخرى .. ولكن في النهاية آثرت أن أمسحها لأكتفي بتعليق كتبه أحد الظرفاء اختصر الكثير بقوله:
.
« اللهم لا تجعل قيمتي ما .. أنتعلـه! »
.
عيدكم مبارك.
.
__________________
* أول مقالة يكتبها منتظر الزيدي بعد الإفراج عنه:

9 سبتمبر 2009

علي، إنهم لا يستحقونك!



لم يكد تراب القبر يغطي جثة الديكتاتور صدّام حسين، حتى تحوّل بين ليلة و ضحاها إلى رمز للشجاعة العربية و أمثولة للبطولة 'الإسلامية' و أصبح اسمه، و هو الهارب المجرم السفّاح، مقرونًا بلفظة الشهيد، ليدل على سمّو المكانة التي حازها في نفوس الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق.
.
و الإنصاف يقتضي ذكر أنه ليس الوحيد الذي حصل على هذه المكانة في الوجدان 'الشعبي' لأبناء هذه (العقليّة) في هذه الأمّة المنكوبة، تاريخ المنطقة حافل و زاخرٌ بأمثاله، منذ فجر الحضارة و الإسلام إلى يومنا هذا، و الله العالم إلى متى في المُستقبل. الفارق أنّ جرائم صدام لم يستطع المؤرخون طمسها، كما فعلوا مع من سبقه، و لم يستطع (عُبّاده) أن ينكروا كل ما وقع منه من مصائب و كوارث، لأن مقتضيات العصر و ظروفه لم تعد كما سبق، و لم تعد الحقيقة مقصورة على ما يشاء عبد السلطان كتابته، و مع هذا لم يستنكر الوجدان الشعبي العام هذا التناقض بين هذا الإجرام و الطغيان، و بين اسباغ صفة الشهادة و البطولة و الإيمان عليه، لأنّه تعوّد أن أبطاله دائمًا هم على نفس شاكلته!
.
لم يكن الإنسان منذ بداية عهده كما يقول وِلْ ديورانت إلا بمثل هذه الصيغة، الولع بالاكتساب و الميل إلى القتال و الاستجابة التامّة للغريزة، بتعبير آخر أنّ هذه الغرائز التي اعتاد الإنسان البدائي على جموحها، ظلّت مغروسة فيه و لم يستطع إلى يومنا هذا التخلّص منها تمامًا، فخسرت القوانين مضاءها نتيجة تكاثرها و انحيازها و فساد المشرّعين لتعود الغرائز منفلتة و جامحة لتتفشى الجريمة و يستشرى الفساد و كسب المال بلا وازع من الضمير، على حدّ تعبيره.
.
و الحال أنّ هذه الصفّات لم يستطع ان يتخلّص منها البشر، و لا زالت إلى يومنا هذا تحكمهم بصورة أو أخرى، فـ«الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى» على حسب تعبير العلامة الطباطبائي رحمه الله. و على هذا الأساس كلما توغّل الناس بإنسانيتهم شعروا بالإغتراب و الإختناق، فهم يضعون القوانين ليكسروها، و يشذبوا الغرائز ليطلقوها أشدّ مما كانت. شعورهم بالنقص الناتج من الإغتراب يدفعهم إلى صنع الأبطال و إلى إعطائهم هالات قدسيّة تغطيهم، حتى يضعوا لأنفسهم أمثلة يعتبرونها نجومًا ذهبيّة على صفحات الإرث البشري، يتطلعون لها!
.
كان الأنبياء و المرسلّون غاية كمال الإنسانيّة، مثال الصفاء و النقاء و الطهارة، أبطال التاريخ الحقيقيين، و لكنّهم بدلاً من أن يوضعوا في أماكنهم العاليّة، و أن يصبحوا هذه النجوم الذهبيّة للبشر، قُتلوا و عذّبوا و شردوا، في أوضح مثال على التعامل البشري مع ما يُعارض هواه!
.
قتلوهم، و عذّبوهم، لأنهم يمثلون حالة معاكسة للطبيعة البشريّة التي اعتادت على أن تكون مستعدة للقتال على الدوام حرصًا على مكتسباتها الأنانيّة. إنّ وجود مثل هؤلاء الأنقياء هو خطر عليهم، لأنه يشير إلى مكمن الخلل فيهم، و يفرض عليهم أن يلتزموا بقواعد أخلاقيّة مزعجة لهذه الطبائع 'الشـرسـة'، لذلك فضّلوا أن يصنعوا أبطالاً مما يحبّون، و لأن «الحب المشاكلة» كما يقول الشيخ الرئيس، كان الأبطال على شاكلة هؤلاء: الحجاج و صدّام و ابن عقبة و المتوكل و جنكيز خان ولينين و بني أميّة و بني العبّاس و الآلاف المؤلفة من الشخصيات التي تنحني لها الرؤوس اليوم لأنّ (ذواتها المقدسّة!) تزخر بالدماء و استعمال القوّة و اللصوصيّة، و تبرر للإنسان استماعه لصوت وحشيّته و غرائزه، و تدغدغ تلك (الأنا) الأنانيّة في ذاته، فعظمّوها و جعلوا منها (أساطيرًا للأبطال الخارقين) الذين يتم التطلع لهم كمُثل عُليا.
.
القلب الذي يتطلع للطهارة لا يمكن له أن يصل لها و هو يلوث نفسه بالنجاسة، كان 'عـلـيّ' الصفة المعاكسة للنّاس، فانفضوا من حوله، و تركوه دون أن يفهموه، لأنّ صرامته و عدله أقسى من طبيعة الإنسان، التي ترفع راية العدل، لتغمض عينيها عن العهر الذي يُمارس باسمها، همّشوه و أداروا ظهرهم له، جعلوه كواحد من أولئك الدراويش على هامش التاريخ خوفًا من الروحيّة التي يشعها، و لاحقوا أبنائه حتى صاروا بين سجينٍ و مشرد و شهيد.
.
أن يعيش الإمام عليه السلام زاهدًا كما يقول شريعتي «الزهد من أجل أن يبقى الإنسان خفيف المؤونة، و من أجل ضمان لقمة الناس و اقتصادهم و من أجل العدالة، أن لا يكون عنده شيء يخشى عليه و لا يخاف فقدانه، فيضطر إلى المساومة و المراوغة و التحفظ» و هو يقول «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه»، لا يناسب زهد البشر ممن تعاف انفسهم الدنيا لأنها ليست بأيديهم، و ليس لأنهم لا يطلبونها.
.
أن يأتيه رجل يسأله مبلغًا من بيت المال، فيلتفت له قائلاً: خذ بيدي إلى سوق الصيارفة و مُرْني أنْ أسرق لك أحدهم!
حتى يبيّن له عظيم ما يسأله: أن يسرق صيرفيًا فهو يسرق (فردًا) يطالبه لوحده، أمّا أن يأخذ من بيت المال دون وجه حق فهو يسرق (أمّـة) بأكملها، بما في ذلك حق الجنين في بطن أمه، و كلهم سيُطالبوه! .. أين هذا مما يجري عندنا اليـوم!

.
في يوم الجمل، أتاه أعرابي فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنّ الله واحد ؟
في وسط المعركة، يتوقف النّاس ليسمعوا مثل هذا السؤال! لم يصدّقوا فحملوا على الرجل : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم *.
.
الإنسانيّة: هي المبادئ التي تكوّن الضمير الأخلاقي، و المبدأ لا يتجزأ في سلم أو حرب، لم يكن من الغريب على رجل مبدئي أن يكون موقفه هكذا، القتال ليس غاية، و المُلك ليس غاية، و لا السلطة غاية، فهذي «أهون في [عينيه] من عِراق خنزير في يد مجذوم»، إنّما الغاية مبدأ هي « أن أقيم حقًا أو أدفع باطلاً» ** .
.
« مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ »، إن قلبًا يتطلع نحو عليّ لا يجتمع فيه تعظيم 'نقائص البشريّة' مع كمالاتها، أمة تملك 'عـلي' ثم تقدس طغاتها، لا تستحق الحياة! «عليٌّ إنسان من ذلك النمط الذي كان ينبغي أن يوجد و لا يوجد»، أن يوجد ليعطينا التمثـّل الوجودي (للأسطورة الخالدة)، و أن لا يوجد لأنّ عادة البشر جرت على قولهم: لا كرامة لنبي بين قومه!
.


السلام عليك يا أوّل مظلوم .. وإنّا لله و إنّا إليه راجعون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في كتاب التوحيد، للشيخ الصدوق رحمه الله :
عن شريح ابن هاني، عن أبيه قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد ؟
قال: فحمل الناس عليه قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ !
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم،

ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه: فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة.
وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه، لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى.
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل.

** في نهج البلاغة :

عن ابن عباس (رضي الله عنه): دخلتُ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟

فقلتُ: لا قيمة لها!

فقال (عليه السلام): واللّه لهي أحب إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلا.

3 سبتمبر 2009

شعوب الرمـز الأوحد

أذكر صحفيًا مصريًا معروفًا دشّن حملة هوجاء على سوريا بعد استلام بشار الأسد لرئاسة الجمهورية خلفًا لوالده الراحل، بعد أن قرر مجلس الشعب الإنعقاد استثنائيًا لتعديل الدستور السوري حتى يمكن له استلام المنصب الذي خُيّط على مقاسه. هجومه تناول بشكل مباشر و فادح ما سمّاه بالمسرحية الهزليّة التي جعلت من جمهوريّة و شعب يتحول إلى كومبارس لا يملك قرارًا.
.
هذا الصحفي نفسه، سبحان الله، وجدته بعد ذلك بسنوات قليلة يكتب مدافعًا عن 'نظريّة' التوريث هذه، و لكن هذه المرة لجمال مبارك في جمهورية يفوق عدد نفوسها الثمانين مليونًا. كان التحوّل على قدر مرارته مضحكًا، انتقل خطابه من استهزاء بما حدث في دمشق، إلى استجداء حدوثه مجددًا و لكن بصيغة قاهريّة و صورة مصريّة.
.
من السهل نقد الآخرين، و ذلك لأننا لا نعيش ظروفهم، لا ندور في الحلقة التي تحيط بهم، بمعنى آخر نحن كأفراد نراقبهم من بعيد، هذا البُعد يفسح مجالاً لأن ننظر للقضية بأكملها بتجريدٍ تام، فنحن لسنا طرفًا بها، قد تكون أحكامنا تبعًا لذلك قاسية نوعًا ما، و لكنها كذلك لأنها لا تمسّنا بصورة مباشرة. مقالات هذا الصحفي (الدكتور) من هذا الباب، من وحي دراسته و تخصصه و (بُعده) استطاع أن يطلق حكمه و هو حكم صائب بنظري، لكنه وقع بفخّ ما سمّاه كانط بـ(الرغبة الشخصية). حين أتى الدور عليه و بدأت القضيّة تمسه شخصيًا كان حكمه مشوشًا و لم يختلف تصرفه عن الذي عاب عليهم ذلك. نظريّة الزعيم الأوحد التي جعلها هذا الصحفي محورًا لسلسلة من المقالات شديدة اللهجة، و هو يهاجمها و يهاجم هيمنتها على العقول، وقف أمامها مطأطئ الرأس و هو يقبلها و يسوّغها تحت نفس المبررات التي عابها على غيره.
.
الخلل ليس في هذا الصحفي و أمثاله، فهو نتاج لبيئة تقوم على نفس هذا الفكر المزدوج، تطعن بالآخرين طالما أنهم بعيدون، و لا ترى أنّ ما تطعن به هو ذاته فيهم. تبحث عن الحريّة و التغيير و تنّظر عن الديمقراطية و التعدديّة عند الآخرين، وترفضها داخليًا طالما أنها ليست على مزاجها، لا تمانع في الوقوف على الخطوط الأولى و هي تسفه اختيارات شعوبٍ أخرى، ولكنها تتراجع للخطوط الخلفية و تدعي أن ما يُفرض عليها هو باختيارها، ليس حبًا بهذا الإختيار و لكنه 'تبريرٌ' سخيف للتناقض بين الشعار و التطبيق!
.
الشعوب المخصية تفعل هكذا مع قادتها، رموزها، رياضيّها، و حتى الفنانين و الممثلين فيها. هذه الشعوب تعيش تحت شعارات أنها في دائرة اهتمام هؤلاء، أنّهم مدينون بكل ما يملكونه لهؤلاء الذين 'يمنّون' عليهم بتعبهم، فهم لا يعتبرون ما يقومون به واجبًا بل تفضّل و تكرّم من هؤلاء عليهم. يحدث كثيرًا أن يشعر التلميذ بالإنجذاب لأستاذه، أو المريض لطبيبه، لأنّه يتوهم أن ما يقوم به هذا الأستاذ أو الطبيب دافعه هو الإهتمام الخاص به، أو كونه في محل عناية خاصة عنده بسبب القرب و الملازمة بينه و بين هذا الأستاذ أو الطبيب الذي قد يطلع بناءً على هذا الأمر على الكثير مما خفي عن الآخرين عند من يرعاه، بينما هذا الإهتمام ليس سوى اهتمامٌ مهنيٌ تفرضه طبيعة العمل، و لا علاقة له بأي شيء آخر.
.
هذه هي الحقيقة ببساطتها وضوحها فإنها مع ذلك قد تغيب عن النظر أو تستعصي على الفهم، و السبب هو أنها تسلب كل ما يتوهمه الإنسان من (خصوصية العلاقة) التي تجعل منه محور كل شيء، فلا يقبل بما يصوّره في ذاته و مشاعره بالبسيط*.
.
رغم كل شعارات الكراهيّة، و كل عناوين النقد و أصابع الإتهام الموجهة لهؤلاء الرموز يوميًا، فإنهم يملكون قداسة في نفوس الشعوب المخصية التي سرعان ما تتجاوز عن كل سيئاتهم، ليس لكونهم يقدّمون ما يشفع لهم أمام هذه الشعوب، و لكن لتحولهم إلى 'رمـوز' منادين بما تفتقده هذه الشعوب و حاملي لواء المطالبة بها.
.
في الواقع فإن أصحاب شعارات التغيير هم أكثر من يحارب التغيير الفعلي، لعلمهم بأنه لولا هذه المسرحيات التي يحبكونها، وهذه المطالبات التي يخدعون العوام فيها لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة. حركة التغيير في تاريخ البشرية مرتبطة بالأفراد عادة لا بالجماعات، فالأفراد القادرين على التغيير هم التهديد الذي يواجه هؤلاء و وأدهم لا يكون إلا بسلبهم 'إرادتهم' الوحيدة و هي التغيير و تزويرها و تحويل معناها إلى محتوى فارغ و اسم ذائع، إلى مجرد شعار تتناوله الألسنة يجعلهم يشعرون بأنّه حاجة ضروريّة و لكن واقع الحال أنه ليس هناك عمل جدّي لسد هذه الحاجة. و هذا ما يمارسه هؤلاء بكل صلافة، و يساعدهم على ذلك عقليّة المجتمع التي ' تـدّجنـت'، حتى باتت تبكي إذا مات زعيمها الأوحد و هي التي تلعن ظروف معيشتها التعيسة التي جرّها عليهم، و تنتحر لأن مطربها المفضّل مات، و تنتحب لأن نجمها الرياضي الأوحد اعتزل.
.
و السبب أنها لم تعرف معنى القوّة و لا معنى الإرادة، و لم تعرف معنى أن تعيش بإرادتها و أن تختار بإرادتها، و أنّها من تعظم الرموز، و ترفع الأبطال، لا العكس. فتوّهمت أنّ قوتها هي بوجود ذلك "الـزعيم الأوحـد" و أن عزّتها تتمثل بذلك الرياضي الأوحد و أنّ ثقافتها محصورة بتمثيل ذلك الفنان الأوحد، فحين ينتهون تبدأ البكائيّات لأن الحياة –كما يتصورها هؤلاء- لا يمكن ان تستمر بدونهم أو بمعنى آخر (لا يعرفون طعمها من غيرهم!). مثل الرضيع التي يبكي حين خروجه من بطن أمّه بعد أن تصوّره العالم الأوحد، و ما بعده عـدم.
.
رفض التغيير و محاربته، و الدفاع عن 'رموز' تدعي التغيير للأفضل و تطالب به و هي بمراكز السلطة منذ عشرات السنين دون فائدة، و إعلان الحرب على من يطالب بتغييرهم، و وصم هذه المطالبات على أنها نوعٌ من (الإفساد) و الإصطفاف بصفه، هو تدجين يقوم بدور التكفين للشعوب الميتة عمليًا، التي تكتفي بدور بسيط على هامش الحياة اليومية، و تتصور أنّ هؤلاء وحدهم القادرين على قيادة الأدوار الهامّة في حياتهم العامّة، و تخطيط مسيرها، و انهم يستحقون أن يعيش النّاس بـ"صـنميّـة" لأجلهم.
.
أكبر استخفاف بالبشريّة هو حين نطالب الآخرين بالتغيّر و نعجز عن تغيير ذواتنا، حين نضحك من اختيارات 'شعوب حرّة' لأنها لا تعجبنا، و نستغرب ممّا يغيّروه، و نحن - كشعوب - نعجز عن كسر صنم نصنعه بأوهامنا ثم نكعف عليه!
و هذا بالضبط ما مارسه ذلك الصحفي المحترم، و ما تمارسه معظم شعوب هذه المنطقة، التي تفتي بكل شيء إلا بما يمّسها و يمّس واقعها المؤسف!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*راجع: لـيـش مـعـقـد؟