6 نوفمبر 2014
29: عن اليوم الضائع
11 أكتوبر 2011
المحطة الثالثة
هي شيء من كل شيء أهتم به، ليس مطلوبًا مني أن أخصصها بباب معين سواء كان إسلاميًا أو سياسيًا أو علميًا أم أدبي، فكينونتي متعددة.
6 نوفمبر 2010
رؤى ربع قرن
«منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل. وها أنا ذا كلمة مبهمة، ملتبسة المعاني، ترمز تارة إلى لا شيء، وطورًا إلى أشياء كثيرة»*
فالرتابة فيها كالذبابة .. لا يقتلها إلا صفعة مفاجئة!
19 أغسطس 2010
شيء عن القراءة

.
وهذا الأمر، مجرّب، أقلّه بالنسبة لي. قد لا نلاحظ بعض الظواهر لاعتبار أننا مشغولون عنها بما هو أهم. من ذلك عدم قدرتنا على التفاعل مع كتاب ما، والذي قد يكون لمؤلف مشهور ومحبوب أو في موضوع يمس جانبًا من اهتماماتنا، ومع ذلك تظل هناك قوى خفية تجعلنا نستثقل هذا الكتاب. في ظل ما تفرضه الحياة علينا لا تكون هذه محطة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، ولكن منذ لَفتَ انتباهي لها، وأنا أرصدها بدقة، فقد تراجعت كل الاهتمامات خلف هذه.
حين نضع تركيزنا في شيء، فإن جميع ما نتصوره مهمًا ولا يمكن لحياتنا المضي دونه، ولأجله نهمل باقي الأشياء، يبدو ثانويًا. في هذا درس عنوانه: حب التظاهر بالإنشغال. أمّا لماذا؟ فسيأتي يومًا إن شاء الله.
.
هو نفسه أخبرني أنّ للقراءة عنده طقوس، حاولت أيضًا استقراء طقوسي في القراءة ولم أجدها. ولعل السبب هو كون الطقوس تتعلق بنا فقط، وليست مشتركة مع الكتاب، وتعني قدرتنا على اتخاذ الوضعية المناسبة لممارسة عملية «القراءة»: نقل الحروف المرسومة أمامنا إلى العقل وتحويلها إلى لوحات تعطي معانٍ مختلفة في الذهن.
.
كان سقراط يرى عملية «القراءة» على أنها مجرّد إعادة إحياء أو إيقاظ للحكمة الموجودة داخل الإنسان. وإذا كانت الحكمة عند اليونانيين هي الفلسفة، فقد نظم أبو جعفر الخراساني رحمه الله في القرن الماضي، 4602 بيتًا في أرجوزته يرد بها على من يدعي أنّ الحكمة هي الفلسفة، مستخلصًا إلى الحقيقة كما ذكرها: حكومة العقل والبرهان، تُقرر بما ورد في النصوص المعصوميّة.
.
والواقع أن هذه النتيجة صحيحة، بغض النظر عن الإتفاق أو عدمه مع مصداقها، إلا أننا نمارسها في كل مناحي الحياة بجعل مستند يمثل المرجعية لكل الأفعال والأقوال والأحكام، قانون المؤسسات في العمل، والقانون الجزائي في الدول، والأعراف في المجتمع، والنص في الدين، وما إلى ذلك. العقل كالفرس الجامح يجب أن يروض بالحاكمية. ومهما اختلفنا مع هذا الحاكم أو عارضناه، وجب تطبيقه وإلا اختل النظام وبانت الشطحات، وتهاوى كل شيء.
.
ولهذا السبب كنت، ولا زلت، أعتبر دعوى «العقل المجرد» نكتة لطيفة، لا أكثر، تحكي واقعًا موجودًا بالمخيلة، فللفلاسفة عقل، وللمتصوفة عقل، ولكل ملة وطائفة ومذهب وفكر عقل، يُعرّفه أصحابه كما يشاؤون، وكم من جناية، وجهالة، تُلصق بهذا العقل وهي نابعة ممّا سماه الدكتور گلشني: آثار الآيدلوجيا والاتجاهات الفلسفية. نفسها الآثار التي وصفها «فرانسيس بيكون» بالأصنام التي تجعل الشخص يؤوّل كل معرفة إلى ما يريده، فيصبح عقله أسيرًا لنفسه.
إن الإتفاق على المرجعية، أهم من اللغة، فهي التي توفر للبشر أرضية التفاهم. جميع المعارف والثقافات تصبح بلا فائدة أو قيمة أثناء الحوار أو النقاش أو حتى الإطلاع إذا كانت تستند إلى أحكام مختلفة. الأمور ببدايتها أكثر من نهاياتها.
.
القراءة بحد ذاتها متعة لا يضاهيها شيء، لدرجة أنها تستحق الحياة، كما قال مالكوم اكس: بإمكاني أن اقضي حياتي كلها بالقراءة. بشرط أن تكون بنقد، لا انقياد، و وعي لا توهم للوعي. فالعلم بالشيء يختلف عن الوعي به وإدراكه.
هذه كلها مجرد أفكار عابرة، مرّت بذهني وأنا استحضر الإجابة لأسئلة الفاضلة «ٵنثے ملآئكيـﮧ ~»، لعلَّ بعضها بحاجة للتوسع، وبعضها للشرح، وبعضها غير مفهوم أساسًا، على كل حال هي خلجة من خلجات النفس.
.أما إجابة الأسئلة فهي:
- ما هي كتب الطفولة التي علقت بذهنك؟
كتب كثيرة. لكن أبرزها رواية لأغاثا كريستي عنوانها بحسب الترجمة البيروتية الرخيصة في ذلك الزمن، «جزيرة الموت»، درسها الأوّل لي: الحقيقة قد تكون مخادعة.
.
- من هم أهم الكتاب الذين قرأت لهم؟
الأهمية هنا، أهمية نسبية، ولأنها لم تحدد بالنسبة لي أم للغير، فستكون الإجابة عامة.
تولعت لسنين بالمذاهب، فقرأت فيها الكثير ومكتبتي تحوي أكثر من كتب المذاهب المختلفة، فقرأت لأبرز من كتب فيها.
ثم تولعت شيئًا ما بالفلسفة، فقرأت فيها، بشقيها الشرقي والغربي، كثيرًا لأبرز مفكريها.
ثم انتقلت لعلم الإجتماع، والنفس، وعلى نفس المنوال.
لذلك لا يمكن تحديدهم بدقة، إلا بتحديد المجال بعينه.
.
- من هم الكتاب الذين قررت ألا تقرأ لهم مجددًا؟
إحدى آفات القراءة الكثيرة هي حفظ أسلوب وأفكار كاتب معين، بحيث تفقد المتعة لأنه بالإمكان التكهن بما يمكن أن يقال.
أنيس منصور أبرزهم.
.
- في صحراء قاحلة، أي الكتب تحمل معك؟
كتب الأحاديث. أجد فيها متعة وشحذ للذهن.
أحب أن أقضي أوقات فراغي في تصفحها.
.
- من هو الكاتب الذي لم تقرأ له أبدًا، وتتمنى قراءة كتبه؟
قرأت مقتطفات كثيرة للسيد الخوئي قدس سره، ولكني لم أقرأ كتابًا له، باستثناء بعض الفقهيات.
في الرحلة الأخيرة للعراق استطعت الظفر بكتاب كنت أبحث عنه منذ زمن طويل له، وحصلت عليه ولله الحمد.
كذلك كارل يونغ، قرأت مقالات كثيرة له، ودرست بعض نظرياته، وأتمنى أن أقرأ كتبه، وهو المشروع القادم بإذن الله. ولدي عدة مقالات وكتب في المسيحية للمرحوم البلاغي لم أقرأها حتى الآن، وباستثناء بعض أشعاره، لم أقرأ له شيء.
.
- ما هي قائمة كتبك المفضلة؟
كتب الأخلاق وعلى رأسها سفر نفيس اسمه (جامع السعادات)، وعلم الإجتماع.
.
- ما هي الكتب التي تقرأها الآن؟
التدين والنفاق بلسان القط والفأر، للعلامة البهائي ( بهاء الدين العاملي) قدس سره.
اختلال العالم، لأمين معلوف.
وأتصفح بعض البحوث الفكرية، والإعتقادية.
.
تبقى نقطة أخيرة أشير لها، وهي أن لكل شيء آفة، وآفة القراءة شيئان متحدان: النسيان والذاكرة الضعيفة، وكلاهما أعاني منه.
ولولا الأوراق الصغيرة، لما بقي شيء في ذاكرتي ممّا أقرأ أبدًا.
والأسئلة موجهة للجميع، لمن يشاء الإجابة عنها.
18 يونيو 2010
شيء عن ومن الذكريات

لا نمتلك لحظة الذكريات، بل تملكنا. لا نستطيع أن نجبر أنفسنا على عدم التذكر حين نمر في مكان كتبت فيه بعض سطور حياتنا. كما تمر على بستان في الخريف فتشم آثار الربيع فيه، كذلك هي تلك الأماكن التي تعيد نشوة زمن مضى، أو أحزانه. لا تملك المشاعر عقلاً تجعلها تعيد تصوير المشاهد كما تريد، لكنها تملك قوة لأن تدس بعض هذه المشاهد في زوايا ضيقة من الذاكرة بحيث لا نستطيع أن نستعيدها إلا بأن نمر في نفس تلك اللحظات مجددًا. كحبات الرمل الناعمة، ينزلق الزمن من بين أصابعنا فلا تبقى إلا خشونته كذلك هو يرسم علاماته، أو يضعها ولا نملك أمامها إلا التسليم، والإذعان.
.
كل البشر يخوضون يوميًا مئات الحروب 'الدونكيشوتية' ليحاربوا طواحين الذكريات، لعلهم يتخلصون من هذه الأحمال التي أثقلت ظهورهم، لكنهم لا يعلمون أن الذكريات لا نعيش معها فقط، بل تعيش فينا، وإذا استطعنا أن نخاصم أنفسنا استطعنا أن نتخلص منها، وحده الموت هو الذي يرسم حدود الهدنة ما بيننا وبين ذكرياتنا. يعتقد الكثيرون أنّه بإمكاننا أن نهزم ذكرياتنا، وإذا فشلوا بذلك آمنوا بأنهم مهزومون، تمثل هذه قمة الأوقات العصيبة عند الإنسان، حرب تخوضها نفسه بالإنابة عن نفسها. ليست كل الحروب قابلة لتحقيق النصر فيها، ثمة حروب يجب أن تخوضها، لمجرد خوضها. «رغم أنني مررت بكل ما أنا فيه الأن، غير أني لستُ نادمًا على أية صعوبات قابلتها، لأنها هي التي جلبتني إلى هذا المكان الذي أردت أن أصله. والآن كل ما أملكه هو هذا السيف، وأنا أعطيه لكل من يرغب مواصلة رحلته. إنني أحمل معي علامات المعركة وندوبها، إنها الشواهد لما عانيت، والمكافآت على ما فتحت».
.
الماضي ليس وقتًا كميًا، ليس ساعاتٍ، أو سنوات، أو أيام. الماضي هو صندوق تدخله من طرفٍ، لتخرج من الطرف الآخر له وأنت معجون بآلاف التأثيرات التي تعطيك الإجابة عمّن أنت؟ .. "من أنا؟ فأنا أنتظر الأكثر جدارة، وأنا لست جديرًا حتى أن أموت من أجله."، بعضنا يعيش هذه الحالة، ينتظر تلاشي الذكريات، وبعضنا يعيد إحيائها في كل لحظة لأنه لم يستطع أن يوجد ما هو أحسن منها، في كل الأحوال تبقى مندسة لتقفز في اللحظة المناسبة، في الوقت الذي يغلب فيه الظن بأنها اختفت وأن الإنتصار على بروزها الدائم قد تم، فالعيش معها هو إنهزامية تضفي الخجل، خجل من الحنين الدائم للماضي، أو من الهروب المتسرع إلى المستقبل.

.
«عليك أن تصبح طفلاً كي لا يزعجك الخجل» هكذا قال الحكيم ذات مرة. الطفولة لا تعود، ولكن الرغبة بها تعود، الطفل لا يعرف المجاملة، ولا الخجل فهو صريح إلى أقصى درجة، ولهذا يحنّ كل إنسان إلى طفولته، إلى تلك البراءة والمباشرة التي افتقدها، إلى عدم الخجل مما يريد، وما يرغب، وما يبحث عنه. لا أعلم ما حدث، لكني أعلم أن تلك اللحظة جرتني إلى الطفولة، لم تعد إليّ مجرد ذكريات حسبتها طويت، بل أحيتها فيّ للحظات.
.
لكل يوم من أيام الأسبوع، طعم وشعور، يوم خفيف وآخر ثقيل، لم يكن الناس يستسيغون الجمعة فهو أثقل أيام الأسبوع، ولكن هل رأيتم يومًا بدايته ثقيلة ونهايته خفيفة؟ على غير العادة، كان الجمعة كذلك عندي. يبدء يومًا ثقيلاً فصباحه آخر صباح في العطلة، وينتهي خفيفًا، يحكى أنّ أحدهم سأل آينشتاين مرة عن النسبية، فكان جوابه: إن الساعة التي تقضيها مع إمراة قبيحة تشعر بها كالدهر، والساعة التي تقضيها مع إمرأة جميلة تمر كدقيقة. ربما، يقدم هذا المثال اجابة سؤال: لماذا ينتهي ذلك اليوم خفيفًا؟ لا زلت أذكر أنني سمعت باسم «محمد بن الحنفية» لأول مرة في ذلك اليوم، ولعل ذلك يرجع لأنها الجملة العربية الوحيدة التي فهمتها، بالنسبة لطفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، ليس من اليسير عليه أن يلتقط جملة مفيدة من محاضرة طويلة بلغة غريبة عليه حينها.
.
كان إمام المسجد رحمه الله- شيخًا مسنًا، منبره على يسار المحراب، عدة درجات في نهايتها مقعد صغير من الخشب القديم المغطى بقطعة من القماش الأسود، بينما ظل المحراب أبيض اللون كلون الحيطان التي امتزجت بلون السجادة الخضراء التي بدت وكأن خيوطها قد ألقت بظلالها على الحوائط. الباب من الحديد المصنوع يدويًا عند أحد الحدادين، بعد الدخول منه ستصادفك على اليمين دورات المياه، وخارجها محلات الوضوء، وبظهر المتوضي تبقى إحدى أجمل المكتبات التي ارتبطتُ بها، كانت مساحتها صغيرة لدرجة أن متوليها بالكاد يكفيه المكان داخلها ولكني كنت أراها عظيمة. يُقال بأن أعيننا لا يتغير حجمها منذ الولادة، وهذا صحيح، فإن الأشياء هي التي تكبر وتصغر بقدر تأثيرها، وتأثرنا بها.
.
مغرب كل يوم جمعة هو الموعد الحقيقي لابتدائه، كانت الصلاة بهذا المسجد الصغير المختبئ وسط الشجيرات طقس لا يكتمل هذا اليوم دونه، وثاني الطقوس كنت أحضره متفرجًا لا أفهم معظم الحديث الذي يدور بين الرجال، كل ما أتذكره هو أنه بكل أسبوع كان «خالد خلف» المحامي يلفت ناحيتي قائلاً: "كله من يدّك! قص على أبوي وخلاه يتزوج هندية معاه" ثم يضحك وهو ممسك بسيجاره الكوبي خلف مكتبه، المكتب الذي يقع تحته واحد من أشهر مطاعم الكويت .. (نــوارة)!
.
لا أظنها صدفة أبدًا، أن أقف بالأمس على أطلال ذلك المسجد الصغير في شرق، الذي كان ينتهي مساء كل جمعة بنظرة لمأذنته الصغيرة وهي تتوارى من بعيد خلف الأشجار، بعد أن كان يبتدئ بالصلاة خلف إمامه المسن، وبين مقابلتي اليوم لمؤذن المسجد. أعادت رؤيته لذاكرتي عشرات الأوجه التي جرفتها الدنيا ولم اعد أراها، أو أضحت ضيفة تحت التراب، يبدو الخجل في أعلى درجاته الآن لأني وقفت حائرًا والذكريات تهاجمني من كل ناحية وأجد نفسي عاجزًا عن البوح بها كلها، ليس أسوء من الحديث سوى عدم القدرة عليه! كثيرة هي الأثقال التي تكبل الألسن وتسلب منا سرعة البديهة في الرد أو اتخاذ الموقف، ويهونها أنها أثقال مؤقتة إلا في مثل هذه المواقف حيث تعجز حروف اللغة الثمانية والعشرون عن تكوين كلمات تعبّر عمًا يجيش في الصدر، فنقف صامتين، ومتأملين، نتحسر على زمن الطفولة!
.
لست أدري ما الذي دفعني لأن أقود سيارتي إلى هناك مجددًا، لأقف على أطلال المسجد، ربما الشوق إلى تلك الأيام، أو الحنين إلى شعور الدفء الذي كانت تضفيه جدرانه على المصلين، أو الرغبة بالانعزال والهروب من البشر إلى الخالق عز وجل، أو لعلها الرغبة الجامحة في العودة إلى لحظات كان يجمع فيها المسجد أرواحًا ليست بيننا اليوم، وأفتقدها.
حاولت أن ألملم شتات ما بقي مندسًا بذاكرتي عن تلك الأيام، في بعض الصور، لعلها تعيد إحياء بعضًا من لحظاتي المندسة في جوانب الذاكرة.
غريب هو، كيف أنه بهدم شيء، تبنى صروح الذكريات، وكأنه درس من الحياة يعلمنا أنّ «هناك لحظات على المرء فيها أن يتصرف، ولحظات أخرى عليه فيها أن يتقبل».
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين الأقواس مقتبس من:
فارس النور، كويلو.
هكذا تكلم زرادشت، نيتشه.
1 نوفمبر 2009
1- بـوحُ العتاب في معرض الكتاب
أحب تأمّل المناظر وأنا أقود سيارتي، تستهويني الحدائق والمسطحات الخضراء بشكلٍ كبير، لا أعلم سببًا لهذا ولكن يبدو أنها موروثات جينية، وأوضح دليل هو أن مطاعم الكباب والباكه لا تخلو أبدًا من صورة لمنظر طبيعي لحدائق غنّاء (!)، شاهدت العديد من مداخل الحدائق لكن يلفت نظري بشكل عام تلك البوابات المكونة من الكونوكاربس وكيف يشذبها أصحابها لتكوّن جسرًا معلقًا يمر من تحته الداخلون. حبلٌ رفيع يربط في نهاية الشجرة الأولى أوّل ما تُزرع، ويُشدُّ بنهاية الشجرة الثانية المزروعة للتو، ومع مرور الأيًام تلتحم الشجرتان لتكوّنا مدخلاً كما أراده وتصوره صاحب الحديقة.
شهر نوفمبر من كل عام، تتجدد فيه مناسبتان الأولى أنه الشهر الذي أفقد فيه عامًا إضافيًا من عُمري، والثاني أنه الذي يذكرني بزيارتي للمعرض مع والدي رحمه الله. كان يفعل بي مثلما يفعل أولئك بالكونوكاربس، يربطني بحبل في كتب معينة لا يستخسر بها مالاً أبدًا، وفي نفس الوقت يرفض شراء بعض الكتب لي رغم أنّها كانت أرخص ثمنًا فاضطر لشرائها من مصروفي الشخصي. اليوم أقف شاهدًا وأنا أرى الحصيلة [1] على اللوحة التي أراد - رحمه الله - رسمها لي.
.
ممرات معرض الكتاب تعيد ذلك العبق لي، في بعض الأحيان القيمة الجمالية التي تملكها اللحظة في الذهن أكبر من آلاف اللحظات الجمالية التي يمكن أن نقتنصها في الواقع، لا زلت أشتري الكتب من المعرض، ولكنه شراءٌ لـ"تبرئة الذمة"، أصبح كأنه ديوانية رمضانية، تفتح أبوابها مرة بالسنة نسلّم ونستفسر عن الأصحاب الذين شغلتنا الحياة عنهم، ونستقصي أخبار من نفتقدهم أو فقدناهم.
هذه السنة، فقدت عدّة منهم، لم أشاهد الجناح الإيراني، هذه خسارة إضافية لمعرض الكتاب، عرجت على من أعرفهم في باقي الأجنحة، بطريقي أبصرت أحدهم، يا الله! عرفته قارئًا نهمًا، في مكتبته تجد كتبًا لا تجدها في أيِّ مكانٍ آخر، تأملت الشعيرات البيضاء التي غزت لحيته الخفيفة، وقطار الأبناء خلفه، وهو يحاول استرضاء هذه، ومتابعة ذاك، مَسح فم ابنته الصغرى من بقايا "البوظة" ..
- يقولون ما خليت لنا شي بالمعرض :)
أمسك رواية هي أشبه بـ (سوالف منتدياتية) اشتراها لابنته الكبرى، ملوحًا بها تجاه وجهي:
- آخر عمري اشتري هالخرابيط!
- ما عليه، المهم يقرون، إنتَ شخذيت؟
- ولاشي!
عرفت أن الكتب عنده صارت كأنها أكوام حجارة بجانب قسيمة انتهت للتو من البناء، مجرد تجمعات غير منتظمة الشكل في غرف المنزل، همّ البورصة اتعب قلبه، وبنيان البيت أخلى جيوبه، ومتطلبّات الأولاد جعلته يحمد الله إن استطاع أن ينهي قراءة جريدة.
حين عدت للبيت مع كتبي كانت أختي تزور أمي، سمعتُ التعليق المميز:
- فـراغة!
هذا التعليق إمّا أن يجري على لسان كل من يشاهد كتابًا بيدي، أو أنّه يفضل الإطلال برأسه من خلال تعابير وجه من (يخزني). أن تجلس بالقهوة لساعات وتدخن الشيشة فانت تملئ وقتك، أو تتابع فلمًا تلو الآخر فأنت تستفيد من وقتك، أو أن تقضي الساعات تتابع أخبار اللاعبين أو الممثلين أو أبناء وبنات العائلة والجيران والكويت والكرة الأرضية كلها، الأحياء منهم والأموات، فأنت تستغل وقتك، أما أن تمسك كتابًا وتقرأ فهذا إما أنه من زود الفضاوة أو فـراغة!
لا يهم، بتُّ أملك مناعة مكتسبة الآن تجاه هذه التعليقات، ومع هذا لا زلت أفكر من الفارغ، أنا أم النّاس؟
هل أقدم على ما أقدم عليه الملك وأشرب من نهر الجنون حتى لا أصبح العاقل الوحيد بينهم؟ هل يُعقل أن توفيق الحكيم اكتشفَ الحل المثالي؟ أن نصبح كلنا مجانين؟
أم لا، أحتفظ بعقلانيتي و إن كلفتني منصبي، على الأقل لستُ ملكًا لأخاف من إزاحتي، وهذه من فوائد كونك من الطبقة الكادحة.
من جانب آخر، ألا يُمكن أن أكون أنا المجنون وأولئك هم العُقّال؟ لا يوجد ما يمنع ذلك، المجانين دائمًا يتصورون أنهم أعقل النّاس، وأنّ العوام أقل من أن يفهموا كلماتهم، كان بهلول يدّعي الجنون، يضحك عليه الناس في زمنه، لكنّهم اليوم يقفون احترامًا لحكمته، ونفاذ بصيرته.. لو كان المجانين كلهم بهاليل، لكنّا نعيش في عالم جميـل.. بعيدًا عن زين العقلاء!
تذكرت الشيخ بهلول رحمه الله، وصفه والده بأنّه (بهلول) أمام قائد الشرطة ليخلص نفسه من تبعات أفعاله، نسى الناس اسمه وتذكروا لقبه، رغم أنه قاد ثورة لازال التاريخ يذكرها بإجلال.
« إنني أحب الشجعان، ولكن لا يكفي أن تكون مقاتلاً شجاعًا يستخدم السيف القاطع، عليك كذلك أن تعرف من تقطعه بسيفك!» [3]
.
وللحديث - إن شاء الله - بقيّة ..
_____________
[1] ما ترونه في الصورة من كتب مستلقية على سطح المكتب.
28 سبتمبر 2009
جريمة في مطعم باكه

.
ملاحظة: البريد الإلكتروني لمطعم باكه، اللي يعني صايد الحركة و شاله من المدونة موجود عندي، لذلك فإن لم أشاهد تراجعًا و إنسحابًا منه عن موقفه خلال 72 ساعة، فإنني سأرتكب جريمة تضاف لسجلّي الإجرامي في "الدعـوة إلى التشاؤم"، بنشر بريده الإلكتروني للجميـع :).
بعد استجابة مطعم باكه لنداءات الشعب، تم سحب التهديد .. ودمتم بخير :)