.. يسليه بوحدته .. التي طالت ..
وحيدًا .. يجرف بسيل صبره .. نشارة همومنا ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نهج البلاغة الخطبة الثالثة، المعروفة بالشقشقية.
[3] نهج البلاغة الخطبة 200.
لا أعلم كم وصل عددها إلى الآن، لكن من المؤكد أنها تعدت حاجز العشرة، مرة تلو الأخرى يُطرح ذات السؤال وكأنه كُتب عليه ألاّ يقنع بإجابة أبدًا، ما هي طقوسك في شهر رمضان؟
.
يحب الناس أن يدسّوا أنفسهم في مقارنات مع غيرهم. لا يريد السؤال إجابة لأنه لا يبحث عنها، بل يبحث عن معرفة ما تمارسه في هذا الشهر الفضيل ليتم إدخاله في أحد جداول المقارنة مع ما يمارسه الآخرون، ومن خلال ذلك، وبكل بساطة، يتم التخلص من الشعور بذنب التقصير حين يُتصور التفوّق لطرف على حساب آخر.
.
نحصر أنفسنا في خيارين، نتصور التضاد بينهما لأننا لم نعرف التوفيق بينهما ولم نفهمها جيدًا، بين الدين والدنيا، وحين نرى الآخرين لا يقدمون على فعل ما نفعله نشعر بالرضا لأننا كفرنا عن ذنوبنا وبتنا أكثر إيمانًا. مصيبة هذه المقارنات أنها تقدم المبررات لكل شيء، وتجعلنا ننجر للتهوين بلا مبالاة، وتمتلئ نفوسنا بالكدورات دون أن نشعر. فنقدم جميع الأعذار لتبرير تقصيرنا وتهوينه، بمقارنته مع تقصير الآخرين.
.
ليس أسهل من أن نتصور أفضليتنا لمجرد أننا صلينا ركعتين أكثر من الآخرين، أو قرأنا جزءًا قرآنيًا إضافيًا، ولا أيسر من اعتقادنا بأفضليتنا لمجرد أننا لم نرتكب جرمًا ما ارتكبه الآخرون. فـ"على الأقل ما سويت اللي سواه فلان"!. هذا الدس للنفس بين خيارين هو كذب عليها، نوع من الكذب الذي يبحث عنه، فالإنسان المملوء بالنواقص لا يحب أن يستمع لمن يشير إليها، لذلك يفضل المدح على الذم و إن كان كذبًا لأنه يمثله بصورة الكمال، بعيدًا عن نواقصه و سوء طباعه.
.
وهكذا بدأ العجب في نفوس البشر، منذ الخليقة، يستتر تحت السلوكيات المخادعة.
.
لا أظن أن طقوس شهر رمضان الخاصة يمكن تعميمها، ولا تفيد معرفتها، لطالما كان اعتقادي أنها تفقد كل معانيها إذا خرجت من كونها حالة فردانية إلى طقوس جماعية. فهي مثل العرفان والتصوف حالات روحانية فيها إشاراتٌ وتنبيهات، وعوارض تعرض على النفس فتحولها من حال إلى حال، لتصل بها إلى الاستكمالات الجوهرية، كما وصفها صدر المتألهين رحمه الله.
.
ليست الطقوس الجماعية إلا جزءًا يربط ما بين هذا العالم الخارجي، وما بين العالم الداخلي. هي جسر للتناغم بين العالم الذي يحيط بنا، والعالم الذي يعيش داخلنا، فهي المدرج، الذي تعرج به النفس من ارتباطها الدنيوي إلى ملكوتها الأخروي، ومن ثمّ يكون المسير منوطًا بطقوس الفرد وحده.
.
«معظم من تحت الأرض كانوا يظنون أن برحيلهم سيتوقف العالم»*، ولم يتوقف جريان العالم على أحد. أعتقد أن أحد عشر شهرًا من كبت أصواتنا لحساب أصوات الآخرين، واستعارة كلماتهم، ومتابعة أفعالهم، ومن عيشنا لأجلهم لا لأجلنا .. يكفي. ويأتي الدور في هذا الشهر لنستمع فيه إلى صوتنا، وإلى خطاب ذاتنا المنسية وسط أكوام الحياة اليومية التي نعيشها وسط النفوس الشهوية، والنفوس الغضبية، والشيطانية، وكل همها إرضاء الشهوات، وتلبية رغبات القهر والإنتقام، بالمكر والشر.
.
نحاول التخلص من هذه القبائح كلها بأن نخدع ونناور أنفسنا بوضعها قبال الآخرين، الأقل منّا غالبًا، ولا نفكر بأن نضعها أمام الأفضل منّا، خشية من اظهار عيوبنا.
.
هذا الشهر هو فرصة، للتعرف على نفوسنا. للعودة إلى الذات وإعادة اكتشافها، هذه الذات التي فقد الاتصال معها طوال السنة، وطمرت تحت شتى أنواع الكدورات مستترة بعناوين مختلفة: مداراة الآخرين،و تتبع هفواتهم. ومحاكمة السياسيين، والبحث عن تصريحاتهم، والتشكي من ردود الفعل تجاهنا، والتذمر من كل شيء حولنا، من الطعام إلى الطقس إلى العمل وحتى ممن يتقاسمون معنا هموم اليوم.
.
دون إلتفات إلى أن الاهتمام بأسرار الغير، يغمض العين عن أسرارنا، وبحثنا عن نقائص الآخرين، يجعلنا نهمل نقائصنا، وشيئًا فشيئًا نفقد الارتباط مع نفوسنا، ونكتفي بظواهر سلوكنا، ونعتقد أن السلوك وحده يمكن أن يبرر لنا كافة خطايانا، لأننا لم نعد نتعرف على ذواتنا، ولم نعد نعرف عيوبها، التي اندست تحت أقنعة مختلفة لتصيبنا بالإزدواج.
يُحكى أنه « كان لمعلم مئات التلاميذ، يصلّون جميعهم في الساعة المحددة باستثناء واحد يكون ثملاً طوال الوقت.
في أحد الأيام شعر المعلّم أن ساعته اقتربت، فدعا السكير ونقل إليه أثمن معارفه ممّا أثار سخط الباقين، فاحتجوا قائلين:
يا للعار! لقد ضحينا بأنفسنا من أجل معلّم معتوه يعجز عن الإقرار بمزايانا.
فأجابهم المعلم:
كان عليّ أن أكشف عن أسراري لرجل أعرفه حق المعرفة. أولئك الذين تبدو عليهم التقوى، غالبًا ما يستتر فيهم التكبّر والأنانيّة والتزمت. ولهذا السبب اخترت الرجل الوحيد الذي يُظهر عيبه علنًا: عيب الثمالة.»**
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كلمات الإمام الخميني - أنقلها بالمعنى بحسب ما علق بذاكرتي.
** كويلو، مكتوب، 143.