30 أغسطس 2010

وحـيدًا

وحيدًا .. يأبى الاجتماع، يسير بهدوء وكأنه لم يخلق للدنيا ولا هي خُلقت له، يقطع غابات النخيل بصمت، ويدفن في تربتها الحمراء أنينه المستمر.


هطلت دموع السماء، نزلت قطرات، وتحولت إلى نهر حفر طريقه بالحزن والشجن، تسكن الضباع "حويجاته".. يمضي صابرًا .. ومن بطنه يُطعم السكان حوله وعلى ضفافه يتباطئ .. يسمع شكواهم .. يناجونه .. يضم نجواهم لصدره .. ويكتم آهاته العبرى في قلبه .. ويسير..


مع مطلع كل يوم، تعير الشمس أشعتها له، يصبغ بها صفحته الزرقاء، تظهر رقراقة، وبكل جبروتها تبدو منكسرة. .. يبحث عن غابة نخيل جديدة، يتوارى خلفها .. يقطع نفسه قطعًا خفية عن أعين الناس ..ويبث روحه تجاه ذلك «البحر» .. يزوره كل يوم .. يجد فيه السلوى .. يعلم أنّ همومه .. وما يحمله .. تصل عنده .. سيعالجها ويتكفل بها .. سيحنو على أصحابها .. وبقلبه الكبير .. سيجد مكانًا لهم كلهم ..



يرى «بحر النجف» .. تستقبله أشعة النور المنعكسة من القبة البيضاء.. يطأطئ الرأس .. يدخله منكسرًا .. .. ينساب برويّة .. يثني ركبتيه .. ويشكو دهره .. لمن شكى من صبره الدهر!



كم أغبط هذا .. الـفـرات.. يصل إليه كل يوم ..


.. يسليه بوحدته .. التي طالت ..

وحيدًا .. تؤلمه الصباحات وهو يرى تراثه نهبًا، فيسدل ثوبه عنها، ويطوي عنها كشحًا، ويصبر و"في العين قذى، وفي الحلق شجًا على طول المدة وشدة المحنة" [1]، ولا من معين ..



وحيدًا .. " وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضـاً على لحيته، يتململ تململ السـليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقـول: يا دنيا غري غيري.. إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت؟



هيهات هيهات!



قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعمرك قصير، وخطؤك حقير.



آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق." [2]



وحيدًا .. كصباحٍ تاه بين قطع الليل المظلم، منحيًا، يحثو على قبر حبيبته التراب، ولا مُعزٍّ أو ناصر، يناجي أبيها بالآلام: " أما حزني فسرمَدٌ، وأما ليلي فمُسهّدٌ، إلى أن يختارَ الله لي دارك الّتي أنت بها مقيم. وستنبئك ابنتك بتضافر أُمتك على هضمها، فأَحْفها السُّؤال، واستخبرها الحال.



هذا ولم يطل العهدُ، ولم يخل منك الذِّكرُ، والسلام عليكما سلام مُوَدِّع، لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرفُ فلا عن ملالة، وإنْ أُقِمْ فلا عن سوء ظنٍّ بما وعَدَ الله الصابرين "[3]



وحيدًا .. استضعفه القوم، وتناهشوا أمره، وكادوا يقتلون، نهض بهم "فنكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} بلى والله لقد سمعوها و وعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"[4] ..



وحيدًا .. ضاع بين جهال. يصيح فيهم أسفًا: "لله أنتم! أ تتوقعون إمامًا غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟"[5].. ولا من مجيب .. أو معتبر ..



وحيدًا .. يرى نفسه كنخلة أجدب ما حولها، باسقة تؤتي ثمارها، فتلتقطها الأرض الجرداء، لتواسيها عن عزوف الناس عنها.." أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذوالشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، وأُبْرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟"[6]



وحيدًا .. يناظر السماء، يخاطب سوادها .. يحدثه عمّا يكون، ويأنس بوحشة الليل .. يتأمل ظلمته .. ينشغل باستغفاره .. ويقطعه صياح إوزّ، يراهنّ: "صوائح تتبعها نوائح"[7]



وحيدًا .. يضمّه الباب .. يأبى رحيله .. يلف أذرعته حوله .. ويقطع حزامه .. فينحلّ مئزره .. يخاطب الباب " اشدد حيازيمك للموت.. فإنّ الموت لاقيكَ



ولا تجزع من الموت .. إذا حلّ بناديكا.."



وحيدًا .. في المحراب .. يناجي ربه ..يطلبه .. فيرحل إليه .. مخضبًا بدمائه ..


وحيدًا .. "أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة"[8] ..

وحيدًا .. يجرف بسيل صبره .. نشارة همومنا ..

السلام عليك يا أبا اليتامى والمساكين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] نهج البلاغة الخطبة الثالثة، المعروفة بالشقشقية.

[2] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج6.


[3] نهج البلاغة الخطبة 200.


[4] نهج البلاغة ص 56.

[5] نفس المصدر، خ 180.


[6] نقس المصدر أعلاه.

[7] منتهى الآمال، ج1.

[8] صحيح البخاري، ح 3965.

26 أغسطس 2010

متفرقات



* 57 5860 كانت من الأرقام التي فازت بالسحب في الاحتفال بذكرى مولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، أمس.

بينما ظل الرقم 59 مطأطئ الرأس بيدي، عادت بي الذاكرة لحظتها إلى ذكريات الدراسة.

كان دومًا في منافسة حامية مع الآخر، ودائمًا كان الثاني. في رابعة متوسط انتقل الأول إلى مدرسة أخرى، فاستبشر خيرًا، رحل المنافس وبقي هو.

في نهاية السنة، أحد الطلاب المغمورين، وهذا من العجائب، بدأت تظهر عليه أمارات العبقرية فجأة فاقتنص المركز الأول!

ليقول لنا "المستبشر المحبط": أنا حتى لو أدخل منافسة مع نفسي، أطلع الثاني عليها!

بعضهم مكتوب عليه ألا يتعدى حدودًا معينة، مهما حاول أن يجتازها لن يستطيع، كأنه كتب عليه أن يعيش بالظل، ويتقبل الأمور كما هي، ينتظر أن تأتي إليه، ولا يستطيع أن يأتيها، ولسان حاله:

«ألبث في سكون، لا أفعل شيئًا .. الربيع يأتي، والعشب ينمو من تلقاء ذاته»[1]



* نظرة العقاد للمرأة، تستحق التوقف عندها لتأملها، من عباراته في وصفها أنها : مخلوق تابع لا متبوع.

يبدو أن حدود المرأة غالبًا لا تتعدى دائرة التبعية، وهذا ليس استنقاصًا لها، ولكن مجرد ملاحظة، ولعلّ التكوين النفساني لها يقودها إلى فعل هذا الأمر، ومهما حاولت أو حاول هذا العصر تذويب هذا الشيء، فإن الممارسة الفعلية تعود لتسلط عليه الضوء.

لا أريد التوسع في هذا الموضوع، قد يأتي وقته لاحقًا، إنما ما أود الإشارة إليه هو حدود قدرتها على صياغة فِكر منفرد. كما لا أود الخوض في جدال أكاديمي، على كل حال أتكلم هنا من باب المشاهدة الشخصية، وما دفعني لهذا هو حالة تكررت معي لمرات كثيرة.

زوجها رجل صاحب فكر غريب، وشهادة عالية، معروف بـ"أبو الشطحات" ولكن النقاش معه ممتع. عدة مرات تعيد زوجته طرح أفكاره كما هي بلسانها أمام الجميع، وحين أسألها عن دليل ذلك؟
يبقى السؤال بسطر فارغ تحته، دليل على الـ"لا جواب".
بعكسه هو الذي قد يشرّق ويغرّب، المهم عنده أنه تكلم وأتى بدليل ولو كان أضعف من جذع البقدونس!

هي، مثال بسيط، ومثلها الكثيرات مرّوا عليّ، على تذويب عقولهن في افرازات عقول الآخرين.
لماذا تذوب أفكارهن في أفكار رجالهن؟ ويعمدن إلى الإيمان بها دون أدنى نظر فيها؟

يقدّم فرويد إجابة، الأدب يحتم عليّ ألا أنقلها، وأكتفي بجزء يسير منها مسموح له بالنشر: لا تستطيع - أي المرأة- التأثير في أي شيء.



* حالة الإمعية، حالة يعيشها أشخاص كثيرون، عرّف صاحبها ابن منظور في لسان العرب بأنه: الذي لا رأْي له ولا عَزْم فهو يتابع كل أَحد على رأْيِه ولا يثبت على شيء[2].

فإذا كانت المرأة، مخلوق تابع. وللرجل قوامة. فإنّ الكثير من الرجال –للإنصاف- يتنازلون عن هذا الأمر ويدخلون في ركب «الإمعات».

قد نعجب بشخصية أحدهم، بكاريزميته، بكلامه المعسول، بقدراته الخطابية، ولكن لا يوجد ما يبرر اقتباس أفكاره والإيمان بها لهذه الأسباب وحدها.

«من قال لا أعلم فقد أفتى» ليس عيبًا أن نجهل شيئًا أو أشياءً، وليس عيبًا أن لا نملك ذهنًا حاضرًا أو سرعة بديهة في الإجابة، هذه أشياء يمكن معالجتها، ولكن من المعيب جدًا أن ندعو لفكر ونعتنقه ونحن لا نفهمه ولا نهضمه، ونعجز عن شرحه! ومن الأعيب الإنطلاق في إصدار الأحكام دون الوقوف على حقيقة ما يتم الحكم عليه!

أنا أستغرب ممن يدعو إلى فكر، أو رؤية جديدة، وهو يعجز عن شرحها، وبيانها، وإذا سألته حوّلك للآخرين، ويجعلهم يتكلمون على لسانه. هذه حالة إمعية بامتياز.

على الأقل المرأة تتكلم بلسانها!

ليست في مجال الفِكر فقط، حتى في الحياة اليومية لا يملك موقفًا محددًا {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [3]



* العيش في الظل، من الأشياء الممدوحة.

« إنّ قدرتم ألاّ تعرفوا فافعلوا.

وما عليك إن لم يثن عليك الناس؟ وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس؟ إذا كنت عند الله محموداً»[4]

ولكن ليس من معاني هذا الشيء أن يعيش "عقلك" في الظل أيضًا.في كل الأحوال يجب أن يكون الإنسان صاحب رأي وموقف وشخصية. أن تحب يعني أن تكره، وأن تؤمن يعني أن تكفر، وهذه بحد ذاتها مواقف قطعية.

تؤمن بشيء وتكفر بما عداه، تحب شيئا وتكره نقيضه «وهل الدين إلا الحب»[5]، وهو الحب الفطري: حبّ الكمال، تقترب منه وتبتعد عن النقصان.

هناك فرق بين ظل يعني انعدام الشخصية، وظل يعني عدم الرغبة بالظهور.

بين جعل النفس مجرد "سماعة" لا يصدر منها إلا أقوال الآخرين، وبين اجتناب الجدال والنقاشات الفارغة.
بين الصمت عن علم، وبين التكلم بجهل!

«الحكيم لا يتدخل في مسار الأشياء»[6]



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] لاو تسو. فيلسوف التاوية الصينية.


[2] لسان العرب، مادة : إمع.


[3] سورة النساء، 143.


[4] رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، بحار الأنوار ج 73.


[5] رواية عن الإمام الباقر عليه السلام، الكافي.


[6] لاو تسو.

19 أغسطس 2010

شيء عن القراءة

القراءة كالكتابة، لها مزاج خاص يحكمها، و وقت خاص يَأتي ولا يُؤتى، فقد تتزاحم الأفكار في الرأس ترجو الخروج، ولا تطاوعها اليد ولا تخضع النفس لكونها تعيش لحظة من لحظات الإدبار. قال لي ذات مرة بأنّ الكتب بالنسبة له كالناس، لها أرواح مجندة، كما أنك ترتاح لشخص لا تعلمه وتستسيغه، وآخر تراه لأول مرة و "لا تبلعه"، كذلك هو مع الكتب يألف يعضها، وبعضها لو انطبقت السماء على الأرض ما استطاع أن ينهيها، كأنه معها مغناطيس، قطبه السالب يواجه قطبًا سالبًا آخر، على قدر ما يتقاربان يتنافران.
.
وهذا الأمر، مجرّب، أقلّه بالنسبة لي. قد لا نلاحظ بعض الظواهر لاعتبار أننا مشغولون عنها بما هو أهم. من ذلك عدم قدرتنا على التفاعل مع كتاب ما، والذي قد يكون لمؤلف مشهور ومحبوب أو في موضوع يمس جانبًا من اهتماماتنا، ومع ذلك تظل هناك قوى خفية تجعلنا نستثقل هذا الكتاب. في ظل ما تفرضه الحياة علينا لا تكون هذه محطة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، ولكن منذ لَفتَ انتباهي لها، وأنا أرصدها بدقة، فقد تراجعت كل الاهتمامات خلف هذه.
حين نضع تركيزنا في شيء، فإن جميع ما نتصوره مهمًا ولا يمكن لحياتنا المضي دونه، ولأجله نهمل باقي الأشياء، يبدو ثانويًا. في هذا درس عنوانه: حب التظاهر بالإنشغال. أمّا لماذا؟ فسيأتي يومًا إن شاء الله.
.
هو نفسه أخبرني أنّ للقراءة عنده طقوس، حاولت أيضًا استقراء طقوسي في القراءة ولم أجدها. ولعل السبب هو كون الطقوس تتعلق بنا فقط، وليست مشتركة مع الكتاب، وتعني قدرتنا على اتخاذ الوضعية المناسبة لممارسة عملية «القراءة»: نقل الحروف المرسومة أمامنا إلى العقل وتحويلها إلى لوحات تعطي معانٍ مختلفة في الذهن.
.
كان سقراط يرى عملية «القراءة» على أنها مجرّد إعادة إحياء أو إيقاظ للحكمة الموجودة داخل الإنسان. وإذا كانت الحكمة عند اليونانيين هي الفلسفة، فقد نظم أبو جعفر الخراساني رحمه الله في القرن الماضي، 4602 بيتًا في أرجوزته يرد بها على من يدعي أنّ الحكمة هي الفلسفة، مستخلصًا إلى الحقيقة كما ذكرها: حكومة العقل والبرهان، تُقرر بما ورد في النصوص المعصوميّة.
.
والواقع أن هذه النتيجة صحيحة، بغض النظر عن الإتفاق أو عدمه مع مصداقها، إلا أننا نمارسها في كل مناحي الحياة بجعل مستند يمثل المرجعية لكل الأفعال والأقوال والأحكام، قانون المؤسسات في العمل، والقانون الجزائي في الدول، والأعراف في المجتمع، والنص في الدين، وما إلى ذلك. العقل كالفرس الجامح يجب أن يروض بالحاكمية. ومهما اختلفنا مع هذا الحاكم أو عارضناه، وجب تطبيقه وإلا اختل النظام وبانت الشطحات، وتهاوى كل شيء.
.
ولهذا السبب كنت، ولا زلت، أعتبر دعوى «العقل المجرد» نكتة لطيفة، لا أكثر، تحكي واقعًا موجودًا بالمخيلة، فللفلاسفة عقل، وللمتصوفة عقل، ولكل ملة وطائفة ومذهب وفكر عقل، يُعرّفه أصحابه كما يشاؤون، وكم من جناية، وجهالة، تُلصق بهذا العقل وهي نابعة ممّا سماه الدكتور گلشني: آثار الآيدلوجيا والاتجاهات الفلسفية. نفسها الآثار التي وصفها «فرانسيس بيكون» بالأصنام التي تجعل الشخص يؤوّل كل معرفة إلى ما يريده، فيصبح عقله أسيرًا لنفسه.
إن الإتفاق على المرجعية، أهم من اللغة، فهي التي توفر للبشر أرضية التفاهم. جميع المعارف والثقافات تصبح بلا فائدة أو قيمة أثناء الحوار أو النقاش أو حتى الإطلاع إذا كانت تستند إلى أحكام مختلفة. الأمور ببدايتها أكثر من نهاياتها.
.
القراءة بحد ذاتها متعة لا يضاهيها شيء، لدرجة أنها تستحق الحياة، كما قال مالكوم اكس: بإمكاني أن اقضي حياتي كلها بالقراءة. بشرط أن تكون بنقد، لا انقياد، و وعي لا توهم للوعي. فالعلم بالشيء يختلف عن الوعي به وإدراكه.
هذه كلها مجرد أفكار عابرة، مرّت بذهني وأنا استحضر الإجابة لأسئلة الفاضلة «ٵنثے ملآئكيـﮧ ~»، لعلَّ بعضها بحاجة للتوسع، وبعضها للشرح، وبعضها غير مفهوم أساسًا، على كل حال هي خلجة من خلجات النفس.
.أما إجابة الأسئلة فهي:
.
- ما هي كتب الطفولة التي علقت بذهنك؟
كتب كثيرة. لكن أبرزها رواية لأغاثا كريستي عنوانها بحسب الترجمة البيروتية الرخيصة في ذلك الزمن، «جزيرة الموت»، درسها الأوّل لي: الحقيقة قد تكون مخادعة.
.
- من هم أهم الكتاب الذين قرأت لهم؟
الأهمية هنا، أهمية نسبية، ولأنها لم تحدد بالنسبة لي أم للغير، فستكون الإجابة عامة.
تولعت لسنين بالمذاهب، فقرأت فيها الكثير ومكتبتي تحوي أكثر من كتب المذاهب المختلفة، فقرأت لأبرز من كتب فيها.
ثم تولعت شيئًا ما بالفلسفة، فقرأت فيها، بشقيها الشرقي والغربي، كثيرًا لأبرز مفكريها.
ثم انتقلت لعلم الإجتماع، والنفس، وعلى نفس المنوال.
لذلك لا يمكن تحديدهم بدقة، إلا بتحديد المجال بعينه.
وإن كان هنّاك كُتاب لا استغني عن كتبهم ومقالاتهم كالشهيد مطهري.
.
- من هم الكتاب الذين قررت ألا تقرأ لهم مجددًا؟
إحدى آفات القراءة الكثيرة هي حفظ أسلوب وأفكار كاتب معين، بحيث تفقد المتعة لأنه بالإمكان التكهن بما يمكن أن يقال.
أنيس منصور أبرزهم.
.
- في صحراء قاحلة، أي الكتب تحمل معك؟

كتب الأحاديث. أجد فيها متعة وشحذ للذهن.
أحب أن أقضي أوقات فراغي في تصفحها.
.
- من هو الكاتب الذي لم تقرأ له أبدًا، وتتمنى قراءة كتبه؟
قرأت مقتطفات كثيرة للسيد الخوئي قدس سره، ولكني لم أقرأ كتابًا له، باستثناء بعض الفقهيات.
في الرحلة الأخيرة للعراق استطعت الظفر بكتاب كنت أبحث عنه منذ زمن طويل له، وحصلت عليه ولله الحمد.
كذلك كارل يونغ، قرأت مقالات كثيرة له، ودرست بعض نظرياته، وأتمنى أن أقرأ كتبه، وهو المشروع القادم بإذن الله. ولدي عدة مقالات وكتب في المسيحية للمرحوم البلاغي لم أقرأها حتى الآن، وباستثناء بعض أشعاره، لم أقرأ له شيء.
.
- ما هي قائمة كتبك المفضلة؟

كتب الأخلاق وعلى رأسها سفر نفيس اسمه (جامع السعادات)، وعلم الإجتماع.
.
- ما هي الكتب التي تقرأها الآن؟

التدين والنفاق بلسان القط والفأر، للعلامة البهائي ( بهاء الدين العاملي) قدس سره.
اختلال العالم، لأمين معلوف.
وأتصفح بعض البحوث الفكرية، والإعتقادية.
.
تبقى نقطة أخيرة أشير لها، وهي أن لكل شيء آفة، وآفة القراءة شيئان متحدان: النسيان والذاكرة الضعيفة، وكلاهما أعاني منه.
ولولا الأوراق الصغيرة، لما بقي شيء في ذاكرتي ممّا أقرأ أبدًا.
والأسئلة موجهة للجميع، لمن يشاء الإجابة عنها.


11 أغسطس 2010

الطقس الرمضاني


لا أعلم كم وصل عددها إلى الآن، لكن من المؤكد أنها تعدت حاجز العشرة، مرة تلو الأخرى يُطرح ذات السؤال وكأنه كُتب عليه ألاّ يقنع بإجابة أبدًا، ما هي طقوسك في شهر رمضان؟

.
يحب الناس أن يدسّوا أنفسهم في مقارنات مع غيرهم. لا يريد السؤال إجابة لأنه لا يبحث عنها، بل يبحث عن معرفة ما تمارسه في هذا الشهر الفضيل ليتم إدخاله في أحد جداول المقارنة مع ما يمارسه الآخرون، ومن خلال ذلك، وبكل بساطة، يتم التخلص من الشعور بذنب التقصير حين يُتصور التفوّق لطرف على حساب آخر.

.
نحصر أنفسنا في خيارين، نتصور التضاد بينهما لأننا لم نعرف التوفيق بينهما ولم نفهمها جيدًا، بين الدين والدنيا، وحين نرى الآخرين لا يقدمون على فعل ما نفعله نشعر بالرضا لأننا كفرنا عن ذنوبنا وبتنا أكثر إيمانًا. مصيبة هذه المقارنات أنها تقدم المبررات لكل شيء، وتجعلنا ننجر للتهوين بلا مبالاة، وتمتلئ نفوسنا بالكدورات دون أن نشعر. فنقدم جميع الأعذار لتبرير تقصيرنا وتهوينه، بمقارنته مع تقصير الآخرين.

.
ليس أسهل من أن نتصور أفضليتنا لمجرد أننا صلينا ركعتين أكثر من الآخرين، أو قرأنا جزءًا قرآنيًا إضافيًا، ولا أيسر من اعتقادنا بأفضليتنا لمجرد أننا لم نرتكب جرمًا ما ارتكبه الآخرون. فـ"على الأقل ما سويت اللي سواه فلان"!. هذا الدس للنفس بين خيارين هو كذب عليها، نوع من الكذب الذي يبحث عنه، فالإنسان المملوء بالنواقص لا يحب أن يستمع لمن يشير إليها، لذلك يفضل المدح على الذم و إن كان كذبًا لأنه يمثله بصورة الكمال، بعيدًا عن نواقصه و سوء طباعه.

.
وهكذا بدأ العجب في نفوس البشر، منذ الخليقة، يستتر تحت السلوكيات المخادعة.

.
لا أظن أن طقوس شهر رمضان الخاصة يمكن تعميمها، ولا تفيد معرفتها، لطالما كان اعتقادي أنها تفقد كل معانيها إذا خرجت من كونها حالة فردانية إلى طقوس جماعية. فهي مثل العرفان والتصوف حالات روحانية فيها إشاراتٌ وتنبيهات، وعوارض تعرض على النفس فتحولها من حال إلى حال، لتصل بها إلى الاستكمالات الجوهرية، كما وصفها صدر المتألهين رحمه الله.

.
ليست الطقوس الجماعية إلا جزءًا يربط ما بين هذا العالم الخارجي، وما بين العالم الداخلي. هي جسر للتناغم بين العالم الذي يحيط بنا، والعالم الذي يعيش داخلنا، فهي المدرج، الذي تعرج به النفس من ارتباطها الدنيوي إلى ملكوتها الأخروي، ومن ثمّ يكون المسير منوطًا بطقوس الفرد وحده.

.
«معظم من تحت الأرض كانوا يظنون أن برحيلهم سيتوقف العالم»*، ولم يتوقف جريان العالم على أحد. أعتقد أن أحد عشر شهرًا من كبت أصواتنا لحساب أصوات الآخرين، واستعارة كلماتهم، ومتابعة أفعالهم، ومن عيشنا لأجلهم لا لأجلنا .. يكفي. ويأتي الدور في هذا الشهر لنستمع فيه إلى صوتنا، وإلى خطاب ذاتنا المنسية وسط أكوام الحياة اليومية التي نعيشها وسط النفوس الشهوية، والنفوس الغضبية، والشيطانية، وكل همها إرضاء الشهوات، وتلبية رغبات القهر والإنتقام، بالمكر والشر.

.
نحاول التخلص من هذه القبائح كلها بأن نخدع ونناور أنفسنا بوضعها قبال الآخرين، الأقل منّا غالبًا، ولا نفكر بأن نضعها أمام الأفضل منّا، خشية من اظهار عيوبنا.

.
هذا الشهر هو فرصة، للتعرف على نفوسنا. للعودة إلى الذات وإعادة اكتشافها، هذه الذات التي فقد الاتصال معها طوال السنة، وطمرت تحت شتى أنواع الكدورات مستترة بعناوين مختلفة: مداراة الآخرين،و تتبع هفواتهم. ومحاكمة السياسيين، والبحث عن تصريحاتهم، والتشكي من ردود الفعل تجاهنا، والتذمر من كل شيء حولنا، من الطعام إلى الطقس إلى العمل وحتى ممن يتقاسمون معنا هموم اليوم.

.
دون إلتفات إلى أن الاهتمام بأسرار الغير، يغمض العين عن أسرارنا، وبحثنا عن نقائص الآخرين، يجعلنا نهمل نقائصنا، وشيئًا فشيئًا نفقد الارتباط مع نفوسنا، ونكتفي بظواهر سلوكنا، ونعتقد أن السلوك وحده يمكن أن يبرر لنا كافة خطايانا، لأننا لم نعد نتعرف على ذواتنا، ولم نعد نعرف عيوبها، التي اندست تحت أقنعة مختلفة لتصيبنا بالإزدواج.

يُحكى أنه « كان لمعلم مئات التلاميذ، يصلّون جميعهم في الساعة المحددة باستثناء واحد يكون ثملاً طوال الوقت.
في أحد الأيام شعر المعلّم أن ساعته اقتربت، فدعا السكير ونقل إليه أثمن معارفه ممّا أثار سخط الباقين، فاحتجوا قائلين:
يا للعار! لقد ضحينا بأنفسنا من أجل معلّم معتوه يعجز عن الإقرار بمزايانا.
فأجابهم المعلم:
كان عليّ أن أكشف عن أسراري لرجل أعرفه حق المعرفة. أولئك الذين تبدو عليهم التقوى، غالبًا ما يستتر فيهم التكبّر والأنانيّة والتزمت. ولهذا السبب اخترت الرجل الوحيد الذي يُظهر عيبه علنًا: عيب الثمالة.
»**

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كلمات الإمام الخميني - أنقلها بالمعنى بحسب ما علق بذاكرتي.

** كويلو، مكتوب، 143.

1 أغسطس 2010

لعنة المرحومة هاجر خانم

قبل سنتين، أوثلاث تقريبًا، وفي لحظة إلهام أشرقت بها النفس على صفحة الإبداع، كتبت قصة قصيرة كمحاولة أدبية بسيطة، لم تكن الأولى بالطبع. ما صدمني هو حصولها على تقييم رائع لم أتوقعه لكونها وليدة دقائق قليلة تعد على الأصابع. تقييمٍ لم تحصل عليه أيّ من كتاباتي الأخرى بنفس المجال. ولم يُذهب روعة هذا الشيء إلا تحولها إلى كابوس دفعني إلى اعتزال هذا المجال دفعًا معيدًا لذاكرتي مشهدًا شاهدته في احدى حلقات مرايا، لياسر العظمة.
.
حيث يمّثل دور روائي شهير يتعب كثيرًا في صياغة رواياته، وجمع معلوماتها، وسبك حبكاتها، ويسهر لذلك الليالي، ويعمل بالأسابيع والشهور لأجلها ومع ذلك تبقى مقبولة عند النقاد. إلا أنّه في من يوم الأيام، وفي لحظة فراغ، وجد نفسه مدفوعًا لأن يكتب، جلس أمام الكمبيوتر ليضع رواية خلال ساعتين سمّاها «المرحومة هاجر خانم».
.
نجحت نجاحًا باهرًا، وأصبح من بعدها أديبًا لامعًا، حتى عاد اسمه يذكر مقرونًا بهذه الرواية، لتصبّ لعنتها على رأسه ، فلم ينجح في نشر أي شيء بعدها: كان الناشرون يقرؤون ما يكتب ثم يقارنوه بـ«المرحومة هاجر خانم»، ويرفضون نشره لأنه أقل بنظرهم منها، إلى أن اضطره الحال لأن يختار لنفسه اسمًا مستعارًا، ويحوّل رواياته من جوها العربي إلى الجو الأوروبي ويضع اسمه عليها ولكن كمترجم لها لينشرها.. و «يأكل عيش»!
.
كل نجاح يستبطن لعنته في داخله، وبعض النجاحات تكون الهزيمة أرحم منها. فغالبًا ما تقاس النجاحات بتحقيق الأهداف، ولكن كم شخص قاسها بالنتائج التي تستتبع تحقيق هذه الأهداف؟
.
كثيرًا ما يحدث ألا نحسب حساب الظروف والعوامل المؤثرة والأحداث التي صاحبت الوصول للنجاح، ونعتقد أنه يمكن لنا أن ننجح بمعزل عنها، بحيث نفصل ما بين النجاح في حد ذاته، وما بين متطلباته، وفي الوقت الذي نعتبر الاول ضرورة، يتحول الثاني إلى أمر ثانوي يمكن تجاوزه بكل بساطة. وهذا بطبيعة الحال فهم ساذج للنجاح. قد تكون هاجر خانم مدخلاً لفهم هذه الإشكاليّة، فهي تعبير عن حالة شعورية ارتبطت بلحظة نفسية ثم وجدت طريقها لتعبر عن نفسها من خلال أحداث وكلمات صيغت على هيئة رواية. في الوقت نفسه فإن مثل هذه الحالة الوجدانية لا يمكن إعادة خلقها اعتباطيًا، ولذا فشلت تلك الروايات في تكوين أحداث بمثل روحية «المرحومة هاجر خانم»، فلكل شيء طريقه المميز الوحيد، وعلينا أن نجده لا أن ننتظره.
.
على صعيدٍ آخر، تحولت «المرحومة هاجر خانم» لتصبح حاكمة على البقية، وشيئًا فشيئًا باتت كابوسًا يؤرق صاحبها بكونها ضريبة الإبداع، ممّا يجعل صاحبها يبقى محاسبًا على كل ما يكتب، ويُتطلّع منه إلى الأحسن دومًا. ويركض الناس والنقّاد إلى مقارنة كل شيء بها، كأنهم يعتبرونها الحد الأعلى للإبداع، وعلى الباقين أن يحذو حذوه ولا يتجاوزوه، أو يقلّوا عنه. فإن حدث ذلك، طالبوا صاحبها لأن يعود إلى ما كان عليه حين كتبها، فإن عجز لفه النسيان، وطويت ذكراه في غياهب جب الحرمان.
.
في أحيانٍ كثيرة، تكون بعض الأفعال وبعض الحوادث التاريخية مبالغ في تقييمها، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنها لامست شيئًا في نفوس المُقيّمين التي طبعت اتجاهاتهم الفكرية والنفسية آثارها في أحكامهم وميولهم، وفاتهم الإلتفات إلى أثر ذلك في تقييمهم. مثل هذا الأمر يحدث مع الروايات كما في «المرحومة هاجر خانم»،وما حدث معي. ويحدث مع اللاعبين الذين تتجمد ذاكرة معجيهم على موسم معيّن يجعلونه المسطرة التي يقيسون بها أداءهم طوال حياتهم المهنية، كما أنه، من باب التشابه، يحدث مع الأشخاص العاديين حين يقومون بدافع غيبي بأفعال معينة أو يبدون آراء معينة ثم يتم تنميطهم وفقها عند الآخرين، ويتم تسفيه جميع مواقفهم وآرائهم التي تخالف هذه الصورة عند الآخرين، كما يحدث مع الدول، بتاريخها وشعوبها ومجتمعها.
.
أثناء نهوض الدول، تمر في فترات صعود، تتوافق فيها جميع الظروف لتهيئ لها الطريق للإزدهار، قد يكون هذا الازدهار نوعيًا بحيث أنه يمكن أن يكون أفضل مما كان إلا أنّ الظروف لم تستثمر جيّدًا. مع هذا، فإنه في فترات الهبوط تصبح فترات الصعود بكل سلبياتها «هاجر خانم» يُتطلع إلى أن يتم إعادتها للحياة مجددًا، وتغدو «يوتوبيا» لن تتكرر، ولن يجود الزمان بمثلها حتى وإن كان حاضر هذه الدولة بامكانه أن يولد ازدهارًا يفوق ما حدث إلا أن الإنشداد للماضي يحول دون ذلك، ويصبح الهمّ الأكبر هو (كيفية إعادتها كما كانت) بدلاً من دفعها لتصبح (ما لم تكنه في يوم من الأيام).
.
حين يمسي همّنا ان «نأكل عيش» فإننا لا نسعى إلى أن نقدم حلولاً، أو علاجًا، بل نكتفي بالدوران حول المشكلة ونرفع الرايات البيضاء أمامها، ونساهم بصورة فعّالة في ترسيخ التقييم المبالغ به، وعلى طبق من ذهب نتوهم بأنه يمكن للنجاح أن يحدث بمعزل عن كل شيء، وحتى حين تأتينا الفرص لتصحيح الأمور لا نغتنمها لاننا لم نتعلم خلق ظروف النجاح بدلاً من انتظارها.
.
كان هدفنا أن نعيد البلاد من احتلال عسكري، وبعد 20 سنة على ذكرى الغزو، وبتحقيق هذا الهدف أدخلناها في احتلال الجمود، لأننا لم نعرف كيف نستغل الفرصة في بناء شيء جديد بدلاً من ترميم الأطلال. باختصار، بتنا نعيش لعنة «المرحومة هاجر خانم» ولم نستطع تجاوزها لأننا اعتبرناها الذروة، ففقدنا الدافعية للمستقبل.
.
الآن،لا زلنا نفضل أن نسترجع الماضي ونحنّ إليه، ونعتبره المثال الأعلى الذي لا يمكننا تجاوزه، وشيئًا فشيئًا بدأت هذه الفكرة تتسرب إلى العامة حتى غدا من المحظور مجرد التفكير في غيرها. أصبحنا نعيش «لعنة هاجر خانم» وقررنا أن ننكص على أعقابنا للماضي مستذكرينه، متنكرين للواقع المر برميه على رؤوس الذين ألبسناهم خطيئة عدم القدرة على المضي للأمام، وقررنا الإختباء خلفهم، كما اختبئ الكاتب خلف لقب المترجم، هربًا من تقييم الآخرين لنا.