27 مارس 2013

حكايا منتصف الليل


لم يكن اختيار الليل، كرمزية يستعملها كل متحدث عن الإنسان، اعتباطيًا، ففي الأدب والرواية والقصة وحتى الفلسفة والسير والسلوك وصولاً إلى العلم ونظرياته كلها ارتبطت درجات الوصول إليها بالليل، ولعل ظلامه الذي يعمي الأبصار عن رؤية كل شيء ما عدا ما يتكاثر داخل الذهن هو السبب، فإنك تحتاج للنور لتبصر ما حولك لكنك لا تحتاج إلا لذهنٍ لتبصر ما فيك، وسبحان من جعل التبصرة في عوالم الداخل للحظة كاشفة عن عوالم الخارج لدهور، كما تأمل "نيوتن" مع نفسه لثوانٍ فقفز بالعلوم لقرونٍ.

 إننا في النهارات نعيش مع الناس وللناس، نقول ما يقولون، ونفعل ما يريدون وتجبرنا بنوك الخدمات على أن نستهلك طاقاتنا فيها حتى نصل إلى الليل لنعيش مع أنفسنا التي توارت خلف جبالٍ من هموم كسب المعيشة قليلاً، والأسف كل الأسف حين نفرط بهذه اللحظات لأجل الاستعداد من أجل استقبال الآخرين في صباح اليوم التالي، وليس ذلك من العجب فإن الفرص التي يضيعها الإنسان أكثر من تلك التي يتحدث عنها والتي هي في الواقع أكثر من التي اقتنصها، إن حياة معظم الناس ليست سوى تراكمٌ للضياعات، في العمر والفرص والأهداف والغايات وما شئت فقل! نادرًا ما نلتفت إلى كمية الهدر الممارسة في حياتنا لأن سعينا خلف ما لا حاجة لنا به يفوق سعينا لما نحتاجه، فنهمل على حساب ذلك ذواتنا وأفكارنا.


قال لي أحد السائرين على درب السلوك مرة أن العارف لا يصيبه الأرق أبدًا، فالأرق نتيجة التفكير بالخواطر التي تفترس الذهن ليلاً، والعارف لا يستسلم لخواطره بل يتحكم بها، فإن أوقف ذهنه عنها هرب الأرق منه. لعلّه على حق ولكن جمال الأفكار بعفويتها وبكونها تبدأ من زاوية في أقصى اليمين لتجد نفسك في وسط بحر متلاطم يموج بك منها ينقلك من عالم محدود إلى فضاء رحب ترى العالم الواقعي منه على هيئته الحقيقية: كأنه عجلة موضوعة في قفص سنجاب لتعطيه إيحاءً بأنه يركض في البراري الواسعة لا في صندوق ضيق ومظلم!

والحقيقة ثقيلة على النفس دائمًا لا يرغب بحملها إلا من تعوّد عليها أمّا من يكتفي بالتحدث عنها فهو غالبًا يحبها كما يريدها هو، لا كما هي، لذلك لا ينفك عن إيجاد المبررات لنفسه لقبوله بأن يكون مجرد قطعة مؤقتة في هذه الدنيا ينشغل بمشاغلها ويكتفي بهمومها و{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} فرضي بأن يجعل من ذاته آلة يستهلكها الزمن فتنتهي في مكب الخردوات بدلاً من أن يكون إنسانًا يُوّلدُ الزمن لينتهي في عالمٍ أسمى وأرفع.

 إن الليل بستائره التي يسدلها حولنا يحاول أن يعيد هذه الحقيقة إلى أذهاننا، وهي أننا بعيدًا عن  كل الملهيات والمشاغل نقبع في زاوية صغيرة من كونٍ واسع لا نرى فيه إلا أسئلة تبعثها الدهشة، وإن سحر الليل ليس سوى هدوئه الذي يصم آذاننا عن ضجيج الناس فنلتفت لما بداخلنا فنعيد إحياء أسمى معاني الإنسانية فينا وهي العقل، والسؤال، والحوار.

  •   رموز الشعر

قال لي ذات ليلة، بما تفسر هذا الهوس بشعر "فلان" رغم ركاكته؟

قلت له: رموزه الأنثوية. القهوة والليل والعشق والوحدة رموز أنثوية تحاكي مخاوف المرأة من الأرق والظلام وهيجان المشاعر والوحشة، أما الرموز الذكورية فهي تخاطب مخاوفهم المستمرة من العزلة والهجرة والقوة واللقمة وهي رموز سوقها مستتر، يصفق لها الرجال ويحبون شعرائها -القلّة- لكنهم يخجلون من ممارسة فعل التعبير عن ذلك حتى لا يتهموا بوجودهم، فأن يرى الناس شخصًا يخشى الأرق أو الوحشة أهون عنده من أن يُرى شخصًا يدعي القوة وهو يبحث في هامش الحياة عن لُقمة!
.. إن المرأة لا تمانع أن تكشف عن كوامنها لأنها سلاحها الذي تَصطاد به بينما الرجل يخشى ذلك لأنه السلاح الذي يصرعه!
  •   الخضوع

قلت له ذات ليلة: إن أغلب سعي الإنسان هو للبحث عن شيء يخضع له، إن طبيعته أنه لا يملك استقلالية ليشعر بالفقر الذاتي دائمًا ويبقى مندهشًا ومُنشَدِهًا لهذا الوجود يبحث عن الكمال فيه لكنه بمجرد ما أن يصل لأول الخيط يغتر بنفسه فيضيع، إن مثل الإنسان في هذا الأمر مثل الفراشة انجذابها الدائم للنور أحيانًا يجعلها تحرق نفسها حين تقترب من النار أكثر من اللازم.
 قيمة الإنسان بما يخضع له، فالخضوع أمر طبيعي لفكرة أو تيار أو جماعة أو ما يُسمى بالعقل والعلم وهو هوىً ورغبة وأعلى درجات الخضوع هو الخضوع للإنسان الآخر حتى ذاك الذي يدعي الإلحاد ويؤمن بالعلم يخضع لما يظنهم علماء، إن محاربة طبيعة الإنسان الفطرية هذه هي التي تقود إلى الشعور بعبثية الحياة، وما عظمة هذه الرسالة الإلهية إلا لأنها ربطت الخضوع بالكمال وجعلته الغاية، فالحب والبغض والفرح والجزع على الكمل هو انجذاب لهم، بينما أولئك ربطوا الخضوع بالحياة واختاروا "الإنتخاب الطبيعي" فصارت حتى أفعالهم القلبية عاريّة من كل قلب، تهيم في أودية التخبط تحمل أسئلتها على كفيها ولا مُعطٍ لها من جواب!
  •   العدالة

تعتقد أن الحياة عادلة؟
سؤال مباغت في منتصف الليل. فكان الجواب: العدل صفة الفعل، والحياة ليس لها أفعال إنما هي أفعالنا غير العادلة والحياة هي مجهر يكبّر الصورة لنراها بوضوح، إنّ الحياة لا تعطي لأحد شيئًا ولا تأخذ منه، الحياة هي كسكة القطار مسارٌ نمشي عليه وينتهي بالموت، أما العربة التي تسير بنا على هذا المسار فهي استعداداتنا وقابلياتنا وامكانياتنا وهي أشياء تصنعها أيدينا في كل عوالمنا من عالم الذّر والوجود إلى عالم النيّات والخواطر.
  •   بساطة الوجود

البساطة شيء نفتقده في رؤيتنا. قال لي كيف؟
قلت له: وجودنا، إننا نحاول الهرب من حقيقة أننا موجودون بأن نفلسف الوجود ثم نبدأ باستذكار المعاناة والفقر والفساد والحقيقة هي أننا موجودون وهذا يكفي، والمعاناة والفقر والفساد لا يمكن لها أن تختفي لأننا بحكم أننا موجودون بدار اختبار فهذه الأمور من شأن هذا الاختبار، وجوداتنا مثل أسئلة أكمل الفراغ، دائمًا فيها نقص كي يصبح ذلك دافعًا نحو التكامل والنجاح لكن الكثير منّا يفضل أن يعيش مع الأسئلة أو يستأنس بالفراغ كانسًا إيّاه تحت سجادة مشاغل الحياة، أو عدم الاهتمام، فتظل هذه الأمور تتفاقم وتستمر، إنه من المضحك حقًا كيف أنّ معظم النّاس يسأل عن أفضل مطعم أو مسرح أو فيلم لكنه يتهرب من السؤال عن السبب الذي يجعله دائمًا ما يسأل ويبحث عن "الأفضل" ولماذا؟
  •   تسلية الموت

في آخر عمره سألوا مسكويه عن الموت، فكتب رسالة صغيرة عنه وأنه أمر لا خوف منه.
كلما نبغ واحد أتى النّاس وأوّل ما سألوه عن الموت، فعلت ذلك، وسألت أحدهم مرة عنه فقال لي: نحن خلقنا لنموت.
في العقل شيئان ظنٌّ ويقين، إننا متيقنون من الموت لكننا نظن أننا سنعيش أكثر من معاصرينا، فنغلّب الظن على اليقين، أرأيت استهزاءً بالعقل أكثر من هذا؟ هاجس الموت الذي يحوم فوق رأس كل إنسان يجعله دائم البحث عن أسباب الحياة لكنه لا يتوقف لحظة ليتساءل لماذا يريد الحياة؟ والواقع أننا نريد لكن كيف ولماذا فهي أسئلة أخرى تنضم لقافلة الأسئلة الضائعة في صحراء التيه.

*   *   *

قال سعدي شيرازي في غزلياته: هذا الإنسان إذا وصل لمكان لا يرى الله فيه كيف سيحسّ بآدميته؟
إنّ حوارات الليل لا تنتهي لكنها ما دامت لم تصل لمكانٍ ليس فيه الله - سبحانه - فإنها ستظل نعمة تزيح التعب عن كاهل الإنسان .. وهي نعمة لا نوفيها ما تستحق من الشكر.