‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيت الأحزان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيت الأحزان. إظهار كافة الرسائل

8 أغسطس 2012

لأنّك لم تكن للدنيا ولم تكن لك


(فما يحيط المادح وصفك)[1]

إنهم يقولون لنا بأن الدنيا صراع حق مع باطل، ندّ مقابل الندّ يتصارعان، يتطارحان، مرة يكسب هذا وأخرى ذاك وكأن للباطل قوة ودولة وصولة بها يستطيع أن يتغلب على الحق، لكنهم ما عرفوا الدنيا، فكيف لهم أن يعرفوا ما هي؟ ألا ترى تهافتهم واقتتالهم وصراخهم على فتاتها؟ فهل من يعلم حقيقة الحق والباطل يُفني الحقّ لأجل الاستيلاء على الباطل؟ يبكون لياليهم وتمتلئ نهاراتهم بالوعظ عن زيف الدنيا وخداعها وأنها كالحسناء الغانية لا تتجمّل إلا لإيقاع ضحاياها في شباكها لكنهم لا يمانعون أن يبذلوا أرواحهم لأجلها وأن يسطّروا الكلمات في مدح الحق لأنه يكفل لهم جبهة يمارسون بها تكالبهم على باطل الدنيا وسلطانها ولو على أنفارٍ ما أغنى عنهم مالهم وما كسبوا!

الناس، ومن جلس مجالسهم، أحبّوا الدين، لكنّهم نحوّه، عشقوا الله لكنهم كعادة بني البشر حوّلوا العشق إلى ابتذال، عاشوا الدين لكن في أذهانهم، ففصلوا واقعهم عنه، قدّموا حلولهم للمجتمعات وللناس باسم الدين وبذريعة العقل، رفعوا العصيّ على الناس وصاحوا بأن الدين ليس مظهرًا إنما مخبر وجوهر، فما لِلعوام يتدافعون على المظاهر؟ وما لهم وغاية الدين عندهم ذكر وتسبيح؟ أ فللآخرة نترك الدنيا وزخرفها وزبرجدها؟ ولأجل ذِكرٍ على اللسان نترك العلم والتطور ومقارعة الباطل وحزبه؟ وجلسوا كجلوس مشركي قريش يلاعبون لحيّهم الصفراء وينكروا على الضعاف انعدام «عقولهم» لهرولتهم خلف رسولٍ {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}؟ ألم يقولوا للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله {وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّالّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}؟ قل لي بربك ألم يأخذوا على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنه ليس على الصورة التي رسموها بـ«عقولهم» له {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}؟ هكذا هم البشر {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} إن عقولهم لا تملك ضمانة هدايتهم فأمام المصلحة والشهوة والهوى والعلم يضعف العقل، فهل يعطيك الضعيف استمرارًا؟

 إن المعركة بين الحق والباطل ليست صراعًا ولا نزاعًا وليست سيفًا في مقابل سيف ولا رمحًا يريد التكسّر على نصال الآخرين، إنها ليست فروسيّة (يزدان)[2] أمام (أهريمن)[3]، وليس الله عزّ شأنه في مقابل الشيطان، إن الباطل {كَانَ زَهُوقًا} و{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فهل ما لا واقع له يكون ندًّا لأصل الوجود والواقعيات؟ تلك إذن قسمة ضيزى! لكنها هي العقول القاصرة تُلبِس الحق بالباطل لتهرب من حقيقة نقصانها و(إن دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة)[4]، إن الحق والباطل، الصواب والخطأ، الخير والشر هي علاقات تجلّي، يتجلّى بها لكل ذي روح سويّة عظمة الحق والخير فيخر له {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}، هي أشياء وُجدت لتُعرف بها أضدادها ولتكون ميزانًا يعرف بها المرأ صفاء نفسه ومدى انصياعه وقبوله لها. إن دور إبليس ليس أكثر من {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو يعلم أنه {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ}، فليس هناك نزاع، وهل ينازع العالم الجاهل؟ وهل يؤاخذ الكبير صيحة الطفل الصغير؟  إن أرباب العقول على هذا المعنى يقفون، وله يُسلّمون.

الناس عمومًا يريدون دينًا (بشرط لا)، أي مشروطًا بأن لا يمس حياتهم المعاشة وطبيعة علاقاتهم مع أنفسهم ومع النّاس، ومع رؤاهم للعالم حولهم. يريدون دينًا يوجِدون فيه زخمًا بحيث يعتبرون أنفسهم المالكين الحقيقين لجوهره ليتسلطوا بهذه المعرفة الزائفة على غيرهم، دعواهم في الحقيقة تكالب على الدنيا باسم الحق، بحثٌ عن السيطرة والرفعة والعلو فيها، وحزن وألم إن افتقدوها، وكأنّ الدين دون فهمهم له هو عجز وحجز عن حيازتها! هذه الدنيا التي هي مسرح تجلّيات الباطل ومحل تجسّم كلِّ زائل وتَعيّن كل محدودٍ جعلوها ندّا وحولوها إلى وحشٍ كاسر يخوفون الناس من فك الارتباط بها باسم جوهر الدين ليكسبوهم ثم ليتسلطوا فيها عليهم، وغفلوا أنّ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

إن الدنيا على اتساعها ليست سوى غرفة مظلمة تقع في أقاصي أطراف هذا الكون، وإن العلم مهما اتسع وتحَدّث فهو علم لمخلوق ناقص بمخلوقات محدودة يصل تارة إلى نهاية ليس له قدرة على تجاوزها وتارات أخرى يقف في مكانه لينشغل بالتساؤل عن نفسه قبل غيره، فلا طاقة للإنسان بما هو أعلى وأرفع من رأسه! إنك لكي تفهم «علي» عليه السلام عليك أن ترى كيف أن تقادم الزمان لم يزده تجرّدًا بحيث يفقده بريقه، وأن تطور العلوم وحداثة الأفكار لم تنتقص منه شيئًا بل زادته رفعةً وعلوًا، وأن اليوم الذي يمر هو درجة  إضافية نرتقي فيها لنعيد تعريف الشعاع الذي نستفيده من شمسه عليه السلام.

 الناس تفهم أنّ هذه الدنيا محل اختبار وتتوقف هنا، إلا أنه في الاختبار ليس عليك أن تترقب إجابات الآخرين بل أن تبحث عن اجابتك بين متاهاتها ووقوعك بالخطأ ليس لخفاء الحق وإنما لسوء فهمك وتعبيرك عنه. إن «علي» عليه السلام ما كان ينظر للحياة على أنها دار التحدّي كيف ذلك وهو يراها بعينه أهون (من عِراق خنزير في يد مجذوم)[5] لكنه كان يراها موضعًا للتجلّي، مكانًا يكتب فيه الحلول كاملة ولا يرضا فيه بأنصاف الحلول فهو لا يساوم لأجل الانتصار لأنه عليه السلام كان  حريصًا على أن يُظهر أن وجوده ليس معركة مع مخالفيه إنما وجوده هو ظهورٌ تام للحق، وعلى الناس بعد ذلك أن يختاروا إما الإنحياز للحق والتسليم به وإما الاكتفاء بالرغبة فيه وإقصائه .. لأن الكمال يتعارض مع طلبهم وقد تبصّر عليه السلام لذلك فقال: (لمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول {تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين} بلى و اللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها)[6].

يسألني الناس لماذا لم ينتفض لحقه المغصوب؟ وكأنهم تناسوا قوله (فسدلت دونها ثوبًا وطويت عنها كشحًا)[7] ليس لأنه لا يرى حقه في ذلك، إنما لأنه لا يرى نفسه في معركة مع الباطل، فما اعترى الريب بالحق يومًا ليُنزله الدهر ويجعله في مقابل الباطل وكأنهما صنوان متساويان ولكن الناس ارتابوا لأنهم تعودوا على الثنائيات والحق واحد! فبحثوا عن «علي» السياسي والمناضل والمكافح والزاهد وغيرها من الصور التي تهواها نفسوهم، بحثوا عن  صورة «علي» التي رسموها بأذهانهم وجعلوها مقياسًا له، عن «علي» الذي يبرر لهم انحيازهم لدنياهم ورغبتهم بالآخرة في نفس الوقت، عن «علي» الذي يصارع الباطل كندّ فينتصر تارة وينهزم أخرى حتى يتخذوا ذلك ذريعة لبكائهم ليلاً خشية من الله وضحكهم من اعتدائهم على حرماته نهارًا.

فما كان قتلُ أمير المؤمنين عليه السلام في المحراب إلا بسبب ذلك، فقد قاسه اللعين ابن ملجم بذهنه وتصوره فلم تعجبه صورته وهكذا قاده عقله إلى أن يكون أشقى الآخرين[8] بضربته، لم يكن علي عليه السلام ليخوض معركة بل ليصنع مثالاً (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعير ما فعلته)، والمثال مترفع عن خوض ما هو دونه، وكان عالمًا بأن الناس إنما يريدون الدَّون دائمًا لذا نعى لهم نفسه بقوله: (غدًا ترون أيامي، ويُكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلوِّ مكاني، وقيام غيري مقامي)[9] لعلّهم يعقلون الحقيقة، ولكنهم لا زالوا يعقلون الباطل .. فسلام عليك يا أوّل مظلوم[10]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] من الزيارة الجامعة المروية عن الامام الهادي عليه السلام
[2] إله الخير في الديانات الثنوية.
[3] إله الشر في الديانات الثنوية.
[4] من رواية طويلة عن الإمام زين العابدين عليه السلام مروية في كتاب(كمال الدين) للشيخ الصدوق
[5] بحار الأنوار، ج70
[6] نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية
[7] نفس المصدر أعلاه
[8] السلسلة الصحيحة للألباني ح 1088
[9] نهج البلاغة، خ 148
[10] من الزيارة الخامسة للإمام علي عليه السلام في مفاتيح الجنان، ورواها الكليني بسنده.

19 أغسطس 2011

لأنك .. علي


أن يعطيك أحدهم بكفه شيئًا، فتقطعها طمعًا بما في جيبه، هي حادثة تختزل في ثناياها طبائع الناس منذ الأزل، كانوا ولا زالوا متحركين بالأطماع، ناقمين على الأوضاع. وما أسهل أن تبكِ على شجرة قُطعت ثم تمسح عينيك بمنديلٍ صُنع من جذعها المقطوع!
تلّون الأيام الجارية النفوس بأصباغها، تارة تنيرها بإشراقاتٌ من ضيائها وأطوارٌ أخرى تضفي عليها ظِلال ظُلماتها. وفي أرض لم تعد سوى مسرح تُعاد عليه أحداث البشر باتت النجوم المتلألئة فيه تَفِلُ واحدة بعد أخرى متيقنة أنّ نفسًا ترتدي حواجب عن حقائقها لا تستحق إلا أن تجابه مصيرها الذي تختاره بيدها .. مصير الظُلمة.
الإنسان ليس شرًا، وفي داخله جذوة الخير دائمًا مشتعلة، لكنه غالبًا لا يعرف كيف يُخرج هذه الشعلة .. فيُطفؤها، كما عرف ابليس وفرعون ما همّ عليه من قدرة وطاقة وقوة لكنهم لم يعرفوا تصويرها والاستفادة منها. كمجرى ماء عذب غَلَبَه عنفوانه فانحاز في مساره ليصُبَّ في مستنقعٍ آسن، فلا عاد الماء عذبًا، ولا صار المستنقع نَضبًا.
يجد الإنسانُ نفسه مقذوفًا في هذه الأرض، يصارع نفسه، ومحيطه، تدفعه الرغبة للبقاء إلى المزيد من الإستئثار والسعي خلف المصلحة التي يتلّمس منها بقاءه، ويتصوّر فيها نجاته واستمراره. تمزّقه نزعات تجذبه بعضها نحو ذلك المطلق الذي يراه متمثلاً بروحيته ومخيلته وعقله غير المكبل بقيود الواقع، وأخرى تسحبه نحو أبعاد ذلك المحدود المتمثل بفقاعة «الوجود» الدنيوي، في صراعاته ونزعاته ومخالفاته ، وكلمّا انغمس فيها أكثر، واندفع نحوها كلمّا تغرّبت حياته بصورة أكبر.
يعيش ضمن نطاق الأفكار التي تطرح نفسها كتأكيد لحريّة الإنسان، فيقاتل ويكتب ويتحرك محطمًا القيود في سبيل الدعوة لهذه الأفكار، يريد أن يفرضها بالقوّة لأنه يعلم أنّ الإنسان منطقه منطق القوة والمغالبة ولا يختلف كثيرًا عن سائر المخلوقات إلا بقدرته على جعل الجريمة تبدو مبررة وكأنها «غنيمة» لابد منها لحياة أفضل، وهو في الواقع لا يؤكد في فعله ودعوته المبطنة إلا الحاجة إلى استغلال الإنسان تحت عباءة إطلاق حريّاته وإثبات وجوديّته، للاستمرار في حالة الفوضى وحرب الجميع مع الجميع.
ومن دلالات الخوف الذي يسيطر عليه، يخلق أفعاله وتصرفاته وميوله. خوفه من الطبيعة القاسية التي تضيّق خناقها عليه، وخوفه من الإنسان بما يثيره من دمار وهلاك في طريقه للاستحواذ، وخوفه من شهواته التي تحرّك سلوكياته. لا يخاف من وجوداتها فقط إنما خوفه الأكبر ممّا يتوقع حدوثه منها فيظل محبوسًا في سجن التوتر والقلق، يرى كل شيء بعين الريبة، ويتصرف مع كل شيء من باب المصلحة، ويُقيّم كل شيء بناء على الحاجة.
يلتزم بمظاهر الأخلاق لأنه يحتاج للنّاس، فلا قدرة له على مجابهة الكون وحده، ولكنه في قرارة نفسه يحتقرها لأنها تكبله بآدابها التي توّلدها عن الاعتداء على غيره تحت ضوء النهار. يعشق الدين لأنه يعطيه هويّة أمام الناس، ويكره الإلتزام به لأنه يحجبه عن تقديم الـ أنا الخاصة بذاته على مشاركيه، وهكذا يعيش حربًا لا تقل هوادة عن حروب الإنسان مع بني جنسه في داخل نفسه التي لا يشغل باله في معرفتها رغم أنها سبب وجوده، حربٌ بين تلك النشأة «الملكوتية» التي تبحث عن الجمال والكمال وبين هذه النشأة «المُلكية» التي تريد السيطرة والمنفعة سعيًا خلف الهويّات الزائفة.
كان «علي» نقيضًا لهذه الصفات والطبائع، ضِدًا لهذه الرغبات والصنائع، كان «قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظة وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه»*.
ومثله في هذه الأرض يزيد من خوف النّاس، يتحول لعدوٍّ لمَلَكاتهم الباطنيّة التي تتجسد في صورهم الظاهرية، يُعيد لهم التذكرة بأنّ كمال الإنسان في نفسه لا في استحواذه، وأنّ معنى الإنسانية كامن في وجودهم لا في وجودات غيرهم. خوفهم منه هو خوف من الإنجذاب نحوه فيسقط ما بذلوا لأجله كل ما يملكون من أيديهم، خوفٌ يتحول إلى قوّة دافعة تجعلهم لا يحاربونه شخصأ فقط بل تمتد حربهم لتاريخه لطمسه، ولوجوده لتقليله حتى لا يجدوا لهم عذرًا في استمرار ولعهم بالظلم والاعتداء والإنحياز نحو ما فيه تدعيم لاستغلاليتهم.
إنّ البشر في وجودهم الدنيوي إنما يقيّمون العظماء كما يقيّمون الشمس من شعاعها، وحدودهم غير قادرة على سبر ما هو أعمق من هذا الشعاع، وبدلاً من الاستفادة منه، يُحجب ويُصدّ حتى لا تنقشع ظلمة النفس، فتستمر الحرب التي تعطيهم المسوغ لعيشهم في حلقة التاريخ الذي يكرر نفسه.
ينجذبون بروحهم إليه لأنه يخاطبها، ويقاتلونه بأبدانهم، ووجوداتهم لأنه يعارض مساعيها، وفي ظِلِّ «جمع الأضداد» هذا، وقف وحيدًا يُنادي: «أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأُبْرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟» فقد أعاد التاريخ نفسه، وانحاز الناس مجددًا إلى طمس نجوم الهداية تحت سُتَرِ الضلالة والغواية لأنهم على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل.
إين چهان كوه است وفعل ما ندا
بــاز آيـد سـوى ما از كُـه صـدا**
كان، ولا يزال البشر يكتبون مصائرهم بأيديهم ويخطون مقاديرهم بأقلامهم، وكان ولا يزال التاريخ يعيد نفسه معهم، ضاحكًا مستهزءًا بهم لأنهم في اللحظة التي يدعون بها حبّ هذا «المثال» يزاحمونه بكره كل ما أرساه هذا «المثال». وفي اللحظة التي ينجذبون بها إليه، يغطون أعينهم عن النظر إليه، فلا عجب أنّنا ندنو أمام التاريخ، ويعلو هو عليه .. لأنّه «علي».
__________________________
* شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج11
** البيت لجلال الدين الرومي، وترجمته: العالم كالجبل وأفعالنا أصواتنا تجاهه، كما نطلقها يعود صداها لنا.

17 ديسمبر 2010

ولم تكن بثورة ..

خواطر عاشوراء [4]

تأمّلت الكثير من الخطابات مؤخرًا وهي تصر وتؤكد على أنّ الحسين عليه السلام ثائر، ونهضته ثورة، سجلها التاريخ مع ثورات البشر.

الحسين عليه السلام ليس ثورة، ولم يكن في يوم من الأيام مشروع ثورة بالصورة التي تتبادر للذهن، وليس أسوء من الأحكام الخاطئة، إلا ظهور كونها مبنية على مقدمات خاطئة. وللأسف فإن أسس بناء الرأي لا يتم الاهتمام بها بقدر الإهتمام بإبداء الرأي!

وبدا لي أنّ معظمها يتحدث من انفعالات لحظية ومنطلقات غير محررة. من المؤسف كون كثير من الأحكام عندنا تبنى على مقدمات خاطئة، بعضها قد يصدف أن تكون نتيجته صحيحة، لكن لا يمكن أن يتم الاعتماد عليها في تكوين الموقف أو الرأي الصحيح دائمًا، وهذا يرجع إلى خلل في بنية التفكير بالإعتماد على مقدمات غير يقينية أو غير محددة بشكل قاطع.

لم يكن هدف الحسين عليه السلام احداث انقلاب آني على الحكم، ولم تكن الثورة كما تصوّر على أنها في طلب السلطة، كما أنّ الخطأ الشنيع يزداد حين يُحاكم الحسين عليه السلام على أنه قاصر عن معرفة مصيره المحتوم، المصير الذي عرفه جميع من قابله في المدينة المنورة وحثه على البقاء، وأسدى له النصيحة محذرًا إيّاه من أهل عراق ذلك العصر، وكأنهم كانوا يرون ما كان هو عمّيٌ عنه، وخدع بما لم يُخدعوا به.

لا يوجد من يولد غبيًا، في الوقت الذي يوجد فيه من يستغبي نفسه. في قراءة سيرة الحسين عليه السلام ما يكشف عن الكثير بمجرّد التأمّل، لم تكن الظروف الاجتماعية، والمعطيات السياسية، ولا الاستعدادات العسكرية تشير إلى البحث عن انتصار، أو الرغبة بإنتزاع السلطة، وثورة – بمعناها الحالي – تخرج من رحم هذا الثالوث هي ثورة بلا أنياب، موؤودة في مهدها.

كم هو مؤسف أن نضع النتائج مفصلة على أهوائنا، نرى الحسين عليه السلام ثورة عسكرية مجردة ونغمض العين عن شهادة محتمة، وكأن رسالته كانت قيامًا بالسيف الذي لا يُصلح الأمور سواه، بغض النظر عمّا كان وراءَ هذا السيف. في رسالته لبني هاشم، يقول عليه السلام «.. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد، فإن من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.»

كان عليه السلام مشروع استشهاد لترسيخ المشيئة الإلهية، لا مشروع حركة عسكرية، وكان عليه السلام ثورة على المفاهيم المقلوبة، ماضيًا نحو الموت، لم يبدء بقتال، ولا يحمل عبء ما يتم تحميله الآن. كم آسي على الإنغماس في التأويل والتحوير، وإهمال الحقيقة، كمن زار مكة وأهمل الكعبة!

الطف، قبل أن تكون معركة، هي فاجعة (وهنا استذكر شطرًا للسيد الحلي: أ ترى تجيء فجيعة بأمضّ من تلك الفجيعة؟)، وعلى هذا يجب أن تُبنى النتائج، وعليه تستخلص المواقف، كان القتال طارئًا في نفسه، أصيلاً في وجوده، لتبذر بذرة الحسين وتُسقى بفيض المنحر فتنمو على مدى الدهور ترسم منهاج الاستقامة في وجه الإنحراف. هذه هي الطف، ثورة على الثورات المزعومة، التي تنطفيء بعد حين، وتبقى هي مشتعلة، ومظلومية باقية ما دام في كربلاء شيء اسمه «الحسين».

12 ديسمبر 2010

مبدأ الهداية

خواطر عاشوراء [3]


الأخلاق هي مبدأ الهداية، ممّا قرأت وشاهدت وتباحثت ازدت يقينًا بهذه الحقيقة.

كلمّا كان المرء أكثر صفاءً كان طريقه للهداية أقرب من غيره.

يتيه أحدهم، ويضيع فيسأل عن الطريق. تارة يشير له أحدهم ويدله على الطريق، وتارة أخرى، لا، يأخذ بيده ويسير به حتى الجهة المقصودة، فلم يكتف بالوصف بل قرنه بالفعل.

كل شخص في هذه الدنيا تأتيه نفحات الهداية هذه، مرة كإشارة، وأخرى كتنبيه، أغلبهم يهملها، فلا يلتفت إليها رغم كثرتها، وبعضهم يصغي إليها فتتكاثر أمامه لترسم له الطريق. أمّا لماذا يهملها هؤلاء؟

فجواب السؤال فيه تفصيلات كثيرة. سأقتصر على جانبٍ منها.

يُشار للفطرة على الغالب ويُقصد بها الغريزة أو الطبيعة التي ينشأ عليها الإنسان، ولكن هذا التحديد للفطرة خاطئ وهو السبب في سوء فهمها. لا يمكن اقتصار الفطرة على الغرائز فهي موضوعة لبقاء الجنس، الأكل والشرب والتكاثر والاجتماع المقصود منها الحفاظ على الوجود. أما الطبيعة فهي تعني استعدادات أو استجابة هذا الإنسان لهذه الغرائز، وهو مجبور على الاستجابة لها، استجابة متوحشة تجعله ينزل من مكانته كإنسان ليتحول إلى "أضل من الأنعام" أم استجابة إنسانية يرتفع بها لما فوق مستوى "الملائكة".

فالفطرة أوسع من هذه التعريفات الضيقة التي لا تعطيها حقها. هي قيم أو أفكار إنسانية بحتة لا يمكن نكرانها، تجعل الإنسان ينجذب تجاه مُثلٍ عُليا كـ"الكمال، والجمال، والعدل، والخلود، وغيرها"، وهي انجذابات لم تفارق البشر منذ الإنسان الأول إلى هذا اليوم الذي لا يزال يرفع فيه هذه القيم وعليها يبني كل نظمه الفكرية. لا تجد طوال تاريخ البشرية دعوة انطلقت إلا وهي تحمل هذه العناوين، وبها تخاطب الجماهير، وعليها تعدهم بالسعادة المنشودة.

أعجبني إلتفات العلامة* لهذه النقطة في ضمن حديثه عن الفطرة ليدلل على وحدتها، فلو كانت السعادة تختلف باختلاف الأفراد لما انعقد مجتمع واحد يضمن سعادة الأفراد، ولو كانت تختلف باختلاف الأقطار لاختلف الإنسان باختلافها، ولو كانت باختلاف الأزمنة لم يسر المجتمع الإنساني سير التكامل هذا، وهو ما يدل على وجود أمر مشترك ثابت وموّحد بينهم.

ولكن كيف نوفق بين هذا الأمر، وما نراه من الاختلاف؟

بطبيعة الحال ليست المشكلة في هذه القيم، لكن المشكلة في التعريف الذي يُصاغ لها.

للأسف أنها تنتزع من معناها السامي ليتم توظيفها في خدمة الأنانية، والاستبداد، والمصالح الشخصية، والإعجاب بالنفس.

وما بُني على أساس باطل، لا يقود إلاّ إلى الباطل. وهو منشأ الإختلاف. وهذا ما يحدث حين ننغمس في هذه الحياة فتصعد المغريات على القيم والمبادئ، وتتلوث الأخلاق، وتنطمس الفطرة. وهذا يدل على أنها لا تجبره على شيء، إنما هو مخيّر في أعماله لتتم الحجة عليه فيها كلها.

لذلك فالأخلاق هي وجود معنوي يفصح عن النفسية التي يمتلكها الفرد، هل هي ملوثة بعالم الرغبات والإنفعالات، أم أنها لا تزال على صفائها و "خيريتها". وعلى هذا الأساس تكون الهداية لصاحب الأخلاق، لخيريته فإنه يلتفت لما فيه الخير، وينتبه لهذه الإشارات و«إذا كانت النقائص موجودة أيضًا فسترتفع بواسطة هذه التجليات الرحمانية»**، فكأنه أخذ بيده للغاية المنشودة لما وضعت له الفطرة، وهي سعادة الإنسان، وهذه هي الهداية الخاصة.

هذه الخاطرة مرّت بذهني وانا أقرأ موقف الحر رضوان الله عليه حين جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وحاصره في كربلاء ومنعه من اكمال سيره، وبعد ما جرى من حديث بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام فكان ممّا قاله في ختام كلامه: « .. والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه».

فلا عجب أن تكون نهايته شهيدًا بين يدي الحسين عليه السلام، وهو الذي قال: صدقت أمّك إذ سمتك حرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*راجع: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، في قوله تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..]

**جنود العقل والجهل، ص 416.

10 ديسمبر 2010

لأنهم طغاة، أبغضوه


 
خواطر عاشوراء [2]

هذه الدنيا محل اعتبارات، ومقر اختبارات. لم يُترك الناس فيها سدى، أُعطوا من كل شيء شيئًا وحُتّم عليهم أن يجدوا طريقهم.

حين أقرأ أنّ هناك ما يقارب 124 ألف نبي ومرسل، مقابل هؤلاء المليارات من البشر الذين أنجبوا الطغاة جيلاً بعد آخر، أتعجب، فأتذكر الليل يعمّه السواد، ولا يخترقه إلا ضوء أنجم معدودة. وأحاول أن أفهم ذلك وفق هذه الصورة: سيرة البشر، سوداء إلا من نقاط مضيئة هي هؤلاء العظماء.

أقرا التاريخ فلا أجد مقايسة بين عدد الطغاة الذين لا زال التاريخ يحتفظ بذكراهم وبين من يقابلهم من القديسين. كفة الطغاة دائمًا أرجح. ورد على خاطري التساؤل لماذا؟

القديسون ليست مهمتهم سوى أن يرسموا المُثل للناس، ويضعوا لهم النموذج الأمثل، ويحددوا لهم الطريق، منطقهم كما يقول الشهيد مطهري عليه الرحمة منطق الشمعة التي تحرق نفسها لأجل الآخرين. بينما الطغاة منطقهم منطق القوة التي لا تظهر إلا بقهر الآخرين، يحرقون الآخرين لأجل أنفسهم! 

شاء الله أن تكون حكمته في خلقنا التخيير، بأنفسنا نحدد أي شيء نكون وأي دربٍ نسلك؛ وحتى يكون ذلك لابد من دربين.

في الليل يمكن لنا بسهولة أن نلبس السواد فنتماهى مع ظلامه ونصبح جزءًا منه، لكن لا يمكن لنا كلنا أن نتحول إلى نجوم زاهرة فيه. فهي قضية استعدادات وقدرات لا يملك إرادتها كل شخص، والوصول إلى ما يقربها يحتاج إلى مجاهدة عظيمة و وعي بالذات وهي الاجتهاد بالعفة والسداد، فيما يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد».

لم يولد الطغاة هكذا! لكنهم فشلوا في أن يميزوا أنفسهم عن ظلام الدنيا، فأصبحوا جزءًا منه، و"المرءُ حيث وضع نفسه"[1]. كانوا أجبن من أن يتخذوا قرارًا فسُلبت الثقة من أنفسهم، وتمّزق حس الهوية عندهم، وتعاظمت الحاجة إلى أن يكونوا موضع الإعجاب والمحبة عند الناس لشكهم بذاتهم، ولمّا فشلوا في سدّ هذه الحاجة عمدوا إلى فرضها على الآخرين بالقهر والقوة. فهذا أسهل من التغلب على النفس الأمارة بالسوء.

مخطئ من يظن أن كون المرء طاغوتًا، يستلزم منه أن يكون حاكمًا ومتصرفًا برقاب الناس. إن مجاوزة الحدَّ، وتضخم الإعتقاد بالذات يمكن أن يحدث عند كل فرد في عمله، في منزله مع زوجته، ومع أولاده، أو من هو أدنى منه وحتى نفسه، وفي أي مكان. و"المرء يُكتب طاغوتاً وليس له إلا أهله"[2].

هذا الوهم الذي يعيشه الطاغوت بعظمة نفسه ونرجسيته يجعله في صراعٍ دائمٍ مع من يمثّل النقيض له. يؤرقه، ودائمًا ما يدس نفسه في مقارنة معه، ويجعل من شخصه طرفًا يحارب مقابله في كل شيء، ويتصور نفسه في معركة مستمرة هو أحد أطرافها ويقابله نقيضه.

هكذا كان الحسين عليه السلام مع الطواغيت على مدى الدهور إلى هذا اليوم. محلاً لسهامهم، ومصبًا لأحقادهم، لا لشيء سوى أنه يكشف زيفهم، وزيف مدعياتهم وسوء دواخلهم. حاربوه بشخصه، ثم حاربوا اسمه، وكل من ارتبط به، و والآن يحاربون كل ما يشير إليه. فجعلوه عدوًا لهم غرسوا مسامير حقدهم في صدره. وفاتهم أن الأشجار الباسقة لا يميتها الخدش.

جعل الله أولياؤه مناراتٍ وسبلاً للهداية، ومرشدين للكرامة. حاربهم الناس في حياتهم لظلمهم وجهلهم. فأبى الله سبحانه أن تندرس آثارهم.

ينقل العميد الركن نجيب الصالحي[3] أن الطاغية الهالك حسين كامل وقف أثناء الانتفاضة الشعبانية سنة 91 أمام قبة الحسين عليه السلام قائلاً: «أنت حسين .. وأنا حسين كامل» وكان الجواب بعد أقل من أربع سنوات قتلاً وسحلاً ورميًا وسوء عاقبة أحاطت به وبمن معه. إشارة ربانية إلى أن هذا الشخص ليس بشرًا فقط إنما طريق هداية به تتم الحجة.

سيرة جرت مع كل من تطاول يومًا على الحسين عليه السلام من يزيد الأموي إلى المتوكل العباسي إلى صدام مرورًا بمن كان بينهم، ناصبوه العداء بغضًا منهم لما يمثله. لم يكفهم ما جرى عليه وأهله وأنصاره، فوجهوا حروبهم تجاه ذكراه، ولكنه كالنجم لاح في قلب السماء، نوره يمزق الظلمات مهما تكالبت حوله، فالله يأبى إلا أن يتم نوره لتكون له الحجة البالغة على خلقه: هل يتلحفون برداء الليل فينضوون بالظلمات، أم يسترشدون بضوء أبى أن تطمسه هذه الظلمات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مضمون رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام راجع: غرر الحكم. وشرح النهج ج2.

[2] رواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

[3]رئيس أركان الفرقة المدرعة السادسة في الغزو العراقي، الزلزال ص280.

7 ديسمبر 2010

العودة إلى الحسين


خواطر عاشوراء [1]
في شهر صفر من سنة 1397 للهجرة (يناير/ 1977) حدثت انتفاضة ضد الحكم البعثي في العراق هي من أوائل الانتفاضات ضد هذا النظام الطاغوتي الذي حكم الناس بالحديد والنار. في تلك السنة صدر الأمر من وزير الداخلية العراقي بمنع المواكب الحسينية من الخروج، وفي أيّام المرجع الأعلى في ذلك الوقت الذي تسنم المنصب بعد رحيل السيد محسن الحكيم قدس سره،  السيد أبوالقاسم الخوئي رضوان الله عليه قررت الحكومة أن يبدأ هذا الحظر من النجف الأشرف.

في تلك السنة، جوبهت المواكب الحسينية التي خرجت من النجف الأشرف قاصدة كربلاء بألوية الجيش وقُصفت بطائرات "الميغ"، وسقط الشهداء أولهم شاب عمره 14 سنة، ولم يثن كل ذلك من عزمهم، فكانت واحدة من أوائل الانتفاضات المشهودة التي حدثت ضد النظام البعثي الطاغي العراق.

يومها، كسر الحظر الذي يمنع ذكر الإمام الحسين عليه السلام في الأماكن العامة وحرّك الجماهير الملا رسول محيي الدين الذي كتب قصيدة أمطر فيها التاريخ على الحاضر، ولا تزال إلى يومنا هذا علامة بارزة تقرأ في كل محفل، وتردد على كل لسان. أخذها وقرأها الشيخ ياسين الرميثي في موكب مهيب بالعراق تحدى فيه جلاوزة النظام، تحدٍّ لم يفارقه حيث أصبح اسمه بارزًا في كل انتفاضة آخرها الإنتفاضة الشعبانية سنة 1991 ليعيش بعدها متنقلاً بين المنافي حتى توفي رحمه الله.

هذه القصيدة أطلق عليها «سيمفونية الشيعة» لما فيها من وهج؛ غريب هو كيف تصبح الكلمات على بساطتها وبساطة نظمها عظيمة التأثير، حيث تشق طريقها في القلوب، ويحتفظ بها الزمان مكتوبة على صفحاته. حين أنشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية الشهيرة في مجلس الإمام الرضا عليه السلام قال له: «لقد نطق الروح القدس على لسانك». هكذا تكون بعض الكلمات، تعبير عن حالات وجدانية تخاطب القلوب، وتناغي الأرواح، وتضم تحت جناحيها الأنفس المهمومة المثقلة بأحمال متطلباتها، تعير السماء لسانها لينطق بكلماته على أفواه البشر.

«افرض نشذ عن خطّك.. ونسير على خــــط ابعيـد

افرض يجتذبنه الكاس.. ويســحرنه هـوى التجديـد

افرض ننفتـن بافكـار..ونتـــــــسمـم وفتـره نحيـد

افرض نلتهـي نقامـر.. ونـــــــتصـرف بـلا تقييـد

اشما تفرض بعد يحسين..اشم نعـمل بعـد ونزيـد

لابـد ماتجـي الساعـه.. البيهـا نـــــــنتبـه ونعـيـد

لابـد ماهـو الرحمـه..يدركنـا ونــــــــرد اجديـد»*

مهما ابتعدنا عنه، ومهما جذبتنا الأفكار، وغرتنا الحياة الدنيا، لا زال قادرًا على أن يجذبنا نحوه.

ليست المبادئ ولا القيم ولا الشعارات، هذه كلها نجدها عند الكثيرين، يدعونها، يؤمنون بها، ويسوقون لها، وقد يخدعون البشر بها، ولربما ننقاد نحوها، لكننا لا نجد الحسين إلا عند الحسين.

الدمعة الساكبة، والمصيبة الراتبة التي تخاطب وجداننا الملقى تحت أطنان من الملوثات، نقطة العودة التي تنادينا كلما ضللنا عن الطريق، ملتقى الأرواح التي يضمها مهما حادت في مسيرها، الكتف الحنون الذي بمصيبته يزيل آلام صدورنا، وبعطشه نرتوي من عذب مائه.

كلما أقرأ هذه القصيدة، وأصل إلى هذا المقطع المذكور، أتذكر تلك الجموع التي اختلفت فيما بينها كثيرًا ولكنها باسم الحسين توحدت. أراها أحرف بسيطة، استطاعت أن تحيط بالوقائع العظيمة، خرجت من الضمير لتخاطب الضمائر، فاستقرّت بها.

 كل شيء يرتبط بالحسين، يُكتب له الخلود لأنه يُكتب بماء الروح الخالدة التي تسري في هذا العالم. العودة للحسين هي العودة لهذه الروح العظيمة؛ أيام العودة هي أيامٌ نخلع فيها حِلل الأبدان الكئيبة، ونبقى نفوسنا مشرعة لاستقبال الفيض الذي يغسل بمصيبته برادة مصائبنا.
هي أيام تجذبنا نحوها لا إراديًا، تنادينا، فنجيب النداء طوعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* للحصول على القصيدة كاملة: اضغط


30 أغسطس 2010

وحـيدًا

وحيدًا .. يأبى الاجتماع، يسير بهدوء وكأنه لم يخلق للدنيا ولا هي خُلقت له، يقطع غابات النخيل بصمت، ويدفن في تربتها الحمراء أنينه المستمر.


هطلت دموع السماء، نزلت قطرات، وتحولت إلى نهر حفر طريقه بالحزن والشجن، تسكن الضباع "حويجاته".. يمضي صابرًا .. ومن بطنه يُطعم السكان حوله وعلى ضفافه يتباطئ .. يسمع شكواهم .. يناجونه .. يضم نجواهم لصدره .. ويكتم آهاته العبرى في قلبه .. ويسير..


مع مطلع كل يوم، تعير الشمس أشعتها له، يصبغ بها صفحته الزرقاء، تظهر رقراقة، وبكل جبروتها تبدو منكسرة. .. يبحث عن غابة نخيل جديدة، يتوارى خلفها .. يقطع نفسه قطعًا خفية عن أعين الناس ..ويبث روحه تجاه ذلك «البحر» .. يزوره كل يوم .. يجد فيه السلوى .. يعلم أنّ همومه .. وما يحمله .. تصل عنده .. سيعالجها ويتكفل بها .. سيحنو على أصحابها .. وبقلبه الكبير .. سيجد مكانًا لهم كلهم ..



يرى «بحر النجف» .. تستقبله أشعة النور المنعكسة من القبة البيضاء.. يطأطئ الرأس .. يدخله منكسرًا .. .. ينساب برويّة .. يثني ركبتيه .. ويشكو دهره .. لمن شكى من صبره الدهر!



كم أغبط هذا .. الـفـرات.. يصل إليه كل يوم ..


.. يسليه بوحدته .. التي طالت ..

وحيدًا .. تؤلمه الصباحات وهو يرى تراثه نهبًا، فيسدل ثوبه عنها، ويطوي عنها كشحًا، ويصبر و"في العين قذى، وفي الحلق شجًا على طول المدة وشدة المحنة" [1]، ولا من معين ..



وحيدًا .. " وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضـاً على لحيته، يتململ تململ السـليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقـول: يا دنيا غري غيري.. إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت؟



هيهات هيهات!



قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعمرك قصير، وخطؤك حقير.



آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق." [2]



وحيدًا .. كصباحٍ تاه بين قطع الليل المظلم، منحيًا، يحثو على قبر حبيبته التراب، ولا مُعزٍّ أو ناصر، يناجي أبيها بالآلام: " أما حزني فسرمَدٌ، وأما ليلي فمُسهّدٌ، إلى أن يختارَ الله لي دارك الّتي أنت بها مقيم. وستنبئك ابنتك بتضافر أُمتك على هضمها، فأَحْفها السُّؤال، واستخبرها الحال.



هذا ولم يطل العهدُ، ولم يخل منك الذِّكرُ، والسلام عليكما سلام مُوَدِّع، لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرفُ فلا عن ملالة، وإنْ أُقِمْ فلا عن سوء ظنٍّ بما وعَدَ الله الصابرين "[3]



وحيدًا .. استضعفه القوم، وتناهشوا أمره، وكادوا يقتلون، نهض بهم "فنكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} بلى والله لقد سمعوها و وعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"[4] ..



وحيدًا .. ضاع بين جهال. يصيح فيهم أسفًا: "لله أنتم! أ تتوقعون إمامًا غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟"[5].. ولا من مجيب .. أو معتبر ..



وحيدًا .. يرى نفسه كنخلة أجدب ما حولها، باسقة تؤتي ثمارها، فتلتقطها الأرض الجرداء، لتواسيها عن عزوف الناس عنها.." أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذوالشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، وأُبْرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟"[6]



وحيدًا .. يناظر السماء، يخاطب سوادها .. يحدثه عمّا يكون، ويأنس بوحشة الليل .. يتأمل ظلمته .. ينشغل باستغفاره .. ويقطعه صياح إوزّ، يراهنّ: "صوائح تتبعها نوائح"[7]



وحيدًا .. يضمّه الباب .. يأبى رحيله .. يلف أذرعته حوله .. ويقطع حزامه .. فينحلّ مئزره .. يخاطب الباب " اشدد حيازيمك للموت.. فإنّ الموت لاقيكَ



ولا تجزع من الموت .. إذا حلّ بناديكا.."



وحيدًا .. في المحراب .. يناجي ربه ..يطلبه .. فيرحل إليه .. مخضبًا بدمائه ..


وحيدًا .. "أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة"[8] ..

وحيدًا .. يجرف بسيل صبره .. نشارة همومنا ..

السلام عليك يا أبا اليتامى والمساكين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] نهج البلاغة الخطبة الثالثة، المعروفة بالشقشقية.

[2] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج6.


[3] نهج البلاغة الخطبة 200.


[4] نهج البلاغة ص 56.

[5] نفس المصدر، خ 180.


[6] نقس المصدر أعلاه.

[7] منتهى الآمال، ج1.

[8] صحيح البخاري، ح 3965.