26 أبريل 2009

' هل كيف ' عقلك ؟


« الـعـقـل و الـعـقـلائـيـة »
.
هناك قاعدة تستخدم في الأصول و جرى عليها الفلاسفة و اهل المنطق و المتكلمون حتى في الغرب ما عدا بعض الفلسفات الحديثة التي شذت بقولها و هي ( استحالة اجتماع النقيضين )، بل لابد من ارتفاع أحدهما .
.
معنى القاعدة أن العقل لا يقبل أبدًا أن يكون هناك نقيضان في نفس الوقت ، كأن نقول في نفس البقعة هناك ضوء و ظلام،أو أن الغرفة باردة و حارة، بل لابد من ارتفاع أحدهما حتى يمكن الوصف، هذا الحكم يسمى بالحكم العقلي ، الحكم الذي ينبع من العقل ذاته و يُعتبر بديهيًا لا يتناقض أو ينكره أحد.
.
في نفس الوقت الحكم العقلي لا يعتمد على الظن و الحدس بل على البديهة إن صح التعبير ، و البديهة مشتركة بين جميع البشر لا يختلفون فيها، بينما لو اعتمد على الحدس وحده لما صار هناك مجال للإتفاق بين الناس.
.
حين نقول بأن 1 + 1 =2 فهذا حكم عقلي ، و أن نقول بأن الشمس تشرق من المشرق فهذا حكم عقلي آخر، لن يختلف الشيوعي في بكين مع المسلم في سوريا مع المسيحي في النمسا مع الملحد في كولومبيا فيه، جميعهم رغم كل إختلافاتهم يتفقون بهذه النتائج و المقدمات لأنها عقلية بحتة و يستحيل أن يتحول العقل ليعطي نتيجة يخالف المعروف منها.
.
في نفس الوقت هناك أحكام عقلائية هي عوارض على الجوهر إن جاز القول بذلك، هذه الأحكام تستمد مكانتها اعتمادًا على الحدس و الحس و العرف؛ و العرف يعني العادة التي جرى عليها العقلاء ( المفكرون / المشرعون / الراشدون ) فهي منسوبة للعقل.
.
لمزيد من التوضيح لنأخذ قوانين المرور كمثال ، قوانين المرور أوجدها العقلاء حتى يكون هناك نظام و انتظام في الطرق و بالتالي يحفظ كل شخص حقه في الطريق ، هذه القوانين التي أوجدت من أجل الحفاظ على حقوق مستعملي الطرق هي أحكام عقلائية.
.
هي نفسها التي من خلالها يضع المشرعون القوانين و النظم في مختلف نواحي الحياة ، و حتى في مجال المجتمعات من خلال العادات و الآداب التي تحكم أفراده و تحكمنا نحن كمنتمين لهذه المجتمعات و ما فيها من عقود اجتماعية نسير بمقتضاها هي كلها نواتج من العقل ، أي أحكام عقلائية أوجدها العقلاء و تعارفوا عليها من أجل الحفاظ على نظام و سلامة المجتمع.
.
الأحكام العقلائية تخضع بالعادة للخلفية الفكرية التي تتملك العقلاء و تسيطر على أعرافهم ، هي تنتج من القاعدة التي توفر المنطلقات التي تحدد 'عملية التفكير' عند الإنسان، من القاعدة التي تزوده بالقيم أو بالاحرى المسطرة التي يسير بمقتضاها أثناء أي معالجة عقلية لأي موضوع و يقيس عليها هذه المعالجة أيضًا.
.
ما قبل أرسطو مثلاً كانت عملية التفكير تتولد من العقل الأسطوري ،من حيث ربط أسباب الحوادث بقوى غريبة من شاكلة السحر و الأرواح و الأشباح ،فكل حادثة كان يحكم عليها وفق الخلفية الثقافية / الفكرية بانها من تأثير روح أو شبح أو سحر أسود و غيرها ، بينما منذ القواعد التي أرساها أرسطو بالمنطق ثم بزوغ عصر الفلسفة الإغريقية نزل العقل لمرحلة التجريب العلمي إلى يومنا الحاضر الذي لم يعد يفسر المرض على أنه حادث بسبب غول أو روح بل لسبب فسيلوجي بحت، العقل القديم لم يكن ليصدق أن مرضًا يمكن ان يسببه كائن حي لا يُرى بالعين كالبكتيريا مثلاً بل وفق قواعده لابد و أن يكون السبب هو (تأثير) مباشر من قِبل تلك القوى المذكورة سابقًا و يرى في هذا الأمر غاية العقلانية، بينما نراه نحن اليوم لا يمت للعقل بصلة، رغم أن هذا العقل الذي نمتلكه لا يختلف بالمهمة و الشكل عن عقل الإنسان البدائي.
.
من هنا يتبين الفارق بين الحكم العقلي و الحكم العقلائي ، الحكم العقلي هو حكم بديهي ثابت و متأصل في كل إنسان و يعني الحكم الذي يستحيل عليه النقض، بينما الحكم العقلائي هو حكم يرجع للإستحسان النابع من تفكير العقل وفق أدواته التي امتلكها الفرد ، و هذه الادوات متطورة مع الزمن.
.
الحكم العقلي هو ثابت بينما الحكم العقلائي متغير و نسبي ، الآراء و الأفكار و القوانين و غيرها من نتاجات عقول البشر هي متكونة نتيجة لطريقة التفكير التي تغذاها هذا الإنسان من مجتمعه و محيطه و بيئته، و يُعتبر ديكارت من أوائل الفلاسفة الذين طرقوا هذا الباب في الغرب مع التأكيد على ريادة فلاسفة الشرق الإشراقيين الذين قالوا بوجوب التخلص من الكدورات (المعوقات) الروحانية و العقلية حتى يصل العقل للحقيقة المطلقة.
.
رينيه ديكارت في منهجه «مسح الطاولة» يؤكد على ضرورة التخلص من التراث الفكري و المنهجية العقلية المكتسبة التي تولد التضارب و التناقض في الأفكار الإنسانية حيث أنه وجد عقله في كتاباته يتقافز بين شتى الأفكار و المنهجيات المتضاربة التي قرأها و اطلع عليها أو تربى عليها و اكتسبها أثناء حياته ،لذلك توصل إلى أن الحل الوحيد هو مسح هذا كله و 'تطهير' عقله من كل ذلك و إعادة بناء أفكاره و مبادئه منهجيًا من خلال الرجوع إلى (الفطرة العقلية)، أي العقل و مبادئه التي يستحيل عليها التناقض.
.
نحن لا زلنا لا نفرق بين الأحكام العقلية الثابتة و الأحكام العقلائية المتغيرة / النسبية، فنجعل من الثابت متغيرًا و من المتغير ثابتًا ثم نشخص نحو محاكمة الآخرين وفق هذه المجعولات المقلوبة، إن أشد ما نحتاجه هو أن نتعلم من 'ديكارت' كيف ننقي عقولنا ، و كيف نفرق ما بين أحكام العقل و أحكام العرف (العقلائية) التي تنتج من الموروث الفكري ،و كيف نختار المنهجية التي نزود بها عقولنا ، المنهجية التي تؤيد الفطرة السليمة الموجودة فيه بدلاً من تسميمه بالمنهجيات المتناقضة و الطرق السيئة التي لا تقود إلا إلى (السقوط في غيابت جب الهوى) كما عبّر عن ذلك الملا صدر المتألهين.
.
شاهد ذلك ما روي في الكافي الشريف ، بحديث طويل عن الإمام الصادق عليه السلام ، منه:
.
« .. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟
.
قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته، علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك ،وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله، إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والادب الذي لا قوام له إلا به.»
.
و معنى الرواية أن العقل يدل المرء على التوحيد ، و لكنه لا يدله على الفرق ما بين العصيان و الطاعة ، ولا يدله على المنهج أو الطريق الذي يؤدي به العبادة نحو هذا الخالق الواحد،لذلك يجب عليه أن يبحث عن المنهج الذي يدله على الفرق بين ما يحبه هذا الخالق الواحد و بين ما يبغضه ليعطيه القيمة التي من خلالها يفرق الطاعة عن المعصية،و يضعه على الدرب الصحيح للعبادة و لا يكون ذلك إلا بطلب العلم.
.
فانتفاع الإنسان لا يكون بالعقل وحده و لا يمكن له أن ( يستغني بعقله ) إذا لم يضع له منهجية يستعمل من خلالها هذا العقل، من هنا يأتي التأكيد على ضرورة بحث الإنسان عن العلم و الأدب حتى يصل للمنهجية الأسلم التي يكون فيها نجاته.

19 أبريل 2009

رسالة من حمار

في أيـام الطفـولة كنّا ننتظر عيد الفطر ، ففيه تجتمع العائلة بمزرعة زوج خالتي في الوفرة ، و لم يكن في المزرعة إلا حمارٌ واحد اسمه إن لم تخني الذاكرة ( برعي ) ، رأسه بالأرض و ياكل من حشائشها رغم ما يتعرض له من قصف جوي و مدفعي بكل ما صغر حجمه و ثقل وزنه من جموع البرابرة الصغار ، حتى قضى نحبه ذاهبًا لحميرستان وأرسل لي هذه الرسالة من تلك البلاد.


صديقي العزيز سفيد ،
.
كم أنا في شوق و حنين و لوعة و أنين للجلوس معكم و التسامر في محضركم عمّا إعتلاكم من الطوام و أصابكم من الآلام جراء تسلط اللئام و ابتعاد الكرام عن مزاولة شؤون العوام بما يرضي النفس و الأنام بصنوف الولاء و الإحترام فتنالوا بذلك المرام و تبلغوا الوئام ليحسنُ بعد ذلك الختام.
.
لذا أكتبُ لك بعد طول الفراق و كثرة المشاق التي غلفت قلبي المشتاق ، و بعد أن صار حديثنا يتم عبر الأوراق عوضًا عن شد الوثاق و ضرب الأعناق دون إشفاق .
.
صديقي العزيز ،
.
سمعتُ حديثًا عرفته ، و بيان لمحته ، و مشهدًا انتظم صيته و علا صوته ، بأنكم مجددًا على أبواب الإنتخابات بعد النتائج المثبطات التي غطت سحائبها سماؤكم عن النّجوم السراة فبسَطت على واقعكم بيديها المجذومتين المشكلات، و طرقت في أجنابكم الحسرات، و تركت في سجلكم صفحاتٍ من المنجزاتِ خاليات، حينها تذكرتُ تلك الأحلامُ الحسان عن الأوطان و الجنان التي كان حديثكَ بها يزدان و لكن الأمر بكم شان و أصبح أمَلكم خسران فهل لا زلت تملك الإيمان بأن الجميل في طور الإمكان رغم كل هذا الخذلان ؟
إني لا أظنك اليوم إلا حيران بعد ما كان من الأشجان .
.
صديقي العزيز ،
.
قبل أيام و شهور و بضع نهاراتٍ و عصور عمَّ حميرستان السرور و بدا ذلك على محيَا الحضور ، فقد كانت نتائج إنتخاباتنا عظيمةً بلا غرور ، و رائعة بلا فخور ، و الفوز فيها كان من نصيب كلُّ وقورٍ و شريفٍ كريمُ الحضور، في هذا الخطاب مرفق كلمة نائبي بعد نجاحه في الإنتخابات ، نعم نائبي فالناجح لكل الحمير ممثلٌ و ليس لصحبه - وحدهم -مؤصلْ، و لكل القضايا مُعجّلْ و ليس عن همومنا بمَعزلْ و لا بالمواقف مبدلْ و لا بالخطابات مُضللْ، و لا عند التصويت للحمامات براحلْ.
.
إنّ الحمار يا صديقي رشيد و على الإنحراف شديد و لا يفوته من الحقوق جديد ، قليلُ الكلام عظيمُ الفعال ، صبور على البلاء حليمٌ على الأحياء رؤوف بالضعفاء وفيٌ للشركاء، و هو على عكسكم لا يتحدث إلا قليلاً و لا يحب ترتيل الخطابات ترتيلاً ، و إن واجه الصعوبات أذلها بعزمه تذليلاً ، لا يهوى الشكاية و لا يبحث عن النكاية ، صوته من أنكر الأصوات و شكله من أقبح الأشكال و مع هذا صار كالغيث المنهمرْ و ليس مثلكم أيها البشرْ جمعتم حسن الصوت و جمال المنظر و حلاوة المنطق و ظننتم أن قبح الباطن عندكم يتغير بسحر الخطاب و سوء الفعل لديكم ينقلب بمجرد صلاةٍ في المحراب ، و كنتم بظنكم مخطئين و فيه مغترين.
.
دعني أخبرك عن مجلسي و أعضائه ،
.
مجلسنا بناهُ الأشراف لتحقيق الأهداف التي بها يتم الكفاف لحقوق بني الحمير و الأحلاف ، و للإنصاف فهو في زريبة نظيفة على بابها حكمة لطيفة : كل من أظلّـته السقيفة فهو في مهمة شريفة ، و من أخل بها فهو للسوء رهينة و لا يستحق البقاء لدقيقة و حقَّ عليه أن يكون جيفة ، و أن تنسبه أمة الحمير العظيمة بأنه للإنسان وصيفه!
.
نائبنا الحمار ليس له أعداء ، لأن همّه خدمة الحمير وجعلهم سعداء ، لا يحب الاستهزاء و لا التحزب تحت رايات الأقوياء ، و لا يدعي ما ليس فيه أو أنَّ به تجتمع الآراء ، يعرف طريقه من أول مرة و إذا عرفه لا يكثر عنه الثرثرة .
.
عندنا نائبٌ اسمه (الورّاد)* كان للماء حاملٌ وفــّادْ يضعُ صاحبه عليه قربة على وشك النفادْ ، يملؤها بنفسه من النهر دون هادْ ثم يعود بها لصاحبه من العبادْ و من مائها على حد السواء من البشر و الحمير جوادْ .
.
سمعتُ أن عندكم مثله في البلاد ، نائبٌ عزيز الميلادْ و ورث مجد الأجدادْ ثم صارَ نائبًا بذكائه الوقادْ و لكن يا حسرة على العبادْ ما مضى من الوقت قليلٌ إلا و لنفسه الضعيفة عادْ و أصبح لمن كان يعيبهم شادْ و تحولت كلماته لرمادٍ يذرها الهواء في الوادْ!
.
الحمارُ يا سفيد عن موقفه لا يحيد ، و بدفاعه عن حقوق الحمير عنيد ،لا يبحث عن مجد تليد و لا يحاول صنع نفسه شهيد ، و عزّ على الزمان أن يأتي بمثله وليد و ليس له في الغابرات منكم عهيد و إن كنتم تظنونه من فئـة العبيد لجلوسكم على ظهره بلا سنيد و أن سكوته عنكم هو لأنه سعيد ، و لكنه في الحقيقة بأمثالكم زهيد و أن صمته هو ذكاءٌ فريد ، العبد يا سفيد هو من يعتقد أن الحرية عيشٌ رغيد و أنها شِعار جديد أتى به القادمون من بعيد الذين هم على عروش الغرب قعيد، بينما الحر هو الذي يرى الحريّة أنها القوة ، و ليست القوة بالفتوة بل هي بالمروّة ، إنّ الضعف أمام الإنسان حذوه و حكمة ، احتذاها الحمار خطوة خطوة ،
هل ترى عاقلاً بالغًا يضرب الطفل بقوة ؟
هل ترى في ضعف الرضيع كبوة ؟
هكذا يرى الحمار ضرب الإنسان له في الحلوة و المرّة ،
و النزول لمستوى الرد على الأطفال في لغة الحمير ليس فيه من مفخرة أو مروّة !
.
و الصمتُ عنده حكمة لأن فيه جوابُ كل سائل و من لم يكتف به فهو غافلْ .
أما العاقل في تعريفه فهو صاحب الخُلق الفاضل الذي يبتعدُ عن كل مائلْ.
و لا أنسى أن الجسد الناحل عنده خيرٌ من اللسان الجاهلْ.
.
حمارنا النائب صاحب النيافة الموقرة و الخمائل المنورة لا يُحب السيطرة و عنده في أموره تبصره ، يقوم صباحًا ليشد مئزره و يعملُ مع أصحابه البرره في الحقول المُزهره دون أن يشتكي قيد أنملة أو يرى في نفسه رفعةً على الحمير المَهرة كما أنه لا يحب ركوب العربة لأن خدمته لا تستحق ' الفشخرة ' ، لذلك سُمي عند أدبائكم بالحكيم و عند جهّالكم بالبهيم!
.
كلُّ حمارٍ عندنا هو حمـارْ ، أبيضٌ كان لونه أو مشوب بالسّمارْ ، ولد في المزرعة أو في إحدى الأمصارْ ، خدم البشر أم عاش كما شاءَت الأقدارْ ، و الحمار لأنه تعود الإيثارْ فهو لا يهتم بالدرهم و الدينارْ بقدر اهتمامه بصديقه و الجارْ و الأعوان و الأنصارْ ، و رغم نشاز صوته إلا أنه يُفصح عن الأسرارْ لأن للجميع الحق في معرفة التاريخ و الآثارْ ، و بهذا تدفع البلدة عن نفسها الأخطارْ و تجعل من أبنائها أخيارْ.
.
هذا هو مجلسنا و ما فيه من نوابٍ أصحابُ الإتقانِ في بلاد العدل و الأحلام المعروفة بحميرستان أبعدها الله عن تدخل الإنسان و طمع السلطان و أشباه الغربان و عشاق التيجان ، و جعلها منارة لسائر الأوطان.
.
هذا ،
.
و انجدكم الله من البلاء ، و أذهب عنكم الشقاء ، و رزقكم العلياء ، بتولية الأتقياء ، و تنحية طالبي الثراء، حتى تأخذوا بسيرة الحمير عديمة النظير علكم بذلك ترتقوا الكثير.
.
و السلام.
.
بـرعـي من حمــيــرستــــان ،
حرسها الله من الذوائب و النوائب و العجائب.
19 / 4 / 2009 م



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الحمار الورّاد هو الحمار الذي يرد للنهر أو 'الترعة' لوحده و يملأ القرب على ظهره و يرجع لصاحبه دون أن يقوده أحد.

المرفـق : كلمة النائب الفاضل في زريبة حميرستان - مبغضة الإنسان : هــنـا.


12 أبريل 2009

ليش مو الخبـز؟


- اخذ هالرواية .. عجيبة
- ما أحب الروايات .. زين اطل فيها
- بس هذي غير .... طيعني و اخذها راح تعجبك ، انا اعرف انت شنو نظامك
- امري لله باخذها بس اذا ما عجبتني بطقها براسك
- انت اخذها و راح تبوس راسي
.
حوار بالمعنى جرى بيني و بين احد اصدقائي في المكتبة و امام احدى الروايات ، رغم عدم حبي لها – للروايات طبعًا- اشتريتها و قراتها ، أعجبتني بدايتها جدًا .. غوصها في رحاب تساؤلات البشر عن أنفسهم و علاقاتهم و التساؤل الذي تطرحه ما بين تنازع قيم الإنسان مع قيم الإلوهية ، حب الإنسان لنفسه و حبه لربه و لغيره ، و لكن فجأة انقلبت الرواية لتطل الإباحية برأسها !

.
لم تكن مركزة .. و لكنها كانت موجودة !

.
عندها أغلقت الرواية و وضعتها على الرف مستذكرًا كلمة عبد الملك بن مروان حين أطبق المصحف بعد أن أتاه خبر الخلافة: هذا فراق بيني و بينك !*

.
كتابة الروايات تعتمد على مخاطبة عاطفة الإنسان و أحاسيسه لأن الإحساسات ترتبط بالمخيلة و قدرة "الوهم" عند الإنسان ، و بما أنها ليست فلمًا مصورًا فهي تعتمد بشكل كبير على التأثير الذي تضفيه الكلمة لخلق الصورة المناسبة في مخيلة القارئ ليستمر في انغماسه بهذه الرواية و قراءتها ، أذكر أن باولو كويلو في "الزهـير" يقول أن رواياته يُفضل أن تكون أفلاما يصنعها القراء في مخيلاتهم لا في هوليوود ، هكذا تحتفظ بتميزها لأن كل قارئ يصورها و يخرجها حسب ما يشاء و وفق ما يريد .

.
العاطفة و الأحاسيس عند القارئ تتولد من الغرائز و الحواس المُـدركة ، يولد المرء و فيه حواس و غرائز فطرية كثيرة بعضها تنمو معه و بعضها تخبو إلى أن تختفي من عنده ، لكن تظل هناك الأساسيات ، تبقى كما هي لا تتغير لأن استمرارية الحياة مرتبطة بها ، الجوع و العطش و الرغبة و الأمان و الإجتماع هي غرائز و أحاسيس تقود الإنسان لتوفير البيئة المناسبة له لكي يستمر الجنس البشري في الوجود .

.
و لكنها كلها تقف على مسافة واحدة من عقله ، و تقوى إذا سُمح لها بالعبور ، لذلك تخاطب الروايات هذه الغرائز بالتوافق مع خطابها للعقول ، منها تجذب انتباهه و تشوقه و من خلالها تجبر العقل على استيعاب الرسائل التي توضع فيها ، لذلك تحتل الروايات جانبا لا بأس فيه من خانة "محركات" الثورات كما هي التنظيرات و النظريات السياسية بل و ربما تتفوق على أي وسيلة كتابية أخرى في إيصال الرسائل لانها تقدمها في أسلوب قصصي يتواصل معه معظم القرّاء أفضل من تواصلهم مع الكتابات الجامدة و التنظيرات الخطابية .

.
غريزة الجنس هي كغريزة الجوع رغم أن الثانية تهدف للابقاء على حياة هذا الإنسان بينما كل ما توفره الاولى هي استمرار أجيال هذا الإنسان ، فهو قادر على الإستغناء عنها مع هذا يركز الروائي على قضية الجنس كمحور في رواياته ، و يحولها إلى أفلام إباحية تهمل كل غرائز القارئ و تحصره في غريزة واحدة فقط ، لماذا لا نرى روايات تتحدث عن قدسية الطعام ؟

و عن لحظات التلذذ في أكله ؟
عن الخبز و لحظات اكله التي تتوج مغامرات العشق و الهيام و الإحتياج له؟

.
على رغم كل الفقر الذي في العالم ، و كل الجوع الذي ينهب الشعوب ، و كل العطش الذي يشعر به الناس يوميًا، لا يتم التركيز على هذه اللحظات ، بل يتحول التركيز إلى "الجانب الغرائزي" في الإنسان ، و يتحول إلى صناعة قائمة بذاتها.

.
حين تتحول الرواية إلى هذا الجانب ، اعلم أن كاتبها فشل بدراسة الإنسان ، و فشل في معرفته، و أنّ القصة التي يكتبها لا يحاكي فيها القارئ كإنسان صاحب عقل بل كـمخلوق صاحب غريزة تعلقت أقدامه بالمرحلة الثانية من حياته و هي (المرحلة الحيوانيةclick)، و هذا يذكرني بمجلة الجريمة و جرائد التابلويد التي راجت لفترة في الكويت و مسيرها على هذا الدرب!

حينها إعلم أنّ كاتبها لم يستطع أن يخاطب الإنسان أو أن يوظف غرائزه الأخرى لجذبه و تشويقه لضعفه و قلة حيلته، لذلك فضّـل دغدغة أقوى غرائزه ليثيرها فتطغى على عقله ويترك لها المجال حينئذ لجذب القارئ.

.
قوة الغزيرة التي تصنف على أنها قوة بجانب العقل ، أي موازية و مساوية له هي التي يخاطبها الكاتب في كتابه و يلعب على حبالها و ليست قوة المنطق و العقـل ، حتى قصص الحب و العشق التي يجعلها المسوغ لهذه الامور، و يبرر بها أحداثها ليست سوى حبًا و عشقًا ماديًا بحتًا يتولد من الغزيرة الحيوانية في الإنسان ، غزيرة الرغبة و المتعة و التكاثر، هذا النوع من الحب يُطلق عليه (قـاتل الفضيلـةclick) لأنه لا يبنى و لا يضع أي أسس سليمة للعلاقات الإنسانية بل يحصرها بلحظات المتعٍ اللحظية.

.
قد أتفهم أن يلجأ كاتب غربي لمثل هذا الخطاب و لكن أتعجب من كتابنا الذين ينحون نحوه ، الفارق بين الثقافتين في مفهوم الكلمة يعطي ذريعةً للغربي بأن يتصور أنه بمثل هذه الإباحية يصور الحب و يتوجه، و لكن ثقافة الكلمة و معناها عندنا لا تعتبر هذا التصور سوى غريزة حيوانية وضعت في الإنسان و وضع قبالها قوة توازيها حتى تسيطر عليها.. فما الذي يريده هؤلاء؟

.
من أسباب عدم حبي للروايات هو اشتمالها على هذا الجانب، و هذا ركن من أركان موقفي الذي ذكرته في الموضوع السابقclick، و قليلة هي الروايات التي تنجو من هذا الفخ و لهذا "لاعت جبدي" منها.
و حتى أجد رواية يستطيع كاتبها أن يجعل من لحظة تناول لقمة الخبز رائعة فنيّة يخاطب فيها الإنسان و غرائزه بما يستحق الإحترام ، و يحولها القارئ لفيلم جميـل في مخيلته، بقدر ما يحوله هؤلاء إلى سينما إباحية في مخيلات القراء سيظل موقفي ثابتًا منها.

.
إلى ذلك الوقت أنا بانتظار رؤية صديقي "عشان أطقها براسه"!




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البداية و النهاية لابن كثير ج 12 ص 380

6 أبريل 2009

المفيد من وحي سفيد

كلمات أوحت لي بما كـان ..

المخلدون


« اللسان ترجمان العقل »

أمير المؤمنين عليه السلام


والدي - رحمه الله - قال لي مرة : لا يسجل التاريخ الرجال الذين تركوا آثارهم في الأرض ، لأن صفحاته لا تكفي لأن يكتب فيها سيرة مليارات البشر ، و لا يسجل التاريخ الرجال الذين تركوا آثارهم في القلوب ، لأن القلوب تحكم بعاطفتها و العاطفة متطرفة تموت بموت صاحبها، و لكنـه يسجل الآثار التي تركها الرجال في العقـول ، لأن عقول الرجال هي التي تحكم سيرة التاريخ ، و تبقى ما بقي نتاج عقولهم متداولا.

لهذا خلّـد التاريخ اسم " أرخميدس " ، و لكنه نسى اسم ملك سيراكيوس !


الكتب


« الذي لا يقرأ كتبًا جيدة ، لا يملك أي شيء يميزه عن ذلك الذي لا يقرأ نهائيًا »

مارك توين


عندما تقرأ كتابا فأنت تتناول طعامًا ، الكثير من الناس يعانون من حساسية من أنواع معينة من الطعام ، كذلك هم مع بعض الكتب ، كما أنّ بعض الناس لا يمكنهم هضم أي طعام كذلك هم مع بعض الكتب.
عدم القدرة على هضم الطعام او عدم مناسبته ، لا ينفي كونه طعامًا .
كذلك هي الكتب التي لا يمكننا هضمها أو لا تناسبنا.
حين نأكل الطعام فإن أجسامنا تبدأ بتحليله و هضمه لتحتفظ بالمفيد منه ، و تطرد الضار للخارج ، هذا يجب ان يكون موقفنا من الكتب ، موقف نستعير به عمل الجهاز الهضمي لنطبقه على عقولنا ، نقرأ كل شيء ثم نحتفظ بالمفيد ، و نطرد الضار .



الروايات


« ارتد معطفـًا قديمًا ، و اشتر كتابًا جديدًا »

أوستن فيليبس



بطبعي لا أحب قراءة الروايات ، و على هذه السيرة سرتُ إلا أني في الآونة الأخيرة و تحت ضغوطات عديدة بدأت بالقراءة فيها ، أحببتُ بعضها ، و " لاعت جبدي " من البعض الآخر (و هذا ما سيكون في موضوع منفرد) ، لكن الآن يمكنني مرتاحًا أن أعود لوجهة نظري السابقة بأن الروايات لا يضر الجهل بها و لا تفيد قراءتها كما هو مأمول .
هي لا تقدم وجبات ثقافية و لا معلومات جديدة ، كل ما تقدمه هو ما سبق معرفته و لكن بصياغة جديدة ، بأسلوب شيّق يجذب القارئ ، يمكن أن يُقال بان الروايات لا تقود لكشف جديد و لكن تقود إلى تغذية قراءها بما سبق و أن توصل له العلم بسرد جميل ، أي تبسط المعارف له .

لذلك لا زلت أفضل الكتب المتخصصة بموضوع ما ، و لو كانت عن خياطة الدشاديش على الروايات.


جهل

« الجاهل من عدَّ نفسه بما جهل في معرفة العِلم عالمًا ، و كان برأيه مكتفيًا »

الإمام علي عليه السلام



ينقل الشهيد الثاني رحمه الله في منية المريد هذه الحادثة اللطيفة أن أحدهم سأل القاسم بن محمد بن أبي بكر مسألة فقال : لا أحسنه .
فقال السائل : إني جئتُ إليك لا أعرفُ غيرك .
فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي و كثرة الناس حولي ، و الله ما أحسنه .

شاهدتُ هذا المقطع (اضغط) فقفزت هذه القصة لذهني ، من الصعب على الإنسان أن يعترف بجهله أو أن يقر بتقصيره ، لأن مجتمعنا لا يحترم من يعترف بالحقيقة ، و يعشق من يغلف نفسه بالأكاذيب ، و يُحب أن يحكم على الناس بالمظهر و يرفض أن يُصدق الحقيقة إذا خالفت حكمه!
مجتمعنا أعطى للصدق قيمة متدنية ، و احترم المخادع و ركن إلى الشكل الظاهري ، لذلك يخشى الإنسان فيه من الإعتراف بجهله و تقصيره و يفضل اللف و الدوران حتى لا يفقد الصورة التي أعطاها له المجتمع .
أعتقد أن أسمى معاني الشجاعة ، تكمن في الإعتراف بالجهالة ، فالعلم أوسع من أن يحيط به إنسـان .
و اعتراف بالجهالة ، خيرٌ من الوصم بها .. مثل ما صار مع الصحفي الأديب الأريب العلامة النحرير!


بخل

« البخيل لا يكافئ على ما يسدى إليه ، و يمنع أيضا اليسير ممنِ استحق الكثير ، و يصبر لصغير ما يجري عليه على كثير من الذلة . »

أمير المؤمنين عليه السلام



البخل يصنفه العديد على أنه صفة للإنسان ، بينما هو في الحقيقة مرض ، عبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام : لا تطلب الخير من بطون جاعت ثم شبعت فالجوع باقٍ فيها .

فهؤلاء و إن تحسنت احوالهم المادية فإن ما جبلوا عليه سيظل في وجدانهم ، فتراهم غير قادرين على التخلص من آثار هذا الشيء تماما كباقي الأمراض النفسية التي تنشأ بفعل المحيط الإجتماعي أو التاريخ الذي رافق نشوء هذا الشخص .


سأذكر لكم قصة واقعية و أعرف أصحابها جيدًا بحكم القرابة ، و هي تبين تأثير المحيط الإجتماعي في تكوين طباع الشخص و إن حاول التمرد عليها .

والدهم كان شخصًا معروفًا و ذي جاه و مال ، له عدة زوجات و أبناء كثيرون و أغلبهم ما شاء الله من ذوي التخصصات و المناصب و الفكر ، مع هذا فقد كانت طفولتهم رغم ثراء والدهم و تدينه صعبة بسبب البخل الشديد الذي كان يتعامل به مع أولاده ، لدرجة أنه كان يشتري لكل بيت من بيت زوجاته - مثلاً - علبة جبن واحدة في الشهر فعليهم تقاسمها بحيث تكفيهم لهذا الشهر و إن انتهت قبل ذلك فعليهم بأن يناموا و يحلموا بطعم الجبن حتى دخول الشهر الجديد .

توفى والدهم رحمه الله ، فحصل كل من الأبناء على نصيبه الذي كان يشكل ثروة صغيرة لكلٌ منهم ، أحدهم و هو من أتحدث عنه هنا أصبحت لديه حالة عدائية تجاه البخل بعد سقوط هذه الثروة في يده ، فأصبح كل ما في جيبه هو لمن يطلبه و لم يبخل على زوجته و أولاده بأي شيء ، إلا أنه في نفس الوقت كان يعيش مع ذاته حالة من التقـتير و البخل بدرجة كبيرة بسبب ما تربى عليه ، فحين لا يبخل على ولده بأي شيء تراه يبخل على نفسه بجورب جديد و كم رأيته رغم منصبه يلبس جوربًا استحال لونه إلى لون آخر و قد بُلي .

بسبب بذخه على غيره ، استهلك ورثه دون أي عائد يعود عليه ، و لولا منصبه الذي يوفر له عيشة كريمة لأصبح حاله الآن أسوء من معظم العوام ، هذا ما أوصلته له نفسه ، فهو بعد وفاة والده عاش في حالة تمرد على الطوق الذي شب عليه فظن أن صرف الاموال و بعثرتها هو ضد البخل الذي صعّب عيشه في شبابه ، بينما لم يستطع أن يجيّر ما شب عليه بحيث يصرف هذه الأموال على نفسه أو يوظفها بشيء يعود عليه بفائدة و لو قليلة .. كل هذا نتيجة عدم قدرته على فصل ذاته الشخصية عن طبيعة البخل التي غلفت محيطه الإجتماعي ، و نتيجة تمرده على البخل على غيره حتى لا يوصم و يوصف بأنه سر أبيه الذي ترك ثروة نتيجة بخله على أولاده .

4 أبريل 2009

كسر أصنام الجاهلية





بما أنّ المكتبة في المدونة تئن من قلة المشاركة ، فآن أوان الإلتفات لها قليلاً.
في الأيام الأخيرة أصبحت عندي فسحة لا بأس بها لإعادة المطالعة و القراءة و الإلتفات للكتب الكثيرة المرمية عندي ، فقررت إعادة تنظيم المكتبة قليلا ( بما أنّ ترتيبها مستحيل نظريا و عمليا ) ، و بدأت بقراءة بعض الكتب و الأبحاث التي أهملتها سابقًا ، منها الكتاب الذي سأتحدث عنه اليوم.

.
اسم الكتاب : كسر أصنام الجاهلية ( و في الطبعة الحديثة زيد على العنوان " في الرد على الصوفية" ).
المؤلف : صدر المتألهين الشيرازي [1]
المحقق : حسين الطقش

و الكتاب هو إعادة إحياء لهذا التراث المنسي ، فهو قد طبع مرة واحدة سابقا سنة 1961 ، و هذه المرة أعيد تدقيقه و طباعته تحت إشراف ( معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية و الفلسفية ).

الكتاب لا يناقش قضية الإعتقادات أو المذاهب و قد يُفهم ذلك من عنوانه ، بل يناقش قضية ( الصنمية ) ، و هي كيف يخلق الإنسان لنفسه أصنامًا تكبله عن سلوك مدارج السالكين العارفين ، هذه الأصنام التي شبهها الملا رحمه الله بأصنام الجاهلية التي كبتلهم عن توجيه عبادتهم لله سبحانه ، و جاء ذكر الصوفية من باب ما اشتهر في زمن المؤلف من إدعاء التصوف و الحكمة و المعرفة و العرفان من قِبل بعض الجهلاء كما بيّن المصنف في مقدمة كتابه و هم في حقيقتهم أبعد الناس عن هذه الامور ، يُعتبر هذا الكتاب من أوائل الكتب التي ناقشت و فرّقت بين العرفان و بين التصوف ، بين من سماهم صدر المتألهين « الذين تشبثوا بذيل ناقص في العلم و العرفان ، قاصر مثلهم في العمل و الإيمان و مع ذلك ادعوا علم معرفة و مشاهدة الحق الأول ، و مجاورة المقامات عن الاحوال و الصول إلى المعبود و الملازمة في عين الشهود و معاينة الجمال الأحدي و الفوز باللقاء السرمدي و حصول الفناء و البقاء .
و أيم الله أنهم لا يعرفون شيئا من هذه المعاني ، إلا بالأسامي و المعاني ...
»

.
و بين أهل العرفان الذين عرفوا الله بالعقول و اتبعوه وفق شرائعه ، كما : «.. أنه لا يجوز و لا يتيّسر للإنسان متى كان مقصرًا في العبادات الشرعية أن يتعرض بشيء من العبادات الحكمية ، و الرياضيات السلوكية و المجاهدات التصوفية ، و إلا هلك و أهلك ، و ضل و أضل و غوى في غيابت جب الهوى»

.
الكتاب كُتب بلغة مسجعة جميلة اشتهر بها الفلاسفة و أهل العرفان إلى اليوم ، رغم ذلك فإن مفاهيم الكتاب يُمكن الوصول إليها من قِبل أي قارئ حتى مع كثرة المصطلحات الفلسفية و الفقهية و غيرها المذكورة في الكتاب ، لأن محققه قد قام بعمل جبّار في تعليقه و شرحه و تحقيقه لكثير مما ورد في الكتاب ، و قد اختصر الكتاب في قوله : « يحمل المؤلف في أكثر من موضع على أولئك الذين تظاهروا بالمعرفة وادعوا الإحاطة بالشرع، أو نبذوا العقل والشريعة جانباً، بدعوى عدم إمكان المعرفة بشيء وأن المعرفة هي الحجاب.. هذه هي رسالة الكتاب الرئيسية، وهي تعتبر الأساس لكل نزعة صوفية عرفانية صحيحة بنظر المؤلف »

.

ينقسم الكتاب إلى أربع مقالات :
المقالة الأولى (لا رتبة عند الله عز و جل أجل من المعرفة بذاته و صفاته و أفعاله و أن العارف هو العالم الرباني و أن كل من هو أعلم فهو أعرف و أقرب عند الله )
المقالة الثانية ( في أن الغاية من العبادات و المجاهدات هي تحصيل المعارف الإلهية)
المقالة الثالثة ( في ذكر صفات الأبرار و العاملين الذين درجاتهم دون درجات المقربين )
المقالة الرابعة ( في مواعظ في ذم الدنيا و أهلها )

.
و تحت كل مقالة هناك تفريعات عديدة ، يُمكن أن يصنف الكتاب من خلالها على أنه كتاب أخلاقي قبل أن يكون كتابا يناقش قضية ( الدين ) و ممارسته و شعائره ، و ما يقوم به بعض من يتمسحون بمظاهره في التكسب به ، و كذلك يُعتبر كتابًا فلسفيًا يتحدث عن الإنسان و صفاته و عوارضه من العشق و الحب و الأفعال و الأعمال ، و مبادئ الأفعال الأخلاقية -التي هي موضوع لازال مطروحا إلى اليوم منذ فلاسفة الإغريق إلى فلاسفة الغرب كرسل و هيغل و هايدغر و غيرهم .
.
حين يتحدث عن المادية مثلاً (رغم أنها حديثة ) يقول كما في ص 58 :
« إن النفس إذا عُميت عن أمر مرجعها و عالمها ، و خفي عليها معرفة مبدئها و معادها ، اشتغلت عند ذلك بالمحسوسات ، و استغرقت في بحر الشهوانيات ، و نسيت ذاتها و توهمت أنه لا وجود لشيء إلا للحسيات ، و لا اعتماد إلا على المشاهدات ، التي ينالها الحواس الظاهرة من الدنيويات ، و لو توهمت امور الآخرة لتوهمتها بعينها كالدنيا و زهراتها و شهواتها على وجه أدوم و ألذ و أوفر ، فلهذا يركن بحسب طبعها إلى الدنيا و يرضى بها و يطمئن إليها ... إلخ»

.
و حين يتحدث عن أفعال العباد و كمالاتها يقول في ص 150 :
« فإن سعادة كل احد هو عبارة عن إدراك ما يلائم ذاته ، و يوافق طبعه . و الملائم لكل شيء ما يكون مقتضى خاصيته ، و يكون به كماله.
و لهذا يكون لذة الباصرة [ العين] في إدراك الصور الجميلة ، و بذلك يحصل كمالها ؛ و لذة السامعة [ الأذن] في سماع الأصوات و لذة الشهويّة في طلب اللذائذ الحسيّة ، و لذة القوة العقلية في دفع الكريه الحسي بالإنتقام ، و لذة القوة العاقلة النظرية في إدراك حقائق الموجودات و نيل دقائق المعقولات ، و الإتصال بعالم المفارقات[2] . إذ به يحصل مقتضى خاصيتها و يتحقق كمالها و غايتها و تعاملها.
و لاشك أن أجّل المعقولات و أشرفها ذاتًا هو ذات الحق الأول [ الله سبحانه و تعالى] ، فيكون ألذ الأشياء عند العقل ، و ذلك لأن المطلوب كلما كان أكمل ذاتًا و اظهر تحققًا ، يكون إدراكه ألذ و أبهى
»
و في الجملة الاخيرة إشارة لطيفة إلى حقيقة ما يُمكن ان يسمى إدراكًا للإنجاز.
.
  • تعليـق أخيـر :

الكتاب بمجمله لطيف و جميـل للمهتمين في مثل هذه المسائل ، خصوصًا أنه يناقش قضية نعاني منها الآن من حيث كون الكثيرين اتخذوا الدين مطيّة لغاياتهم و أهدافهم و انخدع الناس بهم بينما هم يفتقدون لأبسط الكمالات الاخلاقية و الدينية لذلك يجب الإنتباه لهم و الوعي بهم ، هناك بعض الملاحظات عليه و لكن هذا ما يذهب إليه الملا صدر المتألهين ، بان قياس الناس لا يجب أن يكون بأسمائهم و صفاتهم و أشكالهم حتى يؤخذ قولهم بتمامه و لا يُرد عليهم ، فهذا نوع من الصنمية التي يصنعها الإنسان لنفسه ، بل يجب ان تكون الغاية (المعرفة) و منها يُقاس كل شيء ، سيما في الدين ، كما قال الإمام علي عليه السلام : اعرف الحق تعرف أهله.
أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام : من دخل الدين بالرجال ، خرج منه بالرجال .. .


ملاحظة : الكتاب اشتريته من معرض الكتاب الأخير في الكويت.

و يُباع في النيل و الفرات و غيرها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صدر المتألهين الشيرازي : المعروف بـ الملا صدرا ، محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي عالم و فيلسوف إسلامي، كان أول من جمع بين فلسفة أفلاطون و أرسطو بمدرسته التي سماها بمدرسة الحكمة المتعالية و شرحها بأهم كتبه و هو : الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية أو ما يعرف بكتاب الأسفار.
له كتب و شروحات عديدة على الفلاسفة و الحكماء ، و الروايات.
توفي سنة 1050 هـ / 1640 م في البصرة أثناء عودته من الحج للمرة السابعة.
[2] عالم المفارقات معناه العالم اللا مادي ، أو العالم الذي لاتوجد به المادة و الصورة و غيرها ، و يسمى بعالم الأمر ، إذ يكفي في إيجاده أمر الله سبحانه و تعالى.