20 يوليو 2010

إنـه الثـمـن

لعل السماء، في مساء ذلك اليوم شديد الحرارة في الكوفة، أرادت أن تعاكس الأرض حتى تعطي درسًا للجميع. بقدر بياض الأرضية الرخامية الملساء، كان اسوداد صفحة السماء، كأنها ستارة مسرح مهمتها الوحيدة حجب ما ورائها فقط. بقيت لساعات أتأمل تلك الصفحة الظلماء، تأمل لم يقطعه سوى وميض نجمة وحيدة يبدو أنها تمردت، فهربت، وبرقت، ثم انتهت.
النقطة السوداء في جسم الإنسان علامة جمال وكمال لأنها حبة خال، والعكس مع السماء صحيح! مقاييس الجمال والكمال التي نضعها لأنفسنا في الكثير من الأوقات تحجب الجمال الحقيقي في العالم الخارجي عنّا، ولا نراه، لأنه جمال لا يخضع لمثل هذه المقاييس.
.
ضوء هذه النجمة، كان ثمنه زوالها. بقيت وحيدة تعلن لنا أن منطقها كان منطق الشمعة، أحرقت نفسها حتى تنير سواد تلك الليلة الموحشة. لزمن يأبى التلون إلا بلون الباذلين فيه. إنها أبت ترك الستارة الدهماء تمر عليها مرور الكرام وتتخطاها لتحجبها دون أن تعارضها وتستوقفها، حتى وإن انتهت تلك النجمة، وأعلن نورها الواصل إلينا وفاتها، ليسطر في سوق الذاكرة مشاعر الفرح والسرور عندي، لأنّ شيئًا ما، قال في يوم من الأيام .. لا .. ثم أثبت موقفه بأن اخترق جدار الظلمة، على حساب بقائه.
.
لكل شيء في هذه الخليقة ثمن، يقل أو يكثر، يزيد أو ينقص، لكنه يظل ثمن يجب دفعه. قد لا تعتبر الأثمان في بعض الأحيان متناسبة مع المثمن، ولعل ذلك يعود إلى أنّ الثمن وضع متناسبًا مع أشياء نجهلها، ولا نراها، ولا نعلم قدر الجهد الذي بذل فيها. كالعادة نجنح إلى الحكم السريع على المظهر النهائي للأشياء ونتناسى الآلية الطويلة التي مرت بها حتى تصبح على هذا الشكل.
.
إلى أي درجة قد تصل القدرة على التضحية؟
لا أظن أن تلك النجمة هي مجرد حادثة عابرة تمر مرور الكرام، ولا أعتقد أنها كانت عبثًا، لكنها أرادت إرسال رسالة، وإعطاء إشارة، بأنّ «الغبن لا يلحق أحد إذا دفع غاليه فيما يستحق». هي عبرة لنا بني البشر، قليل هم الذي يلتفتون لها في خضم الحياة. معتركها يفرض على الإنسان أن يجعل من الفضائل أشياء ثانوية. قال أفلاطون لسقراط «إنّ ما يكوّن فضيلة الرجل هو أن يكون ما ينبغي أن يكون..»، ومعظم الناس ليس كما ينبغي أن يكونوا!
.
تفرض الحياة عليهم مساراتها، وتقيدهم لمجاراتها. فتُكتم الحقائق خوفًا من الفضيحة، وتجمّل الوقائع هربًا من الحقيقة، ويخدع الناس أنفسهم بأن الوقت ليس مناسبًا لتصفية الحسابات، وزمن الإنشغال بنقد المخطين، وتحطيم أساطير الخادعين، سيأتي لاحقًا حين ننتهي من (الأولويات). على غلاف "ساحرة بورتوبيللو" يقول كويلو: «الناس يوجدون واقعًا ليصبحوا من بعدها ضحايا لهذا الواقع الذي أوجدوه..» وهذه هي باختصار قصة هذه الأولويات التي لا تنتهي.
.
يتصور الكثيرون امتلاكهم للقدرة على النقد السليم، وعلى الإرادة للاعتراف بما هو خطأ، والإذعان لما هو صحيح، بكلمة أخرى، يلقنون أنفسهم القدرة على الإيمان بالحقيقة، ويتصورون أنهم وصلوا للحقيقة المطلقة، في الغالب هم توصلوا لما يتصورونه حقيقة، لا للحقيقة بذاتها. وتراهم يدافعون باستماتة عن هذه الحقيقة، وفي قرارة أنفسهم يعلمون أنهم يدافعون عن تصوراتهم الذهنية، وميولهم النفسية. أحدهم في يوم من الأيام اعتبر نفسه وصل للحقيقة ومضى يثير التساؤلات حتى يستميل الناس لها، أذكر أنني سألته سؤالاً، بعد إجابته قررت الاكتفاء بالإبتسام وتركته ليغرد بأحلامه التي اعتبر بها نفسه على المحجة البيضاء(!). ليس عجبًا أن يقضي بيكون حياته في التحذير من الوقوع أسرى للعقل،الموجود المفترض أن يكون أسمى ما فينا. إنّ الحقيقة مرّة بمرارة الدواء: شر لابد منه. وعلى قدر تقبّل مرورتها يكون الإقتراب من الإعتقاد بها، وعلى شدة محاربتها يكون الإبتعاد عنها، وكم من محارب لها وهو لا يعلم فعقله أسير لهوىً أمير!
.
ما بين الأحلام والحقائق، خط رفيع، بسماكة الجفن. والناس غالبًا يفضلون الأولى، فهي تبرر لهم سلوكياتهم وآرائهم وتجعلهم يتآلفون مع أخطائهم فلا يشعرون بجرمها، وبمرورتها، بينما تقتضي الحقائق ذلك لأنها تمثل الواقع والإنسان بطبعه يحب أن يهرب من الواقع إلى الخيال دائمًا .. فخلع على النوم ثياب السلطان!
.
«دافعتي أكبر من جاذبتي .. !» كانت احدى الجمل الإعتراضية منه عليّ أثناء نقاشي معه. وبعد أن قرأت الرواية، عرفتُ (لماذا) بصورة أفضل. فالصياد يعي الماء أفضل من السمكة.
.
فيما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام «إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه»، وليس من إدبار أكبر من أن يتم تنميطك و تصنيفكلمجرد أنك كتبت وقلت وتحدثت عن أشياء يرفض الآخرون الإعتراف بها، عن أمور يفضلون وضعها تحت السجادة والإدعاء بعدم وجودها، ويستحسنون تأجيلها إلى ما لا نهاية، وعن قضايا يعتبر الحديث عنها في مثل هذا الوقت محرمًا لأن هناك قضايا أهم وأكبر، قضايا حسب الظاهر- لم ولن تنتهي أبدًا.
.
لماذا يعتبر الناس الحديث عن (المسكوت عنه) جرمًا يسبب الضعف؟
بينما هو سبب القوة، فلا أفضل من أن تجعل كل شيء في مقامه. هذا السكوت هو الذي يغذي الأوهام، ويجعل الاحلام بمثابة الحقيقة، ويصبح مثل أولئك الحالمون مصيبون، وأنهم أصحاب الحق وحده، لنرى أنفسنا فجأة نعيش في غابة من الأصنام الفكرية والذهنية نمت وترعرت بماء السكوت وتربة التأجيل وهواء المصالح.وإن حاولت يومًا تبيان ذلك «استضعفك القوم وكادوا يقتلون» بأقلامهم وألسنتهم وأفعالهم وكلماتهم. باختصار مؤسف هذه هي مسيرة البشرية وسيرتها، مثلما فعل بنو إسرائيل مع هارون!
.
الثمن لا يدفعه الباذلون فقط، إنما يدفعه حتى أولئك الذين يرون ما لا يراه الآخرون، والذين يصرون على أن يكونوا كما ينبغي أن يكونوا، لا كما يريدهم المجتمع، أو تفرضه عليهم الحياة، الذين لم يحترفوا لعبة التنازلات، أو يشتغلوا بالشعارات، وانتهوا بتحوّلهم إنعكاسًا للآخرين، يدافعون عن أصنام أذهانهم وينسبون لها كل محاسن الآخرين. هذا هو نفسه الثمن الذي دفعته تلك النجمة حين تمردت على سواد الليلة، ورسالتها: من أراد شيئًا فعليه تحمّل ثمنه، وإن كان غاليًا .. مكلفًا.
.
ثلاثية لم يكتبها أديب مشهور، ولا تخلو من نقد، لكنها تستحق الاحترام والإشادة، لأنها أتت في زمن فيه «رحل (عالم ثائر) وجاء (جاهل تاجر)..
عندها خاب الرجاء، وانقطع الأمل، وضاع الجنيُ، وتلف الحصاد، وأعصفت به الريح في مهبها.. فهدر الثمن!
»
لتعلمنا كم هو غالٍ هذا الثمن.
شكرًا .. عباس بن نخي، ولما خطته يمينك في (الثمن).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة هي غلاف رواية ( ثلاثية الثمن ) لـ عبّاس بن نخي.

1 يوليو 2010

الساقطون والساقطات .. أخلاقيًا


مجددًا*، يعود السؤال عن علاقة المظهر الخارجي بالحكم أو الإنطباع عن الآخرين إلى السطح. هذه المرة سبب العودة هو محاولة ربط هذا المظهر بالاستنتاج الأخلاقي، أو بتعبير آخر بعلاقة المظهر في التصنيف الأخلاقي، والعلاقة بالدين الذي هو بمعناه العام المظهر الأتم والأكمل للأخلاق. تظل الطبيعة الإنسانية تملك ميلاً كبيرًا إلى إيجاد سبل الراحة، وهذا كان دافعًا من الدوافع الرئيسية التي قادت البشرية نحو الإكتشاف والإختراع لتسهيل الحياة، والإقلال من المجهود المبذول لأجلها. والأمر لا يقتصر على الماديات بل يتعمّق نحو الإنسان ذاته، فطريقته في استلهام الحكم على الآخرين من خلال أقصر الطرق وهو استخراج الحكم من مظهر الشخص، تعبّر باقتضاب شديد عن هذه الفلسفة التي يتبعها في تصنيف الآخرين من خلال أقصر الطرق.
.
غير أنّ السؤال هذه المرة، يأتي متزامنًا مع إطلاق حكم أخلاقي، وديني، مستتبعًا لهذا المظهر، وليس حكمًا 'تقييميًا' كما هي العادة. هذه الإشكالية تطرح نفسها بقوة في مجتمعات تدعي المثالية التامة في خطابها من خلال تركيزها على المفاهيم الدينية، والأخلاقية، التي هي على عكس أيّة مفاهيم أخرى، ترتبط بها أحكام بالغة الخطورة على المجتمع في حال سوء توجيهها. إنّ إطلاق صفات أخلاقية سيئة، نابعة من سوء الظن، أو التسرع، أو تعميم حالات شاذة، والمحاكمة الشخصية، لفئة ما، أو شخص ما بناءً لى مظهره من خلال صورة نمطية هو بمثابة إطلاق رصاصة عليه لقتله. تعدد صور القتل قد تكون بالسلاح، أو بالحرمان، أو بالعزل، وكلها تقود في النهاية إلى سلب حياة الشخص، فليس القتل مقتصرًا على سلب الروح وحدها.
.
الخوف من الموت هو خوف غريزي، يتواجد في جميع المخلوقات، أمّا الخوف من العزلة فهو خوف إنساني، لذا يفقد الكون الذي نعيش به كل المعاني إذا لم يكن هناك إتفاق بين الناس الذين نعيش بينهم، وهذا هو الخطر في مثل عمليات العزل هذه وهي أنها تدفع 'المحكومين بالعزلة' أو المنبوذين إلى الشعور بالنقمة على المجتمع، وأخلاقياته المدعاة، وبالتالي إلى اتخاذ مواقف تتسم بالتصادمية مع هذه الشعارات والأسس التي ترجع لها، وعلى رأسها الدين، والأخلاق. حينها يبدء قانون نيتوتن الثاني الخاص بالفعل وردة الفعل بالسريان.
.
أغلب محاولات حلِّ هذه الإشكالية أضحت غير ذات فائدة لكونها تحليلات تصل –ربما- بحسب الظاهر إلى تعليل علاقة الحكم من خلال المظهر على أخلاق الإنسان وسلوكه. التحليل والوصول إلى جذر المشكلة لا يقدم علاجًا إنما يعطي معرفة، أو يكشف واقعًا فقط، وتبقى أدوات العلاج مختصة بأفراد هذا المجتمع أنفسهم من خلال إيجادهم لثقافة أخرى تختص بتقييم الآخرين.
.
الثقافة التي تتواجد بالمجتمعات التي يكون خطابها مثاليًا أكثر من اللازم، بحيث تنسى أنها تتعامل مع مجتمع إنساني، لا ملائكي، هو أنها تنزع إلى أقصر أدوات الحكم لتبرر لنفسها أخطاءها. بمعنى، أنّ أفرادها يستغلون هفوات الآخرين، أوأخطائهم، في تبرير ما يرتكبونه يوميًا. حتى تتضح الصورة أكثر، فإن مجتمعنا وتحت عنوان الدين، والعادات والتقاليد، يمتلك مخزونًا رهيبًا من الخطوط الحمراء التي يقيس بها الآخرين ويقيّمهم على أساسها، وهي بجلها أشياء ظاهرية لا صلة لها بما يحكمون به. على سبيل المثال، من السهل أن يتم تصنيف 'غير المتحجبة' في خانة المصابين بـ «مشكلة أخلاقية»، ومن الباحثات عن «الأزمات الأخلاقية»، أويتم تصنيف المنتمين لمهنة ما بأنهم «عديمي الشرف»، أو يتم اعتبار العوائل المنفتحة على ذاتها بأنها «متغربة» لا تعرف شيئًا من الدين! والأمثلة أكثر من أن تحصى، ولا أظن أنها، أو بعضها على أقل التقدير لم تمر عليكم.
.
ومن جهة أخرى، فإن لحية بسيطة، أو قطعة قماش دون معنى على الرأس، وغيرها، كافة لأن تسبغ نعماء العفة والشرف والتدين، وكل الصفات الحميدة على أصحابها. فما هو الخلل؟
.
أوّل مواضع الخلل هو في فهم الدين ذاته، و وظيفته. الدين يملك وظيفة اعتقادية في الأساس، والإعتقاد هو بمثابة الخريطة التي توضح الطريق الصحيح للإنسان. كثيرون قد يملكون المعرفة بالطرق الصحيحة، ومع هذا يخطؤون. وبعضهم قد يعرف صعوبات الطريق، ويذهب إليه مطمئنًا به، وإن كان لا يأخذ استعدادته الكافية. الخلل هنا في قصور هذا الشخص، وقصوره لا يعني ضلاله وسقوطه، أو أنه هدف متاح لأي اتهام.
.
كما أنّ الخلل يتمثل في صورة أكبر، حين يتم غض النظر عن "السلوك"، الذي يعتبر القاعدة لأمثل للحكم على الآخرين. لاتخلو تصرفاتنا كبشر يوميًا من بعض الأفعال التي قد تبدو للآخرين خالية من أي معنى، لكنها في واقع الحال، ليست عبثية، كما أنها ليست خالية من المضمون كما نتصورها. فلا شيء يعبّر عن حالة الإنسان بأبلغ تعبير كالسلوك الذي يقوم به، سواء كان سلوكًا مدفوعًا برغبات واعية، أو برغبات تصدر من اللاوعي عنده، في كل الأحوال هي ترجمة لواقع هذا الشخص.
.
ليست المرأة السافرة ساقطة أخلاقيًا بالضرورة، وليس الرجل غير الملتحي فاسقًا، كما أنّ الحجاب لا يعني دخول صاحبته في دائرة العصمة. العبادات متممة للأخلاقيات، ولعل هذا أحد توجيهات حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ليتمم أي ليحملها إلى مظهرها الأتم والأكمل ولا يكون ذلك إلا بالإلتزام الصحيح بالأوامر التعبدية. وهذه النقطة التي لا تستوعبها المجتمعات التي تدعي المثالية لأنها غير قادرة على فصل السلوك عن الشعار، فهي تتحدث عن الأمانة وتحتقر السرقة، وتندد بالظلم وتنادي بالحرية ولكن يصبح الحال كمال قال الكواكبي: يطلب الناس الحرية ماداموا مرؤوسين، فإذا رأسوا استبدوا.
.
ففي الوقت الذي يرفع به أبناء المجتمع هذه الشعارات، فإنهم يمارسون كل ما ينقضها في حياتهم اليومية، ثم لا يجدون حرجًا في أن ينصبوا أنفسهم قضاة على النّاس ويطعنوا بأخلاقهم لكونهم مقصرين، دون أن يبحثوا لهم عن عذر، أو يطلبوا لهم الإنصاف. ولعلّ السبب هو أن هذا الفعل يعطيهم أفضل ذريعة لتبرير كل ممارساتهم غير السويّة، فـ(المتحجبة الكاشفة) ترى نفسها أفضل من تلك السافرة فهي على الأقل تضع قطعة من القماش على رأسها بما يناسب الحكم التعبدي وإن كانت لا تعترف بباقي الأحكام! ويهوّن الملتحي أخطائه الفادحة وانحرافاته بحجة أنه على الأقل أفضل من ذلك الحليق، وعلى هذا الأمر قس الباقي.
.
وكلهم في النهاية يغمضون أعينهم عن حقيقة أن التدين الحقيقي، ليس بالمظهر، ولا بما تجري عليه العادة أو يكتسب من البيئة المحيطة بالفرد فقط. وأنّ السلوك الأخلاقي درجات، أعلاها قد يكون عند المتدين الحقيقي، إنما هذا لا يعني انتفائه عن الآخرين. وأنّ السقوط الأخلاقي لا يعبّر عنه المظهر الخارجي بقدر ما ينبئ عنه السلوك الظاهري. وأنّ تقصير الآخرين لا يخولنا الطعن بسبب مظهرهم. والأهم من ذلك كله، أنّ الإيمان ببعض الكتاب لا يعني بالضرورة الكفر بباقي الكتاب .. فتأمّل قبل أن تحكم.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* راجع: