15 نوفمبر 2008

الأخلاق .. و الفعل الأخلاقي .




في موضوع :


ج3 ، سفيد : .. لكن مختلف !


تطرقت لذكر مبدأ " الاخلاق " و تفريقه عن مبدأ " الفعل الأخلاقي " ، و أعتقد أنّ أكثر من ركز على هذا التفريق كان الشهيد د. مرتضى مطهري حين درس مبادئ الأخلاق و تأثيرها في تكوين المجتمعات ، و هل هي مكتسبة أم متأصلة في الإنسان ؟


و ناقش ذلك بصورة مسهبة في كتابيه عن الأخلاق و عن تحقيق نظرية نسبية الأخلاق.


في ذلك الموضوع نوهت إلى الرغبة في بيان معنى هذا التفريق بكلمات كتبتها سابقا، و لأنه مفهوم في ذاته بسيطٌ جدًا أجد من اللازم علي أن أتوسع قليلاً في بدايته ليشمل نظرة مختصرة إلى الأخلاق ككل ، و هذه النظرة قادرة على أن تتفرع إلى آلاف الفروع الجانبية و كل فرع يتوالد فروعًا أكثر .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في مدار التاريخ و بين طبقات ( النخبة ) كما يعبر عنهم كان هناك نقاش حاد عن الحدود التي يصح بها وصف فعل ما أو شي ما بالحسن أو القبح ، هل هذه الحدود و الأطر تكون قياسا بالإنسان ذاته و أنه ( القطب الأوحد ) أم أنها تكون تابعة لمتحكمات ثانية تتداخل في رسم حياة الإنسان و ما يتعلق بها .

فلاسفة اليونان القدماء ذهبوا إلى الرأي الاول و هو أن الانسان هو ( القطب الاوحد ) و إن اعتقاده بأي شيء هو سبيل اثبات وجوده ، فلو كان الإنسان يرى في فعل ما قباحة عقلية وجب وصف هذا الفعل بالقبح ، بينما لو وجد فيه الحُسن وصف بالحسن مع الأخذ بالاعتبار أن القباحة و الحسن لا يرتبطان بعقل جمعي بل بعقل فردي بمعنى أن الحقيقة الواحدة يمكن لها أن تثبت و تنفى بنفس الوقت ، يعني لو قال إنسان أن السرقة حسنة فهي بحسب مبادئ اليونانيين " حسنة " بينما لو قال زميله بأنها سيئة فإنها حين إذن تدخل بباب القبح فتكون حائزة على مبدئي الحسن و القبح بنفس الوقت !


هذه الفكرة انتقلت بصورة محسنة نوعا ما إلى بعض الفلاسفة المتأخرين الذين حدثوا هذه الفكرة من باب أن مدار اطلاق القبح أو الحسن على فعل ما هو (رضا) المجتمع به فحين يكون هذا الفعل مشكورًا و ممدوحا في المجتمع فهو فعل حسن و العكس صحيح ، و بما أن رضا المجتمع هو شيء متحرك أي قابل للتطور سواء بناحية ايجابية أو سلبية فإن الاخلاق حسنها و سيئها قابلة للتحرك فيمكن أن تكون بعصر جيدة و في عصر آخر سيئة و هنا نقطة وجب الإلتفات لها ، فحين نتحدث عن المتغير و الثابت عند الغرب و مقارنتها بالثبات و المتغير عند المسلمين المؤمنين بالحلال و الحرام الثابتين يشتبه كما يبدو على الكثيرين أن هذا الأمر هو ما دفع الفلاسفة المسلمين إلى مبدأ و مفهوم العناوين ( الأولية و الثانوية ) فالنسبية موجودة إنما يختلف مصداقها ما بين المسلمين و غيرهم ، فحسب الفكر الغربي فإن رضا المجتمع يحكم على الفعل بذاته بحسنه و إن كانت بعض النفوس تأباه إلا أنها ترضاه لأن المجتمع أقره ، بينما في المفهوم الإسلامي يظل الحكم ثابتا بالحرمة أو الحلية بالعنوان الأولي و هو المصداق الرئيسي بينما يكون قابلا للتغيير في العنوان الثانوي بحسب الحالة و القضية التي تحكمه مع الإلتفات أن أحد الفلاسفة الغربيين و هو ( هيغل ) تطرق إلى هذه القضية و أيّد فيها هذا الكلام لكن من ناقش كلامه لم يلتفت إلى أن المسلمين يؤمنون بمثل ما يؤمن به إلا في الثوابت التي تكون غير قابلة للتحول عندهم بينما عند هيغل فهي متحركة بحسب المجتمع و في كل الاطراف ، و لهذا تفصيل آخر .


أما سارتر فنظرته قائمة على مبدا الانتخاب و هو ما يرضى به الإنسان و يؤيد تماما نسبية الأخلاق و أن السيء في عصر جيد في عصر آخر بحسب انتخاب المجتمع و اقراره لهذا الفعل ، فهنا يصح إطلاق مفهوم النسبية على المبنى الأخلاقي ككل .



  • الأخلاق و الفعل الأخلاقي .

الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يرتبط أدائه بحكم عقلي أو شرعي باستحسانه أو استقباحه ، و هذا الحكم يُقاس على الثابت الخُلقي ، و هو ما أشرت له في كلامي السابق بأنه و إن اصبح الزنا – و العياذ بالله – عرف متسامح فيه بالمجتمع إلا أنه في ذاته لا زال بنفس المحل من الإنكار .

ليست هناك ملازمة بين الخلق و الفعل الأخلاقي ، فليس الفعل كالخلق قابل لأن يكون مصنفًا في باب ( الحسن ) و باب ( القبيح ) فقط ، و أضرب على هذا مثلاً، و هي عادة مستخدمة في التربية .

لو كان هناك طفل و ضُرب من أحدهم ، الحكم الأخلاقي هو باستقباح الضرب من باب القاعده العامة إنما الفعل الأخلاقي فهو تارة ممدوح إذا كان هذا الضرب من باب التربية و التأديب و مستقبح إن كان من باب الأذية و الإعتداء ، فهنا نحن أمام حكم النسبية و هو انطباق العنوانين على الحالة و لكن الفارق بينهما هو مورد (الفعل الأخلاقي) الذي يصنف من باب العنوان الثانوي لأن العنوان الأولي و هو الضرب يدخل به حكم الكراهة .

حتى أوضح الفارق بين العنوان الاولي و الثانوي أضرب مثالا يستعمل الآن ، فالكحول مستخلص من التخمير .

و عملية التخمير تضفي الحرمة على ما دخل فيها ، فبالعنوان الأولي مفهوم الحرمة منطبق ، لكنه هذا الكحول المستخلص يستعمل في الاغراض الطبية فيحكم بحليته من العنوان الثانوي لأن مورده داخل في الحلية ، مع الاخذ بالاعتبار أن تحضيره في الأصل لا يصح إلا لمسوغ .



  • الآداب و الأخلاق .

عندما نقول أن الماء = water فهذا يعني أن كلا اللفظان مترادفان و إن اختلف نطقهما و رسمهما ، و لكن النتيجة النهائية لهما واحدة ، فهل ينطبق هذا الأمر على وصفنا للآداب و الأخلاق ؟


قطعًا و بلا تردد ( لا ) .


فالآداب في ذاتها شيء مختلف عن الأخلاق و إن كان الأصل في فيهما تشذيب و تهذيب الطبيعة الإنسانية لما فيه الصالح العام ، فالأخلاق بحسب المفهوم الإسلامي هي شرائط و ضوابط وضعت بناء على استقراء النفس الإنسانية و قائمة عليها فالإنسان حسب قول علماء الأخلاق مداره ثلاث قوى تتحكم به :



  1. قوى عقلية .

  2. قوى شهوية ( المال / الطعام / ... إلخ )

  3. قوى غضبية ( قوى الدفع و الجذب للمضرة و المنفعة )

و الأخلاق يكمن دورها هو في ضبط توازن هذه القوى بحيث لا تطغى أحدهما على الأخرى ، فلا يصبح الإنسان عقلانيًا إلى درجة اهمال النفس و متطلباتها ، و لا يصبح حيوانيًا إلى درجة إلغاء العقل و قوى الغضبية ، و لا يصبح ( متلونًا ) هدفه المصلحة الذاتية القائمة على المنفعة الشخصية فقط ، فالأخلاق هي ضوابط تحفظ لكل هذه القوى حدودها بحيث لا تكون احداها حاكمة على الاخريات فهذا خلاف ما أقره الله سبحانه .


لذلك نرى الاهتمام الإسلامي العظيم في تنشئة كل جانب من هذه القوى وفق وصايا قائمة على المبادئ الإلهية المنزلة و هي ثوابت لا يمكن لها أن تتغير أو تتحول لأنها موضوعة بالمعرفة الإلهية التامة لا تتبدل و لا تتحول .

أما الآداب فهي مسألة منفصلة لا تتعلق بذات الإنسان بما يحمله من غرائز تتجاذب مقود التحكم فيه ، بل هي مسالة امكانيات و فنون يكتسبها الانسان لتكون محركا له في التكيف مع العالم ، فهي مجموعة أعراف و تقاليد لا يمكن لها أن تكون ثابتة لأنها قائمة على مبدأ العقل الإنساني القاصر و فهي قابلة للتحول بناء على التطور الإنساني و تغير عادات الإنسان و أعرافه أوضح من أن يضرب لها المثل ليتم التدليل عليها .

فالتطور الإنساني لا يمكن له أن يغير الأخلاق و إن غير ( أفعالها ) فهي موضوعة بأسس قائمة على صيانة مراكز التحكم في الإنسان و موضوعة بدقة ، بينما التطور له حق تغيير العادات و الآداب الإنسانية فهي مبنية على ( الممكن ) المنتخب من قبل الناس كقواعد لتسهيل التكيّف بينهم و بين مجتمعاتهم .



  • الحسن و القبيح .

الحسن و القبيح عند الفلاسفة الغربيين مستمدٌ تعريفه مما ذهب إليه اليونانيين القدماء و على رأسهم ( سقراط ) في أنه تابعٌ في حكمه بما يحكم به العقل ، فسيده هو العقل فقط لأنه الوحيد القادر على إدراك الأمور .

عندما يكون العقل هو المرجع الوحيد فالتغير يكون طريقه ، لأن العقل الإنساني يمشي بخط متوازي مع التطور ، كمثال لو أخذنا الحجاب بصورة مجردة فهو حسنٌ عقلي عند المجتمعات الإسلامية و لكنه مستقبح عقلي عند المجتمعات الليبرالية المختلفة ، فالعقل يتفاوت في اثبات الحسن و القبح لما يملكه من معطيات مختلفة تؤدي إلى أحكام مختلفة .

في المفهوم الإسلامي [ كما ذهب لذلك و شرحه العلامة الطباطبائي و مطهري و غيرهم ] فإن الأصل في الحكم بالاستقباح و الحسن هو ( الإرادة ) الإنسانية و هي القوة الحاكمة عليه التي تبين له متى تعدى على حدود احدى قواه .

فلو زاد الانسان في الاعتماد على قواه الغضبية – مثلاً – فإن في نفسه تظهر ملامح البُعد عن المصلحة العامة و يمكن تلمسها فلو كان للإنسان ( إرادة ) حاكمة اعاد تقييم نفسه إلى الجادة الصواب رغم أنف " طبيعته " .


هذه الإرادة هي ما يشير إليها سبحانه بـ ( النفس اللوامة ) و هي أصغر محكمة وضعت داخل الإنسان لتقييم فعله و إن شذَّ بطبيعته عنها ، و هي ما يصطلح عليه عند العرفانيين بـ " الوجدان " . . ، و هذا مبحث آخر .

هناك 11 تعليقًا:

M. A. يقول...

أحسنت على هذا الطرح الجميل عزيزي.

سبب الكثير من مشاكلنا الآن هم الحمقى الذين يقدسون بعض الآداب و التقاليد و الأعراف و يجعلونها بمقام الأخلاق و الثوابت الإسلامية ، و حري بهذه الأشكال أن تقرأ مقالتك هذه علها تصلح بعض انحرافهم الفكري!

Yin مدام يقول...

ماشاءالله عليك يا سفيد

الله يحفظك ويبارك لك فيما أعطاك

موضوع رائع وطرح أروع

متابعة دائمة لمدونتك

موضوع الأخلاق جدا جدا مهم لأننا في زمن تناسوا فيه الأخلاق وغرسها وتعليمها وطغت فيه الأفعال التي ترتبط بالمصالح الشخصية والشهوات والتعصب على المعاملات الإنسانية للأسف ..

الله يفتح آفاقك ويكبر ماعونك :))
وإن شاءالله نقرأ لك بوستات تتعمق في مسألة الأخلاق وبعدها الوجدان :))
" طلباتي وايدة وما تخلص "
لوول

أحسنت يا بياض

secret يقول...

يعطيك العافية

(النفس اللوامة)

ذكرتني بالآية الكريمة

(بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره)
----------------

على صعيد مرتبط

ذكرت ان العقل يمشي بخط متوازي مع التطور

و بما ان ظروف الحياة متغيرة .. و الأحكام الإلهية ثابتة، فالبعض يرى ان نقطة التلاقي بينهم اما ان يثبت المتغير و هو مستحيل

او ان يتغير الثابت و هي الأحكام الدينية، و قد يسميه البعض بالاجتهاد

لكن بوجهة نظرك ما هي الأرضية المناسبة لتلاقي القناعات بهذا الشأن و قبول و ارضاء أطرافها؟

مواضيعك حلوة أخوي :)

Salah يقول...

أحسنت

MakintoshQ8 يقول...

اختيار موفق للموضوع فنحن نحتاجه بهذا الوقت وبهذه الظروف

اتمنى ان تكون كاتب صحفي لانه كتاباتك فعلا فيها فايده

بنت أحمد يقول...

موضوع راقي ومميز وقيم

تسلم يدينك

استمتعت بتصفح تلك السطور

وأضافت لي الكثير

دمت بود ودام عطائك

Safeed يقول...

Mohammad Abdullah ،،

بالضبط ، هناك حالة من الضبابية يعيشها الناس الآن بحيث عُدت بعض الآداب و الأعراف الاجتماعية جزءا من الدين ، و عدت الأخلاق الإسلامية أعرافا غير مستساغة .

أغلب الظن أن المشكلة تكمن في " ازدواجية الشخصية " التي يعيشونها ما بين دين له منظومة أخلاقية كاملة ، و مجتمع له منظومة أخلاقية تتعارض في كثير منها مع منظومة الدين .

Safeed يقول...

Yin ،،

الأخلاق موجودة فهي كامنة في فطرة الإنسان السليم ، قد تطغى بعض الآداب عليها فتشوهها و لكنها تظل موجودة .
الإمام علي (عليه السلام) يقول فيما يُنسب إليه : لا تأدبوا أولادكم بمثل آدابكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم .

فالقول في أصله عن " الآداب " لا الأخلاق لأنها الظرف الطارئ و الأخلاق هي الأصل الثابت .

Safeed يقول...

Secret ،،

العقل لا يصح هو لوحده الحاكم ، فهو يتطور مع الإنسان ، قبل قرنين لم يكن هناك عقل يصدق بان الإنسان يمكن أن يمشي على القمر و يخاطب الجالس في أمريكا بالصوت و الصورة و هو جالس في صحراء الجزيرة العربية .

هذا العقل هو نفسه الذي نملكه نحن الآن و يرى في هذه الأشياء ، أشياء اعتيادية جدا ، نفس العقل بنفس الحجم و نفس المكانة و نفس عدد الخلايا ، و لكنه تطور و تماشى مع الزمن .

لذلك يجب أن تكون هناك أرضية ثابتة تعد بمثل الدستور لا يمكن أن تطبق اليوم و تنقض غدا لأن المجتمع اصبح يراها شيئا عاديا ، لذلك كان هناك الوجدان ، النفس اللوامة ، المحكمة الصغرى ، النجدين .

لاحظ أنه رغم شياع الزنا و السفاح في الغرب إلا أنه لازال في طور عدم القبول الكلي به ، قبل أسابيع قليلة هزت بريطانيا قضية " بيبي بي " و انتفض مجلس العموم بقيادة حزب المحافظين ضد حمل المراهقات و انجابهم و دخولهم بعلاقات غير متكافئة ، ماذا حدث ؟

لا شيء سوى أنهم استعموا لحقيقة الفطرة الإنسانية ، الأخلاق .

الاخلاق ثابتة لا تتغير ، لا للزنا ، لا للقتل ، لا للسرقة .. إلخ ، قوانين عامة اتفق عليها البشر منذ وجودهم ، و لكن الآداب متغيرة بالأمس كان من اللازم ألا يرى الخطيب خطيبته و اليوم يراها فالسيء بعرف المجتمع القديم تحول لحسن في عرف المجتمع الحديث .

سأحاول أن أزيد من الحديث حول هذه النقطة في تفصيل لاحق إن شاء الله .

Safeed يقول...

Salah ،،

و أنتم من المحسنين ان شاء الله :)

....

Makintosh ،،

الصحافة بعيده عن بالي حتى الآن ، رحم الله امرء عرف قدر نفسه :)

...

بنت أحمد ،،


آمل أن تكون فيها فائدة هذه الاسطر القليلة .

شكرا لمروركم

سجى يقول...

وفق الله