28 مارس 2012

الطائفية أفيون الجماهير

الدين أفيون الشعوب (حرفيًا هو الشعب!)، مقولة حين نطقها ماركس كان يشير فيها لما وراء قناع الحياة وصراعاتها المادية إلى هذا الإنسان اللاهث خلف سؤال (كيف يعيش؟). مثّل الدين بالنسبة لماركس تنهيدة المضطهد، وقلب العالم الخالي من القلب بسبب صراع الطبقات فيه وطغيان البرجوازية والروح التي يلجأ إليها المستضعف .. إلى آخر هذه المصطلحات التي انتشرت في أزمنة البؤس الإنساني المعاصرة لتفسر حب الإنسان وميله للغلبة والاستخدام، أو (استثمار القوي للضعيف).
الكلمات حمّالة أوجه، وهي قابلة لإخضاعها للفهم المتعدد بحسب زاوية النظر إليها، إنّ كلمة ماركس هذه ليست خارج هذه الدائرة، فقد استغلّت في إظهار موقف الشيوعية من الدين، واستغلّت في إظهار موقف الدين من الشيوعية، وفي الحالتين كان التأويل يُستخدم في صف فئة ضد الأخرى، وفي غمرة ذلك ضاع الهدف من النّص.
حين بدأ التحوّل مع عصر النهضة في أوروبا برزت على الساحة إشكالية الدين متمثلة بالتسلّط الكنسي على الدولة، حيث باتت إدارة الدولة تأتي بأوامر الرجل المتحدث باسم الرب وإنطلاقًا من هذا الإنسان الضعيف باتت إرادة الله تُحدد، وكأنّ مقام الألوهية -والعياذ بالله- صار تابعًا لمقام الإنسان، لا العكس. وهكذا صودرت أهم خصائص الدين، ما تكرر كثيرًا في تاريخ الأديان! وإن شذَ الإسلام بتلّسط السلطة على الدين ونطقها بلسان الله سبحانه!
متابعة التاريخ البشري تنبؤنا بأن الدين لم يفارق الإنسان لحظة واحدة في تاريخه، ففي قبال هذا الوجود العظيم المحيط به، وإحساسه المتزامن مع ذلك بالضآلة، كان الدين الملجأ الموضوع للهداية. تأمل كلمة الهداية وستجد أنها متضمنة الراحة، وما ذلك إلا لأنه يُيَسّر مقابلة الناس للحياة، ويزودهم بالإطمئنان، والراحة في ظل ما يعصف بهم من جهالة المستقبل.
الإرتباط العاطفي الكبير بالدين، أحد أسبابه هو هذا، محبة الإنسان للراحة والدّعة والسكينة. لن تجد غرابة في وجود إرتباط عاطفي للشخص مع غرفة في منزله، أو فئة في مجتمعه، أو حتى وسادة لا يهنأ له النوم إلا عليها وليست المسألة في ذلك إلا الشعور الطاغي بالألفة والإستئناس، ودفع الإحساس المُلح بالتوتر، ومن ثم الإرتباط العاطفي. الأفكار ليست خارج هذه الدائرة، بل قد يكون هذا هو سبب من أهم الأسباب التي تجعل الأفكار قابلة للخضوع بصورة أكبر للعاطفة، ولكنّ هناك مائِز وهو أن الأفكار ليست كيانات ماديّة/محسوسة إنما عقلية/شعورية، تعيش مع "الوجود الإنساني" ولا تموت مع "الإنسان" ذاته، فمعدّل أعمارها لا يُقاس بأعمار الماديات المحكومة بالإنتهاء والتلاشي.
من هنا، كان الدين أفيون الشعوب، فهو بقدر ما يُشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة بقدر ما يكون محفزًا ومُهيّجًا، ومثيرًا لأن يندفع الإنسان في التماهي مع الشعارات المنسوبة له وإن كانت «كلمة حق يُراد بها باطل» لتسيطر على العقول، قبل النفوس، وتحولها إلى مستقبلة ومنفعلة بدلاً من أن تكون  مرسلة وفاعلة. والتخلص من الدين لا يحل المشكلة إنما يستبدلها بمشكلة أخرى فإن طبيعة المجتمع تفرض نوعية الصراع فيه، ويتحول الصراع وفقها من شيعي/سني إلى صراع يميني/يساري، ديني/علماني، وحتى فئوي/قبلي، وحزبي/حزبي، فالهدف الأساسي يتمثل بالوصول إلى مركز القوة ومن ثم فرض الرؤى على الآخرين بواسطة قوة هذا المركز، وهذا هو حب الإستئثار والأنا.

إنّ خطورة الطائفية ليست في كونها مادة خصبة للصراع، فهي تشترك بهذا الشيء مع كل نُظم الإنسان وأفكاره، إنما خطورتها تكمن في قابليتها السريعة للاشتعال. إن الطائفة هويّة تعطي لحاملها حق الإنتماء في محيط ينسجم معه، ويعبّر عن نفسه فيه دون أن يشعر بالتوتر الناشيء من الإحساس بالاختلاف والنبذ، ومن ثم الأمن والراحة، وهنا مكمن الخطر. فالحروب الطائفية، ومثلها الأهلية، هي تصرفات لا إرادية من الناس، يندفعون لها بلا وعي، لأن الدين، ومثله أي فكرة يتم إنزالها بمنزلته، هو العمق الدفاعي والدرع الواقي لحامله في قِبال هذا العالم بأسئلته، وتساؤلاته، وتحدياته، وهو «الأفيون» الذي يعطي القوة والشجاعة للإنسان للوقوف ومجابهتها، ولذلك فإن الناس على استعداد للقتل والتدمير في سبيله لأنهم يتصورون في سلبه، سلبٌ لراحتهم ومصدر قوتهم.

السياسيون، يستغلون صراع الهويات هذا في تحقيق مكاسبهم، والحسابات السياسية لا تختلف عن حسابات التجار في دفاترهم، كلها متعلقة بالربح والخسارة، وكلما كان الربح أسرع كان الإقبال أكثر. لذلك كانت ولا زالت القضايا الطائفية هي المفضلة لهم، والتهويل والتضخيم والتخويف هي بضاعتهم المفضلة. إن المجموع البشري مجموع خائفٌ بطبعه، يتوجس من كل شيء ولا يشعر بالاستقرار، ومع إزدياد تحدّيات الحضارة، وتقلبات الدول ينعكس ذلك الواقع على الفرد، وهذا ما التفت إليه صامويل هانتغتون، فالصراع في ظل العولمة سيتحول إلى صراع طائفي تتزعمه الحركات المتطرفة.

تردي الواقع السياسي، والتنموي، وتعاظم الصراع على مكامن الحكم والقوة ودخول الدول في سلك العطالة كلها أسباب تزيد من توترات الناس، وفي الوقت الذي يحاربون فيه الإنفتاح على العالم يعانون من تملك الإحساس بالتوجه نحو المجهول، والخوف من مؤشرات الإنهيار، وباجتماع هذه العوامل يكون الدين – بمعناه العام- هو الكهف الحصين في وسط هذا العالم، وهو ملجأهم الأخير، فالعزف على وتر الطائفية وإذكاء روحها بواسطة السياسيين هو استغلال لمخاوف الناس في سبيل استثارتهم واستغلالهم خدمة لأهدافهم. معظم الطائفيين يعبّرون بطائفيتهم الإقصائية عن مقدار الخوف والتذبذب الذي يعتريهم ويكمن في نفوسهم أكثر مما يعبر عن يقينهم بصوابيتهم، إنّ معدل إذكاء الطائفية يتناسب طرديًا مع معدل التردي الاجتماعي، فكلما زاد الأخير إزداد الأوّل، وهذا بسبب أن الفراغ ينقل الإهتمام من الإنتاج إلى الأفكار المجردة، وفي عصر باتت الجماهير هي من تقود الحضارة، فإنه من الطبيعي أن يكون مقود التحكم بهذه الجماهير هو أكثر الأفكار نزوعًا للمثالية التي تغذي إحساسه بالكمال بعيدًا عن هذا العالم الذي لا يتمتع به، الدين.

الأفيون هو في الأصل دواء تحوّل إلى داء، وإدمانه يخرجه من دائرة الفائدة إلى دائرة المضرّة، وهكذا هو الدين، كلما انحصر في الطقوس المجردة انفصل تطبيقه العملي عن الواقع الاجتماعي، وتحوّل إلى عامل محفز مهمته تحريك الجماهير، فالتلاعب بمخاوف الإنسان يخرجه من حالة الإنسانية إلى حالة الوحشية حيث لا يعود للآخر حرمة، ولا للقانون هيبة، ولا للدماء عصمة، والتاريخ يقف شاهدًا على أنّ أعظم الحروب نشأت من أطماع فئة قليلة، أرادت اشباعها بتحريك الجموع الغفيرة من خلال اشعارها بالتهديد في وجودها.


الطائفية تارة تظهر بصورة معارضة سياسية وأخرى بصورة صراع طبقي وثالثة بصورة تنافس اقتصادي واجتماعي، بالنهاية هي وجه يختبئ تحته عشرات الأقنعة، فهي العنصر الجامع لكل ما يُشكل الإنسان، والتلاعب فيها هو كالسير على حافة جبل لا يضمن الفرد فيه أن تُسقطه منها حصوة صغيرة، وبقدر نسبة النشوة التي تثيرها بقدر نسبة خطر الموت الذي تمثله كل جرعة منها، فالطائفية هي أفيون الجماهير، تعلم بخطرها وتستلذ بها لأنها تتصور فيها تطهيرًا لأنفسها من مسؤولية الإنحطاط الحاصل، وانفصالاً عن احباطات الواقع، ودفاعًا عن آخر خطوط الإحساس بالقيمة في هذا الوجود!