26 يوليو 2011

من خلق الله؟



ثمّة اشكالية تبرز حين الحديث عن «الخالق» أو «الرب» حيث يتم تأطير الحديث مباشرة بصفات وماهيّة هذا الخالق أو الرب، والحال أنّ قضية الصفات[1] قضية لاحقة على أصل المطلب، الذي هو اثبات "وجود" الخالق في حدّ ذاته بمعزلٍ عن أيّة مفاهيم (أو تصوّرات) أخرى مرتبطة به، ومن المغالطة محاولة هدم وجود الخالق – عمومًا - بنفي صفاته الكمالية كما يراها دينٌ ما أو نقدها[2]، وعلى الرغم من وضوح أن هذه القضية باتت قضية مسميّات أكثر منها قضية حقيقة ثابتة ومُشّخصة، فتغيّر الاسم لا يغيّر المعنى، وسواء تسمى بالرب أو الله أو الطبيعة أو غيرها باختلاف آلياتها وصفاتها وما يتم اسقاطه من المذاهب والإتجاهات الفكرية المتعددة بناءً على تنظيرها للمسألة عليها، فإنّ وجود قوّة قاهرة[3] أمرٌ لا يُختلف فيه، وهذا ما يُرجع إلى الذهن القول بأنّ ليس اثبات الخالق هي القضية بقدر ما هي بناء معرفة هذا الخالق على أسس سليمة، أو تأسيس الإيمان به على قواعد معرفية صحيحة[4].

إنّ طرق البراهين في الوصول إلى الخالق تنحصر في ثلاثة:
طريق الوجدان، أو ما يُعرف بالشهود، وهو طريق يعتمد على التجربة التي يخوضها الشخص، والإنطلاق من العلّة للمعلولات.
طريق الحس، أو ما يُعرف ببرهان النَّظم[5]، وهو الاستدلال والإنطلاق من المعلولات إلى العلّة.
طريق العقل، وهو طريق الفلسفة وبراهينها المتعددة: الإمكان/ الصدّيقين/ الحركة والتغيّر. 

السعي إلى اثبات الخالق من الطريق الأوّل لا يمكن اثباته وتعميمه لأنه يبتني على مسلّمات شخصية، وتجربة ذاتية يحتاج الشخص أن يعيشها ليعيها، ومن الصعب أن تنقل المعرفة المكتسبة منها إلى الآخرين أو أن تصيغها بصورة قوانين ونتائج ثابتة لا يختلف عليها العُقلاء.

أمّا الطريق الثاني فقد صار ملازمًا للجدال بين المُثبت والنافي، وهو في الغالب محلُّ البحث والإثبات في قضية الإلوهية، فهو يقوم على ركيزتين: الأولى الحِسُّ أي النظام الموجود في الكون من حولنا وسننه وقوانينه والثانية العقل الذي ينتزع هذه المفاهيم ويوظفها في البرهان ليصدر الأحكام على أساسها[6]، وهو الطريق الأقرب إلى الفهم البشري العام فلا يكتفي بمخاطبة عقولهم بل ويمتد لمخاطبة العاطفة و الوجدان كما أنّه قادر على استيعاب تطوّر العلوم الكمّي والكيفي الذي يحدث من حولنا في تدعيم براهينه ورؤيته[7]، وهو بالمحصلة يقود إلى إعطاء معرفة كلية بالله لا معرفة خاصة، أي الإيمان بوجود القوة العظيمة.

ويبقى الطريق الثالث متعسّرٌ على الأذهان البشرية العامّة، لأنه يتطلب عقولاً متمترسة بالمعارف الفلسفية وقادرة على التجريد التام وبناء المعارف استنادًا للمقدمات العقلية البحتة ومن ثمّ فهو مستغنٍ عن الحِسِّ ولا يعتمد إلا على العقل، ويتميّز هذا المسلك بأنه يعطي معرفة خاصة ودقيقة بالمعارف الإلهية المتعلقة بصفات الخالق سبحانه والمسائل المتعلّقة به، وينشئ معارفَ هي أقرب لليقينيات وبالتالي أصعب للنقض، وهو المسار الذي سلكه الشيخ الرئيس ابن سينا والملا صدر المتألهين[8] في براهينهم واستدلالاتهم.

ومن هذه المسالك الثلاثة جرى البناء على اثبات الخالق سبحانه، إلاّ أن تساؤلاً لا زال سابري هذه البراهين يطرحونه على أنفسهم:

كيف لك أن تفسّر الماء إلا بالماء؟!

فمن أصعب ما مرّ على العقول حتى وقفت على أعتابها عاجزة عن سبرها هي البديهيات[9] التي تقطع العقول بها وفي نفس الوقت تُقَطّعُها تبعًا لهواها. فطبيعة الإنسان الجدلية وميله الدائم نحو التساؤل إذا لم يبُنَ على قواعد معرفية صحيحة، ولم يُحكم بآلات العلم والبرهان، ولم تكن النفس مستعدّة للخضوع والإذعان فإنّ لا شيء في الوجود بما فيه «الإنسان» نفسه سيكون قابلاً للتصديق بوجوده، وهو بذاته لن يكون قادرًا على التفريق بين وجوده وعدمه للآخرين.

الإنسان كائنٌ واحد، جمعته أو حوته كلمة (إنسان) لكن إن أردنا شرحها وبيانها لم تعد الكلمة تكفينا فنلجأ إلى «تكثير الواحد» حتى نستطيع أن نوصل المعنى. ليس تكثّر الواحد إلا رؤيته بلحاظات متعددة، فتارة نصفه بالحيوان الناطق، وأخرى بالكائن المفكر، وثالثة بإتحاد النفس والبدن وصولاً إلى استعراض صفاته وطباعه حتى نُفّهم الآخرين ما هو (الإنسان) فقط.

وكلمّا كان هذا الواحدُ بسيطًا، وبديهيًا، كلما ازداد توضيحه وشرحه أو اثباته صعوبةً وتعقيدًا وعلى ذلك يُصبح هذا المفهوم البسيط في ذاته خاضعًا لسيطرة كلمات المنطق والفلسفة وخاضعًا لموازيين الاستدلال والاستقراء والبرهنة فيها، وهي كلها موضوعة حتى لا يكون للعقل حجة في إهماله لنتائجها، ولكون ألفاظها الوحيدة المناسبة لمناقشة هذه القضايا[10].

وعلى الرغم من ذلك فإنّ كثيرًا من الأذهان لا تقبل هذه النتائج، لا لعيبٍ فيها، إنّما لشبهة[11] تنشأ إمّا من نقصٍ طبيعي، أو مرض عارض، أو تربية فاسدة بحسب اصطلاح المناطقة. لذا فإنّ دور البرهان محصورٌ في الإثبات فقط أمّا القبول، والخضوع، والإذعان لهذا الإثبات فهي قضية تقع خارج دائرة العقل، وتنحصر بالنفس التي تريد أو لا تريد الإيمان بها، وكفى.

أخيرًا، ينبغي الإلتفات إلى أنّ للسؤال فنّه وقواعده، ومهما بدا مقبولاً فإنه قد يكون مبنيًا على مغالطة لا يلتفت لها صاحبه، والسؤال الخاطئ لا يمكن أن يُجاب عليه بإجابة صحيحة مباشرة بل لابدّ من توضيح المقدّمات اللازمة حتى يمكن الوصول إلى إجابة ترفع الإشكال، وفي نفس الوقت توّضح المغالطة في السؤال.

ومن هنا، فإنّ هذا البحث الذي تناول بإيجاز شديد، وباقتضابٍ أشد، أحد هذه الأسئلة وهو «من خلق الله؟» يأتي في سياق ذلك، وسار على منواله، وهو بحث حاول قدر الإمكان تبسيط المصطلحات المتداولة وتوضيحها في إجابة السؤال، ومضى على هذا المنهج وليست النصوص الدينية فيه إلا شواهدَ ومؤيّدات فقط لما اتفق الوصول إليه بالمنهج المنطقي الذي سار عليه الكاتب وفق الطريق  الحسّي [الثاني من المناهج المذكورة سابقًا].

وأمّا  التوسع في هذه الأبحاث والمناهج بعمق أكبر، فهو متروك لمحله، ولهمّة الباحث عنها والطالب لها.

والحمدلله ربّ العالمين.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] والحديث هنا عن الصفات من حيث الأديان، بمعنى أننا حين نتكلم عن اثبات الخالق أو الرب فإن الحديث يتجاوز إطار اثباته وفق الرؤية الإسلامية لله، أو المسيحية للأقنوم [الثالوث]، أو اليهودية ليهوه إلى وجود الرب بالمعنى العام.

[2] الاستدلال بنفي الخالق انطلاقًا من فهم المخلوق هو كمحاولة نفي الشمس انطلاقًا من حجب الغيم لها!

[3] الإرادة المتمثلة بالإندفاع الأعمى اللاعاقل نحو الحياة كما عند شوبنهاور، أوالطبيعة التي خلقت الناس ووضعت لهم القابليات ورسمت لهم خطة تطور الحرية عند كانط، وغيرها.

[4] مقدّمة كتاب التوحيد ج1، كمال الحيدري.
[5] وهناك برهان - رياضيّ - آخر هو (دليل حساب الاحتمالات) الذي اثبته الشهيد الصدر في كتابه: الأسس المنطقية للإستقراء. وقدّ لخّص أهم أفكاره في كتيب صغير صدر باسم (المرسل – الرسول – الرسالة).

[6] انظر اشكالات ديفيد هيوم، والإجابة عليها في: الإلهيات، ج1، جعفر السبحاني.

[7] دروس في التوحيد، ج2، مرتضى فرج.

[8] الشيخ محمد بن إبراهيم القوّامي الشيرازي، المعروف بـ الملا صدرا، صاحب مدرسة الحكمة المتعالية.

[9] وهي ما لا يحتاج اكتسابها إلى بحثٍ ونظر.

[10] لا يخفى أنّ لكل فنٍّ مصطلحاته وعباراته التي تغني عن الإطالة والاستغراق في التوضيح للفرعيّات على حساب المناقشة والإثبات للقضية الأساسية، كما أنّ لعالَمِ الطب مصطلحاته التي تعارف عليها أصحابه، ولعالم الأدب مثلها، والفنّ باختلافه، والرياضيات وسائر المجالات الأخرى مثلها وكذا فإنّ للمنطق والفلسفة المختصّان بإثبات ومناقشة القضايا العقلية والمعرفية ألفاظها ومصطلحاتها، ولا يمكن أن يتم تجاوزها حين تتم مناقشة قضية متعلقة بها مثل قضية العلة الأولى (الخالق) ومتعلّقاتها لذا فلا بدّ –أقلاً- من الإطلاع عليها ولو بنحو الإجمال حتى يكون الجواب مناسبًا للسؤال.

[11] الشبهة: هي أن يؤلف الذهن دليلاً فاسدًا يناقض به بديهة من البديهيات، ويغفل صاحبها عمّا فيه من المغالطة. المنطق للمظفر، ج1.