27 مايو 2012

[||] حين يحدثني الحلم


* * *

الأحلام لا تعترف بزمانٍ ولا مكان، قد يكون الحلم في الواقع لا يتعدى أجزاء الثانية لكن الحالم يستصحب شعوره به لأزمانٍ متوالية. هناك لحظات في الحياة تمر سريعًا كأحداث، لكنها كحديث لا تفارق لسان الإنسان على مدى الدهر، ولعلّ ذلك لأنّ الكلمات بزخمها وحروفها غير قادرة على أن تصف تلك اللحظات بدقة فتستمر الكلمات بالتوالد والتكاثر لأنها لا ترتاح للمعاني التي تنتجها التعبيرات المختلفة والصياغات المتنوعة في رسم تلك المشاهد.
إنّ الحلم يغنيك عمّا في أيدي النّاس، «وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس»[1] ألا ترى أن الناس يتناقلون بشوقٍ ولهفة قصص الحالمين، ويصبون اللعنات على الطامحين؟ يعشقون من يخرجهم من دائرة الواقع، ويكرهون من ينافسهم في الاستحواذ على ما في الواقع؟
أحيانًا، أن تمدّ حلمك لأيام وأشهر، خير من أن تعيش الواقع لثوانٍ وأنت تنظر، فالحلم ليس فقط ما يراه النائم في نومه، في بعض الأحيان، هو ما يراه المبصر فيما وراء وعيه وإدراكه. وليس الحلم هو الحالة التي يعيشها الإنسان بل الحالة التي يفهم بها الأشياء.
كان الحلم يحدثني قبل أشهر، على تعدد شخصياته، وحديثهم لا يزال مستمرًا.

(1)

أقف أمام قبر مندرس في الطريق، تحته كان في يوم من الأيام إنسان حمل آماله وطموحاته ورؤاه فوق رأسه، فاستبدلتها الحياة بتراب غطّى وجهه، مفارقة جعلتني أتأمّل هذا القبر كيف أنه يختصر عليك فهم الواقع: نحن نشكل جزءًا، بل نقطة، إن لم يكن أصغر في هذه الأرض القابعة في أقصى زاوية من الكون الفسيح، ومع هذا نعيش معه إنطلاقًا من أنفسنا، نرى الأشياء بمنظورنا، ونفسّر الأحداث بأهوائنا، ونتصادم مع الناس لأنهم تعدوّا على ممتلكاتنا، ولا نتساءل يومًا: كيف لنا أن نبذل هذه النفس المتضخمة لأجل ممتلكات لا تمثل في هذا الكون إلا ما تمثله الذرة للجبل، ولربما أصغر؟
غريب كيف يُفني الإنسان هذه الأنا المتضخمة التي تتصور أنها وسعت كل شيء لأجل هوامش متصاغرة في هذا الكون حين المقارنة هي لا شيء!

(2)

على أبواب البيوت العتيقة تشاهد وجوهًا استبدلت ملامحها بقصص تختزل في تجاعيدها غِصَص البشرية بأكملها.
كل أثر، وندبة، وتجعيدة هي سطرٌ خطته الحياة على صفحات الوجوه، وكلما زادت سنين الحياة زادت أسطرها، وكأنها تتحدّى اندفاعنا نحوها بتسجيل انتصاراتها على جباهنا!
تتساءل: كم حلمٍ تحمله جفون هؤلاء؟ ثم تعجز عن الإجابة حين تتذكر أنّك مثلهم، وأن عقلك الذي تظنه قادرًا على إجابة كل شيء في الحقيقة لا يكشف لك الأشياء بقدر ما يهيؤك لتجرّع الغصّة[2] من عدم قدرته على إجابة أسئلة الحياة.

(3)

لا بدّ للشمس من مغيب، ورغم هذا ننذهل من كل صورة ترسم لنا مشهد الغروب، ونقف أمامها وقوفنا بالحضرة، خاشعين صامتين .. متأملين.
شيئان رغم تكرارهما لا نمل منهما: الغروب والشروق.
هما يحاكيان طبيعة هذه النفس البشرية، الرغبة والألم، الغروب هو الألم أكثر ما يؤثر في الإنسان، والشروق هو الرغبة التي تغيّر فيه.. كثيرًا ما نصطنع الألم للآخرين ونظن أننا نعلمهم بينما نحن نُصلّبهم على ما هم عليه، وكثيرًا ما نختلق الرغبات عندهم لعلنا نستميلهم وننسى أنّ التغيير بذرة يضعها الله فيمن حرث نفسه واستعدّ لإنباتها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
كنت أحدث نفسي بذلك، وأنا أرى طوفانًا بشريًا يعيش بجانب شمس لا تغيب، ولا يتغيّر، قد تتعب نفسك في مصارعة الأذهان ومقاومة الأفهام وتتصور نفسك قادرًا بالحجة والبرهان على الإقناع لكنك تنسى أن الأمر ليس بالحجة والبرهان بقدر ما هو قبول بهما، إن الألم والرغبة شيئان ينبعان من داخل النفس ولا يصنعان خارجها، وكل محاولة لذلك هي حجاب نضيفه على الحجب الموجودة، تأملت ذلك حتى عدت للمنزل فوقعت عيني على: «يا ابن النعمان: إن الله جل وعز إذا أراد بعبدٍ خيرًا نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب يطلب الحق، ثم هو إلى أمركم أسرع من الطير إلى وكره»[3]

 (4)

«ويح ابن آدم ما أغفله، وعن رُشده ما أذهله»
- الإمام علي عليه السلام

روائح الجص والطين، وعطور الغادين والرائحين، سيرة الماضين وأنفاس المستقبلين، كلها تجتمع في أزقة ضيقة تلتوي كبطون الحيّات بعد أن تشويها حرارة الشمس، قال لي: الأوضاع ليست على ما يرام، قبل أسبوع كان هناك صدام مسلح ولا تزال الأمور متوترة.
ومضينا صامتين نخترق تلك البطون قاصدين مطلبنا .. وتلفتني بالطريق تلك الوجوه المستعدة وأصابعها على الزناد تنتظر استقبال رصاصة أو إطلاق أخرى، تحمل أرواحها يوميًا على أكتافها لتبيعها بسوق سقفه طمع الإنسان وأرضه خوفه.
لا جديد، يعيش الناس مع الخوف منذ ولادتهم حتى يعتادون عليه فإذا زال الخوف من حولهم خافوا من أنفسهم، وطالما وجد إنسان في مكان فإن التوتر والخشية يوجدان معه، إنهما يشغلان الإنسان ويعطيانه الغفلة؛ فإما أن تتعب نفسك بهما وإما أن تتعب غيرك فيهما وهذا هو الكدح {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} .. أن تغافل الغفلة، وأكثر ما نتصوره حياة .. هو غفلةٌ تُغافِلُنا!

(5)

لقـد قلتُ: أي عذر سـوف أقـوله للملك؟
الملك نفسه قد جاء حاملاً بيده العذر لنا[4]

على بابه نظر إليّ، وأخبرني أنني حضرت قبل عام مع أناس آخرين غير الذين أقف معهم، ليست هناك علامة مميزة ولا إشارة منبثقة تميزني، قد تتفاجأ في بعض الأحيان من شدة التشابه بين البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأصولهم حتى لا تعود قادرًا على تمييز نفسك من بينهم، جدًا أدهشني الأمر، أثار فيّ تساؤلات عن قدرات هذا الإنسان الكامنة كيف أنه استطاع التمييز من بين هذه الجموع التي تمر أمامه يوميًا، مدّ يده في جيبه، أخرج ورقة صغيرة مطوية فيها ذرّات من التراب ودسها بيدي، لم أعلم كيف أشكره، ثم علمت أنه لا يحتاج للشكر فاستئناسه بالناس يكفيه، ألا ترى أنك تنشغل مع ما تحب وتنفر مما تكره حتى يشتبه عليك، هكذا هو أحب الناس والحب قيمة ثمينة لا تُشترى، وحين تتعامل مع الثمين بقَدَرِه يغنيك هو بثمنه.

(6)

إذا كان الكأس جميلٌ صُنعهُ
فلـمَ يشوهـه الرجـلُ بثـمـله؟[5]

قد تضفي أنت القيمة على الأشياء تارة، وتارة أخرى تكتسب الأشياء قيمتها من ندرتها، في كل الأحوال يتطلب الأمر أن توجد هذه الأشياء قبل أن تأخذ قيمتها، ولكن قليل جدًا من الأشياء ما توضع قيمته قبل وجوده، ومعرفته.
إنّ سجل الخلود يحتوي الأضداد، ولا يسجل في صفحاته طرفًا واحدًا فقط، إنه كما يسجل القديسين في صدر أوراقه، يسجل على هوامشها الطغاة والمجرمين، ليس الأمر عبثًا إنما غاية الاختبار هي أن ترى الطريقين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} لتختار من بينهما، وقبل ذلك أن تعرف قيمة ما تختاره، بل أعتقد أن الاختبار الأكبر هو في معرفة القيمة بحقيقتها، فما فائدة اختيار طريق لا تعرف قيمته؟
«هذه الحياة هي موتُ مرتقب في كل لحظة»، هكذا قرأت مرة في أحد الكتب، ما يعني أنك في كل لحظة في موضع اختبار لأي خانة ستضع نفسك فيها؟
مودعًا له، أقرأ: اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا دينَ اللهِ الْقَويمَ، وَصِراطَهُ الْمُسْتَقيمَ.
وأتذكر كلمته لكميل بعد جملة من الوصايا أوصاه إيّاها: «أطفئ السراج فقد طلع الصبح»
فما قيمة ضوء السراج أمام ضوء الشمس .. لقد بان الصبح لذي عينين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقتطف من رواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هي(.. إرغب فيما عند الله يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) مشكاة الأنوار للطبرسي، 207.
[2] سئل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: ما العقل؟ قال: التجرُّع للغُصة، ومداهنة الاعداء، ومداراة الأصدقاء.
[3] من وصية الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر بن النعمان المعروف بـ مؤمن الطاق.
[4] تعريب بيت لجلال الدين الرومي
[5] تعريب بيت من رباعيات عمر الخيّام