‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد النفس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد النفس. إظهار كافة الرسائل

21 سبتمبر 2014

مبدأ الضلال بين الكليني والنعماني

يُقال في المثل الفارسي ما ترجمته: العِلمُ كلبُ الشيطان. ومعناه أنّ العلم ليس عاصمًا للإنسان، بل قد ينهشه كما ينهش كلب الصيد طريدته، وهو في الحالة هنا كان كلبًا للشيطان أطلقه على الإنسان، فظنّ أنه قادر على أن يروّضه وانتهى به الحال ضحية له. ما تقوله الأمثال يمكن أن نعتبره شيئًا أشبه بـ"البديهة الإنسانية" فهي خبرة مشتركة بين كل الناس تختلف بألفاظها وتتفق بمضمونها. ومفادها أنّ هناك شيئًا دخيلاً لا يزال مجهولاً لم يناط لثامه بالكامل له دخالة بسلامة الإنسان وإنحرافه، شيء يفوق الأجوبة المعتادة من كون العلم أو المعرفة أو العقل قادرة لوحدها على عصمة الإنسان من الانحراف أو الضلال!


حين تقرأ تاريخ البشرية، لا تستطيع أن تهمل التساؤلات التي تتكاثر في الذهن عن الأسباب التي أدت لإنحراف جماعات، أو ضلال أفراد، أو كيف نشأت الكثير من الخرافات والمعتقدات، أو تسربت اعتقادات لأذهان أخرى فاختلطت مع أساطير وأوهام وعادات الآخرين. بل كيف نشأت الكثير من الفِرَق والمِلل، وكيف تم إعادة تشكيل الأفكار وظهور النِّحَل. ولست وحيدًا في هذه التساؤلات، فقد طرحت من كل صاحب فكر، وقدمت لها الإجابات من أصحاب النظر. وكنت أثناء مطالعتي تخطر علي هذه الأسئلة فأرى أحدهم تارة يصنّف فيها، وآخر يمر عليها عارضًا، وثالث يلمّح لها تلميحًا، إلا أنّ التساؤل لم يشبع، والنّهم لم ينته.

يذكر الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني (ت: 380 هـ) في مقدمة كتابه "الغَيْبَة" السبب الدافع لكتابته فيقول: «فقصدت القربة إلى الله عز وجل بذكر ما جاء عن الأئمة الصادقين الطاهرين عليهم السلام من لدن أمير المؤمنين عليه السلام إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي عمي عن حقيقتها ونورها من أبعده الله عن العلم بها...»، فهو يعتبر عدم العلم نوعًا من العمى يصدّ الإنسان عن رؤية النور (الذي هو نوع نور غير مادي يشير إلى صفاء الحقيقة حتى لا تحتاج لتوسط غيرها في البَين لبيانها)، لكن ما السبب الذي يجعل هذا الشخص مبصرًا والآخر أعمى؟ يشير النعماني إلى مفهوم "تشّكك الإيمان" أي تعدد المراتب للحقيقة الواحدة، فيقول: «وأكثر من دخل في هذه المذاهب إنما دخل على أحوال: فمنهم من دخله بغير رويّة ولا علم، فلما اعترضه يسير الشبهة تاه. ومنهم من أراده طلبًا للدنيا وحطامها، فلما أمالَه الغواة والدنيويون إليها مال مؤثرًا لها على الدين، مغترًا مع ذلك بزخرف القول غرورًا من الشياطين ... ومنهم من تحلى بهذا الأمر للرياء والتحسن بظاهره، وطلبًا للرئاسة، وشهوة لها وشغفًا بها من غير اعتقاد للحق، ولا إخلاص فيه، فسلب الله جماله وغير حاله، وأعد له نكاله. ومنهم من دان به على ضعف من إيمانه، ووهن من نفسه بصحة ما نطق به منه، فلما وقعت هذه المحنة التي آذننا أولياء الله صلى الله عليهم بها مذ ثلاثمائة سنة تحير ووقف ...».

ويمكن للحَذِق حين يَسْبُر هذه الحالات التي ذكرها النعماني أن يرى بوضوح أنها حالات نفسانية، وجدانية، تُتَرجم بالخارج إلى انتماء أو ترك لاعتقاد ما، فالرياء وطلب السلطة والعجلة والغرور وغيرها هي طبائع إنسانية تنشأ من الطمع والجشع، ولا يختص ذلك بالماديّات بل حتى بالأمور المعنوية، فالإنسان لا يبحث عن المال حتى يشبع نهمه فقط بل الكثير من الناس يبحثون عن فعلٍ يخلدهم، ولو كان بالسلب، فلا يمتنعون من ارتكاب العجائب كمن بال في بئر زمزم، أو أجرم وبطش في النّاس.

غير أنّ النعماني يرجع السبب في الإندفاع مع هذه الحالات النفسانيّة والطبائع الإنسانية بحيث تصبح سببًا لمبدأ كل ضلالة، إلى الجهل، والجهل قسمان عنده، جهلٌ يعني عدم العلم، وجهل يعني عدم أخذ العلم من موارده الصحيحة بل من أدعيائه، فيقول: «ولعمري ما أُتيَ من تاه وتحير وافتتن وانتقل عن الحق وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية والعلم وعدم الدراية والفهم، فإنهم الأشقياء، لم يهتموا بطلب العلم ولم يتعبوا أنفسهم في اقتنائه وروايته من معادنه الصافية على أنهم لو رووا ثم لم يدروا لكانوا بمنزلة من لم يرووا».

 والسبب الذي دعاه إلى وضع الجهل في هذا الموضع اعتباره أنّ العلم بما هو علم يرشد الإنسان لهداه، ويوضح له ما اشتبه عليه، ويوقفه على حقيقة الأشياء فيعرف منها النافع، ويتجنّب الضار، وبعبارته: «وتحقق فيهم وصف الفرقة الثابتة على الحق التي لا تزعزعها الرياح، ولا يضرها الفتن، ولا يغرها لمع السراب، ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم»، وبذلك يكون اليقين قرين الإنسان فلا ينقدح الشك في قلبه ليكون سببًا في الإقدام على ما اشتبه عليه: «بما أوجبته قبائح الأفعال ومساوئ الأعمال، والشح المطاع، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي، والشهوات المتبعة، والحقوق المضيعة التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس، فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه لكميل بن زياد في صفة طالبي العلم وحملته: (... أو منقادًا لأهل الحق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ...) حتى أدّاهم ذلك إلى التيه والحيرة والعمى والضلالة، ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين الله، وتمسكوا بحبل الله، ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم». فالثبات على الحقيقة هو جهاد يتطلب التعلّم الدائم، والمداومة على العمل بهذا العلم، ومقاومة نزعات النفس بجرّ هذا العلم إلى خانة الرياء أو التكسب أو الاستفادة في تحقيق المصالح الخاصة والأنانيّة، كما أنّ العلم ليس كل معرفة ملفقة بل هي معرفة تامة بذاتها لا تكون شرعةً لأي أحد بل لأهلها الذين استحقوا حملها.

يتضّح من هذا، أنّ النعماني يُرشد إلى أن الضلال والإنحراف ليسا قدرًا مفروضًا على الإنسان ولكنهما ثمرة طبيعية لغرس الجهل الذي غرسه في نفسه، وهذا الجهل هو ابن شرعي للشك، فإن نفي الحقائق، واخضاع كل علم للشك لا لإختباره إنما لنفي الحقيقة عنه يولّد اضطرابًا عند الإنسان يسلبه كل معيار سليم يستطيع من خلاله موازنة نفسه في الحياة، وأولى ضحايا هذا المعيار المفقود هو العقل الذي يصبح من قوّة ايجابية ضابطة للإنسان إلى قوّة سلبية تعمل عمل الخادم لرغباته وأهوائه واشباع شهواته وبقاء غفلته، وهكذا يميل مع كل من يغريه باشباع هذه الحاجات ولو كان على حساب إنسانيته، فلا تعجب من كون عبقريًا أو خارق الذكاء يكون سببًا لكل دمار وهلاك فالذكاء قوة خادمة وليس قوّة ضابطة كالعقل النامي بالعلم، رغم أن محلّهما هو المخ.

من جهة أخرى، لا يختلف الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت: 328 هـ) كثيرًا عن النعماني، إنما يصيغ عباراته بدقة، فيقول: «فقد فهمت يا أخي ما شكوتَ من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأزر [يضعف] كله وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا العلم وأهله» فهو هنا يشير إلى أن الجهل ليس عدم العلم، ولكنه علم مزيّف أو مزوّر بهيئة العلم الصحيح، فهو بنيان كامل بحيث يصبح وجودًا يُستدلّ له، ويُبرهن عليه ويُزادُ فيه، فتستطيع أن تقول أن الجهل هو وجود مليء بالمغالطات والتركيبات الخاطئة بحيث كلما زاد التعمّق فيها إزداد البُعد والانحراف عن جادة الصواب.

ويكمل الكليني حديثه مبينًا، أنّ مبدأ الضلالة والهداية لا ينشأ من النفس بل من العقل لكون العقل إذا كمل صار قادرًا على تمييز القبيح من الحسن، سواء كان ذلك القبيح من داخل النفس أو من خارجها، فيقول: «فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي، وجعلهم جل ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عزوجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير، والرجوع إلى قول أهل الدهر، فوجب في عدل الله عزوجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي، بالأمر والنهي، لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه ويوحدوه، ويقروا له بالربوبية، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم ...».

ومفاد كلامه  -رحمه الله- أن التكليف يدور مدار العقل، ولولا هذا العقل وقابلياته لما كان لله سبحانه أن يكلف العباد، والتكليف لا يكون إلا بالتعلّم والأدب ليعرف الإنسان ما ينبغي عليه وما ينبغي له، ولو كان الجهل جائزًا للناس لما أوجب عليهم التفكر والتعلّم والنظر، وقد يقول قائل فما بال المجانين وناقصي العقول ومن كانت استعداده للتعلّم قليلاً؟ فالجواب في طيات كلامه هو أن واجب المتعلّم تعليم الجاهل، ولو جاز للجميع البقاء على الجهل ما مضت الحياة وما استمرت، ولا امتاز النوع الإنساني عن غيره من البهائم، ولما صحّ أن يكلّفهم الله سبحانه لأن تكليف الجاهل العاجز خلاف الحكمة والعدل، والخالق سبحانه حكيم عادل بلا شك فلا يصدر منه -سبحانه- القبيح.

ويأتي الكليني بعد ذلك إلى السبب الذي يدفع الشخص إلى الخروج من اليقين إلى الشك، والنزوع إلى الجهل والضلال، فيقول: «والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محمودًا عند ربه، مستوجبًا لثوابه، وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لا يدري ما يؤدي، ولا يدري إلى من يؤدي، وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة مما أدى، ولا مصدقاً، لأن المصدق يكون مصدقًا حتى يكون عارفًا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عزوجل: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة، لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة، إلى الله جل ذكره، إن شاء تطول عليه فقبل عمله، وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} لأنه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم عليه السلام: "من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"، وقال عليه السلام: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال"، وقال عليه السلام: "من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن".».

فالنصّ يشير بوضوح إلى أنّ البقاء على الصحة والسلامة، وعدم الريب والزيغ، منوط بثلاثة أمور هي: العلم واليقين والبصيرة. بالعلم يعرف تكليفه ويعقله فلا يتجاوز حسنًا ولا يبقى على قبيح، وباليقين يكون عمله تامًا ومتقنًا، وبالبصيرة يكون واعيًا وعارفًا، ويظهر بهذا أن الجهل له ثلاثة مناشيء وهي عدم العلم والمعرفة، والشك، والإثنان الأوليان من مختصات العقل والثالثة من مختصات القلب، فالشكّ إذا خرج من كونه قنطرة لليقين إلى كونه قاطرة تهدم كل يقين، صار مرضًا قلبيًا يدل على عدم قدرة العقل على التوفيق بين ما يدركه وما ينبغي عمله، فلا يكون له القدرة على الترجيح واتخاذ الحكم، ولا تكون للنفس الثقة بحكم العقل لتذعن له.

وعلى هذا الأساس يشير الكليني إلى سبب نشوء الملل والنحل المختلفة: «ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتًا مستقرًا، سبب له الأسباب التي توديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارًا مستودعًا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، لأنه كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئًا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالِم عليه السلام: "إن الله عزوجل خلق النبيين على النبوة، فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية، فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قومًا إيمانًا فإن شاء تممه لهم، وإن شاء سلبهم إياه". قال: وفيهم جرى قوله: فمستقر ومستودع».

فهو بعد بيان دور الجهل والعلم، يأتي لدور العوامل الغيبية في تحديد هداية الإنسان وضلاله. والعوامل الغيبية هي عوامل معلولة أيضًا خاضعة لنظام الأسباب والمسببات ولكن نظامها غير منكشف بكامله عندنا، وإنما الثابت أن جزاء كل عمل هو ما يستحقه، فالهداية هي استحقاق لصاحبها نتيجة تهيئته لأسبابها فصار المقتضى لتحققها موجود والمانع منها مفقود، ويتضّح ذلك جليًا بنصه على «كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله»، فتركُ العقل القطعي وجعل الهوى والميل ميزان للاستحسان والرفض للمعارف يجعل من ذات الإنسان هي الميزان، وذات الإنسان بحكم تركبها من عقل وروح، فكر وهوى، إلى آخر هذه الثنائيات فإنّ ميلها للدعة والراحة يجعلها تنزع نحو ما فيه لذة عاجلة على ما فيه لذة آجلة، لذلك يكون اختيارها لما يناسب الهوى أسرع من اختيارها لما يناسب العقل القطعي بما يتضمنه من تحليل وتركيب ونظر، ولمّا علم الله سبحانه بتوّطن نفس هذا الإنسان على ذلك كان استحقاقه للضلالة نتيجة حتمية له، فكما أن النار تنتج الحرق كذلك النفس المتوطنة على الميل نحو الهوى وعدم الفصل باستخدام العقل لا تنتج إلا الفساد.

قد يستشكل بعضهم بقول الكليني: «فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه»، والجواب في قوله تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا. كلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، فالمشيئة هنا باصرة إلى نيّة الإنسان وباعثه على عمله، لا على عمله فقط، فإن خالصًا عن نية سليمة هداه الله جزاءً لهذه للنية، وإن كانت مشوبة وملوثة قادته إلى الخذلان فالذي خبث لا يخرج إلا نكدًا، وكل ذلك بمشيئة الله سبحانه الذي خلق عباده مختارين لا مجبرين، حتى لا تكون لهم حجة.

الخلاصة:


مبدأ الضلال والإنحراف، ليس وجود شيء يسمى بالضلال والإنحراف في الخارج مع الإنسان، بل هما نابعان منه وهو مُوجِدهما، فهما قدرٌ متولد من الإنسان يختاره بمحض إرادته، يُنّظر له ويُقدم عليه، ليحقق غاياته وأطماعه، لذلك ترى كل ضلال وإنحراف خطابهما شعوريّ وحسي لا عقلي، وإن ظهرا بلغة العقل إلا أن العودة للقواعد العقلية القطعية والبرهانية سرعان ما تكشف هذه الدعوى وتظهر زيفها وبطلانها. ومن هنا كان جهاد النفس أشدّ وأقوى لأنه دائم ودقيق، وليس مؤقتًا وعامًا كما هو مع العدو الخارجي، فالعدو ينتهي مع مرور السنوات ويتبدّل أما الضلال الذي يتولد من سوء النفس وخبث سريرتها يتوالد ويتكاثر مع الأيّام. وعليه كل خطاب يتوجه لبيان مبدأ الضلالة لا يترك مربع النفس لغيرها لكونها المؤثر الأول فيه.
وهذه النفس هي التي فوق العلم والمعرفة والعقل، لأنها بمثابة التربة التي تهيئ لما سبق ذكره أن ينتج ثمره، فإن فسدت التربة فسدت الثمرة وإن كانت البذرة من أجود الأنواع، وهكذا هو الإنسان، فإن الضلال والإنحراف الذي ينتجه يعود لانحراف الساحة التي تمارس فيها قواه سابقة الذكر تأثيراتها فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:

جميع الاقتباسات هي من:

(1) كتاب الغّيْبَة، للشيخ الأجل محمد بن ابراهيم بن جعفر النعماني، المعروف بأبي زينب.
الطبعة الأولى، 2013م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ص (9-22).

(2) كتاب أصول الكافي، لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني.
الطبعة الأولى، 2005م، دار المرتضى، بيروت - لبنان، ص (5-9).

13 مارس 2014

صناعة الإنحراف

الانحراف ليس موقفًا، وليس حالة يمر بها الشخص بل هي طبيعة يُصنع عليها ويكبر. قد تكون كلمة الإنحراف ثقيلة على النفس، فمن يخوّلك أن تسمي فلانًا منحرفًا أم لا؟ من نصبك قاضيًا أو نبيًا يوحى إليه بحقائق الناس؟ حسنًا، مثل هذه الأسئلة صحيحة لكنها أيضًا ليست مطلقة. الانحراف صناعة يتم فيها نحت فكر الفرد، وصناعة شخصيته بحيث تعود كالمنخل لا يمر منه إلا ما يناسب المعايير المنحرفة التي زُوّد بها. لست بحاجة لأن تكون نبيًا أو قاضيًا حتى تحكم بانحراف شيء ما، فإن الحسن والقبح يدركهما العقل، كما يدرك تمامًا أنّ التعدي على ما هو حق للآخرين قبيح وأن الإصرار عليه انحراف، يدرك أنّ الأمانة – وهي قيمة مطلقة لا تتغير بتغيّر الزمان أو المكان – أمر حسن وأن الإصرار عليها هو سلامة في العقل والنفس. إن صناعة الانحراف تحاول تبرير انحرافها بأن تصور لك انعدام الحقيقة، بطرح صعوبة الوصول إليها أولاً، ثم تساوي كل الحقائق وتشكك فيها حتى تصل معك إلى أن الحقيقة هي ما تريده أو تشتهيه فيصبح معيار الصحة والسلامة نفسك وما تهواه وأما كل المعايير الخارجية فهي مجموعة أكاذيب لا واقعية لها، تحاربها بشدة.

لا يمكنك الحكم على نيّات الناس، لكن يمكنك محاكمة أفعالهم ومواقفهم وإن الخلط بين الاثنين لتخويف الآخر من ممارسة هذا الأمر العقلاني يعود في جذوره إلى الرغبة بعدم بيان خطا الانحراف. تراه سليط اللسان بالنقد والاتهام لكل ما لا يعجبه لكن ما أن تشير لخطئه في النقد وفقدان مقدماته تتملكه الثورة فيبدأ سيل اتهاماته بالتحجر والتخلف والجهل ومعاداة العقل! رغم أن العقل كقوة مدركة يحكم بوجود معايير خارجية تميّز الصحيح من الخطأ، لكن العقل كمصدر معرفي متوهم مثل الذي يدعون إليه يقول لك بأن الصحة منفعتك والخطأ هو إيقاف منفعتك لأجل الآخر، يضع لك المقاصد ويطلب منك أن تحوّر كل شيء وفقها، فهو عقل نفساني (سيكولوجي) محكوم بالرغبات والحاجات ومسيطر عليه بالمنافع والغايات. قد تضع رجلك أمام أحدهم وليس بنيّتك إهانته لكن فعل الإهانة قد تحقق بغض النظر عن النيّة، وتكرار الفعل يكشف عن نية ما لبثت أن تترجم نفسها لسلوكٍ دائم ومستمر. إن أكبر مورد لانتشار الدجالين وقبولهم بين الناس هو هذا التهوين والعبث بالحقائق وموازينها ونسف مقدماتها، بحيث يصبح لكل راية ضلال أتباع[1].

لكن ما هو منشأ هذا الانحراف؟ في القرآن الكريم التفاتات ظاهرية لطيفة جدًا، فهناك حقيقة قرآنية ملفتة للنظر هي أنّ الناس يؤمنون بدعوات الأنبياء بعد جهد جهيد وصراع مرير ولكنهم سرعان ما ينقلبون على أعقابهم بعد رحيلهم أو غيابهم، وفي الغالب الأعم – إن لم يكن الكل – لا يكون ذلك الانقلاب إلا بعد العلم والمعرفة وليس ناشئًا من جهل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[2] لكن العلم ليس هو السبب في الضلالة والانحراف كما قد يندفع الذهن لاستظهار ذلك إنما هو بمنطوق الآية (البغي) وهو شيء يتعلق بذات النفس الإنسانية لا بشيء آخر.

صحيح أن العلم والمعرفة يمتلكان القدرة على إنشاء هويّة متفردة للإنسان بين الباقين فيصبح ذاك مميزًا بالعلم أو عالمًا وذاك عارفًا لكن هذه الهويات لتعلقها بالإنسان تبيتُ وهي لها جانب شخصي يتعلق بصاحبها ويتبعه، وهذا الجانب الشخصي يتمثل في إعادة تفسير ذلك العلم ليناسب الهوى الذي يعارض حقيقة العلم {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}[3] وهذا العلم المُلّفق دائمًا ما يكون منطبعًا بالهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[4] لكن هذا الخطاب لمن؟

يظهر أنه متعلّق بعقلية المجتمع التي ترفض التنازل عن موروثاتها لأنها تعتبر ذلك الموروث هويتها {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[5] فمهما تعددت الهويّات المصنوعة من العلم فإنها تخضع بالنهاية للطبيعة الإنسانية المصطبغة بالهوى والرغبة والإتباع والانتماء لفئة وإرثٍ ما، وهذه الهويّة الموروثة تنشا من عاملين مودعين في النفس {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[6] ورغم أن الاختلاف والتباين بين الناس يتمظهر بصورة خلاف هويات في العادة، إلا انّ الاختلاف والتباين حقيقته ليس صراع هويات إنما صراع النفس الإنسانية ذاتها في داخلها وينعكس على الخارج بصورة خلاف هويات وأيدلوجيات، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[7] أي أنّه ما دام الإنسان إنسانًا يتنازع في داخله هذين العاملين سيستمر الخلاف ما بقي، فصراع الحق والباطل، الخير والشر، هو صراع الإنسان اليومي مع نزعة الفجور فيه ونزعة التقوى، لكن لأنهما داخليان وساحتهما النفس الباطنة فهو يرشحان للخارج بصورة هويات أو اعتقادات ما تلبث أن تحاول الانتشار وهي أسوأ أنواع الانحراف، لأنها تسوّق لك أهواء المنحرفين ورغباتهم بالتسلط على أنها حقائق يقينية وهي ليست سوى ظنون وهمية لا تملك قطميرًا من القبول العلمي.

لكن كيف تكون صناعة الانحراف؟ تتميّز صناعة الانحراف بأنها صناعة اجتماعية تقوم على تشويه المعرفة، ونقض أسسها، وتحطيم كل ما له علاقة بضبط ميزان العقل تجاه الحكم على القضايا. تبدأ بتغذية نزعة التشكيك من خلال التركيز على التناقضات لكنها أبدًا لا تعود للجذور لتوضيح السبب في نشوء التناقضات إنما تكتفي بأخذ ظواهرها[8]، وتتميز صناعة الانحراف بأنها لا تقدم علاجًا لهذه القضايا إنما تعمد إلى خلق وضع بديل بحيث ترمى كل المساوئ على الوضع الأول وتصور الحلول محصورة بالوضع الثاني. وهي تنزع إلى تبرير كافة الأخطاء وتسوّق لكافة الانحرافات حتى لا يكون هناك معيار واضح يمكن استخدامه في الاشارة إلى واقع هذا الانحراف المصطنع. وهذه علامة مميزة لصُناع الانحراف فإنهم لا يتعلمون العلوم للوصول إلى اليقين إنما لضرب بعضها ببعض لابقاء حالة التشكيك[9] لأنه في مثل هذه الحالة، يكون استقبال أي فكرة أو دعوى ترتكز على نسف كل معرفة وعلوم عقلائية معتبرة، في مورد القبول!

غير أنّ لُبّ سر صناعة الانحراف يكمن هنا، في أن العقل البشري غير قادر على تنقية ذاته بذاته، فهو كالآلة يعتمد على ما تغذيه به من معطيات[10] وعقلاً يتغذى المغالطات يتصور أن التفكير المنطقي السليم هو خطأ وعدوٌّ له، ومن ثم فإن المتلاعبين به ليس عليهم أن يشيروا له لمواضع الانحراف حتى يقبلها ويسير بخطاها بل سيتجه بنفسه بفعل ما ينتجه عقله من أفكار منحرفة إلى توليدها واتباعها فتبدأ ظواهر الانحراف تطفو على السطح من نكران البديهيات إلى كسر كل المحظورات الأخلاقية والإنسانية لتصل حتى إلى شرعنة المثلية والنفعية! وليس ذلك بسرّ، فإن أفكارًا كالنازية أو مذاهبًا كالخوارج أو سلوكيات كما كانت عند الحشاشين مات مُنّظروها منذ سنوات وقرون، لا يزال متبعوها يتكاثرون ويتوالدون لأن المنظومة الفكرية التي أخرجت هذه الأفكار المتصارعة والمتناقضة التي صيغت في بدايتها لخدمة أهداف معينة عند أصحابها في طلب القوة والسلطة لها خاصية العدوى كعدوى الجراثيم، سرعان ما تلتهم العقل وتخضع كافة قواه لسيطرتها وتعود قادرة على التكاثر بنفسها وتوليد ذاتها كالميكروبات في طول السلسلة البشرية، وحينها قد لا تعجب أن ترى بروفيسورًا في الطب يقدّس بقرة فإنّ بديهة المعرفة التي ترفض ذلك قد طمست بفعل ما آمن به من نكران المعرفة الحقيقية القائمة على البديهيات اليقينية فتراه لا يمانع أن يؤمن باجتماع الظلمة والنور في بقعة واحدة وزمنٍ واحد!

إن هذه العالم ليس بعالم الملائكة بل هو أقرب لعالم الأباليس، وكان إبليس أول من صاغ معرفة تقوم على تفضيل الذات على أساس انها الحقيقة المطلقة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[11] وعلى دربه يسير سُرّاق المعرفة وصُنّاع الانحراف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في الكافي، ج8، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما من عبد يدعو إلى ضلالة إلا وجد من يتابعه.
انظر أيضًا: سفيد: كلاوات العقل
http://safeed.blogspot.com/2011/01/blog-post_22.html
[2] آل عمران / 19
[3] البقرة /  145
[4] البقرة / 145
[5] يونس / 78
[6] الشمس / 8
[7] هود / 118
[8] إننا نرى الأفعى سامة والسم قاتل لنا، فنتصور ذلك شر من صنع الله – عز وجل – ولكن الواقع أنه ليس شرًّا بل بهذا السم تحيى الأفعى حياتها، فهو خير لها، وأن ميزان الأمور العدل وليس المساواة فكما زُوّدنا بما نحتاجه للحياة التي نحياها زُوّدت هي بما تحتاج للحياة التي تحياها في بيئتها ومحيطها. دون الرجوع إلى جذر المسألة وهو بيان مدى الاستعدادات والقابليات والطبائع فإن وجود السم عند الأفعى وانعدامه عندنا يمثل تناقضًا في نظام الوجود الخيّر بينما هو ليس كذلك!
[9] "فالشك ما هو إلا قنطرة ووسيلة ومقدمة لتمحيص الحقائق والمعتقدات، فإما أن يصل الإنسان بعد البحث والتحقيق إلى حالة الإذعان بالنفي أو الإذعان بالثبوت، وأما بقاؤه مرابطًا في منطقة الشك مع كفاية ما يصلح للاستدلال على الحقيقة فإنها حالة مرَضيّة غير طبيعية، فإن حالة الشك عبارة عن تذبذب واضطراب وتحيّر في النفس من جانب القوى العمليّة في انصياعها للقوى الإدراكية ومن ثم أرشدت الشريعة ونهت عن البقاء في حالة الشك وعن جعل اليقين شكًا..." انظر: بحوث في قراءة النص الديني، الشيخ محمد السند، ص 30 وما بعدها.
[10] وهنا البحث في افتراق العقل الذي هو قوة مدركة عن الفطرة أو العلم البديهي "النفس-أمري" كما يُصطلح عليه، فإن الأول يعمل عمل الآلة بينما الثانية تعمل عمل الوجدان وهي صوت التذكير بوجود الخطأ الذي قد يخرسه السخام الناتج عن الآلة (العقل).
[11] ص / 76

8 يوليو 2013

زيف الوعي المعاصر

قبل أشهر قليلة كنت أمشي في إحدى الطرق القديمة لمدينة عريقة في دولة مجاورة مع صديق عزيز، جرنا الحديث للسياسة، سألني سؤالاً فأجبته وكان أن تحوّل الصديق إلى وحش كاسر لو صار الأمر بيده لافترسني وما أبقى بي شيئًا.

هي حالة طبيعية تتكرر كثيرًا، لا يحتمل الإنسان الصراحة ليس لأنها صراحة ولكن لأنها تصطدم بشكل مباشر مع ما يرغب به. الإنسان ككائن ضمن سلسلة هذا الوجود يتميّز بالوعي، وهي حالة أعلى من الإدراك الذي يمتلكه كل مخلوق ذي حركة، ولأن الوعي من ضمن امكاناته التي لا تنفك عنه يكون الإيمان صفة أصيلة للإنسان لأن الإيمان هو القدرة على الإعتقاد، والقدرة هنا معناها الإنتخاب من بين خياراتٍ عديدة، وهو جوهر الوعي، لذلك يُساءل الإنسان عن خيره وشرّه، فعله ونيّته، كلامه وإشارته.

على كل حال، لولا وجود هذا الوعي في الإنسان لما كان له أن يكون مستقبِلاً للرسالة الإلهية لكن وجود الرسالة الإلهية بنفسها أمرٌ يستحق الاختبار ليعرف الإنسان مدى استحقاقه لحملها، إنّ هنا طرفة يسردها القرآن الكريم عن هذا الإنسان {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أبت المخلوقات حمل الرسالة لكن حملها الإنسان بظلمه وجهله لأن تلك المخلوقات أدركت إلتزاماتها وإن لم تع علّو وشرف هذه الرسالة، كما أدرك الإنسان إلتزاماتها لكنه رفع ما يرغب به من إثبات علّوه على وعيه. فالوعي وحده ليس منجاة للإنسان كما يصورون لك بل هو في كثير من الأحيان مهلكة له لأنه يخبرك بحقيقة موقفك وآثاره الواقعية لكنه لا يملك السلطة على نفسك،  فترى البشر ينساقون مع ما يريدون ويرغبون، فيكذبون وينافقون ويقتلون ويسرقون مع علمهم بخطئهم لكنهم يبررونه، وهذا هو الظلم والجهل ومنه ظهر الاختبار «فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها إلا مؤمن مطيع»*.

 أعود لصديقي في ذلك اليوم الربيعي اللطيف، بعد أن انتهى النقاش أقرّ بفكرتي لكنه لا زال يجادل فيها بذريعة الأسلوب الخاطيء، وأن ذلك هو ما يحجزه عن قبول كلامي كما هو، مثل ذلك، أيضًا للأسف، يتكرر كثيرًا مثل هذه العبارات تفترض دائمًا أن الإنسان يقبل الآراء إذا عرضت بلطافة لكن يرفضها إذا عرضت بخشونة وإن كانت حقًا، والواقع أن هذا الافتراض خطأ، مشكلة الإنسان ليست مع الأسلوب لكنها مع الحقيقة ذاتها، إنه يرفض الإذعان لها ما لم يقيسها مع رغباته وأهوائه ويناسب فيما بينهما، قد يكثر الحديث عن الهوى بحيث يصبح مملاً لكنه واقع والواقع ممل لأنه يتكرر بسبب الطبيعة البشرية التي تقوده وتدفعه لارتكاب ذات الأخطاء مرة تلو الأخرى في متوالية نسميها: التكرار التاريخي. لا يمكن أن نفصل أثر الهوى والرغبة طالما نحن نتحدث عن كائن تدفعه مشاعره في أغلب الأحيان إلى أن يرفض حكم العقل ويعمل بعكسه مندفعًا من ذاته، بل إن الأدب الإنساني كله تمجيد وتخليد بمن يفعل ذلك ومحاولة التغاضي عن ذلك هي تغاضي عن أهم جوانب الخلود الإنساني، الملاحم!

إذا نظرنا للوعي ضمن نطاقه البشري وجب علينا أن نعلم أن المؤشرات عليه ضمن البشر ضعيفة، فهو سلاح يشبه الورقة المدون عليها تعاليم السباحة أمام فرد لا يعرف السباحة ويندفع بسرعة نحو المحيط، وهنا تكمن الإشكالية أننا بطبيعة الحال كبشر نفضل الانسياق مع الأسهل والذي يخاطب ما نريد بسرعة وتسليم أكبر مكتفين ببعض التعليمات وبعض الكلمات والأفكار الفلسفية المقتبسة لنصور أنفسنا قادرين على التعامل مع الواقع كما هو، لا كما نراه، والحال أنه العكس. في مناظرة حضرتها قبل فترة لفت أحد الأصدقاء - مستهزئًا - نظري إلى قول المتحدث: «لا شيء مؤكد، هذا مؤكد». والناس يصفقون وينقلون كلامه وكأنه أتى بفتح العظيم مهملين التناقضات الصارخة التي ترسم ثقوبًا واضحة في منهجيته وتضع تساؤلات لا متناهية عن المستوى العقلي الواعي الذي يتحدث إنطلاقًا منه! لكن هذا يقف لا شيء أمام تصفيق من يطلق عليهم ولو عرفًا النخبة له، إنها نخبة تتصور نفسها واعية وتنطلق من هذا الأساس، والتصور لا يغني عن الواقع فالتعامل مع الحقائق المجردة ليس كالتعامل مع الحقائق في أرض الواقع حيث يختلط السليم بالسقيم والعقل بالعاطفة والميول بالأهواء، إنّ التنظير دائمًا سهل يسير ولكن التطبيق صعب عسير، وهنا يتمايز صاحب الفهم عن حامل العلم.

بالأمس كنت أشاهد فيلمًا مع صديق، فيلمًا يحاكي شيئًا من الخيال العلمي، أخبرته أن يتأمل هذا المخلوق الفضائي المصنوع من أحدث صيحات تكنولوجيا الرسوميات، لم يكن يختلف عن الإنسان الطبيعي سوى بمواده وحركته وقدراته، لا يدل ذلك إلا على أن الإبداع الإنساني تحكمه حدود لا يستطيع أن يتعداها، فهو لا يزال غير قادر على صنع مخلوق خيالي بلا رجلين أو يدين أو رأس وعينين! هذا ينبيك عن الوعي الزائف الذي يتصوره الناس، فالكثير من الوعي هو في الحقيقة نوع من المحاكاة لما يجري بداخل النفس من رغبات مختلطة بأهواء وخلفيات ثقافية وفكرية جزء منها نشأنا عليه وآخر استحققناه ضمن منظومة طويلة من العوالم تعرف بـ: العدل الإلهي.

الوعي، لا يأتي بقراءة المخالفين ولا بضرورة الإنسلاخ من محيطك ولا باستحداث مواقف تتصور فيها التحرر من موروثك ولا بتكرار عبارات لفلاسفة غربيين أكاد أجزم، كما أخبرني أحد أساتذة الفلسفة قبل فترة ضمن جلسة ضاحكة، أن قائليها أنفسهم لم يعرفوا عن ماذا كانوا يتحدثون حينها، هذا ما تدفعك «الميديا» لتتصوره وعيًا بينما هو مجرد هامش من الوعي يعطونك إيّاه بحيث لا تتعداه فتتصور نفسك مدركًا واعيًا وأنت مرتهن وبحاجة دائمة لوسائل الإعلام والتواصل لتعيد صياغة مواقفك وآرائك وفقها ومن ههنا يتم إبراز صنّاع الوعي المزيف، كصاحب التناقضات المذكور آنفًا وأمثاله الذين يغذون عقول الناس بما يُراد لهم أن يكونوا عليه، فترى أصحاب الوعي الزئف كثيرًا ما يدفعون الآخرين دفعًا لاتباع هؤلاء ليماثلوهم، فدرجة الوعي المعطاة  ثابتة عند مستوى معيّن بحيث ترى الخلل المتوهم عند غيرها وتبرر ما هو أسوأ منه الموجود فيها وتغمض عينها عن كثير من التفاصيل الدقيقة التي تعيد "فلترتها" لتناسب أحكامها المسبقة، رغم أنه خطأ بميزانها لكنه الوعي المزيف الناتج من الخلط بين المبدأ والغاية، والرغبة والحاجة.

الحديث عن الوعي لا يصنع وعيًا، مرحلة الوعي لا يصل لها كل شخص لأنها تتطلب قدرة كبيرة على المقاومة، مقاومة النزعات التشكيكية التي تدفع للإنسلاخ عمّا أنت عليه في الحقيقة، ومقاومة الإنجاذابات النفسانية التي تجعلك تعتقد أنه بإنفصالك عن الآخرين وإنفرادك فأنت تتميز عنهم وتعلو عليهم، وتصوره بالتعليم، مهما ارتفع مستواه مغالطة، فأقصى ما يمكن له هو إيجاد الوعي بالموقف النفسي تجاه القضايا المختلفة أما معالجة هذا الموقف فيرجع إليك، أما الذكاء مرتبط بالربط والتحليل، وهما من فروع الإدراك المختص بمعرفة الآلية، أما الوعي فحالة فوق الإدراك وهي معرفة الغاية ولأن الإنسان كائن غائي فإمكانك أن تقيس درجة وعيه من مدى معرفته بغاية وجوده  والأهم حركته نحو هذه الغاية لا مجرد تبصرتها،{لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}؛ فالتذكرة من الله عزّ وجلّ والوعي من الإنسان، وإن غاب الوعي صارت التذكرة حجة بالغة عليه، وفي كليهما إثبات أن القول بالعبثية لا يتسق مع ادعاء الوعي و«هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»**.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


* الميزان للعلامة الطباطبائي / الأحزاب 72.
** عن الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد.

7 يوليو 2012

الحرب هي الحل!

أكثر ما يخافه الناس ويخشونه هي الحروب، بنظرة إلى أدبيّات الأدباء وانتاجهم في الفترات التي تسبق الحروب حين يلف صمت العاصفة جميع الأنحاء تنبؤك بمدى الإحساس المفزع الذي ينطق على ألسنتهم، وحالة الإنعدام للوزن والطفو وعدم الاستقرار التي تستحوذ على أقلامهم، رغم فزع هذه التجربة إلا أنها في أوقاتٍ كثيرة من تاريخ الإنسانية تصبح هي الحل الوحيد الذي لا بد منه لإعادة رسم العلاقات الإنسانية وبناء منظومات التعايش من جديد، إنّ حالة الحرب بهذه اللحظة تصبح مطلوبة رغم مرارتها لأن الداء قد استفحل ولم يعد علاجه متاحًا إلا بأمّر دواء يمكن أخذه.
إن النّاس ينتجون واقعًا وما يلبثوا أن يصبحوا مأسورين لهذا الواقع، وبدلاً من أن يرسموه هم، يعيد هو رسمهم وتحديد مهامهم بالحياة وما عليهم فعله، ولا يمكنهم الإنعتاق من هذا الواقع إلا بالثورة عليه. إن الظروف التي تجمع الناس على أمر ما هي نفسها تمامًا التي تفرقهم بعد ذلك عنه، حين تتداخل رغباتهم بأمنياتهم مع أهدافهم وتجد أوضاعهم النفسية مجالاً للتعبير عنها خارج دائرة الجموع البشريّة، يُعاد التمترس خلف نفس الأسباب التي خلقت الواقع الأوّل لتبرير إعادته من جديد بعد الثورة عليه.
حين يقول لنا التاريخ بأن «الثورة تأكل أبناءها»، فإنّ الفهم العام هو أن الصراعات تبدأ بالبروز بين أصحابها تبعًا لمطامعهم في السلطة فيصبح بأسهم بينهم، ولكن القراءة الأخرى لهذه المقولة تقول بأن حالة الثورة هي حالة تشكيل عقيدة واحدة لمحاربة عقيدة أخرى، وما أن تنتهي هذه الحرب يرجع الناس لعقائدهم الحقيقية الكامنة في أنفسهم، ولكن لأن شرعيتهم إنما استمدوها من تلك العقيدة الواحدة يبدأ كل طرف بإعادة تأويلها لتناسب العقيدة الكامنة في نفسه،  باختصار هي نوع من إعادة انتاج الذات تحت اسم جديد ليمكن تسويقها مجددًا، كل ما يمكن قوله عن مقولة أنّ «الثورة تأكل أبناءها» هو أنّ بعد الثورة يخرج الثائرون من حالة القطيع إلى حالة الإنسانية، أي من حالة عيش «اللحظة باللحظة» إلى حالة «العودة بالذاكرة» لاستذكار كل المخزون النفسي والمعرفي المختبئ فيهم.

  بعبارات أبسط، يمكن القول بأنّ أي واقع ينتجه الإنسان من خلال النظام الذي ينصاع له يصل في مرحلة ما إلى الاستهلاك التام ولا يعود قادرًا على بعث الحماسة له في الناس، ولا هو قادر على توليد المزيد من التحديات التي تشكل حافزًا لجمهوره لأن يستمر فيه فيصل إلى درجة الإنهيار أو شبه الإنهيار على أقل تقدير. تصبح الحياة رتيبة، روتينية، مملة إلى جانب كونها محملة بالأثقال تسحق البشر بحجم الفساد والصراع اليومي للحصول على لقمة العيش والإحساس بالكرامة الإنسانية ومملوءة بإعادة اجترار ذات القضايا يوميًا في دوامة لا تنتهي، يصبح العيش مرهونًا بمقدار التذمر من المشاكل الحياتية، وبحسب تعبير هوفر «عندما يسرف المحبطون في اتهام الحاضر وانتقاصه فإنهم في حقيقة الأمر يخففون من وطأة إحساسهم بالفشل والعزلة وكأنهم يقولون أن العيب ليس فينا ولكنه موجود عند كل معاصرينا»، وكأن مشاركة الإحساس بالسوء ستقلبه للأفضل!

  إنّ هذا الإحباط بقدر ما يبعث الراحة في نفوس أصحابه عند التشكي بقدر ما يوّلد كراهية شديدة للواقع بحيث لا يُرى في الثورة إلا مخرجًا وحيدًا. إلا أنّ الثورة في حدّ ذاتها تمثل دائمًا قلقًا ملازمًا للإنسان لأنها فعل لا يمكن التكهن بنتائجه، والإنسان جبان بطبعه يفضل العيش متناغمًا مع ألم ما يعرف نتيجته على تحمّل قلق ما لا يعلم نتيجته. هذا التفاوت في الشعور هو العلامة المميزة للمجتمعات البشرية عمومًا، وهو ما يجعل التوتر ملازمًا دائمًا للوضع الإنساني. وهذا ما يشكل الحافز الأكبر للإنسان غالبًا لصنع عوالم جديدة تجعله يمتلك الإحساس باللا محدودية، فينشئ أحزاب ثورية، وجمعيات نفع عام، ويختلق قضايا إنسانية، ويستهلك نفسه في حركات جماهيرية أو تنظيمات سرية يحاول من خلالها إيجاد معنى لحياته بالدعوة لما يعتقده يشكل ثورة على واقعه الحالي.

  الفهم المحدود للثورة على أنها عملية انتزاع نظام حاكم واجتثاثه هو فهم منقوص لا يوفي لكلمة الثورة معناها الحقيقي. هي كلمة تشير إلى الحاجة إلى إحداث تغيير ولو بشكلٍ صوري، بعض علماء الاجتماع يعتبر الانتخابات الرئاسية والنيابية ثورات مصغرة استبدلت الرصاصة بورقة الاقتراع [ولكن هل انتهت ثورات البشر لهذه السلمية؟]، في بلدان أخرى لا صوت للانتخاب فيها تظهر الثورة على شكل تغييرات اجتماعية يلمسها الإنسان في محيطه وحياته اليومية، ولا يرتبط مفهوم الثورة بالإيجاب دومًا بل في كثير من الأحيان تأخذ الثورة صورًا سلبية كما حدث في ثورات الهيبيز بعد الحرب العالمية الثانية واشتدت مع حرب فيتنام، فالثورة هي تعبير عن رفض الواقع لمن يتملكه الإحساس بالندم لكونه يشكل جزءًا من هذا الواقع.
  
 الحلم بواقع أفضل، ومن لا يحلم بذلك؟، والرغبة بتحسينه في المستقبل هي الدافع الأكبر وراء سعي النّاس لإحداث التغيير، ولكن ذلك ليس إلا بالسعي نحو إحداث الكراهية، إن النّاس يعشقون الكُره بقدر ما يتحدثون عن الحب! مهمّة السياسي غالبًا هي أن يزرع فيك كره الحاضر «كأنه أورغ بشري يطلق نفس الدعايات عليك على مدار الساعة المرة تلو الأخرى مكررًا الكره .. الكره .. لنكره أكثر وأكثر حتى تشعر أن شيئًا ما دخل إلى جمجمتك وهو يطرق على دماغك بقوة»، هذا ما كتبته جورج أورويل واصفًا الوضع السياسي في بريطانيا قبل أشهر من بداية الحرب العالمية الثانية! لا يختلف الوضع في أي مكانٍ آخر. تمتزج مشاعر الكراهية مصاحبة لمشاعر الغيرة، ولا بدّ من ترميز كلٍ منهما برمز يشير إليه، بدولة أو شعب أو عرق أو مذهب أو فرد أو سلطة، لاحظ ذلك جيدًا في الخطابات المتصدرة دائمًا ما يقترن ذم الواقع الحاضر بمقارنة مع من هو أفضل، أو بمن اتخذ خطوة عجز الناس عنها هنا لسبب أو آخر، وبتحميل السبب على رمز تختزل فيه كل المساوئ، وثنائية الكره والغيرة هذه تهيء النفوس وتحصرها في قالب يبحث عن التمرد ويطلبه حثيثًا بيد من كان، وبأي صورة يكون. قد لا تتصور قيمة الغيرة إلا حين تعرف أنّ كثير من أفعال الإنسان إنما يُقدم عليها لأنه لا يريد أن يرى نفسه أقل ممن أقدم عليها، إلا أنّ خطورة مثل هذه المشاعر تكمن في أنها تنشيء عقلاً خاصًا بها لا يتحدث بالمنطق إنما يتلاعب بالعاطفة، لذلك تغيب الحلول الواقعية والخطط الواضحة وتحضر بدلاً منها شعارات خطابية ووعود انتخابية وثورية سرعان ما يمحوها الواقع بأول اصطدام معه.
الرغبة العارمة بالوصول إلى الأفضل في المستقبل عند النّاس حين تتحوّل إلى بضاعة سياسية يتم اغفال تحديد معنى الأفضل، لأن تحديده يعني الوصول إلى نقطة نهاية حين لا يعود للمزيد من الحديث عن الأفضل وانتقاد الحاضر التأثير السحري على تحريك الناس، وهذا يُسقط أهم أسلحة الإبتزاز بين السلطة، أي كانت، وبين المتكسبين من أفعالها. لكن دوام هذا الإبتزاز، والحث على المزيد من الكراهية وسوداوية الواقع مع العجز عن تغييره واقعًا، كما نرى في مجمتعات كثيرة، يُلجِئ الناس إلى الحل الأخير: استجداء الحرب.
من الغريب أن ترى الناس يطلبون الحرب بل ويستجدونها لكن ابحث في الخطابات حولك، وفي أحاديث العوام، وسترى أن الخوف من الحرب هو الدافع الأكبر لاستجدائهم وطلبهم إياها، فحين يرتفع سقف خطاب الكراهية والإقصاء ويزداد جبن النّاس عن وضع حدّ لذلك، وحين يصبحوا مجرد محركات يتلاعب بهم «عقل العاطفة» المفعم بالسلبيات التي زرعها السياسيون والمتكسبون من تلك الخطابات، لا يرون أمامهم إلا الحرب لتهدم كل شيء على أمل بمستقبل أفضل يأتي بعد إزالة ذلك التوتر، كما يتوهمون. إن ثورتهم هنا بعد أن عجزوا على تحقيقها في أنفسهم، يطلبونها بغيرهم، إن عطالة واقعهم وكرههم له يجعلهم يطلبون هدمه لأنهم أعجز من إعادة ترميمه، على أمل بمستقبل أفضل يعيدون بنائه بعد تدمير كل شيء .. ولكنّ طول الأمل حماقة، وثمن الحماقة لا يُعرف إلا بعد ارتكابها!