24 أغسطس 2008

أبناء الوسط - الحلقة الثانية

منذ القدم كان هناك اعتقاد بأن محل الولادة أي كون الطفل هو الأول / الأوسط / الثالث / الرابع له تأثير على الطفل و يساهم في تكوين شخصيته و رسم حياته ، قبل سنوات طويلة قرأت أحد الأبحاث في احد الكتب ( نسيت اسمه حاليًا ) لكنه كان يبحث في نظام الولادة عند الفراعنة و كيف انه كان يقوم على نظام دقيق بأن يكون عدد الأبناء زوجي حتى لا يكون أحدهم ( بطة سوداء ) و لا يلقى الرعاية الكافية ، من غرائب الفراعنة أنهم كانوا يتبعون نظامًا غذائيا معينا قبل و أثناء الحمل بكل طفل لاعتقادهم بأن الغذاء يساهم في بُـنية و عقلية الابن .معظم هذه المعلومات مثبتة علميًا الآن ، خصوصًا نظرية الأبناء و الابن الأوسط ، و أول من أشار لها بصورة واضحة كان العالم النمساوي " آلفرد آلدر " المعاصر لمواطنه " سيغموند فرويد " رغم أن نظريته كانت تعاني من التبسيط الشديد لأثر " محل الولادة " إلا أنها فتحت الباب لنظريات علمية كثيرة بعضها أصبح من المسلمات مثل ( متلازمة الابن الاوسط ) .

عدم الانتماء الذي يشعر به الابن الأوسط لا يعني كرهه للعائلة أو بُعده عنها ، بل في غالب الأحيان يكون هو رزنامة العائلة حيث يحفظ و يتذكر جميع أحداث العائلة و يهتم و يتابع أخبار الجميع و في نفس الوقت يكون منسيًا من قبل الجميع ، يعني مثلا يمكن أن يكون أول من يتذكر عيد ميلاد أخيه / أخته و لكن في عيد ميلاده لا أحد يتذكره إلا بعد فوات الاوان ، فهو كالشبح وجوده مع العائلة إذا كان أمام أعينهم أما إن غاب عنها فهو منسي .

الإنطواء و الإنعزال صفة مشتركة بين كل أبناء الوسط ، فهم يحبون أن تكون لهم مناطق في شخصياتهم و عقولهم تتمتع بخصوصية لا يستطيع أحد أن يطلع عليها أو يفك شفراتها ، مهما انفتحوا على الغير و قوية صداقاتهم او ارتباطهم بهم إلا أنهم يفضلون أن يبقوا أنفسهم في عالمين لا يتحدان و لا يصطدمان ، من كان يتابع مسلسل Seinfeld سوف يمر عليه مصطلح George's two worlds ..
جورج المستقل : و هو جورج العادي و المضحك مع أصدقائه و أهله .
جورج المرتبط : و هو جورج الرجل الرزين المتزوج .
مع القليل من التحريف يُمكن إعادة تصنيف هذه النظرية إلى:

البطة السوداء كرجل العائلة و الصديق .

و البطة السوداء كرجل ذاتي يفضل أن يعزل نفسه عن الناس حتى يختلي بنفسه على طريقة المهاتما غاندي و هي حالة يصفها الشاعر العربي صفي الدين الحلي رحمه الله بقوله :
ذو العقل من أصبح ذا خلوةٍ .. في بيتهِ ، كالميّـت في رمـسِـهِ
مُـنفردًا بالفـكرِ عـن صُـحبهِ .. مُستوحِشًـا بالإنْـسِ مــن أُنـسه
أصبحَ لا يألـفُ خِــلاً ، و لا .. يَصحبُ شخصًا ليسَ من جنسِهِ
و لا يـريدُ الليثُ فــي غـَابـه .. مـِن مـؤنـسٍ فـيه سـوى نـفـسهِ
من العيوب التي هي نتيجة مباشرة لهذه الصفة هي ( الحياء ) بما أن هذا الشخص يكره أن يطلع الناس على خصوصياته و يفضل الاحتفاظ بها داخل نفسه ، فهو يتوقع أن يكون الناس كذلك ، لذلك يكون من السهل عليه التواصل بالمناسبات الاجتماعية حيث السلام و السؤال فقط ، لكنه يتحرج من السؤال عمّا يمس خصوصيات الطرف المقابل و إن كانت خصوصيات بسيطة مثل اسمه الكامل أو عنوان سكنه و إن حصل على الشجاعة و سأل فهو يكتفي بالقليل من المعلومات و لا يتعمق كثيرًا فيها .. يعني من الطبيعي عندما تسأله مثلاً عن عنوان صديق مشترك يجاوبك بـ : ما أدري ! أو ما سألته أو شدراني .

نتيجة الواقعية التي يتمعتون بها ، كثير من تصرفاتهم تكون غير مفهومة لمن يراها ، لأن الابن الأوسط لا يحصل على التدليل كالبكر أو الأصغر فهو الوحيد الذي يرى الصورة الكاملة بشكل واضح ، و يضع كل شيء في موضعه الصحيح ، يعني يتعلم منذ طفولته أن الحياة ليست عادلة و أنه لا يمكن أن يحصل على كل شيء بمجرد تمنيه ، و أن عليه في غالب الأحيان أن يعتمد على نفسه للحصول على ما يُريد ، بسبب هذا الشيء في أحيان كثيرة تكون تصرفاته غير مبررة أو غير مفهومة لغيره و لكنها من وجهة نظره سليمة و صحيحة فهو لا يرى هذا ( التصرف ) كفعل و انتهى ، بل يراه كوسيلة توصله لما يريد ، أوضح مثال :
في السبعينات تم قبول بيل غيتس في احدى أفضل الجامعات بالعالم و هي ( هارفارد ) و في تخصص نادر و هو ( الرياضيات ) و بعد أقل من سنتين ترك الجامعة في تصرف لم يكن مفهومًا لأغلب الناس بما فيهم أسرته !
الوحيد الذي عرف معنى هذه الخطوة هو ( بيل غيتس ) الذي أنشأ في نهاية تلك الحقبة ( مايكروسوفت ) ليتربع على قائمة أغنى رجال العالم لسنوات بعد أن ظن الكثيرون أن مستقبله انتهى بتركه للجامعة. أيضًا من العيوب التي تكون نتيجة لهذه الواقعية هي ضعف روح المغامرة عند أبناء الوسط ، فالمثل الكويتي القديم ( عتيج الصوف و لا جديد البريسم ) هو دستورهم حيث أن القديم المضمون أولى بالاحتفاظ به من الجديد المجهول .و من العيوب أيضًا أن الابن الاوسط سريع الملل ، فكثير من تصرفاته رغم أنه يعلم نتيجتها النهائية إلا أن ملله و حبه للتغيير يدفعه لتركها بمنتصف الطريق ، فكثيرا ما ترتد تلك التصرفات عليه بصورة عكسية تؤثر عليه .. ليس كل الناس " بيل غيتس " !
فمن الطبيعي أن ترى الابن الأوسط في كثير من الأحيان يقول :
  • لا احد يفهمني .

أو .

  • لا أحد يستمع لما أقول .
و لكن من أفضل مميزاتها هي ( المرونة ) ، كما يقول نيكولا ميكافيللي " الناس يحبون بإرادتهم الحرة ، و لكنهم يخافون برغبة الأمير "يعني أنهم يملكون القدرة على ابراز ذاتهم و خصالهم ، و في نفس الوقت مراعاة رغبات الغير بما يحقق التوازن المطلوب .

18 أغسطس 2008

أبناء الوسط - الحلقة الاولى

البطة السوداء ... مصطلح يعود لقصة تلك البيضة المسكينة التي تزحلقت من عشها إلى عش بطة مجاورة لتكبر على انها ابنتها رغم اختلاف لونها عن باقي اخوتها المفترضين .من يومها اصبح هذا المصطلح يطلق على كل ما يمت للتفرقة في المعاملة بصلة ... و من اشهرها هي ( عقدة الابن الأوسط ) ... بسبب النظام الاجتماعي المحكم و تدرجه بحيث تكون السيطرة للاب و الادارة للام فعلى الابناء ان ينساقوا مع هذه الحكومة في معاملتهم ، و بسبب أن الابن الأول هو الباكورة يحصل على القسط الاكبر من الدلال و ( الدلع ) و بما أن الاصغر هو ( الجعدة ) فنصيبه من الدلع لا يقل عن الاول ... و بالتالي تكون كل امور الاسرة على عاتق البطة السوداء ( الابن الاوسط ) .بما أني و لا فخر من الطبقة الوسطى ، و خير الأمور الوسط .. فهذه الظاهرة شدتني لأنني اكتشفتها بنفسي قبل أن أعرف أنها موثقة بالكتب و الأبحاث تحت اسم ( متلازمة الابن الأوسط = Middle Child Syndrome ) .بسبب أن الابن الأكبر و الأصغر يحصلون على القسط الأكبر من الرعاية ، يكون الوسط ضحية تحمل التبعات منذ الصغر ، فهو المسئول عن أغلب أمور العائلة في حال غياب رئيسها لذلك يعيش في وسط حالة من ( الطفو ) فهو يشترك مع تسلسلين أو حلقتين الأولى ( الأولاد ) و الثانية رأس الأسرة و هي ( الوالدين ) و يقوم بأعمال الاثنين لذلك يشعر بحالة من ( عدم الانتماء ) لأي طرف ، و لي هذا المجال تجارب شخصية كثيرة .هذا الشعور يجعل الابن الأوسط يتميز بعدة خصال نادرة ، و متناقضة في بعض الأحيان .
* فهو يفضل التواجد خلف الكواليس يعني يتميز بعدم حبه لأن يكون تحت الأضواء أو المتابعة الدائمة ، رغم اهتمامه بكل الأشياء و التفاصيل و حرصه على أن تكون على أكمل وجه إلا أنه يقوم غالبا بهذا الدور من خلف الستار أو بكلمة أخرى تحت الظل ، بعيدا عن كل الضغوطات فهو يمسك بخيوط اللعبة من غير أن يظهر على الواجهة.


* يتميز الابن الأوسط بجانب ابداعي و خلاّق بصورة كبيرة لكن يعيبه أنه في الغالب كسول و سريع الملل ، فأعماله إما أن تكون ذات نتيجة سريعة و واضحة أو لا يُقدم عليها و يتركها رغم أنه يملك قابلية كبيرة لأدائها على أحسن صورة .
يميل الابن الأوسط بدرجة كبيرة إلى الانعزال و الانطواء و يرفض مشاركة خصوصياته مع هذا فهو يمتلك قدرة كبيرة على التواصل الاجتماعي و التكيّف مع أي محيط يكون فيه ، فهو منذ طفولته متعود على أن يكون وجه رئيسي بالمشاركات الاجتماعية رغم أنه يُبقي في قرارة نفسه حاجزا يفصله عن كل الناس لينعم بجزيرته المنعزلة .


* في معظم " أبناء الوسط " هناك ميل واضح فيهم للهدوء و الصمت ، و غالبا يكونون أعقل ( الأبناء ) لأن العواطف عندهم مجالها محدود بالتالي يفسحون مجال أكبر لدور العقل في اتخاذ الأحكام .في قصة أصحاب الجنة بسورة القلم ، نرى اشارة واضحة لهذا في قوله تعالى ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ) ، لذلك أبرز أدوارهم تكون كوسطاء بين الناس أو صانعي للسلام .


*قدرتهم على التفاعل الاجتماعي و انعزالهم و حبهم للانطواء يجعلهم قادرين على بناء جسور تكفل لهم الحصول على الدعم في أي موقف يمرون به لأنهم يملكون القدرة على الربط بين الأشياء و استعمالها في أوقاتها المناسبة . أبرز عيوب أبناء الوسط هي :
الشعور بعدم الانتماء ، مما يعني أنهم لا يربطون أنفسهم بأيٍ كان .
غالبا يفتقدون للكاريزما التي تساعدهم على البقاء تحت الأضواء في مجال القيادة الدائمة .
لا يبحثون عن المشاركة ، و نتيجة لذلك تكون صداقاتهم ( الحقيقية ) منحصرة في حدود ضيقة جدا و مقتصرة على عدد قليل .
واقعيون .. بصورة أكثر من اللازم ، و يبحثون عن الكمال في كل صغيرة و كبيرة و يهتمون بصورة مبالغة بها بالتفاصيل الدقيقة .
يهتمون بالانجازات على حساب المداراة ، يعني في حال وجودهم بمركز القيادة دائما يكون لهم أعداء .

17 أغسطس 2008

لماذا باولو كويليو ؟

في كل الأديان و المذاهب و الأفكار هناك شيء مشترك وهي أنها وضعت أو نزلت للـ " إنسان " بصفة رئيسية ، فالإنسان هو محورها و محل اهتمامها ، هذا الشيء صنع منه اتجاهًا رئيسيًا واحدًا مشتركًا يُسمى بالإتجاه " الإنساني " ، هذا الإتجاه لا يناقش خصوصية علاقة الإنسان بخالقه أو يهتم بتفاصيل عبادته ، بل يركز بشكل أساسي على الإنسان كإنسان .. حياته ، كفاحه ، صراعه مع نفسه و مع بيئته ، توقه للحرية ، رفضه للديكتاتورية ، بحثه عن الذات ، ترك الملذات ، و تحليل المشكلات .. التي تواجهه طوال سنين حياته .

الكثيرون من بداية حياتهم يكون تركيزهم على الأشياء المادية في حياتهم ، شهادة .. مال .. منصب .. بيت .. مركز .. شهرة .. اسم .. عائلة .. أولاد .. إلخ ، حتى و إن كان بحثهم عن هذه الأشياء مقترن بالعبادات فعباداتهم يمكن أن تسمى بعبادات " قشرية " فهي صلاة و صيام و طاعة لله سبحانه ، و لكنها ليست صلاة يصح أن تندرج تحت ما قاله سبحانه و تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر) ولا صيام يؤدي إلى هدف الصيام الحقيقي (لعلكم تتقون) ، يمكن أن تكون هذه العبادات من الناحية الفقهية صحيـحة ، في أركانها و شروطها و لكنها من ناحية الروحانية بعيدة جدًا عن هدفها لأن المادية طغت عليها و صبغتها بأصباغها .

بعد سنوات طويلة من الممارسة الصورية لهذه العبادات ، و من السعي نحو الأهداف الدنيوية ، يمسك الإنسان كتابًا يتكلم عن الروحانية و عن الإنسان كإنسان .. مشاعره و أحاسيسه .. تساؤلاته و استغراباته .. كل هذا بعيدا عن الدنيا و ما فيها ، بعيدا عن همِّ جمع المال و تربية الأولاد و السعي نحو المناصب و مطاردة الشهرة و العيش في بروج عاجية ، فيتفاجئ بأشياء لم يفكر بها سابقا و لم تسمح له طموحاته بأن يتفكر بها أو يبحث عن إجاباتٍ شافية لها فيتأثر بما هو مكتوب و يتأثر بالكاتب الذي كتب هذه الكلمات ، و لضيق وقته و لأن اهتماماته الدنيوية لا تزال تزاحم حياته فهو يكتفي بالإعتقاد بما قرأ و يترك البحث عن المزيد .

باولو كويليو هو أحد الكتاب الذين تأثروا بهذا " الإتجاه الإنساني " بصورة كبيرة و كلماته و تعبيراته جدا مؤثرة و جميلـة ، و الكثيرون أصبحوا ينظرون له بنظرة تعظيم و إكبار و إجلال لانه في غمرة حياتهم الدنيوية أشار إلى أنفسهم و إلى ضرورة أن ينظروا داخلها بتجرد بعيدا عن كل شيء آخر ، نظرات الإكبار و الإجلال هذه جعلت الكثيرين يتأثرون بباولو كويليو الذي استمد روحانيته من ( الإتجاه الإنساني ) و من فكره المسيحي اللاهوتي ، و لكنهم لو أتعبوا أنفسهم قليلاً ، فقرؤوا و بحثوا لوجدوا أن الإسلام زاخر بالكثير مما يتعلق بهذا الإتجاه الإنساني ، هناك علوم كثيرة تتعلق بها و على رأسها علم الأخلاق و مسالك العرفانيين و الصوفيين .

لو أنهم قرؤوا لعرفوا أن الإسلام ليس دين اهتم بعبادات و معاملات فقط ، و لا بحلال و حرام فقط ، بل هو دين أعظم من ذلك دين يملك خاصية أنه قادر على سبر أغوار كل شيء و تحليله من الإنسان إلى هذا الكون الفسيح بأكمله ، فالإعجاب بكتابات كويليو لا يجب أن تعني أكثر من الإعجاب و لا يجب أن تصل لدرجة أن تُجعل كلماته هي المحور الوحيد الذي ينهل منه الناس الروحانيات و أن يُعطى فوق مكانته الطبيعية ، لو أنهم قرؤوا لعرفوا أن كتابات كويليو هي أشياء سبق و أن تم نقاشها بالإسلام ، و لكن كويليو أعاد كتابتها بصياغة جديدة و معاصرة .

كل الناس يعرفون أن السفن في العصور القديمة بحاجة للرياح لكي تسير في البحار ، و لكن الصياغة التي أتى بها المتنبي في شعره جعلت من هذه الحقيقة البسيطة مثلاً يضرب إلى اليوم ، عندما قال :

ما كل ما يتمناه المرء يدركه .. تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ


و حالة كويليو لا تختلف عن حالة المتنبي كثيرًا فهو مجرد أعاد صياغة البديهيات التي يصادفها كل إنسان و لكنه بسبب انشغالاته لا يتوقف عندها و يتساءل عنها و عن كنهها ، بصياغة و أسلوب جديد يمثل هزة للقارئ لها تعيده إلى واقعه و حيثياته ، الاعجاب بباولو كويليو هو لأنه يكتب عن شيء مشترك بين كل الناس في العالم و هو الجانب المنسي من أنفسـهم ، و أن الإعجاب سببه هو صياغته الجميـلة لهذا الشيء، و هذا لا ينفي وجود غيره في هذا الباب إنما يؤكد تميزه فيه مع بعض التحفظ .

أعتقد أنّ من يقرأ في المؤلفات الأخلاقية و الروحانية الإسلامية للعُلماء المسلمين أو حتى يراقب ما يمضي إليه العرفاء و الصوفيين سيرى بوضوح ذلك الإهتمام الإنساني الواضح المؤطر بإطار شرعي ، وفق قواعد و أصول متينة .

الدين الواقعي هو فكر مهذب للنفس بالدرجة الأولى ، و هذا شيء ملاحظ ، من يقرأ شرح الإمام الخميني رضوان الله عليه لحديث جنود العقل و جنود الجهل أو تاج الكتب الأخلاقية له وهو الأربعون حديثًا ، أو من يقرأ الآراء الفلسفية الجميلة للعلامة الطباطبائي في سفره النفيس " الميزان " ، أو من يطلع على المؤلفات الأخلاقية العرفانية لغيرهم الكثير يرى بوضوح علو المضامين ، و بلاغة النص ، سمو المعاني في كلماتهم المتولدة من مفاهيم العترة الطاهرة عليهم السلام ، أو حتى رسائل إخوان الصفا و غيرهم من باقي المدارس الإسلامية.

لكنّ المشكلة ليست في وجود هذه الكتب و تناول هذه القضايا ، المشكلة تكمن بالصورة الأساسية في النص الذي لا يُلاقي قبولاً عند الأغلبية ، باولو كويليو نجح في جعل هذه المضامين مغلفة بأطر قصصية تشد القارئين ، فقدمها لهم بصورة السهل الممتنع ، حيث لا تعقيد و لا مبالغة في التسهيل ، بينما أمثال تلك الأبحاث العالية أصبحت أسيرة لكلمات و جمل ثقيلة لا تتعودها إذن الإنسان اللاهي بامور حياته ، الساعي خلف موارد رزقه و طموحه ، فما نجح فيه باولو كويليو بجدارة هو قدرته على إعادة صياغة المضامين العالية بأبسط صورة تناسب عقول الجميع .

و لكن مع هذا تبقى هناك تحفظات عليه ، و تبقى هناك نقاط مضيئة لا وجود لها إلا في الفكر الإسلامي الذي أوجد هذه المضامين و وضعها في قوالب رفيعة تناسبها ، و إن شابتها بعض الزخارف القولية ، فالإسلام مثل النهر يمر في البلاد و ما بعدها و لا يهمه إن كانتا متحاربتين أو متصادقتين ، فالمنهل العذب يظل عذبا و إن تلوثت بعض تفرعاته بفعل فاعل .

كلمات أبي العلاء ، و رسائل اخوان الصفا ، و تصوف ابن عربي ، و أشعار مولوي و حافظ و سعدي ، و كتابات العرفاء كالعلامة القاضي و الطباطبائي ، أو أبحاث العلماء كالشهيد مطهري و الشهيد دستغيب و غيرهم ممن لا يسع المكان لذكرهم ، كلها سبقت كويليو و تفوقت عليه ، لكنّ اسم كويليو تغلب على مشكلة مهمة أخرى واجهتهم بجانب النص ، و هي أن اسم كويليو امتص الحساسية من هؤلاء فوصل للكل .

حاول أن تعطي كتاب جنود العقل و جنود الجهل مثلاً لأحد السلفيين و ستراه يركز همه على مؤلف الكتاب لا نصه ، و حاول أن تعطي ديوان المثنوي لأحدهم و سترى اللعنات تصب عليه من كل حدب و صوب ، فكلهم ينطلق من موقفه المبني على خلفيته الثقافية و صورته النمطية لهذه الشخصيات ، فتكونت لديه حساسية مبالغ بها تجاههم انسحبت على كل ما كتبوه و لو كان في الواقع يناقش قضية إنسانية بحتة ، تهم الإنسان بحد ذاته بغض النظر على انتمائه الفكري و إيمانه الاعتقادي .

اسم كويليو ككاتب آتٍ من الغرب ، يعني لهم أنّ لا مشكلة في قراءة ما يكتب ، فهو بعيد عن المحيط الضيق الذي ينظرون فيه للامور و يقسمون العالم على أساسه ، بينما اسم كالسيد الخميني رحمه الله يعني أن قارئ كلماته زنديق اتى بنواقض الإسلام !

لذلك حرموا نفسهم من هذه الثمار الإلهية ، و جعلوا يعظمون كويليو لدرجة فاقت الخيال.