11 أكتوبر 2011

المحطة الثالثة

وقف عند زميله يستحثه للخروج من صومعته، وهو رافض لذلك، فقد قضى عمره منكبًا على رسم لوحاته حتى شارفت سنواته القليلة على نهاية إقامتها في هذه الأرض، آيس منه فألقى عليه كلمته: كيف تطيب نفسك وقد أضعت سنواتك بين الأوراق والأقمشة والفرش؟ وانشغلت برؤية البقع البيضاء عن رؤية العالم فيما حولك؟ واكتفيت برائحة الأصباغ والزيوت عن شذى الورود ورحيق الأزهار؟
  ولم يقطع سيل أسئلته المنهمرة إلا إجابة صديقه وهو منكب على تعديل فرشه والتدقيق في لوحته: حَمَيتُ سنواتي من الضياع بأن قيدتهم ضمن حدود الإبداع، وحولتهم من أرقام تمشي بإسراع إلى لوحات يتأملها كل ملتاع. فما فائدة متعة لا يبقى منها في النهاية إلا ذكرى مختبئة تنتقل إلى القبر مع جثة منطمرة؟
* * *
  كثيرًا ما تقابلني مثل هذه الجملة: اطلع شوف الدنيا.
تتساءل ما هذه الدنيا؟ لا تجد اجابة واحدة، ومن مجموع الأقوال تصل إلى حقيقة واحدة أنهم يريدونك أن تحيا حياتهم، وأن ترى ما يرونه، وتسمع ما يسمعونه، وإلا فإن كل ما تفعله هو شيء «خارج الدنيا» يضيّع السنوات من عمرك، تتوقف لتتأمل نتائج السنوات التي لم يضيعوها من أعمارهم وشاهدوا فيها الدنيا؟ لتكتشف أنّ الإجابة هي «.. هباءً منثورًا».

  هناك ميل عند الناس عمومًا إلى اعتبارية محوريتهم، يرون في أنفسهم المسطرة التي يجب أن يُقاس كل شيء آخر عليها، فهمهم للأمور هو الفهم السليم، وقولهم هو القول السديد، وكيفية معيشتهم هي المعيشة المُثلى، وإن كان تطبيقهم يشوبه شيء من النقص فلا بد أن تطيع رؤاهم من باب أنهم وإن عجزوا عن تطبيقها على أنفسهم إلا أنّ رؤاهم وتنظيراتهم قطعًا ويقينًا الفُضلى والمُثلى. هذا الميل هو نتيجة الصراع الذي يعيشه كل إنسان داخل نفسه ما بين عقله الذي يهديه لما هو سوي، وما بين غرائزه التي كثيرًا ما ينهزم أمامها، فيُجبر عقله على تبريرها تحت ذرائع شتّى. نفس الأخطاء التي هزمت نابليون في حملته على روسيا هي التي هزمت هتلر، ومع أنّ الثاني كان مطلعًا على مسيرة الأول، إلا أنه وقع في نفس الفخ الذي تصور أنه بذكائه سيفلت منه، وغاب عنه أنه كان يفكر بغرائزه لا بعقله!

  مشكلة البشر أنهم لا يقضون وقتًا في محاسبة ومراجعة أنفسهم كما يقضونها في محاسبة غيرهم وانتقادهم، لذا تراهم يعيدون نفس أخطاء من ينتقدون .. ولو بعد حين! فمن ينشغل في صياغة حياة من حوله لن يجد ما يكفيه من الوقت لأن يصيغ حياته. قال لي المرحوم والدي مرة: إذا كنت لن تتعلم من تجارب الآخرين فهذا يعني أنك ستكرر حياتهم وتضيّع وقتك بالاستماع لقصص الناس، أما إذا تعلمت واستفدت منها فهذا يعني أنك ستستفيد من وقتك، وستعيش حياتك لا حياتهم.

  حين نعيش السنوات، فنحن نعيش معاناة مستمرة مع الآمال التي نرجوها والآلام التي نحصدها، وفجأة حين نرى أنفسنا بمعزلٍ عن الوقت الذي تمثله «السنة»، حين نقف في مقابل أنفسنا وننظر لها ككيان له وجود واقعي ومنفصل، نرى أن كل ما كنا نخشاه وكل ما عشنا ونحن نتأمله وكل ما اضطررنا للمرور فيه تلاشى ولم يبق منه إلا عدة نقاط، مرة تكون مضيئة وأخرى مظلمة .. كمسبحة انفرطت حباتها ولم يبق في يدك منها إلا حبيبات بحسب الزاوية التي تقبع فيها على كف يدك يكون مقدار «النور» المنعكس عنها.

  اليوم أقف على رأس السنة الثالثة في هذه المدونة، لا أرى من مسيرتها إلا هذه النقاط، بعضها أحمد الله أنها لم تنفرط من يدي، وبعضها أخجل إلى يومي من بقائها فيها. وهذا من جميل ما في الإنسان أنّه الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على المراجعة والتصحيح وإحداث التغيير في نفسه، وفيما حوله تبعًا لذلك. خلال هذه السنوات وردتني أسئلة كثيرة، وقابلتني أحداث أكثر ومواقف عديدة، شُتمت، وامتُدحت، وتجادلت، استفدت وخسرت، تصادقت وجرني البعض لعداوات، رحلة جمعت فيها المتناقضات، وهكذا هو الإنسان جُمعت في صفاته الأضداد.

  لعل أكثر ما واجهني هو الإشكال على صعوبة اللغة التي أكتب بها. وجوابي أنّ لغة الكتابة كلون العين، تستطيع أن تجملها بعدسات مؤقتة لكنك لن تستطيع ذلك دائمًا، فأسلوب الكتابة هو طريقة الكاتب في التعبير عن المعاني التي في ذهنه، وهي فيه كالطبع لا تُمحى، فإن كانت معقدة أو مركبة كانت طريقة التعبير عنها كذلك، ولذا قيل أن أعذب الشعر أكذبه، فلو كان الشعر لا يحكي إلا حقيقة الحال لما استساغ الناس قراءته وسماعه حتى وإن كان يعبر عن الحقائق كما هي وفي أبسط أنواع الجمل التي تقبلها كافة الأذهان على تفاوتها.

  أحيانًا كثيرة يكون لبعض الكلمات والتراكيب اللغوية معانٍ تختزل الكثير، فقط تخيّل لو استبدلت لفظ «الجوهر» بـتعريفه الفلسفي وهو: «الموجود في لا موضوع» كيف سيكون وقع الجملة؟ وأي أذن أو عين ستهضمها وتقبلها؟ إن الألفاظ يحدّها استخدامها، وليس من شأن الكاتب إلا صياغتها للتعبير عمّا يراه، وعمّا يعتقده، وعما يشاء التعبير عنه، وما يجده معبرًا عنه، لا عمّا يريد رؤيته الآخرون.
  ولا أنتهي من هذا الجواب حتى يقفز سؤال آخر لماذا لا تكتب عن الشأن العام أو ما يدور حول العالم؟

  لأن الإنسان كائن ذو إقامة مؤقتة، فهو لا يستأنس إلا بالأشياء المؤقتة: تفاهات السياسيين وتخبطاتهم، وإجرام الأنظمة وتسلطها، وعن هموم الحياة التي تجعله يملأ يومه. هو يريد شيئًا يقضي به ساعات اليوم لا أكثر، لهذا السبب يكرر البشر نفس الأخطاء منذ وجودهم فالنظر لما وراء اللوحة التي أمامهم لا يعنيهم. لا أحب ذلك، لا أحب أن أحصر همّي في نقد طاغية وكأن الأرض أو تاريخ البشر خلا منهم ، وبدلاً من أنتقد الثمرة المريضة أفضّل علاج جذر الشجرة.

  قضايا اليوم تموت بانتهائه، والضجة الفارغة تنتهي بمجرد إمتلاء محيطها بالأصوات المتداخلة، لكن القضايا الأساسية التي تصنع الطغيان، وتوّلد الجشع، وتعيد ذات الأخطاء مرة تلو الأخرى، قضايا الإنسان بما هو إنسان، لا تنتهي إلا بانتهاء وجوده هو، لا بانتهاء غايته منها، لذلك أرى أن مناقشة «المصاديق» والإنشغال فيها تجعل الأهم وهي «المفاهيم» يتراجع النظر فيها.
في بدايات المدونة، وجه لي أحد المعلقين سؤالاً هو: هل توجه مدونتك إسلامي أم علمي أم أدبي أم ماذا ؟
  كان جوابي عليه: هذه مدونة و ليست موسوعة علمية أو أطروحة دكتوراه حتى تحتمل كلمات علمية رصينة مجردة، بل هي تعتمد على روح الشخص وهويته لأنها بمثابة أوراقه الخاصة التي تعبر عنها، و هويتي هي ما أكتبه هُنا.
هي شيء من كل شيء أهتم به، ليس مطلوبًا مني أن أخصصها بباب معين سواء كان إسلاميًا أو سياسيًا أو علميًا أم أدبي، فكينونتي متعددة.
لا أعلم إن كان هذا الجواب يصلح إلى اليوم أم لا، لكني على يقين من أنني أردت الإجابة على أسئلة كثيرة طرحت علي خلال هذه السنوات فانتهى بي الحال إلى كتابة معلقة كهذه تشتت القارئ، كما شتت مواضيع المدونة من طرح عليّ ذلك التساؤل!