29 أكتوبر 2013

الإتصال والإنفصال في صناعة الأبطال

الشعور الأقلياتي ليس مختصًا بالأقليات العددية*، بل هو شعور يتنامى مع تنامي الإحساس بالاستقصاد والاستهداف**، وإن كان يستند الإحساس بالاستهداف إلى ماضٍ يثبت الواقع بأن هناك على مستوى ما من المستويات عملية استهداف مؤكدة إلا أنها في هذه الحالة تكون حالة مضخمة بدرجات أكبر. ويتعاظم هذا الإحساس أكثر مع الشعور المتجذّر باللاوعي بوجود الاختلاف رغم السعي على مستوى الوعي لنفيه وهو ما تراه من دعايات ساذجة تؤكد على هوية واحدة جامعة تصهر الجميع يكررها الناس رغم عدم إيمانهم بها. وقد ترى فئات عظيمة يتملكها الإحساس الأقلوي، وقد ترى فردًا ينتمي لأقلية لا يستحوذه هذا الشعور، وفي جميع الحالات المسألة خاضعة لنوعية الشعور وطبيعته لا لمجرد التصنيف العددي وحجم شريحة الانتماء الفكري أو الإثني.

يتميّز الشعور الأقلياتي بأنه ذو طبيعة مزدوجة، فتارة هو يفرض على صاحبه الإحساس بالإنتماء لمجتمع كبير وتارة أخرى متزامنة يدفع إلى خلق مجتمع جديد يعيش في حلقة تترابط مع المجتمع الكبير من جهة وتنعزل عنه من جهات كثيرة، ولتوضيح الفكرة يمكنك تصوّر عدة دوائرة مرسومة بداخل بعضها البعض، وعلى الرغم من وجود دائرة كبيرة تحيط بهذه الدوائر لتكون الدائرة الأم فإن الدوائر الأصغر بداخلها تمثل جزءًا من الدائرة الكبيرة وفي ذات الوقت دائرة متفرّدة بذاتها، ولهذا أنت ترى المسلم مثلاً في بريطانيا يصنف نفسه كجزء من المجتمع البريطاني تارة، وفي الأخرى يدعو إلى احترام خصوصيات المجتمع المسلم المستقل بذاته هناك، فلولا هذا الإحساس المزدوج والمتضاد بالإنتماء والإستقلال لما كان لمصطلح الأقلية - وما يستتبعه - أن يظهر. مع هذا، فإن التوصيف للأقلية كما مرّ ليس مختصًا بعدد أفراده إنما يتوّلد الشعور السابق عند أصحابه.

من هنا يمكن فهم الشعور الأقلياتي على أنه منهج في التعامل مع الواقع، فهو يعطي الشعور بالإنتماء وفي ذات الواقت يوهم بالإستقلال، لكنّ وجود نزعتين متضادتين عملّية منهكة جدًا، وهذا واقع كل نزاع يدور بين متعاكسين، فالقانون الأخلاقي في أنفسنا يتنازع مع رغبة التحرر من الإلتزام فينا، فتكون النتيجة {إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} للحفاظ على الإلتزام الأخلاقي مع مقاومة نزعة الإنعتاق من هذا الفرض، وهكذا، يبدأ الشعور الأقلياتي برسم ملامحه سواءً للفرد أو على مستوى أكبر لفئة ما.

أولى ملامح الشعور الأقلياتي هو التأكيد المبالغ فيه على الهويّة الجامعة بحيث تُلغى أي اشارة للهوية الذاتية إلا أنه سرعان ما يتم الرجوع لها بمجرّد الإحساس ببوادر الانفصال، فهي أشبه بلعبة حافة الهاوية، كما أن الشعور الأقلياتي يتميّز بعدم الرغبة على اثبات الذات إلا على مستوى القشور، أي تسجيل ما يعطي له التفرّد على الدائرة الأوسع وفي نفس الوقت لا يصبح دائرة مستقلة خارج الدائرة الأم. كما أنّ الشعور الأقلياتي يتمثّل في سعي أفراده للنزوع الشديد لتكوين جبهة معلّقة تبنى أساساتها على اعتقادات الفرد ويترجم سلوكها لسلوكيات الأغلبية، فلا يعود غريبًا أن ترى الشعور الأقلياتي يُصنَع من الاعتزاز بالهويّة لكنه في نفس الوقت ينبذ أي تمثّل واقعي لهذه الهويّة، يمكنك أن تفهم الصورة بشكل أوضح على سبيل المثال فيمن يدّعي الليبرالية في المجتمعات المغلقة كفكر ينتمي إليه ولكنه في نفس الوقت يدعو إلى الالتزام الشديد بالأعراف والعادات الاجتماعية وإن كانت غير صحيحة! إنّ الصراع الذي يمثله تضاد الدوائر الإنتمائية لدى الفرد يجعله مشتتًا فهو تارة داعية للحريّة في دائرة وإقصائي متطرف في دائرة أخرى ولا يرى بأسًا في ذلك لأنه محيط كل دائرة يجعله يتوهم غمتلاكه العذر في تذبذبه واختلاله هذا!

غير أنّ الشعور الأقلياتي يتجاوز الهويّة في كثير من الأحيان إلى أمر آخر على قدر كبير من الأهمية ألا وهو الاتجاه إلى صناعة "الأبطال" لكن على غير العادة فإن هذا البطل يتعاظم في مكانته وقيمته كلما كان "مزدوجًا" في شخصية وأفكاره التي يقدمها، وهذا خلاف العادة في اعتبار "البطل الأسطوري" يتمثل بشخصية الرجل "المبدئي" الذي يبذل كل ما يغليه في سبيل مبادئه والإبقاء عليها، وهنا يفترق "واقع الأقلية" عن "الشعور الأقلياتي" فواقع الأقلية هو السعي نحو الانكفاء وزيادة الارتباط للحفاظ على الهويّة بالإضافة إلى السعي نحو البقاء، أما الشعور الأقلياتي فهو يسعى نحو التذرر في الأكثرية وتضعيف الارتباط مع الأقلية مع الإبقاء على فوارق تحفظ لهم بعض الخصوصية التي تعيق الاندماج التام، والفارق الرئيسي بين "واقع الأقلية" وبين "الشعور الأقلياتي" هو أنّ البطل في واقع الأقلية عادة ما يكون أمثولة للنظام القِيَمي السامي لها بينما في الشعور الأقلياتي هو أمثولة للإحساس الكامن بالإزدواجية، فهو الحالة الأمثل التي تجمع التناقضات في نفسها دون أن يرف لها جفن لإزدواجيتها الواضحة.

إنّ طبيعة البطل الذي تصنعه دوائر الإتصال والإنفصال طبيعة احتفالية، أي طبيعة صاخبة تفقد صاحبها القدرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو مزيّف فيكتفي بطرح الكلمات والمفاهيم دون إنصات أو تفكير، ويتركز هجوم بطل الشعور الأقلياتي على القديم دون تقديم بديل واقعي لسبب رئيسي وهو اعتبار القديم هو المسؤول عن زرع الإحساس الأقلياتي ومن ثم عدم القدرة على الإندماج التام مع الباقين، ولهذا السبب بالتحديد يحاول بطل الشعور الأقلياتي اظهار التميّز بأيّ صورة كانت ولو على حساب مبادئه وتعاليمه السابقة، ويتبدى هذا التميّز في مخالفة السائد حتى وإن كان مبنٍ على أسس سليمة فقط لأن الشعور الأقلياتي يأنف من السائد الذي يجعله متقوقعًا في دائرته بدلاً من امتلاك مرونة الإنتماء والتحرك في أكثر من دائرة.

إنّ البطل في الشعور الأقلياتي هو الذي يستطيع أن يكون مصلحيًا لا مبدئيًا لكون كثرة التعامل مع المتناقضات واحتوائها لا تجعل ثابتًا إلا المصلحة وكل ما عداها متغيّر، وبناءّ على ذلك يكون البطل الأقلياتي مثيرًا للفوضى أكثر من جمعه للكلمة لأن الفوضى بطبيعتها تبرر المصلحة وتعطي الذريعة للتلّون لدرجة الإنقلاب على كل ما ادعاه صاحبها، وكلما تعاظمت المصلحة تعاظم معها الـ(أنـا) لهذا البطل تزامنًا مع تضخيمه من قِبل أمثاله لأنه حالة تعبّر عنهم، وهذه الأنا تلتهم أثناء تعاظمها الجميع حتى يصبح قولها قولهم، وفعلها فعلهم، وحكمها حكمهم ومن ثمّ يكون عقلاً وضميرًا وبطلاً لهم.

متلّسحًا بقوة الجمهور هذه، يصبح بطل الشعور الأقلياتي تحديًّا للواقع، يتعامل معه بالصدمات لا بالحلول، لإثبات أن القوة والشجاعة لا تنقصه، لتعويض الإحساس بالنقص عنده لعدم كونه إنبساطيًا يبسط وجوده على الجميع لا مجرد مماثليه من ذوي الشعور الأقلياتي، بل يصبح إنطوائيًا يمنعه جمهوره من أن يكون شخصية طبيعية لأنه يعتبر ذلك خذلانًا لهم رغم كل ما يمثلونه من تنافر مع الشخصية السويّة، وهذا الإنطواء هو دفاع عن الأنا التي تعاظمت حتى إلتهمت الـ"نحن" لتصبح رمزًا لهم، فبإنطوائه يفرد استاذيته وينتزع كافة القيود في تعامله دون أن يكون خاضعًا لمشرط النقد الأخلاقي.

إن الإحساس بالقوّة المستقاة من الجمهور تخفي في باطنها الضعف الذي يجعل من صاحبها عبدًا يستكبر حتى يدخل في دائرة الطغيان، وليس الطغيان منوط بالسلطة فقط بل يتعداه للقدرة على إطلاق الأحكام دون رادع داخلي أو خارجي وكلما استسهل المرأ هذا الشيء ازداد ارتباطًا بالدنيا فهو بالنهاية صنيعة أفرادها وصياغة أطماعها ومنحوتة لمصالحها وبُعدَه عنها والعودة للشخصية السوية يعني فقدان صفة البطل ولو على أُناسٍ لا بطولة لهم، وهذا أمر لا طاقة له به. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: مَثَل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ كلما ازدادت من القزّ على نفسها لفًّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمًّا***.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورد في سورة النحل {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} فالقرآن الكريم لم يشر لإبراهيم عليه السلام رغم كونه فردًا في وسط مجتمع إلا بكونه أمة وهي أكبر من المجتمع، وفي هذا إلتفاتة لطيفة إلى أن الشعور الأقلياتي ليس منوطًا بالعدد بقدر ما هو منوط بالفرد ذاته.
** هناك فرق جوهري بين الإحساس والوقوع، وقد يجتمع الإثنان معًا، إلا أن الفارق الأساس هو في التعامل مع هذا الاستقصاد والاستهداف فبدلاً من اعتباره علامة على الصحة والقوة يتم اعتباره عن أصحاب الشعور الأقلياتي علامة ضعف.
*** مشكاة الأنوار، الطبرسي، ح 1544.