28 يناير 2012

الوهم المسمّى بالتغيير


المدينة البيضاء وادعة تقبع بعنفوانها على ساحل النيل، أهلها يعيشون رغدًا، بيوتها بيضاء نظيفة، شوارعها وسيعة، وملابس سكانها هويّة رفاهيتهم، تعتاش من التجارة وعين كل حاسد عليها، هكذا باختصار هي مواصفات المدينة البيضاء التي وردت في رواية «النبطي» ليوسف زيدان، وفي الرواية سترى أن علامات الدمار والهلاك زحفت على المدينة لكنّ أهلها أهملوها واستمروا بحياتهم حتى انتهت مهجورة لا حياة فيها.

لطالما شغلني السؤال: ألم تستشعر الدول يومًا اتجاهها نحو الهاوية؟ لماذا لم تتغير ولم تصحح من مسيرتها؟ بريطانيا التي لم تكن الشمس تغيب عنها انحشرت في جزيرة رطبة صغيرة في أعلى العالم، روما التي حكمت العالم انتهت كمدينة سياحية، وبغداد التي كانت يومًا منارة العالم باتت اليوم صورة رمزية لهمجية الحروب وآثارها!

حين بدأ الوعي البشري ابتدأ السؤال عن الوجود، هذا السؤال الذي لا ينفك عن سؤال آخر وهو نشأة الوجود. بينما كان الوجود يقصد به سبب الحدوث، كان السؤال عن النشأة يقصد به كيفية الحدوث وهو سؤال يتطلب إجابة تفسر «الحركة والتغيّر» حتى تنتقل صور الوجودات من صورة لأخرى، منذ طاليس إلى يومنا هذا يظل السؤال شاغلاً لبال الباحثين والمتأملين، حاول هيراقليطس الإجابة عليه بأنّ «الحركة هي صراع بين الأضداد كما أنّ الصراع هو الذي يحدد هويّة المتضادات ويسبب التحوّل المستمر في خواصها حيث ينتقل الضد إلى ضده، كالبارد يصير حارًا والحار باردًا..»[1].

لكننا كبشر، نتغيّر يوميًا عشرات المرات، ومئات المرات شهريًا، تتبدّل جلودنا وخلايا أجسامنا، وتتغير أفكارنا: قد ننقلب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مرورًا بخانات الوسط لكن تظل الإشارة لنا بأسمائنا وبشخصياتنا قائمة بقيام وجودنا، لا تتأثر بهذا التغيّر ولا تنساق مع كل هذا التبدّل في دلالة واضحة على أنّ التغيّر لا يُغيّر من واقعيات الأشياء وإن بدّل من مظاهرها وترك أثره على جهة النظر إليها.

فالحركة، والتغيّر، والتبدّل صفات أصيلة بكل موجود، وبكل ما ينتمي وينشأ من هذا الوجود، وحتمية التاريخ أن من يقاوم التغيّر ينتهي به الأمر بالإضمحلال أو الإنتهاء، أليس الموت هو السكون؟. لم يكن اختفاء المجتمع في بلاد الغال [ويلز] إلا نتيجة طبيعية لمقاومة التغيّر في الظروف والموازين من حوله، وإن بقي أفراد هذا المجتمع إلى اليوم[2]، لكنهم ما فتؤوا يدخلون في جسد اجتماعي واحدًا تلو الآخر. لكنّ السؤال يظل باقيًا: هل التغيّر في حد ذاته حسنة؟

إن قوانين الفرد لا تنطبق على المجتمع كما هي، فما يجوز على الفرد لا يجوز على المجتمع، لأنه ليس متوسط مجموع أفراده بل هو شخصية جديدة[3] تحمل في داخلها صفات ذاتية تختلف عن مكوناته وليست منتزعة منه، وفي نفس الوقت فإنّ الأنظمة التي تحكم الفرد هي ذاتها التي تحكم المجتمع، السنن التاريخية لا تتغيّر وإن كانت المكونات التي تسير ضمن هذه السنن متغايرة، ومتغيّرة.

إنّ الفرد البشري يتغيّر إذا شعر بالحاجة، ورأى في نفسه القدرة على إشباع هذه الحاجة، وعلى عكسه فإنّ المجتمع لا يتغيّر بمجرّد إحساسه بالحاجة أو شعوره بالقدرة على التغيّر والانطلاق لما هو أحسن وأفضل، كما أنّ التغيّر على صعيد الفرد يكون في سلوكه وأسلوب معيشته وتعبيره عن فكره، أمّا المجتمع فلا 'حياة' نامية فيه لذا ينحصر التغيّر فيه بقِيَمِه وصعوده وانحداره. لا مقايسة بين الفرد والمجتمع من حيث التغيّر إلا على صعيد اللفظ والاشتراك فيه، أمّا الجوهر بين التغيرّين فهو متباين تمامًا لكون الأوّل يلامس حياة طبيعية تتراكم فيها الخبرات لتصنع خلفيّات فكرية تغذي الفرد في تعامله الحياتي، وتزوده بأساليب التفاعل مع أحداثها اليومية، والثاني إنما يتناول النظم التي تؤطر والقوانين التي ترسم كيفية تعبير الفرد عن ذاته التي تحتوي ما سبق ذكره في بلاده.

المجتمعات لا تتغير إلا بالقوة والفرض، وليس حينما يشعر الأفراد بوجود الأفضل بل حين يقاربون اليأس يوضعون أمام خيارين إما الإستسلام للواقع الجديد والتكيّف معه، وإمّا بالإذعان للأقوى والإندفاع معه. النموذج الياباني المنغلق على ذاته لم ينفتح إلا برغبة الامبراطور ميجي وبخطته بعد أن أجبرته القوة البحرية الغربية على ذلك، وهكذا الدول لا تنفتح الأبواب فيها إلا بمشيئة نخبة حاكمة تريد التغيير وتملك زمامها لتفرضها أما أنّ التغيير يولد برغبة شعبية محضة فهذا شيء لا وجود له، لذلك كانت ألمانيا تنهض بعد كل حرب مدمرة، بينما تظل غيرها من دول تملك كل مقومات النهوض في سباتها لافتقادها الأقوى.

كما أنّ كل الدول تصل إلى مرحلة الإضمحلال والتلاشي إلا التي شكلت لنفسها «ذاكرة أزلية» تختبئ فيها كل خبراتها وعصارة علمها وحضارتها، تتضاءل ثم يُعاد انبثاقها مجددًا بعنفوانٍ أكبر لتصل بعد مدة إلى نقطة العطالة مجددًا حين لا تعود قادرة على توليد استجابات جديدة تتماشى مع التغيّر حولها فتتجمد ثم تنكمش، هكذا أيضًا كانت كل الحضارات بعضها تفور للحظات في تاريخ البشرية وتختفي، وبعضها تشع لتضمر ثم تعيد اشعاعها مجددًا ولو بدرجة أقل في متوالية زمنية تتكرر باستمرار.

كيف أنّ هذا التاريخ منذ «عقل الفجوات» الذي لم يجد ما يسد به الفجوات المعرفية لما يراه إلا بالأرواح والأشباح وصولاً إلى «عقل الآلة» الذي يحكمنا الآن، هو هو لم يتغيّر ولم يتطوّر بل استبدل الآلات وطوّر بالألفاظ واختزل صراعه بالمال والاقتصاد؟ كنت أخبر صديقي عن فرنسا - وهي مجرد مثال واحد من أمثلة كثيرة - ذات الثورة الخالدة التي قادتها نخبة فكرية لامعة، كيف أنها أنتجت أربعة جمهوريات فاشلة، ونحن اليوم في زمن جمهوريتها الخامسة وتبدو معالم أفولها واضحة، صحيح أن الفرنسيّة كثقافة ولغة ودولة لن تختفي لأنها ليست طارئة على التاريخ، وفي ذات الوقت فإنّ التاريخ ليس مجرّد حدثٍ من الأحداث حتى يكون كما هو بلا تغيير طوال مسيره.

الثورات، الإصلاحات، الانتفاضات، والمطالبات منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا وهي تتكرر كما هي مهما تبدلت شعاراتها تظل محصورة بالعيش الكريم والعدل والحرية، كل الثورات والتغييرات قامت بهذه العناوين لتبدأ بعدها ثورات على هذه الثورات تحت نفس العناوين، كذلك الإصلاحات، كل تغيير في هذه الدنيا لابد أن يعقبه تغيير آخر طال أمد حدوثه أم قصر. وفي الحقيقية فإنّ مسيرة البشر بأكملها لا تنفك عن استسلام الإنسان للمألوف دون أن يترك انتقاده له. لم يكن «كانط» مخطئًا حين وقف مذهولاً أمام التاريخ وهو يرى ذات الأفعال، وذات الأفكار، وذات الشعارات ترفع مرة تلو الأخرى فوصفه بأنه «سجل حماقة البشر وغرورهم وشرهم» ثم اقتنع بأنّ التقدم البشري يحدث وفق «خطة سرية للطبيعة» لا وفق رغبات البشر وإرادتهم، لأنّ هناك «غاية» من هذا الوجود هي أكبر ممّا يتصورون.

التغيير هو وهمٌ تعيشه البشرية لأنها ترتقبه بالظواهر، وتنسى العامل الرئيسي فيه وهو الإنسان،الذي لا يزال يرى محوريته بكل ما فيها من هيمنة وسلطوية وعدوانية، وطالما هو يكابر على هذه الحقيقة فإن ذات الأخطاء تُعاد وتكرر {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}[4]، معللاً القول الثابت: التاريخ يعيد نفسه. و«الخطة الإلهية» ماضية لتهدم جبروت العقل المغتر بنفسه «إذا أراد الله أمًرا سلب العباد عقولهم، فأنفذ أمره وتمت إرادته. فإذا أنفذ أمره ردَّ إلى كل ذي عقل عقله، فيقول: كيف ذا؟ ومن أين ذا؟ »[5] حتى تصل البشرية إلى معرفة أنّ المشكلة ليست فيما يقومون به، بل لمَ يقومون به؟ وأن الحل كامن في إذعانهم «للغاية» الموضوعة لهم لا التي يريدون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نظرية الحركة الجوهرية عند صدر المتألهين، العلوي، 10.
[2] ميلاد مجتمع، بن نبي، 13.
[4] يونس/ 102.
[5] رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، تحف العقول، الآمدي، باب قصار الكلمات عن الإمام الرضا عليه السلام.