مع تزايد دعوى الطائفيّة، و ارتفاع عقيرة المنادين بها، و تحولها إلى حلبة يتصارع عليها الناس، بغض النظر عن تعريفها الحقيقي المجهول عند الغالبية، إلا أن المعنى العام لها هو ما يتم تداوله الآن من صراع مذهبي بين طوائف المجتمع الكويتي. وجدت عدة من الكتّاب يشيرون إلى دولة مجاورة و تجربتها في وأد الطائفية، و كيف أنّ هناك ثلاث فرق إسلامية تملك جعبة مملوءة من العداء المذهبي و العقائدي صارت منصهرة في مجتمع واحد لا تسمع به صوت المذهب، و أنا شخصيًا كنت من المتعجبين من هذا النجاح المذهل في اخفاض صوت الطائفية إلى هذا الحدّ في ذلك المجتمع، و هذا ما دعاني إلى البحث.
.
فماذا اكتشفت؟
.
قبل عدة أشهر – و ربما سنة الآن – نشر أحد الصحفيين في تلك البلاد وثيقة على الإنترنت تدين أحد المدراء بإحدى شركات الإتصالات، لم ينشرها بصحيفة، و لم تكن الوثيقة مزوّرة، و مع هذا فقد حُكم عليه بالسجن، و سُجن لمدة 6 أشهر و لم يفرج عنه إلا بعد وساطات و ترضيات و تدخلات كثيرة. هذه الحادثة دفعتني لاستقصاء الواقع هناك، و منها بدأت الإتصالات بمن أعرف انطلاقًا من هذه الحادثة.
.
منها عرفت أنّ تلك الدولة ليست (دولة تسلطيّة) كما هو الحال عندنا، إنما (دولة استبداديّة) بمعنى الكلمة، ليست هناك حريّة كما نفهمها، و لا هناك مشاركة أو صوت شعبي حقيقي، و مجلس الشورى هو مجرد ذريعة تُسدّ بها أفواه الغرب و مهمته أن يشير للشوارع التي بحاجة للإصلاح! الشعب لا يهتم كثيرًا بعدد الوزراء و طوائفهم، المهم هو إرضاء كافة القبائل بدفعهم للواجهة فقط و هذه هي سياسة السلطة الداخلية هناك، بينما سياسة الدولة و مسيرتها المتحكم بها قلّة قابعون على رأس السلطة، يقودهم شخصٌ واحد، و الشعب ملتهٍ بأكل عيشه، و ممارسة طقوسه اليومية، الوحيدة التي يملك القرار فيها.
.
ليست هناك طائفيّة بسبب عدم وجود صراع على السلطة، ليس هناك حاجة للتجييش الطائفي، أو القبلي بصورته المعهودة عندنا، لأنه ليست هناك حريّة تسمح للطائفة أو القبيلة أن تتبوأ مكانًا في مجال اتخاذ أبسط القرارات، تحولت الوزارات إلى عمل 'وجهائي'، فاقدة لمعناها في ظل المركزيّة الشديدة في إدارة الدولة، ليس معنى ذلك أنّ الحريّة بكافة أشكالها ممنوعة، و لكن كحريّة رأي في السياسة و الإقتصاد فهي شبه معدومة، أما باقي الحريّات سيّما العقائدية فهي متوافرة، ليس هناك تضييق على أحدٍ منهم في ممارسة شعائره، كلهم يمارس ما يريد و ما يشاء دون مضايقة، طالما أنها تبقى في إطار الممارسة و الشعار بعيدًا عن مركز القرار. النظام الشديد الموجود في تلك البلاد، و انعدام التجاذب الطائفي بين أبناء البلد هو بسبب هذا الشيء: فعاليّة القانون الصادر من جهة واحدة غير القابل للمناقشة.
.
نحن في الكويت، نوعًا ما، نملك هامشًا أوسع و أكبر من الحريّة، و ليس هناك بحسب ما أعرف من هو على استعداد للتنازل عنها و التحول إلى رقم في التعداد السكاني فقط. الطائفية عندنا هي بسبب هذه الحريّة. هناك صراع على السلطة في الكويت، و مشاركة – اتفقنا أم اختلفنا على حجمها – في القرار، و هناك سياسات يرسمها الشعب حتى لو كانت على الصعيد الداخلي وحده، هذا الصراع على مراكز السلطة يستلزم أن يستعمل أصحابه كافة اوراقهم فيه، و أهمها الورقة الأقدر على تحفيز الجموع وهي ورقة "الطائفية" أو بمعنى آخر الآيدلوجية، عندنا في الكويت هي شيعة و سنة، الكيانين البارزين.
.
قد يقول قائل بأن هذه الحريّة متواجدة منذ القدم، و لكن هذه الصورة الطائفية حديثة، والجواب أنّ هذا وهم، ليس هناك طوال التاريخ محركٌ للأحداث سوى الطائفية بمختلف أنواعها، و قد وقفت على شواهد تاريخيّة كثيرة ليس هذا مجالها، و لعلّني في يوم من الأيّام اتوفق لأجلعها دراسة مفردة. محصلة الحديث أنّ هذه الطائفية كانت موجودة في الكويت وليست وليدة اليوم، مجلس 1938 و الكانتونات المقسمة داخل السور، هي إثبات جليّ له، الفارق أنّ الطائفية ذلك الوقت كانت محصورة بطبقة واحدة، هي الطبقة السياسية أو الوجهائية الفاعلة، و كانت بعيدة جدًا عن عامة الشعب الملتهين بالبحث عن لقمة عيشهم، لأنّ السلطة كانت مركزيّة و لم يكن دور هؤلاء الوجهاء بمثل الدور الذي أعطاهم إيّاه الدستور بعد الإستقلال*.
.
ما نراه الآن، هو نتيجة حتمية للحريّة، رفضنا إيّاه هو رفض للحريّة، أن نريد النظام و خلع 'الطائفة'، فهذا ممكن، و لكن في الدول التي تعتبر الحرية ترفًا زائدًا، أو في الدول التي تسير على رأي واحد، رغبة واحدة، و مشيئة واحدة، لاغير.
لا يمكن أن ننزع الطائفة أو الطائفية طالما أنّ مراكز السلطة تُقسم و تُعطى بناءً على الثقل الطائفي، وفق آليات مشاركة شعبية حرّة، وطالما أنّ الحصول عليها هو من قِبل رجال لا يمكن لهم أن يصلوا لها دون إمدادٍ طائفي، حتى تفعيل القوانين للقضاء على هذه الظاهرة أصبح شعارًا خاويًا و مضحكًا لأن المسؤولين عن تفعيلها وصلوا لمراكزهم بسبب الطائفية، و لن يحاربوها إذا كانت هي السبيل الوحيد أمامهم!
.
نحن في مجتمعنا الآن، تشكل الدعوات الطائفية أبرز سلالم الصعود، و تحقيق المكتسبات، خصوصًا ما يتعلق منها بما يمكن فرضه و تحقيقه، و التجاذبات الحاصلة حول مناهج وزارة التربية تغني عن ألف كلمة. الصراع الطائفي عندنا انتقل من صراع (الوجهاء) إلى صراع العوام (البسطاء)، بسبب تغذية اولئك للشارع به و دفعهم له و الهدف هو شحنهم للحصول على دعمهم في الإنتخابات، و منها إلى المناصب و مراكز القرار.. و هذا هو الخطر الأكبر، أن ينتقل الصراع إلى العوام الذين هم بمعظمهم مجرد جموع تسيّرها العاطفة، و تدغدغها الكلمة، و لا تلتفت للأهداف الحقيقية لمحركيها إلا نادرًا.
.
فماذا اكتشفت؟
.
قبل عدة أشهر – و ربما سنة الآن – نشر أحد الصحفيين في تلك البلاد وثيقة على الإنترنت تدين أحد المدراء بإحدى شركات الإتصالات، لم ينشرها بصحيفة، و لم تكن الوثيقة مزوّرة، و مع هذا فقد حُكم عليه بالسجن، و سُجن لمدة 6 أشهر و لم يفرج عنه إلا بعد وساطات و ترضيات و تدخلات كثيرة. هذه الحادثة دفعتني لاستقصاء الواقع هناك، و منها بدأت الإتصالات بمن أعرف انطلاقًا من هذه الحادثة.
.
منها عرفت أنّ تلك الدولة ليست (دولة تسلطيّة) كما هو الحال عندنا، إنما (دولة استبداديّة) بمعنى الكلمة، ليست هناك حريّة كما نفهمها، و لا هناك مشاركة أو صوت شعبي حقيقي، و مجلس الشورى هو مجرد ذريعة تُسدّ بها أفواه الغرب و مهمته أن يشير للشوارع التي بحاجة للإصلاح! الشعب لا يهتم كثيرًا بعدد الوزراء و طوائفهم، المهم هو إرضاء كافة القبائل بدفعهم للواجهة فقط و هذه هي سياسة السلطة الداخلية هناك، بينما سياسة الدولة و مسيرتها المتحكم بها قلّة قابعون على رأس السلطة، يقودهم شخصٌ واحد، و الشعب ملتهٍ بأكل عيشه، و ممارسة طقوسه اليومية، الوحيدة التي يملك القرار فيها.
.
ليست هناك طائفيّة بسبب عدم وجود صراع على السلطة، ليس هناك حاجة للتجييش الطائفي، أو القبلي بصورته المعهودة عندنا، لأنه ليست هناك حريّة تسمح للطائفة أو القبيلة أن تتبوأ مكانًا في مجال اتخاذ أبسط القرارات، تحولت الوزارات إلى عمل 'وجهائي'، فاقدة لمعناها في ظل المركزيّة الشديدة في إدارة الدولة، ليس معنى ذلك أنّ الحريّة بكافة أشكالها ممنوعة، و لكن كحريّة رأي في السياسة و الإقتصاد فهي شبه معدومة، أما باقي الحريّات سيّما العقائدية فهي متوافرة، ليس هناك تضييق على أحدٍ منهم في ممارسة شعائره، كلهم يمارس ما يريد و ما يشاء دون مضايقة، طالما أنها تبقى في إطار الممارسة و الشعار بعيدًا عن مركز القرار. النظام الشديد الموجود في تلك البلاد، و انعدام التجاذب الطائفي بين أبناء البلد هو بسبب هذا الشيء: فعاليّة القانون الصادر من جهة واحدة غير القابل للمناقشة.
.
نحن في الكويت، نوعًا ما، نملك هامشًا أوسع و أكبر من الحريّة، و ليس هناك بحسب ما أعرف من هو على استعداد للتنازل عنها و التحول إلى رقم في التعداد السكاني فقط. الطائفية عندنا هي بسبب هذه الحريّة. هناك صراع على السلطة في الكويت، و مشاركة – اتفقنا أم اختلفنا على حجمها – في القرار، و هناك سياسات يرسمها الشعب حتى لو كانت على الصعيد الداخلي وحده، هذا الصراع على مراكز السلطة يستلزم أن يستعمل أصحابه كافة اوراقهم فيه، و أهمها الورقة الأقدر على تحفيز الجموع وهي ورقة "الطائفية" أو بمعنى آخر الآيدلوجية، عندنا في الكويت هي شيعة و سنة، الكيانين البارزين.
.
قد يقول قائل بأن هذه الحريّة متواجدة منذ القدم، و لكن هذه الصورة الطائفية حديثة، والجواب أنّ هذا وهم، ليس هناك طوال التاريخ محركٌ للأحداث سوى الطائفية بمختلف أنواعها، و قد وقفت على شواهد تاريخيّة كثيرة ليس هذا مجالها، و لعلّني في يوم من الأيّام اتوفق لأجلعها دراسة مفردة. محصلة الحديث أنّ هذه الطائفية كانت موجودة في الكويت وليست وليدة اليوم، مجلس 1938 و الكانتونات المقسمة داخل السور، هي إثبات جليّ له، الفارق أنّ الطائفية ذلك الوقت كانت محصورة بطبقة واحدة، هي الطبقة السياسية أو الوجهائية الفاعلة، و كانت بعيدة جدًا عن عامة الشعب الملتهين بالبحث عن لقمة عيشهم، لأنّ السلطة كانت مركزيّة و لم يكن دور هؤلاء الوجهاء بمثل الدور الذي أعطاهم إيّاه الدستور بعد الإستقلال*.
.
ما نراه الآن، هو نتيجة حتمية للحريّة، رفضنا إيّاه هو رفض للحريّة، أن نريد النظام و خلع 'الطائفة'، فهذا ممكن، و لكن في الدول التي تعتبر الحرية ترفًا زائدًا، أو في الدول التي تسير على رأي واحد، رغبة واحدة، و مشيئة واحدة، لاغير.
لا يمكن أن ننزع الطائفة أو الطائفية طالما أنّ مراكز السلطة تُقسم و تُعطى بناءً على الثقل الطائفي، وفق آليات مشاركة شعبية حرّة، وطالما أنّ الحصول عليها هو من قِبل رجال لا يمكن لهم أن يصلوا لها دون إمدادٍ طائفي، حتى تفعيل القوانين للقضاء على هذه الظاهرة أصبح شعارًا خاويًا و مضحكًا لأن المسؤولين عن تفعيلها وصلوا لمراكزهم بسبب الطائفية، و لن يحاربوها إذا كانت هي السبيل الوحيد أمامهم!
.
نحن في مجتمعنا الآن، تشكل الدعوات الطائفية أبرز سلالم الصعود، و تحقيق المكتسبات، خصوصًا ما يتعلق منها بما يمكن فرضه و تحقيقه، و التجاذبات الحاصلة حول مناهج وزارة التربية تغني عن ألف كلمة. الصراع الطائفي عندنا انتقل من صراع (الوجهاء) إلى صراع العوام (البسطاء)، بسبب تغذية اولئك للشارع به و دفعهم له و الهدف هو شحنهم للحصول على دعمهم في الإنتخابات، و منها إلى المناصب و مراكز القرار.. و هذا هو الخطر الأكبر، أن ينتقل الصراع إلى العوام الذين هم بمعظمهم مجرد جموع تسيّرها العاطفة، و تدغدغها الكلمة، و لا تلتفت للأهداف الحقيقية لمحركيها إلا نادرًا.
.
أمامنا خياران،و علينا أن نحدد أولوياتنا: إمّا أن نتحول إلى دولةٍ استبداديّة و لكنها نظامية، لا طائفية و لا دعوات طائفيّة بها، أو نبقى في الحريّة و نتحمّل عواقب هذه الحريّة، ونعمل - على أقل تقدير - لتقنينها بجعل الصراع ينحصر مجددًا في طبقة 'الوجهاء' بعيدًا عن 'البسطاء' مثل ما هو الآن.
أما هذا العمل الوجهائي، فهو حكاية بحالها!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* راجع مذكرات د. أحمد الخطيب، خصوصًا ج2،ص80-81.