17 أكتوبر 2010

كتاب الخرفان


أرسل الشتاء نسماته لتستطلع سكنه في الشهور القادمة.

لملمَ الربيع متاعه ورحل متعلقًا بأذيال أسراب العزاء التي نظمتها الطيور

واختلط نشيجها بصوت صفير الرياح الباردة الآتية من بعيد، التي

قدمت هذا العام متثاقلة الخطى لتخنق حرارة الشمس مبكرًا بردائها.

وأُجبرت الأرض على الشحوب، فأسقطت الأشجار أوراقها على خديها

حزنًا حتى انحسر الغطاء عن رأسها.

***

محتارًا، انتصب أمام النافذة، يشاهد بعينه الحمراء الجدب يرخي سدوله حوله.

وصوت الجوع يقترب بألحانه الكئيبة من غنمه.

- لم يعد هناك ما يكفي.

مشى قليلاً، ثم جلس على الأرض، وضع يديه على رأسه، ودسهم بقبر أعده بين ركبتيه وهو يسترجي الظلام أن يطرق الباب ليدخل ويعميه عن رؤية ما يخشاه. بعد دقائق، بُعثت فيه الروح، رفع بصره، نظر يمنة ويسرة ..

أنارت بقايا النجوم ظلاً يقف بهدوء في الزاوية البعيدة، تهللت نفسه: وجدتها!

***

مضى الأسبوع الأول، تبعه الثاني، وأتى الثالث.

ومعه بدأت الغنمات تسمن أكثر فأكثر مبشرة بربح وفير هذا العيد,

- رائع! قال وهو يترقبهم.

أكمل: أخيرا .. هناك فائدة من هذه التركة الثقيلة.

***

في بداية الأسبوع الرابع، قررت السماء أن تبكي.

فتح الباب المحشور في الزاوية، مد يده داخل البطن الذي خوى،

بحث كثيرًا هذه المرة حتى وجد شيئًا أخرجه منه، وخرج.

على وقع ارتطام دموع السماء بوجنات الأرض،مزّق الصفحات، ومع كل صفحة يصمت طيرٌ من الشادين في الخارج. بقيت الصفحة الأخيرة مزقها وهي تئنّ مع صوت الرعد: الصوت الوحيد الذي نجا من مصيدة المطر.

انتهى .. فتوج المأدبة اليومية لأغنامه بها!
***

آثر أن يبقي مع الغنمات يؤنسها بطعامها، ويتسامر معها، يربت على ظهورها، ويتأمل الأحلام التي رفع ظلام الزريبة ستارتها، ريثما تهدء فورة الحزن السماوي التي حبسته بين أطباقها.

و حيث بقي بين غنماته، يسافر من حلم إلى آخر بعقله، وينتقل من غنمة إلى أخرى برجله، تعثر بغلاف الكتاب الذي مزق صفحاته،قام يشتم، ويصرخ هذا الحظ السيء، وهو ينفض الغبار من ملابسه أنار البرق لحظتها الدهماء حوله ..

فكشف عن عنوان الكتاب، وكان: «الأدمغة الفارغة»*


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأدمغة الفارغة اسم لكتاب حقيقي، مؤلفه هو جرجي كنعان، وهو بالمناسبة غير مجاز من الرقابة في معرض الكتاب!

1 أكتوبر 2010

حساسية: حوار

- في بداية البالتوك كنت أدخل غرف المسيح والملحدين وأسمعهم يسبون الله والنبي وما اتحمل اطلع منها وأنا جسمي تحوشه قشعريره، موشي سهل انك تسمع مقدساتك تنهان جدامك.

بعدها قمت ادخل واسمع وابحث عن ردود .. بعدها لا، قمت ادخل وشارك .. والحين صار عندي قبول إن هذي هي الدنيا لابد وأن يكون فيها مثل هالناس

- طبيعة المماحكة إنها تزيل الحساسية، كل شي في بدايته يكون صادم ومع الأيام يتم التعود عليه وبعدين يتحول إلى جزء من بيئته ثم بعدها يصير مكوّن أساسي من مكوناتها.. ويصير مثل ما يقول "كويلو" واقع تم ايجاده للعيش وفقه!

وإذا ما قدر يكسر دائرته الإنسان، راح يظل في مكانه ..

- شوف أنا قاعد افهم اللي قاعد يصير الحين بناء على رؤية (هيغل) .. التطور يحدث نتيجة لطرح فكرة، هذي الفكرة تحمل في ذاتها نقيضها، ويستغل الآخرين هذا النقيض في طرح فكرة مستولدة منها لكن محسنة .. وجذي تبدي مسيرة التطور .. فكرة لها جوانب سيئة وجوانب حسنة .. مع الزمن تاخذ الاجيال القادمة الحسن منها وتهذبه وتطرح السيء وترميه

- يعني نوعٌ ما من (التحدي والاستجابة)  .. المثقفون أو من يفترض انهم مثقفين يتولون مهمة طرح الأفكار كتحديات ويستجيب لها المجتمع وبحسب درجة الاستجابة يتطور .. لكن السؤال هو: هل مجتمعنا قادر على الاستجابة؟

- عوام الناس ما عليهم حرج فطبيعة العوام إنهم مثل ما قال الإمام علي عليه السلام: همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح .. فدورهم هو دور التابع لا المتبوع .. فجواب السؤال يكون بسؤال وهو هل يوجد مثقفين؟

أقدر أقول إنه للأسف : لا يوجد. من أهم مسؤوليات المثقف إنه يختصر المراحل التاريخية لمجتمعه لايصاله لآخر مراحل التطور لكن اللي قاعد يصير عندنا هو سحبهم للخلف .. في إحياء طبائع وصفات المفروض إنها تندثر ..

- مو مشكلة، بهالكلام تُثبت الأصل وهو أنّ هناك مثقفين لكنهم مثقفين سلبيين .. ما عندهم القدرة على الاستفادة من التاريخ للمدى البعيد لكنهم يملكون القدرة على الاستفادة من طبيعة المجتمع الفكرية للاستفادة الآنية

- شلون يعني؟

- طبيعة المجتمع عندنا انه للأسف يتفاخر بأشياء مو من انجازاته، قرأت مرة مثال لطيف وهو إن الشخص عندنا يركب سيارة بأحدث موديل كأنه هو مخترعها وصانعها بينما حتى الفأر لو جمع فلوسها يقدر يشتريها! هذا المثال يبين إن المجتمع قاعد يغرق نفسه في أشياء مستوردة ويتعامل معاها تعامل سطحي جدا، ولهالسبب صارت مثل هالقضايا منجم ذهب للمتكسبين لانهم بتحفيزهم وتجييشهم للناس يوحون لهم بأنهم هم أصحاب (القرار) والربحانين بينما يسرق هذيل قرارهم بدون ما يحسون..

- ذكرتني بقضية تكلم عنها (...) لما صارت سالفة الرسوم الدنماركية وهو كيف تم تجييش هذي الشعوب كلها في حملة عالمية ضد جريدة ورسام مغمور وفي نفس الوقت أبشع من هذي الرسوم موجود عندنا وفي العالم ويبث حتى الفضائيات وما صار هيجان مثل اللي كان .. هالشي رجعني لكلام مالك بن نبي لما كان يشرح كيف أن الاستعمار كان يصنع رجال وطنيين – وهم بالواقع كذلك – لكنهم من حيث انهم يعتقدون انهم يحاربون الاستعمار فهم يخدمونه بدون ما يحسون

مثل سالفة الدب اللي اراد انقاذ صاحبه من الذباب فهشم وجهه بصخرة

- ممكن .. ليش لأ؟ بس واضح إن اللي قاعد يصير له مسارين الاول واضح جدا وهو استغلال الوضع لتحقيق اكبر قدر من المكتسبات وللي الذراع وإعلاء الصوت .. والمسار الثاني هو (القوة/ اليد الخفية) بحسب مفهوم آدم سميث .. القوة اللي تخليهم يعيشون حالة (الدب) وبالتالي يساهمون في إزالة الحساسية من هالمواضيع من حيث إنهم يبون يزيدون هالحساسية .. مثل ما صارت سالفة الرسومات حاليا تمر مرور الكرام ومثل ما صار مع الملحدين بأن لهم وجود فعلي يمكن يكون مضحك .. لكن هذي الدنيا صندوق يجمع المتناقضات .. وعلينا تقبلها

- أنا اشوف هاللحظات لحظات تاريخية بمعنى الكلمة .. كانط يقول بأن التاريخ هو سجل لحماقات البشر .. من يكتب التاريخ أو يصنعه غير ثلاثة إما عبقري أو مجنون أو أحمق وهو الغالب؟

مع كل هالحماقات فاحنا نستفيد من التاريخ لانه لولا حماقات التنافس والغرور أو المصادمة وغيرها لصار عندنا جمود وسقف الحرية بحاجة لمثل هالاشياء لرفعه

- يعني إنّ اللي قاعد يصير أو صار هو بمثابة (حتمية تاريخية) .. وجهة يفرضها علينا التاريخ لازم تكون موجودة أو توجد .. وابن خلدون يقول بأن الحوادث التاريخية تجري مجرى الظواهر الطبيعية لا يمكن لنا السيطرة عليها!.. وأكبر دليل هو إن الصوت الواعي في ظل هالصياح يتم اخماده أو اهماله .. كعادة التاريخ!

- أو تقدر تقول (ضرورة تاريخية)، شوف برجع مرة ثانية لسالفة الرسوم الدنماركية كان واضح انها متاجرة باسم الرسول –صلى الله عليه وآله- من قِبل كيانات أو أشخاص والناس كعادتهم اتبعوا الصيحة وركبوا الموجة .. كانت حالة انفعالية من عامة الناس و واضح جدا انها حالة مدعومة ومستغلة من قِبل أطراف ..

- جذي نرجع للمربع الأول: مشاكلنا مستوردة ومصطنعة ... بمعنى إنها بأغلبها قضايا وأمور تمر علينا يوميا مرور الكرام .. لكنها فجأة تتحول لقضية الشارع بدون مسوّغ منطقي ..

- طالما إن العامة هم اللي بإيدهم القرار فمثل هالشي غير مستغرب، إذا كان في الماضي هناك (نخب) تقود الشارع بفكرها فالحين هناك (نخب) يقودها شارع مستثار بشرارة يُطلقها أي طموح لمنصب (نخبوي) ..والشارع مثل الفرس الجامح تستثيره بسهولة وتستفيد من طاقته لكنك ما تضمن لأي درجة يمكنك السيطرة عليه

* * * * *
المكتوب هو أجزاء مقتطعة من حوارات مختلفة مع صديقي العزيز ، بعضها كُتب كما هو، وبعضها كُتب بتصرف بسيط، وهناك الكثير ممّا لم يُكتب.