22 يناير 2010

عاوز أتجوز تاني



في ذورة الإنشغال والإنهماك بالعمل المضني قبل يومين، وجدت نفسي فجأة في خضم حديث متصاعد النبرة كنت محوره دون إرادتي، وبلا رغبة مني. جالسًا على مكتبي ورأسي مدفون بالأوراق، انطلق زميلي بالحديث عن 'الأرف' الذي يعانيه بحياته الزوجية، وعدم التفاهم وقلة الانسجام الذي صبغ الـ15 سنة الأخيرة من حياته، وأنه قد اكتفى لذلك سيبحث عن زوجة أخرى، بعد أن يشحن زوجته الحالية وأولاده إلى بلاده مع أقرب طائرة! إلى هنا وكان الجدال يدور بينه وبين زميلي الآخر الذي يحاول إقناعه بالعدول عن الفكرة، مذكرًا إياه بكل ما في الزواج من إيجابيات، وأهمها شعور الأبوة والأولاد، لينفجر في وجهه:

.
- هوّه لو كنت عاوز أولاد بس، كنت أقدر أجيبهم من غير جواز (زواج)!

.
حين سمعت الجملة الأخيرة، لاشعوريًا ضحكت، وهذا هو ذنبي الوحيد الذي كان تذكرتي لأكون محورًا للموضوع بعدها، فقد إلتفت ناحيتي قائلاً:

.
- همه الستات كده، ولاد ... في ...، بس يتجوزوا يلعنوا سنسفيل اجدادك، جالهم الأرف، اوعى تتجوز .. اوعى، خليك كده.. ثم أكمل وصلة الشتم والردح، لينهيها بزفرة على اللحظة التي قرر فيها الزواج، متبوعة بتفاصيل لا يصح نشرها للعامة!

.
يبدو أنّ منظري المتفاجئ جعل زميلي الآخر يستلم زمام الحديث، لينفي هذه النظرة السوداوية للزواج، معددًا إيجابياته، متخذًا نفسه مثالاً معاكسًا له، ويتابع الجدال مع الآخر، لحظتها قررت أن أظل متمسكًا بصمتي، محاولاً الإنتهاء من كومة الأوراق أمامي، وبعدها لكل حادثٍ حديث.

.
وكان حديثي مع نفسي..
هناك قصة تتمتع برمزية كبيرة، وأراها تختصر الكثير من المعاني، مفادها أن أخوين ذهبا إلى مصر، وحين عادا قال الأول أنه شاهد شارع الهرم ومحمد علي، والثاني شاهد سيدنا الحسين والأزهر! وكلاهما كانا في بقعة جغرافية واحدة، كذلك التجربة، قد تكون واحدة نمر فيها جميعنا ولكن كل شخص فينا يخرج بنتائج في بعض الأحيان هي متناقضة مع الآخر، ليس الخلل في التجربة، في الواقع ليس هناك خلل على الإطلاق، إنما هي خصيصة نفسية تتواجد عند معظم الناس، وهي أن أهواءهم تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل رؤاهم، ومسيرتهم، ومواقفهم في الحياة.

.
يولد كل إنسان وداخله قابليات متنوعة، وعندما نتحدث عن نمّوه ونضجه فهذا يعني أننا نتحدث عن تحويله لهذه القابليات إلى ملكات، بمعنى أنه يهيء نفسه ويوفر الأرضية لجعل هذه القابليات تنمو حتى تخرج من كونها (حالة عارضة) إلى ملكة بكلمة أخرى صفة مستمرة معه. هكذا، نرى أشخاصًا يتحولون إلى إيجابيين لتنميتهم لقابلياتهم الأخلاقية الرفيعة، بينما نرى آخرين ينظرون للعالم بمنظار ضيّق، ويبحثون عن السلبيات في كل شيء. على الرغم من كون هؤلاء الأشخاص المتناقضين قد خرجوا من رحم أسرة واحدة، ذات فلسفة تربوية واحدة. ولكن كل واحد فيهم نمّى القابليات التي يميل إليها أكثر من تلك التي نبذها بحسب طبيعته والأهم بحسب رغباته النفسية.

.
وكونه يولد بهذه القابليات، فإن ذلك يوفر تفسيرًا مقبولاً نوعًا ما لظهور تصرفات أو أفعال أو مواقف قد تكون غريبة أو مستهجنة من أشخاص لم نتعود ظهورها منهم، ومصداق ذلك حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الذي مضمونه بأن المؤمن يمكن له أن يزني أو يسرق، فتنتفي عنه صفة الإيمان حتى تنتهي هذه الحالة العارضة عليه، ويعود لملكته التي نمّاها وهي التعفف والأمانة، وهي ذاتها الملَكة التي تشعره بعدم الإرتياح والضيق أثناء فعله لتلك الأمور لم يألفها ولم يعطيها الفرصة لتصبغه بلونها، فهو يشعر بالتناقض معها.

.
مرّ زميلاي بذات التجربة، الأول فشل بها بنظره والثاني نجح، ولكن الملفت للنظر أن كليهما حاول أن يعمم تجربته على الجميع، ويعتبرها مقياسًا لكل الحالات المماثلة، فالزواج بنظر الأول مشروع فاشل* وإن كان لابدّ منه، وعند الثاني مشروع ناجح تطغى ايجابياته على سلبياته.

.
لا أريد أن اناقش هذه القضية ولكني سأتخذ منها منطلقًا لفهم سبب رغبتنا بتعميم تجاربنا دون وعي منّا على الجميع.

.
كثيرًا ما نطلب من الآخرين أن يراعوا انشغالاتنا، وظروفنا الحياتية اليومية، ونعتبر مثل هذا الطلب ضرورة يجب على الآخرين أن يأخذوها بعين الاعتبار، وإن لم يحدث ذلك منهم رأينا في ذلك إساءة لنا، نتألم منها والسبب هو أننا نعتبر المنظار للعالم يمر عبر ذواتنا، فكل شيء مرتبط بنا وبمزاجنا، نريد للعالم أن يفرح إذا فرحنا وأن يحزن إذا حزنا، فالطبيعة البشرية تقوم على إيمانها بأن الإنسان هو سيد الخلق بالمعنى العام، وسيادته تعني أنه يرى في نفسه الفضل والعلو على غيره، وهذا يجعله يعتقد أن الحق المطلق منحصر فيه دون مقدمات، وعلى الآخرين أن يتبعوه وإذا لم ير ذلك منهم، اشمئز واعتبرهم جهلة لا يفهمون.

.
ومعظم التنافس بين البشر على تعميم تجاربهم تعود إلى هذه الخصيصة فيهم، فطبيعة الإنسان أنها ترى في نفسها الأفضلية على غيرها، أو تحب أن ترى شيئًا فيها يميزها عن الآخرين، ويعطها «بونصًا» يجعلها تملك ما تتميز به وسط جموع البشر، ومن ذلك تجاربهم في الحياة، في الزواج والعمل وحتى في اختيار نوعية الطعام والمطاعم، فهي تشمل كل ما يمكن أن يتم التوصل له من خلال التجربة والبرهان أو مجرد الإطمئنان.

.
في أيام الكلية لم أشغل نفسي يومًا بالسؤال عن «الدكاترة» وهذا يمثل حالة شاذة بين جموع الطلبة بطبيعة الحال، وكثيرًا ما كنت أسجل بعض المواد عند دكاترة يصنّف من يسجل عندهم تحت بند الجنون، ومع هذا فانطباعاتي عنهم تكون ممتازة، ولم تخب إلا نادرًا جدًا، بعكس كل توقعاتهم، والسبب هو أنهم إما تأثروا بإيحاء الآخرين أو أنهم مروا بتجربة سيئة، ثم عمموا حكمها، وإذا شاهدوا أحدًا يخالف حكمهم، فإنه لا يروق لهم أن يروه ناجحًا.

.
حاول أن تسأل عن أفضل هاتف نقال، أو أفضل مزود إنترنت أو حتى أفضل خباز جمعية، وانظر كيف تتعدد الآراء وتتظافر ليدخل أصحابها في عراك وجدال قد يستمر لساعات ويبدء كل طرف باستحضار عشرات القضايا والأدلة التي يحتفظ بها في ذاكرته لينتصر لرأيه ويبيّن أنه الصواب، ويُسّقط آراء الآخرين ويسفهها، في خضم ذلك كله يتناسى أولئك أن النتيجة التي توصلوا لها في معرفة أفضل هاتف أو غيره إنما هي متولدة من تجربة خاصة فيهم، لعبت فيها ميولهم وقابلياتهم الدور الأكبر في توجيهها إليهم، وهذا يكفي لإظهار أنّ أحكامهم متماشية مع طبيعة تكوينهم، ولكنها من جهة أخرى قد لا تناسب الآخرين لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار طبائعهم، وميولهم، وأهواءهم والأهم من ذلك الظروف التي قد تحكم تجاربهم.

.
زميلاي العزيزان جانبا الصواب، لأن كليهما كان يتكلم عن تجربته ونتيجته الخاصة، وكلٌ منهما يريد أن يثبت أن تجربته هي المقياس للعالم أجمعه.

_____________
*راجع:
تفلسف عزّاب

1 يناير 2010

على أعتاب موعد الآمال


«.. الآمال مثل شباك الصيد، تُرمى في البحر وتقبع هناك منتظرة السمكة حتى تقع في حبائلها. أظن كلمة الآمال خداعة، فالمقصود بها هو الإنتظار حتى يتم الإستسلام للأمر الواقع، وما القول أو بالاحرى الوهم بان هناك شيء جيّد سيحدث ويقلب الواقع ويحوله للأفضل إلا نوع ساذج من أنواع خداع النفس .. كثير من الشباك ترمى في البحر ولا تخرج منه ثانية فالخجل يعتريها من 'فضاوة' جوفها، كذلك هي الآمال، نضعها، نرسمها، نكتبها، ونحلم بها ثم مع الأيام ندفنها لاننا نخجل من الإشارة لشيء ما ثم نقول: كــان أملنا به كذا!
.
يمكنك أن تخدع وتكذب وتدلس على كل الناس إلا على نفسك، درجة الصراحة التي يتمتع بها الإنسان مع نفسه تجعل الإستسلام للواقع أصعب من خوض الحرب معه، فالحرب مجهولة النهاية، حين تبدأ، لا تدري أ تضع أوزارها بانتصار أم هزيمة، ولكن الاستسلام يقود إلى نتيجة واحدة، ومكاشفة واحدة، قبل أن تبدأ: أنا لا أملك فرصة للفوز.
لا يمكنك أن تخدع نفسك حين تدخل الصحراء، بأن تلقين نفسك الإرتواء سيمنعك من العطش!
.
منذ صغرنا يقولون لنا بأن الإنتصار وتحقيق الأهداف دائمًا يكمن على بُعد سويعات من العمل الجاد، ويضربون المثل بضفدعتين قفزتا في إناء من الحليب، وفشلتا في الخروج منه، اما الاولى فقد استسلمت لمصيرها حتى غرقت بالحليب وماتت، وظلت الاخرى تضرب بأرجلها طوال الليل حتى تحول الحليب إلى زبدة قفزت منها إلى خارج الإناء.
.
لم يقولوا لنا أبدًا، أن حياتنا ليست إناءً من الحليب، بل هي إناء من الرمال، مهما حاولت أن تضرب رجليك فيه لن تحصد سوى الغبار!
أرادوا منّا أن نصنع الوهم ثم نصدقه، فهذا أسهل عليهم من تعليمنا صناعة الفعل.
.
ربما كان عليهم أن يضربوا لنا مثلاً بالبقر، يمضغون طعامهم، ويستلقون تحت أشعة الشمس، ثم في النهاية تتحول إحداهن إلى وجبة شهية نأكلها ونحن نشاهد بقرة أخرى تتحول إلى نجمة إعلانية على شاشة التلفزيون.
.
"هل أنتم بقر؟"
.
ما أعرفه أننا لسنا ضفادع، ونحن للبقر أقرب، يسمنونا منذ الصغر، يعطونا الطعام، يربونا، يعلمونا، ثم نقابل الواقع وهو أن كل ما حصلنا عليه هدفه هو أن نتحول إلى وجبات استهلاكية تضمن استمتاع الطبقات العُليا وهي تقضي وقتها بمشاهدة البقرات اللاتي نجحن في التحول إلى نجمات، ليس بسبب قدراتهن الفائقة إنما بسبب فشلهن في صنع الحليب، أو الوصول إلى درجة السمنة المناسبة!
.
نمضي أيامًا كثيرة، نرسم لوحات الآمال، نحاول اقناع أنفسنا باننا نملك ما لا يملكه الآخرون، نضع الخطط ثم ننفذها بأذهاننا، ونتخيل مدى نجاحنا وعبقريتنا في رسم مستقبلنا، ثم لا ننفذ ذلك، بل نؤجله، نربطه بحبل ونرميه حول عنق تاريخ ما، وبدلاً من أن نسعى لتحقيق آمالنا، ننتظرها أن تأتي إلينا، وهي تمشي على بساط أحمر يفرشه ذلك التاريخ! وياللعار حين نكتشف مدى صرامة هذا التاريخ، فهو كالضيف الثقيل حين نجامله وندعوه لمنزلنا، وبقلوبنا ندعو الله ألا يقبل دعوتنا، ولكن يقبل، فنتعلثم: ماذا نفعل؟
ونكتفي بالجلوس معه، نندب حظنا العاثر بالسر!
.
.. كل شيء أصبح حقيرًا، بما فيه آمالنا، أصبحت تدور حول ذواتنا، نفسها الذوات التي نعتبرها حين نختلي معها كابوسًا بكثرة ما توقفنا على حافة الهاوية.
يبدو أنه مكتوب علينا أن نرجم أنفسنا في نهاية كل سنة!
هكذا ندفن خجلنا من آمالنا القزمة.. »
.
ليس من عادتي نشر ما اعتبره نوعًا من نتاجاتي الأدبية، بل أحتفظ ببعضها في مكان خاص، وربما على عكس الكثيرين، في نهاية كل سنة أتخلص من الكثير من القصاصات التي أنثر عليها بعض الكلمات في أوقات الفراغ. ما هو مكتوب أعلاه وجدته مكتوبًا اليوم على ورقة كانت محفوظة عندي داخل كتاب، تساقطت منه بالصدفة وأنا أحاول البحث عن معلومة ضائعة فيه. ربما هي صدفة أن تكون مثل هذه اللحظات، هي التي أجد فيها مثل هذه الكلمات، لكنها صدفة - بالنسبة لي - سعيدة تعيد الإعتبار إلى ما نتناساه: الحياة تُعاد - بما فيها دروسها - مرة تلو الأخرى، وآن الأوان لنبقى مستذكرين لبعض هذه الدروس.
.
يطول صمتنا، هذه اللحظة، حين نسترجع أحداث السنة الماضية، ونحن نقف على أعتاب أحداث الجديدة، لنجد أننا لا زلنا في المربع الأول، كبرنا، أضفنا سنة لعمرنا، ربما تحسن مستوانا المعيشي أو الاجتماعي لكننا من الداخل بقينا كما نحن: نطأطأ الرؤوس كلما تذكرنا أحلامنا، وأمنياتنا .. وما تحقق منها فعلاً على أرض الواقع!
.
.. في لحظات جنون نيتشه الأخيرة قال: من ليس طيرًا، يجب عليه ألا يحلق فوق الهاوية! ليست دعوة للتشاؤم، ولكنها دعوة لأن نعيد اكتشاف الذات، لنتعلم كيف نبنيها بالأفعال لا بمجرد الآمال على جميع المستويات
.
كل عام وأنتم بخير، أدعو الله سبحانه أن تكون سنة سعيدة ومليئة بالخير والبركة لنا ولكم جميعًا.