27 مايو 2010

التكرار يعلم .. الحكمة!

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش .. ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
زهير بن أبي سلمى
.

احتاج زهير لثمانين سنة حتى يشعر بالملل من كل شيء بعد أن ملّ رؤية نفس الأمور تحدث مرارًا وتكرارًا. يُقال بأن ينابيع الحكمة تتفجر بعد الأربعين، لذلك سمي النابغة الذبياني بالنابغة فشعره الشهير بالإعتذاريات ظهر للناس بعد الأربعين من عمره! على هذا، يكون زهير قد عاش أربعين سنة من الحكمة ليكتشف في نهايتها أن الحياة مجرد (تكاليف) تارة تعيد نفسها مثلما هي كما يذهب لذلك بعض المهتمين بالتاريخ، وبعضهم مثل 'هيغل' كان يقول بأن التاريخ حلزوني الحدوث لا دائري، يعني أنّ الأحداث في التاريخ تملك تشابهًا لا بأس به ولكن ظروفها وحيثياتها مختلفة، فتكرارها في ظروفها غير متطابق، وإن كان كذلك في نتائجه، في إشارة إلى كون التاريخ لا يعيد (ذاته)، وهي كلها ترى التاريخ كأحداث، ولا تراها كزمان.
.
الإنفجار الذي أحدثه آينشتاين في هذه المفاهيم حين أتى بنظرية «الزمكان» دمر اعتقاد الإنسان بأنّ الزمن مفهوم كمي، أي أننا وإلى اليوم- نفهم الزمان على أنه ليس أكثر من 24 ساعة تنتهي الساعة فيها بمجرد انقضائها، وأن الزمان له وجود منفصل لا علاقة له بالمكان. بينما قال هو بأن الزمان بعدٌ رابع يضاف إلى الأبعاد الثلاثة التي نعرفها إنما الزمان هنا كبُعد رابع، لا ينفصل عن المكان، في مثال يطرح لتوضيحها بشكل مبسط، هو لو أنك كنت تقود سيارتك في شارع متعرج وسط الغابات الكثيفة التي تحجب الرؤية، فإنك بعد 5 دقائق سترى أين ستكون، ولكنك لن ترى أبعد من ذلك فالتعرجات تمنع النظر لما بعدها، بينما لو امتلك أحدهم مكانًا للنظر من الأعلى فإنه سيرى الطريق كله، أي أين ستكون بعد 10 دقائق، وأين ستكون بعد 20 دقيقة، لاحظ في هذه الحالات كلها أنك لا تستطيع فصل الزمان عن المكان الذي ستكون به، فـ"الزمكان" اختصار لمفهوم أن الشيء لن يحدث في مكانٍ ما، إلا بزمنه المرتبط بذلك المكان، فالمستقبل مثل نهاية ذلك الشارع، الوصول إليه يتطلب الوصول إلى (زمنٍ) ما في (مكانٍ) ما، ولا وجود للزمن بدون هذا المكان.
.
إلى اليوم، تعتبر هذه النظرية، وما توّلد عنها من نظريات، غاية في التعقيد ومستعصية الفهم على معظم البشر، لكنها من جهة أخرى تقدم إجابات عديدة أنزلت المجهول إلى خانة المعلوم، وقدمت إجابات للعلماء حول الكثير من الظواهر والمحركات ابتداءً من النيوترونات والتيوترونات وانتهاءً بالأجرام السماوية وما أكبر منها. أصبحت كلها قابلة للتكهن بحركتها، ومعلومةٌ طبيعتها، واشتملت بالإضافة لذلك على معرفة (الإنسان).
.
ومن خصائصه أنًه (متفلسف)، والكلمة بمعناها الأولي تعني محب الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والحكيم هو الذي يرتب الأشياء بترتيبها الصحيح ليصل إلى نتيجة تكشف الواقع الغائب عن أنظار الآخرين، ما يفصل الحكمة عند صاحبها الحقيقي ومدعيها هو أن النوع الأول يلجؤون إلى صياغة نتائجهم وفق ما تقتضيه الأوضاع، ويجعلون آرائهم طوعًا لرغبة الآخرين، فليس من السهل أن تفقد كل ما تملك بسبب رأي، وعلى هذا الأساس يكون ابداء الرأي بما يوافق الآخرين أسلم طريقة للصعود إلى المكانة المرجوة، والشعور بالأمان في وسط المحيط، بل والحصول على الدعم والتأييد منهم، كما قال زهير: ومن لا يصانع في أمور كثيرة.. يضرِّس بأنياب، ويوطأ بمنسم.
.
أضحى التغيير الذي حدث، كما يصفه برهان غليون*، يمس مفهومنا عن أنفسنا ونظرتنا إلى دورنا ومكانتنا كبشر، ونشأت جراء ذلك مفاهيم الفردية والسيادة، وما تشمله من حرية واستبداد وغيرها، وتبعًا لهذا حدث هناك نزوع نحو التفاصيل وباتت النفس، بحسب وصفه، تحت رحمة «الوعي والشعور واللا شعور والأنا والهو، والسلوك والذهان والعصاب والفصام والعظمة والرمز واللغة والمتخيل» وأعطت لكل شيء تأويلات عقلية ومادية، وفككت إلى أبعد ما تستطيع بنية الوعي والعقل والشعور، بحيث افتقدت العفوية، وأهمها عفوية التعبير عن المواقف، التي تحولت من كونها وليدة اللحظة وتعبير عمّا في النفس إلى طقوس هدفها الإستعراض أمام الناس، أي أنها مواقف تُقدّم كمهرٍ في سبيل بلوغ الغاية. إن خسارة الذات في مقابل مواقف مصطنعة يتم ارتكابها لكسب ود الحانقين هو استغفال لهم، لكنهم لا يشعرون.
.
لقد سأم ابن أبي سلمى، لأنه توصل إلى معرفة حقائق الأمور، واستخبر طبيعتها، واستطاع أن يرتب ما يرى، ويربطه بحيث انكشفت الوقائع أمامه، وأضحى يرى «الزمكان» بكل وضوح، فشرح بأبياته حوادث المستقبل بما حدث في زمنه، وأصبح يرى ما حدث بالأمس يتكرر اليوم، في تكرار رتيب للأحداث. وفي مثل زمنه احتاج إلى ثمانين سنة، وبتنا اليوم لا نحتاج لأكثر من أيام معدودات لنرى الأمور. ولذا لا تموت الحكمة، لكونها صالحة لكل زمانٍ ومكان. هناك من يرى التفاصيل ويعلم جيدًا بما تؤول إليه ولكن حقائقه لا تعجب الناس، فهم غالبًا يكرهون الحقيقة وبالتالي الصراحة، لكونها دائما مؤلمة و لا تلبي طموح هذا الإنسان،(وأكثرهم للحق كارهون)، وهناك من يتقافز عليها ليصنع لنفسه مجدًا بدغدغة مشاعر العامّة. الذين يرون، في الحديث عمّا "يريدون الإيمان به" شجاعة لا يملكونها.
.
المؤسف أنّ أصحاب الحقائق تتراجع أصواتهم، في قبال هؤلاء الذي يحولونها إلى سلالم للصعود على أكتاف الآخرين، لأنهم يعلمون أنه بصعودهم ستتوالى عليهم آيات التطهير، والتنزيه ولا بأس من بعض الضريبة. إن الحكمة رأس كل فضيلة، ولذا قرنت بالصمت**، فمن يعلم أنّ حديثه سيجعل الموجة الهادرة للعامة تخنقه، يفضل الصمت لعلمه بأن الأيام، لن تأتي بشيء جديد سوى أنها ستكشف الحقائق للناس، ولكنهم مع هذا لن يكفوا عن السقوط في نفس المطب، فهي سيرورة بشرية، كما قال هيغل: تعلمت من التاريخ : أن الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يتعلم من التاريخ!
ومن يرى الأمور تتكرر لن يخالف حاله حال ابن أبي سلمى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*برهان غليون، اغتيال العقل، 146-147.
** روي عن الإمام علي عليه السلام: إن الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت ما خلا ذكر الله.

3 مايو 2010

ما هو حلمك؟


على عهد المتوسطة كان معنا طالب، ممن قارب سن التقاعد وهو لا يزال يدرس بنفس المرحلة، لقبه هو «سعود الليمونة» بسبب شكل رأسه البيضاوي كحبة الليمون، وحلم حياته كان يتكون من ثلاثة أشياء 1) الزد 2) الحرس 3) الزواج. انقطعت أخباره لسنوات بعد المتوسطة، ثم شاهدته عند باب الجمعية في أحد الأيام وهو يجمع أحلامه الثلاثة في مكانٍ واحد وقد تحققت. هذه القصة، حسبما أذكر أنني ذكرتها مرة في السابق، إلا أن هذا لا ينفي أنها تختصر الكثير من الحديث حول الأحلام، والأماني التي نمني النفس بها.
.
منذ الطفولة يسألوننا عن الأحلام، ماذا نريد أن نكون؟ وما الذي نطمح لأن نصبح عليه؟ إلى جانب هذه الأسئلة كانت تصدر الأوامر: كن كذا، ولا تكن هكذا. ولم يكلف أحدهم نفسه ليتوقف لحظات ويقول: أنت كذا! هناك شمائل معينة تميز أبناء بيئتنا منها الميل لإصدار الأوامر حتى فيما يتعلق بالطموحات والآمال، والأحلام.
.
لا أذكر منذ طفولتي أنني سمعت أحدهم يجيب عن السؤال عن حلمه بأنه يرغب بأن يُصبح شاعرًا، أو رسامًا، أو كاتبًا، وأن يحول هذا الحلم إلى وظيفة وهويّة، دائمًا كانت الأحلام ذات سقف عال، مهندس وطبيب وطيار وإن تنازل قليلاً، نزل حلمه إلى ضابط ومحامي! وشيئًا فشيئًا تتحول هذه الأحلام إلى كوابيس تجعل معظم أفراد المجتمع يعيشون تحت غطاء الشعور بالفشل، وانعدام الإحساس بالقيمة، لأنهم لم يستطيعوا تلبية الأوامر التي أصدرها المجتمع لهم بأن يصبحوا من الطبقة المخملية وظيفيًا، الطبقة التي صورها المجتمع بأنها وحدها جنة النعيم وما عداها سقر وبئس المصير، أو إن أصبحوا منها اكتشفوا الواقع المرالذي يرتبط بها.
.
إن المجتمع يفتقد لنظرة واقعية لإمكانات أبنائه، ولا اعتبار عنده لتفاوت قدراتهم وامكانياتهم، وهذا الشيء دارج حتى على لسان الآباء والأمهات، فالمقارنة مع ابن الجيران أو أحد الأقرباء دائمًا حاضرة: شوف فلان؟ وبشنو فلان أحسن منك؟ وكأن السبب يعود لذات الشخص، وكأنه يعيش منفصلاً بلا ظروف تحيط به، ولا إطارات اجتماعية تحده من كل جانب، ولا إمكانات عقلية ترسم الفارق بينه.. وبين أخيه!
.
يعتبر التعود على إصدار الأوامر سمة غالبة، لأن طبيعة المجتمع تضع اعتبارها للشخص بحسب قدرته على إصدار الأوامر وتنفيذها، أو اجبار الآخرين على الخضوع لها، فالفشل في تحقيق مثل هذه الأحلام ينسحب على الاثنين: الحالم، ومن أصدر قرار الحلم! ومعنى الفشل هو عجز الأول وضعف شخصية الثاني!
.
من المضحك أن تسمى الرغبة بما يريد الشخص أن يصبح عليه بـ(الحلم)، وهي لفظة تعتبر مشتركًا لفظيًا مع ما يراه النائم في نومه من أحداث (لا واقعية)، وكأنهم يهيئون الأرضية لنا لأن نقبل الواقع المُر بما سيكون عليه، وقلة هم الذين ينجحون بتحويل هذه الأحلام إلى واقع، قلّة بعدد القلة الذين يرون (منامات صادقة) من خارج دائرة التوهمات وافرازات الفكر الباطن عند البشر.
.
قبل فترة بسيطة، اجتمعت مع بعض الأصدقاء والزملاء الذين جمعتني معهم مشاوير الدراسة. حين أعود بالذاكرة لما كانوا يرسمونه من أحلام، وأقارنها بما وصلوا إليه الآن، أجد نفسي مضطرًا لأن اعتبر «سعود الليمونة» الناجح الوحيد منّا. إن عظمة الأحلام لا تأتي من صعوبتها، بل من بساطتها، فالناس يهيؤون أنفسهم للفشل حين يربطون أنفسهم بطموحات معقدة، تعتمد على غيرهم وظروفهم وهي أشياء ليست بأيديهم، أكثر من أنفسهم، نحن نملك القدرة على التكيّف مع الظروف، لا على صنعها.
.
معظم ما نسميه فشلاً، يرجع إلى عدم تهيئة النفس لما تريده، ولما تستطيعه، فنحملها أكثر من طاقتها، ونطالبها بأشياء ليست بمقدرتها. ألا ترى كيف أن ثقافة المجتمع تجبر الطفل على أن يختار مهنة عالية منذ طفولته، رغم أنه في معظم الأحيان، لا يعرف عنها شيئًا، ولم ينطق بإسمها إلا بإيحاء ملح من أهله؟ هي ثقافة المصادرة التي يتربى عليها هذا الشخص بحيث تصبح كل رغباته أن ينفذ أحلام الآخرين له، لا أحلامه لنفسه.
.
لقد كان المعتزلة، أفضل حالاً من الكثيرين، فهم يرفضون الإعتراف بالأحلام تحت ذريعة كون الإدراك والوعي بحسب قولهم- مرتبط باليقظة، ولا يكون الإنسان مدركًا إذا كان نائمًا، لذا يرون الأحلام مجرد تخرصات، ولكنهم لم يقدموا إجابة على ما يُطلق عليه اليوم: أحـلام اليقظة.
.
أحلام اليقظة التي تتمثل بوجود عالم افتراضي، كامل، لا وجود لأي عقبة لا يمكن تعديها فيه، وهو عالم كاسمه لا وجود له. صحيح أن وجود العقبات لا يعني الاستسلام لها، ولكن من الخطأ الإعتقاد بأن كل عقبة قابلة للقفز من فوقها، إن معظم عقبات الحياة الواقعية أقصى ما يمكن عمله معها هو تفاديها أو مناورتها، أمّا حلها وتفكيكها فهذا أمر متروك للزمن.
.
أصدقائي الأعزاء، كانت روائح الفشل تحفهم من كل جانب، واحباطهم مستشر، معظمهم اعتبر ما وصل إليه مقارنة بما أراده فشلاً. لقد تناسوا أهم نقطة وهي أن الحياة لا توجد بها مسارات مستقيمة، وأصغر الحوادث فيها يمكن أن تنتج أكبر الكوارث، كما يمكن لحجر صغير لا يسوى شيئًا أن يدمر جهازًا تكلفته الملايين. لم يكن ما حدث فشلاً لهم، بل فشلاً لهذا المجتمع الذي تعوّد على زرع قيمة الفشل بين جنباته.
.
لقد علمونا أن نحلم، ولكن لم يعلمونا كيف نجعل من الحلم حقيقة، لم يعلمونا أن نعرف ما هو الأمر الواقع، يعتقد الكثيرون أن الأمر الواقع يعني الإستسلام ورفع الراية البيضاء، وليس هذا سوى بسبب ثقافة المصادرة التي يطبقها المجتمع على الأطفال منذ نعومة أظفارهم حتى يشبوا، هذه الثقافة التي لم تجعلهم يكتشفوا أنفسهم أولاً، ثم يجعلوا ما اكتشفوه مقياسًا لأحلامهم : وفي هذا يروى عن الإمام علي عليه السلام «ما هلك امرؤ عرف قدره».