احتاج زهير لثمانين سنة حتى يشعر بالملل من كل شيء بعد أن ملّ رؤية نفس الأمور تحدث مرارًا وتكرارًا. يُقال بأن ينابيع الحكمة تتفجر بعد الأربعين، لذلك سمي النابغة الذبياني بالنابغة فشعره الشهير بالإعتذاريات ظهر للناس بعد الأربعين من عمره! على هذا، يكون زهير قد عاش أربعين سنة من الحكمة ليكتشف في نهايتها أن الحياة مجرد (تكاليف) تارة تعيد نفسها مثلما هي كما يذهب لذلك بعض المهتمين بالتاريخ، وبعضهم مثل 'هيغل' كان يقول بأن التاريخ حلزوني الحدوث لا دائري، يعني أنّ الأحداث في التاريخ تملك تشابهًا لا بأس به ولكن ظروفها وحيثياتها مختلفة، فتكرارها في ظروفها غير متطابق، وإن كان كذلك في نتائجه، في إشارة إلى كون التاريخ لا يعيد (ذاته)، وهي كلها ترى التاريخ كأحداث، ولا تراها كزمان.
.
الإنفجار الذي أحدثه آينشتاين في هذه المفاهيم حين أتى بنظرية «الزمكان» دمر اعتقاد الإنسان بأنّ الزمن مفهوم كمي، أي أننا –وإلى اليوم- نفهم الزمان على أنه ليس أكثر من 24 ساعة تنتهي الساعة فيها بمجرد انقضائها، وأن الزمان له وجود منفصل لا علاقة له بالمكان. بينما قال هو بأن الزمان بعدٌ رابع يضاف إلى الأبعاد الثلاثة التي نعرفها إنما الزمان هنا كبُعد رابع، لا ينفصل عن المكان، في مثال يطرح لتوضيحها بشكل مبسط، هو لو أنك كنت تقود سيارتك في شارع متعرج وسط الغابات الكثيفة التي تحجب الرؤية، فإنك بعد 5 دقائق سترى أين ستكون، ولكنك لن ترى أبعد من ذلك فالتعرجات تمنع النظر لما بعدها، بينما لو امتلك أحدهم مكانًا للنظر من الأعلى فإنه سيرى الطريق كله، أي أين ستكون بعد 10 دقائق، وأين ستكون بعد 20 دقيقة، لاحظ في هذه الحالات كلها أنك لا تستطيع فصل الزمان عن المكان الذي ستكون به، فـ"الزمكان" اختصار لمفهوم أن الشيء لن يحدث في مكانٍ ما، إلا بزمنه المرتبط بذلك المكان، فالمستقبل مثل نهاية ذلك الشارع، الوصول إليه يتطلب الوصول إلى (زمنٍ) ما في (مكانٍ) ما، ولا وجود للزمن بدون هذا المكان.
.
إلى اليوم، تعتبر هذه النظرية، وما توّلد عنها من نظريات، غاية في التعقيد ومستعصية الفهم على معظم البشر، لكنها من جهة أخرى تقدم إجابات عديدة أنزلت المجهول إلى خانة المعلوم، وقدمت إجابات للعلماء حول الكثير من الظواهر والمحركات ابتداءً من النيوترونات والتيوترونات وانتهاءً بالأجرام السماوية وما أكبر منها. أصبحت كلها قابلة للتكهن بحركتها، ومعلومةٌ طبيعتها، واشتملت بالإضافة لذلك على معرفة (الإنسان).
.
ومن خصائصه أنًه (متفلسف)، والكلمة بمعناها الأولي تعني محب الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والحكيم هو الذي يرتب الأشياء بترتيبها الصحيح ليصل إلى نتيجة تكشف الواقع الغائب عن أنظار الآخرين، ما يفصل الحكمة عند صاحبها الحقيقي ومدعيها هو أن النوع الأول يلجؤون إلى صياغة نتائجهم وفق ما تقتضيه الأوضاع، ويجعلون آرائهم طوعًا لرغبة الآخرين، فليس من السهل أن تفقد كل ما تملك بسبب رأي، وعلى هذا الأساس يكون ابداء الرأي بما يوافق الآخرين أسلم طريقة للصعود إلى المكانة المرجوة، والشعور بالأمان في وسط المحيط، بل والحصول على الدعم والتأييد منهم، كما قال زهير: ومن لا يصانع في أمور كثيرة.. يضرِّس بأنياب، ويوطأ بمنسم.
.
أضحى التغيير الذي حدث، كما يصفه برهان غليون*، يمس مفهومنا عن أنفسنا ونظرتنا إلى دورنا ومكانتنا كبشر، ونشأت جراء ذلك مفاهيم الفردية والسيادة، وما تشمله من حرية واستبداد وغيرها، وتبعًا لهذا حدث هناك نزوع نحو التفاصيل وباتت النفس، بحسب وصفه، تحت رحمة «الوعي والشعور واللا شعور والأنا والهو، والسلوك والذهان والعصاب والفصام والعظمة والرمز واللغة والمتخيل» وأعطت لكل شيء تأويلات عقلية ومادية، وفككت إلى أبعد ما تستطيع بنية الوعي والعقل والشعور، بحيث افتقدت العفوية، وأهمها عفوية التعبير عن المواقف، التي تحولت من كونها وليدة اللحظة وتعبير عمّا في النفس إلى طقوس هدفها الإستعراض أمام الناس، أي أنها مواقف تُقدّم كمهرٍ في سبيل بلوغ الغاية. إن خسارة الذات في مقابل مواقف مصطنعة يتم ارتكابها لكسب ود الحانقين هو استغفال لهم، لكنهم لا يشعرون.
.
لقد سأم ابن أبي سلمى، لأنه توصل إلى معرفة حقائق الأمور، واستخبر طبيعتها، واستطاع أن يرتب ما يرى، ويربطه بحيث انكشفت الوقائع أمامه، وأضحى يرى «الزمكان» بكل وضوح، فشرح بأبياته حوادث المستقبل بما حدث في زمنه، وأصبح يرى ما حدث بالأمس يتكرر اليوم، في تكرار رتيب للأحداث. وفي مثل زمنه احتاج إلى ثمانين سنة، وبتنا اليوم لا نحتاج لأكثر من أيام معدودات لنرى الأمور. ولذا لا تموت الحكمة، لكونها صالحة لكل زمانٍ ومكان. هناك من يرى التفاصيل ويعلم جيدًا بما تؤول إليه ولكن حقائقه لا تعجب الناس، فهم غالبًا يكرهون الحقيقة وبالتالي الصراحة، لكونها دائما مؤلمة و لا تلبي طموح هذا الإنسان،(وأكثرهم للحق كارهون)، وهناك من يتقافز عليها ليصنع لنفسه مجدًا بدغدغة مشاعر العامّة. الذين يرون، في الحديث عمّا "يريدون الإيمان به" شجاعة لا يملكونها.
.
المؤسف أنّ أصحاب الحقائق تتراجع أصواتهم، في قبال هؤلاء الذي يحولونها إلى سلالم للصعود على أكتاف الآخرين، لأنهم يعلمون أنه بصعودهم ستتوالى عليهم آيات التطهير، والتنزيه ولا بأس من بعض الضريبة. إن الحكمة رأس كل فضيلة، ولذا قرنت بالصمت**، فمن يعلم أنّ حديثه سيجعل الموجة الهادرة للعامة تخنقه، يفضل الصمت لعلمه بأن الأيام، لن تأتي بشيء جديد سوى أنها ستكشف الحقائق للناس، ولكنهم مع هذا لن يكفوا عن السقوط في نفس المطب، فهي سيرورة بشرية، كما قال هيغل: تعلمت من التاريخ : أن الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يتعلم من التاريخ!
ومن يرى الأمور تتكرر لن يخالف حاله حال ابن أبي سلمى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*برهان غليون، اغتيال العقل، 146-147.
** روي عن الإمام علي عليه السلام: إن الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت ما خلا ذكر الله.