‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد المكتبة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد المكتبة. إظهار كافة الرسائل

26 يوليو 2011

من خلق الله؟



ثمّة اشكالية تبرز حين الحديث عن «الخالق» أو «الرب» حيث يتم تأطير الحديث مباشرة بصفات وماهيّة هذا الخالق أو الرب، والحال أنّ قضية الصفات[1] قضية لاحقة على أصل المطلب، الذي هو اثبات "وجود" الخالق في حدّ ذاته بمعزلٍ عن أيّة مفاهيم (أو تصوّرات) أخرى مرتبطة به، ومن المغالطة محاولة هدم وجود الخالق – عمومًا - بنفي صفاته الكمالية كما يراها دينٌ ما أو نقدها[2]، وعلى الرغم من وضوح أن هذه القضية باتت قضية مسميّات أكثر منها قضية حقيقة ثابتة ومُشّخصة، فتغيّر الاسم لا يغيّر المعنى، وسواء تسمى بالرب أو الله أو الطبيعة أو غيرها باختلاف آلياتها وصفاتها وما يتم اسقاطه من المذاهب والإتجاهات الفكرية المتعددة بناءً على تنظيرها للمسألة عليها، فإنّ وجود قوّة قاهرة[3] أمرٌ لا يُختلف فيه، وهذا ما يُرجع إلى الذهن القول بأنّ ليس اثبات الخالق هي القضية بقدر ما هي بناء معرفة هذا الخالق على أسس سليمة، أو تأسيس الإيمان به على قواعد معرفية صحيحة[4].

إنّ طرق البراهين في الوصول إلى الخالق تنحصر في ثلاثة:
طريق الوجدان، أو ما يُعرف بالشهود، وهو طريق يعتمد على التجربة التي يخوضها الشخص، والإنطلاق من العلّة للمعلولات.
طريق الحس، أو ما يُعرف ببرهان النَّظم[5]، وهو الاستدلال والإنطلاق من المعلولات إلى العلّة.
طريق العقل، وهو طريق الفلسفة وبراهينها المتعددة: الإمكان/ الصدّيقين/ الحركة والتغيّر. 

السعي إلى اثبات الخالق من الطريق الأوّل لا يمكن اثباته وتعميمه لأنه يبتني على مسلّمات شخصية، وتجربة ذاتية يحتاج الشخص أن يعيشها ليعيها، ومن الصعب أن تنقل المعرفة المكتسبة منها إلى الآخرين أو أن تصيغها بصورة قوانين ونتائج ثابتة لا يختلف عليها العُقلاء.

أمّا الطريق الثاني فقد صار ملازمًا للجدال بين المُثبت والنافي، وهو في الغالب محلُّ البحث والإثبات في قضية الإلوهية، فهو يقوم على ركيزتين: الأولى الحِسُّ أي النظام الموجود في الكون من حولنا وسننه وقوانينه والثانية العقل الذي ينتزع هذه المفاهيم ويوظفها في البرهان ليصدر الأحكام على أساسها[6]، وهو الطريق الأقرب إلى الفهم البشري العام فلا يكتفي بمخاطبة عقولهم بل ويمتد لمخاطبة العاطفة و الوجدان كما أنّه قادر على استيعاب تطوّر العلوم الكمّي والكيفي الذي يحدث من حولنا في تدعيم براهينه ورؤيته[7]، وهو بالمحصلة يقود إلى إعطاء معرفة كلية بالله لا معرفة خاصة، أي الإيمان بوجود القوة العظيمة.

ويبقى الطريق الثالث متعسّرٌ على الأذهان البشرية العامّة، لأنه يتطلب عقولاً متمترسة بالمعارف الفلسفية وقادرة على التجريد التام وبناء المعارف استنادًا للمقدمات العقلية البحتة ومن ثمّ فهو مستغنٍ عن الحِسِّ ولا يعتمد إلا على العقل، ويتميّز هذا المسلك بأنه يعطي معرفة خاصة ودقيقة بالمعارف الإلهية المتعلقة بصفات الخالق سبحانه والمسائل المتعلّقة به، وينشئ معارفَ هي أقرب لليقينيات وبالتالي أصعب للنقض، وهو المسار الذي سلكه الشيخ الرئيس ابن سينا والملا صدر المتألهين[8] في براهينهم واستدلالاتهم.

ومن هذه المسالك الثلاثة جرى البناء على اثبات الخالق سبحانه، إلاّ أن تساؤلاً لا زال سابري هذه البراهين يطرحونه على أنفسهم:

كيف لك أن تفسّر الماء إلا بالماء؟!

فمن أصعب ما مرّ على العقول حتى وقفت على أعتابها عاجزة عن سبرها هي البديهيات[9] التي تقطع العقول بها وفي نفس الوقت تُقَطّعُها تبعًا لهواها. فطبيعة الإنسان الجدلية وميله الدائم نحو التساؤل إذا لم يبُنَ على قواعد معرفية صحيحة، ولم يُحكم بآلات العلم والبرهان، ولم تكن النفس مستعدّة للخضوع والإذعان فإنّ لا شيء في الوجود بما فيه «الإنسان» نفسه سيكون قابلاً للتصديق بوجوده، وهو بذاته لن يكون قادرًا على التفريق بين وجوده وعدمه للآخرين.

الإنسان كائنٌ واحد، جمعته أو حوته كلمة (إنسان) لكن إن أردنا شرحها وبيانها لم تعد الكلمة تكفينا فنلجأ إلى «تكثير الواحد» حتى نستطيع أن نوصل المعنى. ليس تكثّر الواحد إلا رؤيته بلحاظات متعددة، فتارة نصفه بالحيوان الناطق، وأخرى بالكائن المفكر، وثالثة بإتحاد النفس والبدن وصولاً إلى استعراض صفاته وطباعه حتى نُفّهم الآخرين ما هو (الإنسان) فقط.

وكلمّا كان هذا الواحدُ بسيطًا، وبديهيًا، كلما ازداد توضيحه وشرحه أو اثباته صعوبةً وتعقيدًا وعلى ذلك يُصبح هذا المفهوم البسيط في ذاته خاضعًا لسيطرة كلمات المنطق والفلسفة وخاضعًا لموازيين الاستدلال والاستقراء والبرهنة فيها، وهي كلها موضوعة حتى لا يكون للعقل حجة في إهماله لنتائجها، ولكون ألفاظها الوحيدة المناسبة لمناقشة هذه القضايا[10].

وعلى الرغم من ذلك فإنّ كثيرًا من الأذهان لا تقبل هذه النتائج، لا لعيبٍ فيها، إنّما لشبهة[11] تنشأ إمّا من نقصٍ طبيعي، أو مرض عارض، أو تربية فاسدة بحسب اصطلاح المناطقة. لذا فإنّ دور البرهان محصورٌ في الإثبات فقط أمّا القبول، والخضوع، والإذعان لهذا الإثبات فهي قضية تقع خارج دائرة العقل، وتنحصر بالنفس التي تريد أو لا تريد الإيمان بها، وكفى.

أخيرًا، ينبغي الإلتفات إلى أنّ للسؤال فنّه وقواعده، ومهما بدا مقبولاً فإنه قد يكون مبنيًا على مغالطة لا يلتفت لها صاحبه، والسؤال الخاطئ لا يمكن أن يُجاب عليه بإجابة صحيحة مباشرة بل لابدّ من توضيح المقدّمات اللازمة حتى يمكن الوصول إلى إجابة ترفع الإشكال، وفي نفس الوقت توّضح المغالطة في السؤال.

ومن هنا، فإنّ هذا البحث الذي تناول بإيجاز شديد، وباقتضابٍ أشد، أحد هذه الأسئلة وهو «من خلق الله؟» يأتي في سياق ذلك، وسار على منواله، وهو بحث حاول قدر الإمكان تبسيط المصطلحات المتداولة وتوضيحها في إجابة السؤال، ومضى على هذا المنهج وليست النصوص الدينية فيه إلا شواهدَ ومؤيّدات فقط لما اتفق الوصول إليه بالمنهج المنطقي الذي سار عليه الكاتب وفق الطريق  الحسّي [الثاني من المناهج المذكورة سابقًا].

وأمّا  التوسع في هذه الأبحاث والمناهج بعمق أكبر، فهو متروك لمحله، ولهمّة الباحث عنها والطالب لها.

والحمدلله ربّ العالمين.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] والحديث هنا عن الصفات من حيث الأديان، بمعنى أننا حين نتكلم عن اثبات الخالق أو الرب فإن الحديث يتجاوز إطار اثباته وفق الرؤية الإسلامية لله، أو المسيحية للأقنوم [الثالوث]، أو اليهودية ليهوه إلى وجود الرب بالمعنى العام.

[2] الاستدلال بنفي الخالق انطلاقًا من فهم المخلوق هو كمحاولة نفي الشمس انطلاقًا من حجب الغيم لها!

[3] الإرادة المتمثلة بالإندفاع الأعمى اللاعاقل نحو الحياة كما عند شوبنهاور، أوالطبيعة التي خلقت الناس ووضعت لهم القابليات ورسمت لهم خطة تطور الحرية عند كانط، وغيرها.

[4] مقدّمة كتاب التوحيد ج1، كمال الحيدري.
[5] وهناك برهان - رياضيّ - آخر هو (دليل حساب الاحتمالات) الذي اثبته الشهيد الصدر في كتابه: الأسس المنطقية للإستقراء. وقدّ لخّص أهم أفكاره في كتيب صغير صدر باسم (المرسل – الرسول – الرسالة).

[6] انظر اشكالات ديفيد هيوم، والإجابة عليها في: الإلهيات، ج1، جعفر السبحاني.

[7] دروس في التوحيد، ج2، مرتضى فرج.

[8] الشيخ محمد بن إبراهيم القوّامي الشيرازي، المعروف بـ الملا صدرا، صاحب مدرسة الحكمة المتعالية.

[9] وهي ما لا يحتاج اكتسابها إلى بحثٍ ونظر.

[10] لا يخفى أنّ لكل فنٍّ مصطلحاته وعباراته التي تغني عن الإطالة والاستغراق في التوضيح للفرعيّات على حساب المناقشة والإثبات للقضية الأساسية، كما أنّ لعالَمِ الطب مصطلحاته التي تعارف عليها أصحابه، ولعالم الأدب مثلها، والفنّ باختلافه، والرياضيات وسائر المجالات الأخرى مثلها وكذا فإنّ للمنطق والفلسفة المختصّان بإثبات ومناقشة القضايا العقلية والمعرفية ألفاظها ومصطلحاتها، ولا يمكن أن يتم تجاوزها حين تتم مناقشة قضية متعلقة بها مثل قضية العلة الأولى (الخالق) ومتعلّقاتها لذا فلا بدّ –أقلاً- من الإطلاع عليها ولو بنحو الإجمال حتى يكون الجواب مناسبًا للسؤال.

[11] الشبهة: هي أن يؤلف الذهن دليلاً فاسدًا يناقض به بديهة من البديهيات، ويغفل صاحبها عمّا فيه من المغالطة. المنطق للمظفر، ج1.

20 يوليو 2010

إنـه الثـمـن

لعل السماء، في مساء ذلك اليوم شديد الحرارة في الكوفة، أرادت أن تعاكس الأرض حتى تعطي درسًا للجميع. بقدر بياض الأرضية الرخامية الملساء، كان اسوداد صفحة السماء، كأنها ستارة مسرح مهمتها الوحيدة حجب ما ورائها فقط. بقيت لساعات أتأمل تلك الصفحة الظلماء، تأمل لم يقطعه سوى وميض نجمة وحيدة يبدو أنها تمردت، فهربت، وبرقت، ثم انتهت.
النقطة السوداء في جسم الإنسان علامة جمال وكمال لأنها حبة خال، والعكس مع السماء صحيح! مقاييس الجمال والكمال التي نضعها لأنفسنا في الكثير من الأوقات تحجب الجمال الحقيقي في العالم الخارجي عنّا، ولا نراه، لأنه جمال لا يخضع لمثل هذه المقاييس.
.
ضوء هذه النجمة، كان ثمنه زوالها. بقيت وحيدة تعلن لنا أن منطقها كان منطق الشمعة، أحرقت نفسها حتى تنير سواد تلك الليلة الموحشة. لزمن يأبى التلون إلا بلون الباذلين فيه. إنها أبت ترك الستارة الدهماء تمر عليها مرور الكرام وتتخطاها لتحجبها دون أن تعارضها وتستوقفها، حتى وإن انتهت تلك النجمة، وأعلن نورها الواصل إلينا وفاتها، ليسطر في سوق الذاكرة مشاعر الفرح والسرور عندي، لأنّ شيئًا ما، قال في يوم من الأيام .. لا .. ثم أثبت موقفه بأن اخترق جدار الظلمة، على حساب بقائه.
.
لكل شيء في هذه الخليقة ثمن، يقل أو يكثر، يزيد أو ينقص، لكنه يظل ثمن يجب دفعه. قد لا تعتبر الأثمان في بعض الأحيان متناسبة مع المثمن، ولعل ذلك يعود إلى أنّ الثمن وضع متناسبًا مع أشياء نجهلها، ولا نراها، ولا نعلم قدر الجهد الذي بذل فيها. كالعادة نجنح إلى الحكم السريع على المظهر النهائي للأشياء ونتناسى الآلية الطويلة التي مرت بها حتى تصبح على هذا الشكل.
.
إلى أي درجة قد تصل القدرة على التضحية؟
لا أظن أن تلك النجمة هي مجرد حادثة عابرة تمر مرور الكرام، ولا أعتقد أنها كانت عبثًا، لكنها أرادت إرسال رسالة، وإعطاء إشارة، بأنّ «الغبن لا يلحق أحد إذا دفع غاليه فيما يستحق». هي عبرة لنا بني البشر، قليل هم الذي يلتفتون لها في خضم الحياة. معتركها يفرض على الإنسان أن يجعل من الفضائل أشياء ثانوية. قال أفلاطون لسقراط «إنّ ما يكوّن فضيلة الرجل هو أن يكون ما ينبغي أن يكون..»، ومعظم الناس ليس كما ينبغي أن يكونوا!
.
تفرض الحياة عليهم مساراتها، وتقيدهم لمجاراتها. فتُكتم الحقائق خوفًا من الفضيحة، وتجمّل الوقائع هربًا من الحقيقة، ويخدع الناس أنفسهم بأن الوقت ليس مناسبًا لتصفية الحسابات، وزمن الإنشغال بنقد المخطين، وتحطيم أساطير الخادعين، سيأتي لاحقًا حين ننتهي من (الأولويات). على غلاف "ساحرة بورتوبيللو" يقول كويلو: «الناس يوجدون واقعًا ليصبحوا من بعدها ضحايا لهذا الواقع الذي أوجدوه..» وهذه هي باختصار قصة هذه الأولويات التي لا تنتهي.
.
يتصور الكثيرون امتلاكهم للقدرة على النقد السليم، وعلى الإرادة للاعتراف بما هو خطأ، والإذعان لما هو صحيح، بكلمة أخرى، يلقنون أنفسهم القدرة على الإيمان بالحقيقة، ويتصورون أنهم وصلوا للحقيقة المطلقة، في الغالب هم توصلوا لما يتصورونه حقيقة، لا للحقيقة بذاتها. وتراهم يدافعون باستماتة عن هذه الحقيقة، وفي قرارة أنفسهم يعلمون أنهم يدافعون عن تصوراتهم الذهنية، وميولهم النفسية. أحدهم في يوم من الأيام اعتبر نفسه وصل للحقيقة ومضى يثير التساؤلات حتى يستميل الناس لها، أذكر أنني سألته سؤالاً، بعد إجابته قررت الاكتفاء بالإبتسام وتركته ليغرد بأحلامه التي اعتبر بها نفسه على المحجة البيضاء(!). ليس عجبًا أن يقضي بيكون حياته في التحذير من الوقوع أسرى للعقل،الموجود المفترض أن يكون أسمى ما فينا. إنّ الحقيقة مرّة بمرارة الدواء: شر لابد منه. وعلى قدر تقبّل مرورتها يكون الإقتراب من الإعتقاد بها، وعلى شدة محاربتها يكون الإبتعاد عنها، وكم من محارب لها وهو لا يعلم فعقله أسير لهوىً أمير!
.
ما بين الأحلام والحقائق، خط رفيع، بسماكة الجفن. والناس غالبًا يفضلون الأولى، فهي تبرر لهم سلوكياتهم وآرائهم وتجعلهم يتآلفون مع أخطائهم فلا يشعرون بجرمها، وبمرورتها، بينما تقتضي الحقائق ذلك لأنها تمثل الواقع والإنسان بطبعه يحب أن يهرب من الواقع إلى الخيال دائمًا .. فخلع على النوم ثياب السلطان!
.
«دافعتي أكبر من جاذبتي .. !» كانت احدى الجمل الإعتراضية منه عليّ أثناء نقاشي معه. وبعد أن قرأت الرواية، عرفتُ (لماذا) بصورة أفضل. فالصياد يعي الماء أفضل من السمكة.
.
فيما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام «إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه»، وليس من إدبار أكبر من أن يتم تنميطك و تصنيفكلمجرد أنك كتبت وقلت وتحدثت عن أشياء يرفض الآخرون الإعتراف بها، عن أمور يفضلون وضعها تحت السجادة والإدعاء بعدم وجودها، ويستحسنون تأجيلها إلى ما لا نهاية، وعن قضايا يعتبر الحديث عنها في مثل هذا الوقت محرمًا لأن هناك قضايا أهم وأكبر، قضايا حسب الظاهر- لم ولن تنتهي أبدًا.
.
لماذا يعتبر الناس الحديث عن (المسكوت عنه) جرمًا يسبب الضعف؟
بينما هو سبب القوة، فلا أفضل من أن تجعل كل شيء في مقامه. هذا السكوت هو الذي يغذي الأوهام، ويجعل الاحلام بمثابة الحقيقة، ويصبح مثل أولئك الحالمون مصيبون، وأنهم أصحاب الحق وحده، لنرى أنفسنا فجأة نعيش في غابة من الأصنام الفكرية والذهنية نمت وترعرت بماء السكوت وتربة التأجيل وهواء المصالح.وإن حاولت يومًا تبيان ذلك «استضعفك القوم وكادوا يقتلون» بأقلامهم وألسنتهم وأفعالهم وكلماتهم. باختصار مؤسف هذه هي مسيرة البشرية وسيرتها، مثلما فعل بنو إسرائيل مع هارون!
.
الثمن لا يدفعه الباذلون فقط، إنما يدفعه حتى أولئك الذين يرون ما لا يراه الآخرون، والذين يصرون على أن يكونوا كما ينبغي أن يكونوا، لا كما يريدهم المجتمع، أو تفرضه عليهم الحياة، الذين لم يحترفوا لعبة التنازلات، أو يشتغلوا بالشعارات، وانتهوا بتحوّلهم إنعكاسًا للآخرين، يدافعون عن أصنام أذهانهم وينسبون لها كل محاسن الآخرين. هذا هو نفسه الثمن الذي دفعته تلك النجمة حين تمردت على سواد الليلة، ورسالتها: من أراد شيئًا فعليه تحمّل ثمنه، وإن كان غاليًا .. مكلفًا.
.
ثلاثية لم يكتبها أديب مشهور، ولا تخلو من نقد، لكنها تستحق الاحترام والإشادة، لأنها أتت في زمن فيه «رحل (عالم ثائر) وجاء (جاهل تاجر)..
عندها خاب الرجاء، وانقطع الأمل، وضاع الجنيُ، وتلف الحصاد، وأعصفت به الريح في مهبها.. فهدر الثمن!
»
لتعلمنا كم هو غالٍ هذا الثمن.
شكرًا .. عباس بن نخي، ولما خطته يمينك في (الثمن).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة هي غلاف رواية ( ثلاثية الثمن ) لـ عبّاس بن نخي.

4 مارس 2010

من هو النبي؟ وما الذي حققه؟



يمثل اليوم انقلابًا في تاريخ البشرية، حيث أصبح رمزًا، وذكرى لحدث هزّ الإنسانية على صعيد المعرفة، والحضارة، والأهم من ذلك على صعيد فهم الإنسان لذاته، والغاية من وجوده.


اليوم هو ذكرى ولادة خاتم الأنبياء، وسيد الرسل، محمد صلى الله عليه وآله.


كان يدور في ذهني موضوع عن قاعدة فلسفية جميلة، تقدم إجابات كثيرة عن هذه الشخصية العظيمة، ولكن قلة الوقت، وإزدحام الأعمال سلبا كل الإمكانيات للكتابة، وهو شيء على قدر الإحباط الذي أوجده في نفسي، أسعدني في أن أستخلص كلمات مقتضبة تتناول شيئًا مما يتعلق بصاحب هذه المناسبة صلى الله عليه وآله وسلم، أراها تمس، وإن كان بشكل غير معمق، قضية مصيرية يتفاعل معها كل شخص.


تكون الكتابات تارة عميقة، مدعمة بالشواهد والأدلة، فتنعدم معها كل الحاجة لاعمال العقل البشري في البحث والتنقيب، والتساؤل، وتارة أخرى تكون بسيطة، ولشدة بساطتها تشكل وخزات تحفز الذهن لأن ينطلق في البحث والتدبر حتى يقف على الحقيقة، وهذا هو المرجو، ويخيّل إليّ أن هذه الكلمات منها.


قد تختلف المناسبة التي قيلت بسببها هذه الكلمات، مع المناسبة الآن، ولكن كما يقول الأصوليون (ملاكهما) واحد، أي أنهما يدوران حول نفس المحور.


أسعد الله أيامكم بمولد النبي الأكرم والرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


ويتزامن معه، مولد حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.


وبهذه المناسبة، أهديكم هذا المقتطف البسيط:


اضغط هنا للحصول عليه

23 سبتمبر 2009

الصـعود إلى الهـواء

الصعود إلى الهواء.
الحوت سمكة أم حيوان ثدي؟ السلحفاة ما هي؟ الفقمة؟ البطريق؟
لا يهم تصنيفها، كلها لا تستطيع الإبتعاد عن الماء، ولكنها كلها تضطر للإبتعاد عنه! إذا استمرت طويلاً تحت الماء تختنق، ثم تنتهي. إذا استمررنا نحن مع النّاس، نختنق و ننتهي! و لكن ليس بالموت كهؤلاء، إنما نصبح أرقامًا على هامش الوجود، كنّا في يوم من الأيام ذوي كيان، و اليوم لاكنّا و لا كيان سوى أننا نعيش حياتنا على انتظار للنهاية المحتومة، نعيش للانتظار أكثر مما نعيش لأننا أحياء.
.
نعيش كالحوت في محيط الحياة، لا نستطيع أن نركن أنفسنا خارجها، لأننا مجبرون على الغوص داخلها، و مابين هذا و ذاك .. نصعد بين الفينة و الأخرى إلى السطح، في لحظات بسيطة، كما يصعد الحوت ليقتنص الهواء، لنقتنص نحن الحياة!
ثم نعود مجددًا لنشّخص أبصارنا نحو الإنتـظار، ونحن في الأعماق.
.
هناك أشخاص « تكمن موهبتهم و متعتهم الأساسية في الحياة باستباق وقوع المصائب الصغيرة فقط لأنها لا تهتم بالكبيرة كالحروب و المجاعات و الزلازل و الأوبئة و الثورات، فكل ما يهمها هو أسعار الزبدة المرتفعة و فواتير الغاز الضخمة و أحذية الأولاد البالية .. »
مجرد تذمر يومي، لأنّ ما اهتم به يختلف عمّا يهتم به الناس حولي. ليس من السهل أن تشعر بأن حياتك وصلت إلى مرحلة لم يعد لها فيها أي معنى، لحظة تشعر بنفسك معلقًا بالمنتصف، ما بين الأعماق، و ما بين السطح.
.
أعماق حياتك اليوميّة : مشاغل الحياة، مشاكل الأولاد، ظروف العيش، قلة الوقت، تعاسة الموظفين حولك، و تسلط المسؤول عليك، ثم تقف لتسأل: إلى أين تتجه هذه الدولة؟!
.
كل ما حولك يجمد، و هو يسمع هذا السؤال، من يسأل عن دولة، وسط الإنشغال بتربية الأولاد و البحث عن أرخص سوبر ماركت، و أوفر عرض سفر، و تعداد أيّام الإجازة؟
.
« تكمن المشكلة الرئيسية في وهمنا بأننا نملك شيئًا قد نخسره ..»، و الحقيقة أننا لا نملك شيء!
نملك ذكريات، و نملك أبدانًا، كانت فيما مضى تحمل مشاعرًا و لكنها اليوم أصبحت لا مبالية، طرأت على بالي الكائنات التي ذكرتها بأول الموضوع: لماذا كلها سمينة؟
« افترض أن شخصًا له حدبة أو هو أحول او بشفة [ أرنبية ] هل يجوز أن نناديه باسم يذكره بعيبه دائمًا؟
لكن مع الرجل البدين يصبح الأمر بديهيًا و اللقب طبيعيًا!
»
و لهذا « يصفعه الناس على قفاه آليًا و يقرصونه تحت الأضلاع » لأنهم يعتقدون أنّه يحب ذلك.
.
« أشك بان الرجل البدين منذ ولادته و تعلمّه المشي بأنه يعرف العواطف الحقيقية العميقة، إذ كيف يمكنه ذلك وهو بلا تجربة في هذه الأمور، و لا يمكنه التواجد في المشهد المأساوي لأنه يعيش دائمًا في المشهد الهزلي، فهل يمكن تخيّـل هاملت بدينًا؟ أو أوليفر هاردي يمثل دور روميو؟»
.
و لكننا نعتاد على الأشياء مع مرور الزمن، فالنساء ليسوا بأحسن حالاً، متعجبًا تتساءل «لماذا هنّ هكذا، و كيف يصبحن، و هل يفعلن هذا عن سابق تصميم و تصوّر؟ فتبدو لي السرعة المفاجئة التي تتحطم بها النساء جسديًا و معنويًا بعد الزواج مخيفة جدًا، و كأنهنّ متماسكات و مخصصات لعمل شيء واحد فقط، و بعد إنجازه يذبلن كالزهرة التي تطرح بذورها. »
.
هكذا، تـتـناسى هذه التساؤلات حين تبقى معلقا بالهواء .. تراها تبتعد عنك شيئًا فشيئًا، لم يعد سعر الزبدة مهمًا، لا يهم شكل زوجتك، كما أن كل خطابات السياسين تصبح مجرد ضوضاء!

تبحث عن السطح لتستنشق منه الهواء، طـال مكثوك بالأعماق هذه المرة حتى بدأت تفقد الإدراك بأنك تتنفس برئة لا بخياشيم حتى الآن.. غريب هو الهدوء داخل الأعماق، هـدوء و لكنه يحمل التوتّر بين جنباته، ليس كنوع الهدوء الذي تبحث عنه .. حين تكون على مرمى حجر من الإستسلام للأعماق، تتذكر السطح فتهرع إليه..
.
تصعد إلى الهـواء: الهواء النقي فوق السطح، و ليس المذاب في الماء، في هذه الحالة، الصعود للهواء هو عودة للذكريات، تبعد عنك صورة الذين « يتحملون الذل لأنهم خائفون » أو أولئك الذين « يطلبون منك أن تهينهم، لانهم يطيعون الأوامر، و مبدؤهم الزبون دائمًا على حق »، هذه الذكريات « فجأة تسبح في ذهنك دفعة واحدة كأنك صحوت من النوم» تدفعك دفعًا لأن تحاول السير على خطى الماضي، تحاول إعادة إحياء طفولتك مجددًا، لعلّك بذلك تلقي ثقل المسؤولية، و ضغوط الأعماق عن كاهلك: هذا هو صعودك للهواء.
.
لحظة تتجمد فيها كل الأشياء، لتبقى انت و ذكرياتك، إما تجلس لتستذكرها في منزلك ليلاً، و إما أن تهرب من محيطك لربوع طفولتك تحاول تتبع آثارها، أو أن تتخيلها بعد أن تعيد رسمها مجددًا، هنا كان والدي، هناك جلس عمّي، و في تلك الزاوية شاهدت أمّي، و على تلك البقعة اصطدت أول سمكة، أو هكذا أحب أن أتخيله لأنني لم أفلح أبدًا باصطياد سمكة!

في هذا المكان رفضت أن أدخل هذه الكليّة، و هناك قابلت زوجتي للمرة الأولى.. ماذا لو لم أقابلها؟ و كيف سيكون وضعي لو تزوجت ابنة جارنا التي عشقتها؟ أو فضلت الدخول للكلية بدلاً من العسكريّة؟ أو ربما أن أبقى في نفس البلدة التي ولدت بها لأكمل سيرة عائلتي بها؟
.
لم تعد هناك أماكن آمنـة، رغم أنك « عندما تسكن في بيت مثل بيتنا و ترزح تحت عبء زوجة و أولاد، يصبح من المستحسن الخروج إلى جو العزوبية حيث لا تشعر بأهمية شيء سوى الكتب و الشعر و التماثيل الإغريقية، إذ لا شيء يستحق الذكر منذ أن غزا القوطيون روما. يا لها من راحة! »، مع هذا، حتى من يمنحوك هذا (الـوهم الآمـن) من الأصدقاء، بمرور الوقت يتحولون لأحد أنواع (العبء) المُلقى على كاهلك أيضًا.. فتحتاج للهرب منهم.

.
ولكن ماذا بعد أن تحاول إعادة إحياء ذكريات طفولتك، بعد أن تجاوزت تلك الفترة منذ زمنٍ بعيد، أو أن تحاول أن تكتشف أو تستكشف الإجابة عن تساؤلاتك عن حياتك.. لوهلة تظن أنّك وصلت للسطح، و بدأت باستنشاق الهواء النقي، عندها يتملكك « شعور يمكنك من رؤية الأشياء الهامة بمنظور أفضل. و هكذا أدركت بأنَّ كل الأشياء التي كنت أشك في صحتها أصبحت أكيدة الآن »
«هل يمكن العودة إلى الحياة التي عشناها سابقًا أم هي ولّت إلى الأبد؟
حسنًا، لقد حصلت على إجاباتي، لقد انتهت الحياة القديمة نهائيًا، و عملية البحث عنها مضيعة للوقت.
»
.
فتقرر الرجوع للأعماق، بعد أن تركت السطح للمرة الأخيرة!


* * * * * * * *

جميـع الإقتباسات بين الأقواس هي من رواية «الصـعود إلى الهـواء» لـ جورج أورويل.
رواية كتبها، وهو ينتظر نشوب الحرب العالميّة الثانية، ليصف حالة الخشية و الخوف و الترقب التي تدفع الإنسان إلى أن يحاول الهرب منها بعودته لذكريات الطفولة.
كلنا، نمر بمثل تلك المشاعر و الهواجس بدءًا من شكل أسناننا و أجسامنا إلى التساؤل عن صحة القرارات التي اتخذناها طوال حياتنا، و تصل حتى لما نعتبره ' ثوابتًا ' فيها، ولكن قلة منّا من يقررون معرفة :
هل يمكن إعادة الحياة القديمة؟ أو إعادة تشكيل الماضي؟
أحدهم كان جورج بولينغ، الرجل الأربعيني، بطل هذه الرواية.

10 يوليو 2009

حلم 1984 الجميل .. و إلى اللقاء!


أغلب الظن أن هذا الموضوع سينشر و أنا متوجه إلى ما أجلته و أخرته حتى لم يعد هناك مجالٌ لمزيد منه!
.
الحياة مغامرة،و لهذا أحيانًا يكون من اللازم أن يخوضها الإنسان دون اعتبار لمخاوفه ،و دون أي إعداد مسبق لما سيواجهه، لأن ذلك سيفقده عفوية التجربة و يجعلها عرضة لفقد متعتها.
.
لا تكمن المتعة بتحقيق الهدف من التجربة دائمًا، مجرد خوضها في بعض الأوقات يكون كافيًا لأن تصبح منجمًا للتجارب المفيدة، قد تنتهي بما أريده – إن شاء الله – و قد لا تنتهي في كل الأحوال هي شيء يعيد للحياة بعض رونقها الذي افتقدته بعد أن أصبحت أحداثها تسير كالمسطرة وفق إعداد مسبق و توقع لكل شيء قادم.
.
بعض القرارات اهميتها نابعة من كونها "قرارات متسرعة" يتطلب تنفيذها سرعة أكثر من سرعة اتخاذها لأنها تكون في مسار الوسط بين مضارها و فوائدها و لولا التسرع بقرار خوضها ،لحكم العقل بعبثيتها و ابتعد عنها فخسر كل فائدة ترجى منها.
.
هذا القرار الذي اتخذته أتوقع أنه يندرج تحت هذا التصنيف،و لكن كما قلت هي مغامرة و على غير العادة لم أتعب نفسي بحساباتها و لأول مرة أترك رياحها تأتي لتقذفني في غمراتها دون مقاومة ، أتت لتحبسني في عزلتها و تضعني رهينة لنتائجها، بناء على ذلك أراكم بعد 40 يوم إن شاء الله و أنا كلي أملٌ و رجاءٌ بدعائكم.
.
الزميل عدو راعي القحفية المشهور بـ الحلم الجميل كتب في مدونته مراجعة لرواية 1984 و هي رواية ظللت ألاحقها لشهور طويلة حتى حصلت على نسخة إنجليزية منها من مكتبة خارج الكويت لأتفاجئ بان الحلم الجميل قرأها معربة بعد أن اشتراها من قلب الكويت!

حــظ !!
.
على كلٍ و لأنني ساعة كتابة موضوعه كنتُ قد بدأت قراءتها فقد وعدته بكتابة رأيي فيها ، و لكن نزولاً على طلبه و تحقيقًا مني لحلمه الجميل قد جعلت قراءتي للرواية في موضوع منفصل بمدونتي حتى لا يصنفني بخانة الأعداء مع راعي القحفية.
.
كما ذكرتُ في مدونته (هنا) فقد تفاجأت بأن الرواية تحتوي على تعقيب لـ إريك فروم عالم النفس الأمريكي، و لأنني لحظتها كنت أقرأ كتابًا آخر له شدني فيه طريقة تحليله لمدرسة فرويد التحليلية في علم النفس فقد قررت أن أقوم بترجمة تعقيبه على الرواية للعربية*، و هذا ما فعلته و أضفت بعد ذلك تعقيبي الشخصي ليخرج التعقيبان على هيئة كتاب إلكتروني صغير أو بالأحرى كتيب إلكتروني.
.
حتى ذلك الحين عندما أعود بإذن الله سبحانه ، أترككم مع هذا (الكتيب الإلكتروني) الذي جعلته بصيغة pdf حتى يمكن قراءته من خلال Desktops ,Laptops , Pocket pc.'s
and any other device that can read pdf files
.
في هذا الكتيب عدة محاور مستنبطة من رواية ( 1984 ) لـ جورج أورويل، و بإمكانه باعتقادي أن يقدم أساسًا لفهمٍ أفضل للرواية بناءً على القراءة التي ترجمتها لـ فروم و ما كتبته من وجهة نظر شخصية لما عبّر عنه أورويل في روايته.
.
سيسرني جدًا أن أرى ردود الفعل على ما هو مكتوب في الملف سيما و أنه يناقش قضايا بعضها تمس حياتنا اليومية.
.
ملاحظة أخيرة أذكرها هي أن الرواية و تعقيب فروم كتبا قبل قرابة 50 سنة ، ملاحظة البُعد الزمني ستفسر بعض القوالب التي يطرحها الإثنان و لكن هذا لا يضر أبدًا بـ(الفكرة الرئيسية) التي لم و لن يتجاوزها الزمن، و رغم مرور 25 سنة على تصور أورويل للعالم في ( 1984 ) إلا أن ذلك لم يؤثر أبدًا على روعة ما كتبه بها حتى في هذا الوقت.
.
بإمكانكم تنزيل الملف من خلال احد هذه المواقع :
4Shared
2Shared

M5zn
Direct link
.
أراكم على خير إن شاء الله، و أسألكم الدعاء.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* و أرجو المعذرة في حال وجود أي خلل بالترجمة ، فهذا أقصى ما يمكن لمناهج Fran & Stan أن تصنعه فيني:)

4 أبريل 2009

كسر أصنام الجاهلية





بما أنّ المكتبة في المدونة تئن من قلة المشاركة ، فآن أوان الإلتفات لها قليلاً.
في الأيام الأخيرة أصبحت عندي فسحة لا بأس بها لإعادة المطالعة و القراءة و الإلتفات للكتب الكثيرة المرمية عندي ، فقررت إعادة تنظيم المكتبة قليلا ( بما أنّ ترتيبها مستحيل نظريا و عمليا ) ، و بدأت بقراءة بعض الكتب و الأبحاث التي أهملتها سابقًا ، منها الكتاب الذي سأتحدث عنه اليوم.

.
اسم الكتاب : كسر أصنام الجاهلية ( و في الطبعة الحديثة زيد على العنوان " في الرد على الصوفية" ).
المؤلف : صدر المتألهين الشيرازي [1]
المحقق : حسين الطقش

و الكتاب هو إعادة إحياء لهذا التراث المنسي ، فهو قد طبع مرة واحدة سابقا سنة 1961 ، و هذه المرة أعيد تدقيقه و طباعته تحت إشراف ( معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية و الفلسفية ).

الكتاب لا يناقش قضية الإعتقادات أو المذاهب و قد يُفهم ذلك من عنوانه ، بل يناقش قضية ( الصنمية ) ، و هي كيف يخلق الإنسان لنفسه أصنامًا تكبله عن سلوك مدارج السالكين العارفين ، هذه الأصنام التي شبهها الملا رحمه الله بأصنام الجاهلية التي كبتلهم عن توجيه عبادتهم لله سبحانه ، و جاء ذكر الصوفية من باب ما اشتهر في زمن المؤلف من إدعاء التصوف و الحكمة و المعرفة و العرفان من قِبل بعض الجهلاء كما بيّن المصنف في مقدمة كتابه و هم في حقيقتهم أبعد الناس عن هذه الامور ، يُعتبر هذا الكتاب من أوائل الكتب التي ناقشت و فرّقت بين العرفان و بين التصوف ، بين من سماهم صدر المتألهين « الذين تشبثوا بذيل ناقص في العلم و العرفان ، قاصر مثلهم في العمل و الإيمان و مع ذلك ادعوا علم معرفة و مشاهدة الحق الأول ، و مجاورة المقامات عن الاحوال و الصول إلى المعبود و الملازمة في عين الشهود و معاينة الجمال الأحدي و الفوز باللقاء السرمدي و حصول الفناء و البقاء .
و أيم الله أنهم لا يعرفون شيئا من هذه المعاني ، إلا بالأسامي و المعاني ...
»

.
و بين أهل العرفان الذين عرفوا الله بالعقول و اتبعوه وفق شرائعه ، كما : «.. أنه لا يجوز و لا يتيّسر للإنسان متى كان مقصرًا في العبادات الشرعية أن يتعرض بشيء من العبادات الحكمية ، و الرياضيات السلوكية و المجاهدات التصوفية ، و إلا هلك و أهلك ، و ضل و أضل و غوى في غيابت جب الهوى»

.
الكتاب كُتب بلغة مسجعة جميلة اشتهر بها الفلاسفة و أهل العرفان إلى اليوم ، رغم ذلك فإن مفاهيم الكتاب يُمكن الوصول إليها من قِبل أي قارئ حتى مع كثرة المصطلحات الفلسفية و الفقهية و غيرها المذكورة في الكتاب ، لأن محققه قد قام بعمل جبّار في تعليقه و شرحه و تحقيقه لكثير مما ورد في الكتاب ، و قد اختصر الكتاب في قوله : « يحمل المؤلف في أكثر من موضع على أولئك الذين تظاهروا بالمعرفة وادعوا الإحاطة بالشرع، أو نبذوا العقل والشريعة جانباً، بدعوى عدم إمكان المعرفة بشيء وأن المعرفة هي الحجاب.. هذه هي رسالة الكتاب الرئيسية، وهي تعتبر الأساس لكل نزعة صوفية عرفانية صحيحة بنظر المؤلف »

.

ينقسم الكتاب إلى أربع مقالات :
المقالة الأولى (لا رتبة عند الله عز و جل أجل من المعرفة بذاته و صفاته و أفعاله و أن العارف هو العالم الرباني و أن كل من هو أعلم فهو أعرف و أقرب عند الله )
المقالة الثانية ( في أن الغاية من العبادات و المجاهدات هي تحصيل المعارف الإلهية)
المقالة الثالثة ( في ذكر صفات الأبرار و العاملين الذين درجاتهم دون درجات المقربين )
المقالة الرابعة ( في مواعظ في ذم الدنيا و أهلها )

.
و تحت كل مقالة هناك تفريعات عديدة ، يُمكن أن يصنف الكتاب من خلالها على أنه كتاب أخلاقي قبل أن يكون كتابا يناقش قضية ( الدين ) و ممارسته و شعائره ، و ما يقوم به بعض من يتمسحون بمظاهره في التكسب به ، و كذلك يُعتبر كتابًا فلسفيًا يتحدث عن الإنسان و صفاته و عوارضه من العشق و الحب و الأفعال و الأعمال ، و مبادئ الأفعال الأخلاقية -التي هي موضوع لازال مطروحا إلى اليوم منذ فلاسفة الإغريق إلى فلاسفة الغرب كرسل و هيغل و هايدغر و غيرهم .
.
حين يتحدث عن المادية مثلاً (رغم أنها حديثة ) يقول كما في ص 58 :
« إن النفس إذا عُميت عن أمر مرجعها و عالمها ، و خفي عليها معرفة مبدئها و معادها ، اشتغلت عند ذلك بالمحسوسات ، و استغرقت في بحر الشهوانيات ، و نسيت ذاتها و توهمت أنه لا وجود لشيء إلا للحسيات ، و لا اعتماد إلا على المشاهدات ، التي ينالها الحواس الظاهرة من الدنيويات ، و لو توهمت امور الآخرة لتوهمتها بعينها كالدنيا و زهراتها و شهواتها على وجه أدوم و ألذ و أوفر ، فلهذا يركن بحسب طبعها إلى الدنيا و يرضى بها و يطمئن إليها ... إلخ»

.
و حين يتحدث عن أفعال العباد و كمالاتها يقول في ص 150 :
« فإن سعادة كل احد هو عبارة عن إدراك ما يلائم ذاته ، و يوافق طبعه . و الملائم لكل شيء ما يكون مقتضى خاصيته ، و يكون به كماله.
و لهذا يكون لذة الباصرة [ العين] في إدراك الصور الجميلة ، و بذلك يحصل كمالها ؛ و لذة السامعة [ الأذن] في سماع الأصوات و لذة الشهويّة في طلب اللذائذ الحسيّة ، و لذة القوة العقلية في دفع الكريه الحسي بالإنتقام ، و لذة القوة العاقلة النظرية في إدراك حقائق الموجودات و نيل دقائق المعقولات ، و الإتصال بعالم المفارقات[2] . إذ به يحصل مقتضى خاصيتها و يتحقق كمالها و غايتها و تعاملها.
و لاشك أن أجّل المعقولات و أشرفها ذاتًا هو ذات الحق الأول [ الله سبحانه و تعالى] ، فيكون ألذ الأشياء عند العقل ، و ذلك لأن المطلوب كلما كان أكمل ذاتًا و اظهر تحققًا ، يكون إدراكه ألذ و أبهى
»
و في الجملة الاخيرة إشارة لطيفة إلى حقيقة ما يُمكن ان يسمى إدراكًا للإنجاز.
.
  • تعليـق أخيـر :

الكتاب بمجمله لطيف و جميـل للمهتمين في مثل هذه المسائل ، خصوصًا أنه يناقش قضية نعاني منها الآن من حيث كون الكثيرين اتخذوا الدين مطيّة لغاياتهم و أهدافهم و انخدع الناس بهم بينما هم يفتقدون لأبسط الكمالات الاخلاقية و الدينية لذلك يجب الإنتباه لهم و الوعي بهم ، هناك بعض الملاحظات عليه و لكن هذا ما يذهب إليه الملا صدر المتألهين ، بان قياس الناس لا يجب أن يكون بأسمائهم و صفاتهم و أشكالهم حتى يؤخذ قولهم بتمامه و لا يُرد عليهم ، فهذا نوع من الصنمية التي يصنعها الإنسان لنفسه ، بل يجب ان تكون الغاية (المعرفة) و منها يُقاس كل شيء ، سيما في الدين ، كما قال الإمام علي عليه السلام : اعرف الحق تعرف أهله.
أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام : من دخل الدين بالرجال ، خرج منه بالرجال .. .


ملاحظة : الكتاب اشتريته من معرض الكتاب الأخير في الكويت.

و يُباع في النيل و الفرات و غيرها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صدر المتألهين الشيرازي : المعروف بـ الملا صدرا ، محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي عالم و فيلسوف إسلامي، كان أول من جمع بين فلسفة أفلاطون و أرسطو بمدرسته التي سماها بمدرسة الحكمة المتعالية و شرحها بأهم كتبه و هو : الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية أو ما يعرف بكتاب الأسفار.
له كتب و شروحات عديدة على الفلاسفة و الحكماء ، و الروايات.
توفي سنة 1050 هـ / 1640 م في البصرة أثناء عودته من الحج للمرة السابعة.
[2] عالم المفارقات معناه العالم اللا مادي ، أو العالم الذي لاتوجد به المادة و الصورة و غيرها ، و يسمى بعالم الأمر ، إذ يكفي في إيجاده أمر الله سبحانه و تعالى.

10 سبتمبر 2008

كويليو و شيطان بريم !

.
علاقتي مع الروايات مثل علاقة والدتي حفظها الله مع الحلويات ، و لمن لا يعرفها فهي تجيد صنع اللقيمات و لكنها لا تستسيغ طعمها !
.
عشقت في طفولتي أغاثا كريستي فقرأت رواياتها كلها ، ثم عشقت أرسين لوبين فغصت في بحره ، ثم حبوت في عالم روايات الكبار مع جرجي زيدان ، ذلك الفذ في روايته النادرة " غادة كربلاء " مع هذا فلم أكن في يوم من الأيام نهمًا باتجاه الروايات بل فضلت اتجاهات أخرى ، اتجاهات أخذتني لموارد كانت و لا زالت تجذبني و لكني معها أمسيت كمن قال فيهم الشيخ الرئيس ابن سينا - و النقل بالمعنى عن ذاكرتي التعيسة -: لا تناقش هذا الذي كل يعرف كل شيء عن شيء واحد فلن تغلبه ، و لكن ناقش هذا الذي يعرف شيئًا عن كل شيء فستغلبه .
.
معرفتي بـ " باولو كويليو [اضغط] " قصيرة ، بدأتها مع " الخيميائي " حين اشتهرت و لم تعجبني كثيرًا ، و لكن أصريت على توطيد العلاقة مع " الزهير " فأثارت اعجابي ، و لكني وقفت لأصفق و أنا أقرأ " الشيطان و الآنسة بريم " .. رغم أن كويليو لم يأت بجديد ، و لم يطرق بابًا تركه الأولون بل سبقه فيه الكثيرون ، و لكنها صياغته لهذا الباب تستحق الثناء .
.
في الشيطان و الآنسة بريم يناقش كويليو قضية محورية ذُكرت كثيرًا في مكاتبات الفلاسفة و عُلماء الكلام : وجوه الشر .
هل الشر أصلٌ في الإنسان أم هو طارئٌ مكتسب ؟
.
لن أناقش الرواية ، فلست في هذا المجال .. و لكني هُنا أنقل كما هي عادتي في الكتب التي تعجبني أنقل مقتبسات تحت عنوان التأملات ، لعلها تلامس هوىً في غيري كما لامست فيَّ .
A
ـــــــ
" تقول شانتال [ بطلة الرواية ] و هي تسر في نفسها : يا للأغبياء ![ سكان القرية الريفيون ]
إنهم لا يدركون أنه في كل مرة يُدني فيها شخص ما ، في مكانٍ ما ، شوكة من فمه إنما يفعل ذلك بفضل أناس من طينة أهل بسكوس [ القرية] الذي يكدون من الصباح حتى المساء بلا كلل ، حرفيين كانوا أم مزارعين أو مربي مواشي إنهم ضروريون للعالم أكثر من كل سكان المدن الكبيرة و مع ذلك يتصرفون أو يعتبرون أنفسهم مثل كائناتٍ دُنيا ، معقدة و غير مفيدة . "
.
B
ـــــــ
" إنَّ للخير و الشر وجهًا واحدًا ، كل شيء يتعلق باللحظة التي يلتقيان فيها بالكائن البشري ، و هو في طريقه . "
.
C
ـــــــ
" إنَّ لعب دور النفوس الرحيمة هو أمر جيّد فقط لأولئك الذين يخشون الاضطلاع بمواقف في الحياة .
إنَّ إيمان المرء بطيبته الذاتية أسهل عليه دائمًا من مجابهته للآخرين و كفاحه من أجل حقوقه الشخصية ، و إنَّ من الأيسر دائمًا أن نتلقى الإهانة من أن نملك الشجاعة لمجابهة خصم أقوى منّا .
باستطاعتنا أن نقول دائمًا إن الحجر الذي رُشقنا به لم يصبنا و في الليل فقط عندما نكون بمفردنا أو يكون الزوج نائمًا أو الزوجة أو زميل الصف ، في الليل فقط نستطيع أن نرثي بصمتِ جُبننا . "
.
D
ـــــــ
" ليست الرغبة في الخضوع للقوانين هي التي تلزم الجميع بما يفرضه المجتمع ، بل الخوف من العقاب .. كل منّا يحمل مشنقة في أعماقه . "
.
E
ـــــــ
" هناك نوعان من الحمقى: أولئك الذين يعدلون عن فعل شئ لأنهم تلقوا تهديداً، و أولئك الذين يعتقدون بأنهم سيفعلون شيئاً لأنهم يهددون الغير . "