الصعود إلى الهواء.
الحوت سمكة أم حيوان ثدي؟ السلحفاة ما هي؟ الفقمة؟ البطريق؟
لا يهم تصنيفها، كلها لا تستطيع الإبتعاد عن الماء، ولكنها كلها تضطر للإبتعاد عنه! إذا استمرت طويلاً تحت الماء تختنق، ثم تنتهي. إذا استمررنا نحن مع النّاس، نختنق و ننتهي! و لكن ليس بالموت كهؤلاء، إنما نصبح أرقامًا على هامش الوجود، كنّا في يوم من الأيام ذوي كيان، و اليوم لاكنّا و لا كيان سوى أننا نعيش حياتنا على انتظار للنهاية المحتومة، نعيش للانتظار أكثر مما نعيش لأننا أحياء.
.
نعيش كالحوت في محيط الحياة، لا نستطيع أن نركن أنفسنا خارجها، لأننا مجبرون على الغوص داخلها، و مابين هذا و ذاك .. نصعد بين الفينة و الأخرى إلى السطح، في لحظات بسيطة، كما يصعد الحوت ليقتنص الهواء، لنقتنص نحن الحياة!
ثم نعود مجددًا لنشّخص أبصارنا نحو الإنتـظار، ونحن في الأعماق.
.
هناك أشخاص « تكمن موهبتهم و متعتهم الأساسية في الحياة باستباق وقوع المصائب الصغيرة فقط لأنها لا تهتم بالكبيرة كالحروب و المجاعات و الزلازل و الأوبئة و الثورات، فكل ما يهمها هو أسعار الزبدة المرتفعة و فواتير الغاز الضخمة و أحذية
الأولاد البالية .. »
مجرد تذمر يومي، لأنّ ما اهتم به يختلف عمّا يهتم به الناس حولي. ليس من السهل أن تشعر بأن حياتك وصلت إلى مرحلة لم يعد لها فيها أي معنى، لحظة تشعر بنفسك معلقًا بالمنتصف، ما بين الأعماق، و ما بين السطح. .
أعماق حياتك اليوميّة : مشاغل الحياة، مشاكل الأولاد، ظروف العيش، قلة الوقت، تعاسة الموظفين حولك، و تسلط المسؤول عليك، ثم تقف لتسأل: إلى أين تتجه هذه الدولة؟!
.
كل ما حولك يجمد، و هو يسمع هذا السؤال، من يسأل عن دولة، وسط الإنشغال بتربية الأولاد و البحث عن أرخص سوبر ماركت، و أوفر عرض سفر، و تعداد أيّام الإجازة؟
.
« تكمن المشكلة الرئيسية في وهمنا بأننا نملك شيئًا قد نخسره ..»، و الحقيقة أننا لا نملك شيء!
نملك ذكريات، و نملك أبدانًا، كانت فيما مضى تحمل مشاعرًا و لكنها اليوم أصبحت لا مبالية، طرأت على بالي الكائنات التي ذكرتها بأول الموضوع: لماذا كلها سمينة؟
« افترض أن شخصًا له حدبة أو هو أحول او بشفة [ أرنبية ] هل يجوز أن نناديه باسم يذكره بعيبه دائمًا؟
لكن مع الرجل البدين يصبح الأمر بديهيًا و اللقب طبيعيًا!»
و لهذا « يصفعه الناس على قفاه آليًا و يقرصونه تحت الأضلاع » لأنهم يعتقدون أنّه يحب ذلك.
.
« أشك بان الرجل البدين منذ ولادته و تعلمّه المشي بأنه يعرف العواطف الحقيقية العميقة، إذ كيف يمكنه ذلك وهو بلا تجربة في هذه الأمور، و لا يمكنه التواجد في المشهد المأساوي لأنه يعيش دائمًا في المشهد الهزلي، فهل يمكن تخيّـل هاملت بدينًا؟ أو أوليفر هاردي يمثل دور روميو؟» .
و لكننا نعتاد على الأشياء مع مرور الزمن، فالنساء ليسوا بأحسن حالاً، متعجبًا تتساءل «لماذا هنّ هكذا، و كيف يصبحن، و هل يفعلن هذا عن سابق تصميم و تصوّر؟ فتبدو لي السرعة المفاجئة التي تتحطم بها النساء جسديًا و معنويًا بعد الزواج مخيفة جدًا، و كأنهنّ متماسكات و مخصصات لعمل شيء واحد فقط، و بعد إنجازه يذبلن كالزهرة التي تطرح بذورها. »
.
هكذا، تـتـناسى هذه التساؤلات حين تبقى معلقا بالهواء .. تراها تبتعد عنك شيئًا فشيئًا، لم يعد سعر الزبدة مهمًا، لا يهم شكل زوجتك، كما أن كل خطابات السياسين تصبح مجرد ضوضاء!
تبحث عن السطح لتستنشق منه الهواء، طـال مكثوك بالأعماق هذه المرة حتى بدأت تفقد الإدراك بأنك تتنفس برئة لا بخياشيم حتى الآن.. غريب هو الهدوء داخل الأعماق، هـدوء و لكنه يحمل التوتّر بين جنباته، ليس كنوع الهدوء الذي تبحث عنه .. حين تكون على مرمى حجر من الإستسلام للأعماق، تتذكر السطح فتهرع إليه..
.
تصعد إلى الهـواء: الهواء النقي فوق السطح، و ليس المذاب في الماء، في هذه الحالة، الصعود للهواء هو عودة للذكريات، تبعد عنك صورة الذين « يتحملون الذل لأنهم خائفون » أو أولئك الذين « يطلبون منك أن تهينهم، لانهم يطيعون الأوامر، و مبدؤهم الزبون دائمًا على حق »، هذه الذكريات « فجأة تسبح في ذهنك دفعة واحدة كأنك صحوت من النوم» تدفعك دفعًا لأن تحاول السير على خطى الماضي، تحاول إعادة إحياء طفولتك مجددًا، لعلّك بذلك تلقي ثقل المسؤولية، و ضغوط الأعماق عن كاهلك: هذا هو صعودك للهواء.
.
لحظة تتجمد فيها كل الأشياء، لتبقى انت و ذكرياتك، إما تجلس لتستذكرها في منزلك ليلاً، و إما أن تهرب من محيطك لربوع طفولتك تحاول تتبع آثارها، أو أن تتخيلها بعد أن تعيد رسمها مجددًا، هنا كان والدي، هناك جلس عمّي، و في تلك الزاوية شاهدت أمّي، و على تلك البقعة اصطدت أول سمكة، أو هكذا أحب أن أتخيله لأنني لم أفلح أبدًا باصطياد سمكة!
في هذا المكان رفضت أن أدخل هذه الكليّة، و هناك قابلت زوجتي للمرة الأولى.. ماذا لو لم أقابلها؟ و كيف سيكون وضعي لو تزوجت ابنة جارنا التي عشقتها؟ أو فضلت الدخول للكلية بدلاً من العسكريّة؟ أو ربما أن أبقى في نفس البلدة التي ولدت بها لأكمل سيرة عائلتي بها؟
.
لم تعد هناك أماكن آمنـة، رغم أنك « عندما تسكن في بيت مثل بيتنا و ترزح تحت عبء زوجة و أولاد، يصبح من المستحسن الخروج إلى جو العزوبية حيث لا تشعر بأهمية شيء سوى الكتب و الشعر و التماثيل الإغريقية، إذ لا شيء يستحق الذكر منذ أن غزا القوطيون روما. يا لها من راحة! »، مع هذا، حتى من يمنحوك هذا (الـوهم الآمـن) من الأصدقاء، بمرور الوقت يتحولون لأحد أنواع (العبء) المُلقى على كاهلك أيضًا.. فتحتاج للهرب منهم.
.
ولكن ماذا بعد أن تحاول إعادة إحياء ذكريات طفولتك، بعد أن تجاوزت تلك الفترة منذ زمنٍ بعيد، أو أن تحاول أن تكتشف أو تستكشف الإجابة عن تساؤلاتك عن حياتك.. لوهلة تظن أنّك وصلت للسطح، و بدأت باستنشاق الهواء النقي، عندها يتملكك « شعور يمكنك من رؤية الأشياء الهامة بمنظور أفضل. و هكذا أدركت بأنَّ كل الأشياء التي كنت أشك في صحتها أصبحت أكيدة الآن »
«هل يمكن العودة إلى الحياة التي عشناها سابقًا أم هي ولّت إلى الأبد؟
حسنًا، لقد حصلت على إجاباتي، لقد انتهت الحياة القديمة نهائيًا، و عملية البحث عنها مضيعة للوقت.»
.
فتقرر الرجوع للأعماق، بعد أن تركت السطح للمرة الأخيرة!
* * * * * * * *
جميـع الإقتباسات بين الأقواس هي من رواية «الصـعود إلى الهـواء» لـ جورج أورويل.
رواية كتبها، وهو ينتظر نشوب الحرب العالميّة الثانية، ليصف حالة الخشية و الخوف و الترقب التي تدفع الإنسان إلى أن يحاول الهرب منها بعودته لذكريات الطفولة.
كلنا، نمر بمثل تلك المشاعر و الهواجس بدءًا من شكل أسناننا و أجسامنا إلى التساؤل عن صحة القرارات التي اتخذناها طوال حياتنا، و تصل حتى لما نعتبره ' ثوابتًا ' فيها، ولكن قلة منّا من يقررون معرفة : هل يمكن إعادة الحياة القديمة؟ أو إعادة تشكيل الماضي؟
أحدهم كان جورج بولينغ، الرجل الأربعيني، بطل هذه الرواية.