29 أكتوبر 2013

الإتصال والإنفصال في صناعة الأبطال

الشعور الأقلياتي ليس مختصًا بالأقليات العددية*، بل هو شعور يتنامى مع تنامي الإحساس بالاستقصاد والاستهداف**، وإن كان يستند الإحساس بالاستهداف إلى ماضٍ يثبت الواقع بأن هناك على مستوى ما من المستويات عملية استهداف مؤكدة إلا أنها في هذه الحالة تكون حالة مضخمة بدرجات أكبر. ويتعاظم هذا الإحساس أكثر مع الشعور المتجذّر باللاوعي بوجود الاختلاف رغم السعي على مستوى الوعي لنفيه وهو ما تراه من دعايات ساذجة تؤكد على هوية واحدة جامعة تصهر الجميع يكررها الناس رغم عدم إيمانهم بها. وقد ترى فئات عظيمة يتملكها الإحساس الأقلوي، وقد ترى فردًا ينتمي لأقلية لا يستحوذه هذا الشعور، وفي جميع الحالات المسألة خاضعة لنوعية الشعور وطبيعته لا لمجرد التصنيف العددي وحجم شريحة الانتماء الفكري أو الإثني.

يتميّز الشعور الأقلياتي بأنه ذو طبيعة مزدوجة، فتارة هو يفرض على صاحبه الإحساس بالإنتماء لمجتمع كبير وتارة أخرى متزامنة يدفع إلى خلق مجتمع جديد يعيش في حلقة تترابط مع المجتمع الكبير من جهة وتنعزل عنه من جهات كثيرة، ولتوضيح الفكرة يمكنك تصوّر عدة دوائرة مرسومة بداخل بعضها البعض، وعلى الرغم من وجود دائرة كبيرة تحيط بهذه الدوائر لتكون الدائرة الأم فإن الدوائر الأصغر بداخلها تمثل جزءًا من الدائرة الكبيرة وفي ذات الوقت دائرة متفرّدة بذاتها، ولهذا أنت ترى المسلم مثلاً في بريطانيا يصنف نفسه كجزء من المجتمع البريطاني تارة، وفي الأخرى يدعو إلى احترام خصوصيات المجتمع المسلم المستقل بذاته هناك، فلولا هذا الإحساس المزدوج والمتضاد بالإنتماء والإستقلال لما كان لمصطلح الأقلية - وما يستتبعه - أن يظهر. مع هذا، فإن التوصيف للأقلية كما مرّ ليس مختصًا بعدد أفراده إنما يتوّلد الشعور السابق عند أصحابه.

من هنا يمكن فهم الشعور الأقلياتي على أنه منهج في التعامل مع الواقع، فهو يعطي الشعور بالإنتماء وفي ذات الواقت يوهم بالإستقلال، لكنّ وجود نزعتين متضادتين عملّية منهكة جدًا، وهذا واقع كل نزاع يدور بين متعاكسين، فالقانون الأخلاقي في أنفسنا يتنازع مع رغبة التحرر من الإلتزام فينا، فتكون النتيجة {إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} للحفاظ على الإلتزام الأخلاقي مع مقاومة نزعة الإنعتاق من هذا الفرض، وهكذا، يبدأ الشعور الأقلياتي برسم ملامحه سواءً للفرد أو على مستوى أكبر لفئة ما.

أولى ملامح الشعور الأقلياتي هو التأكيد المبالغ فيه على الهويّة الجامعة بحيث تُلغى أي اشارة للهوية الذاتية إلا أنه سرعان ما يتم الرجوع لها بمجرّد الإحساس ببوادر الانفصال، فهي أشبه بلعبة حافة الهاوية، كما أن الشعور الأقلياتي يتميّز بعدم الرغبة على اثبات الذات إلا على مستوى القشور، أي تسجيل ما يعطي له التفرّد على الدائرة الأوسع وفي نفس الوقت لا يصبح دائرة مستقلة خارج الدائرة الأم. كما أنّ الشعور الأقلياتي يتمثّل في سعي أفراده للنزوع الشديد لتكوين جبهة معلّقة تبنى أساساتها على اعتقادات الفرد ويترجم سلوكها لسلوكيات الأغلبية، فلا يعود غريبًا أن ترى الشعور الأقلياتي يُصنَع من الاعتزاز بالهويّة لكنه في نفس الوقت ينبذ أي تمثّل واقعي لهذه الهويّة، يمكنك أن تفهم الصورة بشكل أوضح على سبيل المثال فيمن يدّعي الليبرالية في المجتمعات المغلقة كفكر ينتمي إليه ولكنه في نفس الوقت يدعو إلى الالتزام الشديد بالأعراف والعادات الاجتماعية وإن كانت غير صحيحة! إنّ الصراع الذي يمثله تضاد الدوائر الإنتمائية لدى الفرد يجعله مشتتًا فهو تارة داعية للحريّة في دائرة وإقصائي متطرف في دائرة أخرى ولا يرى بأسًا في ذلك لأنه محيط كل دائرة يجعله يتوهم غمتلاكه العذر في تذبذبه واختلاله هذا!

غير أنّ الشعور الأقلياتي يتجاوز الهويّة في كثير من الأحيان إلى أمر آخر على قدر كبير من الأهمية ألا وهو الاتجاه إلى صناعة "الأبطال" لكن على غير العادة فإن هذا البطل يتعاظم في مكانته وقيمته كلما كان "مزدوجًا" في شخصية وأفكاره التي يقدمها، وهذا خلاف العادة في اعتبار "البطل الأسطوري" يتمثل بشخصية الرجل "المبدئي" الذي يبذل كل ما يغليه في سبيل مبادئه والإبقاء عليها، وهنا يفترق "واقع الأقلية" عن "الشعور الأقلياتي" فواقع الأقلية هو السعي نحو الانكفاء وزيادة الارتباط للحفاظ على الهويّة بالإضافة إلى السعي نحو البقاء، أما الشعور الأقلياتي فهو يسعى نحو التذرر في الأكثرية وتضعيف الارتباط مع الأقلية مع الإبقاء على فوارق تحفظ لهم بعض الخصوصية التي تعيق الاندماج التام، والفارق الرئيسي بين "واقع الأقلية" وبين "الشعور الأقلياتي" هو أنّ البطل في واقع الأقلية عادة ما يكون أمثولة للنظام القِيَمي السامي لها بينما في الشعور الأقلياتي هو أمثولة للإحساس الكامن بالإزدواجية، فهو الحالة الأمثل التي تجمع التناقضات في نفسها دون أن يرف لها جفن لإزدواجيتها الواضحة.

إنّ طبيعة البطل الذي تصنعه دوائر الإتصال والإنفصال طبيعة احتفالية، أي طبيعة صاخبة تفقد صاحبها القدرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو مزيّف فيكتفي بطرح الكلمات والمفاهيم دون إنصات أو تفكير، ويتركز هجوم بطل الشعور الأقلياتي على القديم دون تقديم بديل واقعي لسبب رئيسي وهو اعتبار القديم هو المسؤول عن زرع الإحساس الأقلياتي ومن ثم عدم القدرة على الإندماج التام مع الباقين، ولهذا السبب بالتحديد يحاول بطل الشعور الأقلياتي اظهار التميّز بأيّ صورة كانت ولو على حساب مبادئه وتعاليمه السابقة، ويتبدى هذا التميّز في مخالفة السائد حتى وإن كان مبنٍ على أسس سليمة فقط لأن الشعور الأقلياتي يأنف من السائد الذي يجعله متقوقعًا في دائرته بدلاً من امتلاك مرونة الإنتماء والتحرك في أكثر من دائرة.

إنّ البطل في الشعور الأقلياتي هو الذي يستطيع أن يكون مصلحيًا لا مبدئيًا لكون كثرة التعامل مع المتناقضات واحتوائها لا تجعل ثابتًا إلا المصلحة وكل ما عداها متغيّر، وبناءّ على ذلك يكون البطل الأقلياتي مثيرًا للفوضى أكثر من جمعه للكلمة لأن الفوضى بطبيعتها تبرر المصلحة وتعطي الذريعة للتلّون لدرجة الإنقلاب على كل ما ادعاه صاحبها، وكلما تعاظمت المصلحة تعاظم معها الـ(أنـا) لهذا البطل تزامنًا مع تضخيمه من قِبل أمثاله لأنه حالة تعبّر عنهم، وهذه الأنا تلتهم أثناء تعاظمها الجميع حتى يصبح قولها قولهم، وفعلها فعلهم، وحكمها حكمهم ومن ثمّ يكون عقلاً وضميرًا وبطلاً لهم.

متلّسحًا بقوة الجمهور هذه، يصبح بطل الشعور الأقلياتي تحديًّا للواقع، يتعامل معه بالصدمات لا بالحلول، لإثبات أن القوة والشجاعة لا تنقصه، لتعويض الإحساس بالنقص عنده لعدم كونه إنبساطيًا يبسط وجوده على الجميع لا مجرد مماثليه من ذوي الشعور الأقلياتي، بل يصبح إنطوائيًا يمنعه جمهوره من أن يكون شخصية طبيعية لأنه يعتبر ذلك خذلانًا لهم رغم كل ما يمثلونه من تنافر مع الشخصية السويّة، وهذا الإنطواء هو دفاع عن الأنا التي تعاظمت حتى إلتهمت الـ"نحن" لتصبح رمزًا لهم، فبإنطوائه يفرد استاذيته وينتزع كافة القيود في تعامله دون أن يكون خاضعًا لمشرط النقد الأخلاقي.

إن الإحساس بالقوّة المستقاة من الجمهور تخفي في باطنها الضعف الذي يجعل من صاحبها عبدًا يستكبر حتى يدخل في دائرة الطغيان، وليس الطغيان منوط بالسلطة فقط بل يتعداه للقدرة على إطلاق الأحكام دون رادع داخلي أو خارجي وكلما استسهل المرأ هذا الشيء ازداد ارتباطًا بالدنيا فهو بالنهاية صنيعة أفرادها وصياغة أطماعها ومنحوتة لمصالحها وبُعدَه عنها والعودة للشخصية السوية يعني فقدان صفة البطل ولو على أُناسٍ لا بطولة لهم، وهذا أمر لا طاقة له به. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: مَثَل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ كلما ازدادت من القزّ على نفسها لفًّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمًّا***.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورد في سورة النحل {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} فالقرآن الكريم لم يشر لإبراهيم عليه السلام رغم كونه فردًا في وسط مجتمع إلا بكونه أمة وهي أكبر من المجتمع، وفي هذا إلتفاتة لطيفة إلى أن الشعور الأقلياتي ليس منوطًا بالعدد بقدر ما هو منوط بالفرد ذاته.
** هناك فرق جوهري بين الإحساس والوقوع، وقد يجتمع الإثنان معًا، إلا أن الفارق الأساس هو في التعامل مع هذا الاستقصاد والاستهداف فبدلاً من اعتباره علامة على الصحة والقوة يتم اعتباره عن أصحاب الشعور الأقلياتي علامة ضعف.
*** مشكاة الأنوار، الطبرسي، ح 1544.

8 يوليو 2013

زيف الوعي المعاصر

قبل أشهر قليلة كنت أمشي في إحدى الطرق القديمة لمدينة عريقة في دولة مجاورة مع صديق عزيز، جرنا الحديث للسياسة، سألني سؤالاً فأجبته وكان أن تحوّل الصديق إلى وحش كاسر لو صار الأمر بيده لافترسني وما أبقى بي شيئًا.

هي حالة طبيعية تتكرر كثيرًا، لا يحتمل الإنسان الصراحة ليس لأنها صراحة ولكن لأنها تصطدم بشكل مباشر مع ما يرغب به. الإنسان ككائن ضمن سلسلة هذا الوجود يتميّز بالوعي، وهي حالة أعلى من الإدراك الذي يمتلكه كل مخلوق ذي حركة، ولأن الوعي من ضمن امكاناته التي لا تنفك عنه يكون الإيمان صفة أصيلة للإنسان لأن الإيمان هو القدرة على الإعتقاد، والقدرة هنا معناها الإنتخاب من بين خياراتٍ عديدة، وهو جوهر الوعي، لذلك يُساءل الإنسان عن خيره وشرّه، فعله ونيّته، كلامه وإشارته.

على كل حال، لولا وجود هذا الوعي في الإنسان لما كان له أن يكون مستقبِلاً للرسالة الإلهية لكن وجود الرسالة الإلهية بنفسها أمرٌ يستحق الاختبار ليعرف الإنسان مدى استحقاقه لحملها، إنّ هنا طرفة يسردها القرآن الكريم عن هذا الإنسان {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أبت المخلوقات حمل الرسالة لكن حملها الإنسان بظلمه وجهله لأن تلك المخلوقات أدركت إلتزاماتها وإن لم تع علّو وشرف هذه الرسالة، كما أدرك الإنسان إلتزاماتها لكنه رفع ما يرغب به من إثبات علّوه على وعيه. فالوعي وحده ليس منجاة للإنسان كما يصورون لك بل هو في كثير من الأحيان مهلكة له لأنه يخبرك بحقيقة موقفك وآثاره الواقعية لكنه لا يملك السلطة على نفسك،  فترى البشر ينساقون مع ما يريدون ويرغبون، فيكذبون وينافقون ويقتلون ويسرقون مع علمهم بخطئهم لكنهم يبررونه، وهذا هو الظلم والجهل ومنه ظهر الاختبار «فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها إلا مؤمن مطيع»*.

 أعود لصديقي في ذلك اليوم الربيعي اللطيف، بعد أن انتهى النقاش أقرّ بفكرتي لكنه لا زال يجادل فيها بذريعة الأسلوب الخاطيء، وأن ذلك هو ما يحجزه عن قبول كلامي كما هو، مثل ذلك، أيضًا للأسف، يتكرر كثيرًا مثل هذه العبارات تفترض دائمًا أن الإنسان يقبل الآراء إذا عرضت بلطافة لكن يرفضها إذا عرضت بخشونة وإن كانت حقًا، والواقع أن هذا الافتراض خطأ، مشكلة الإنسان ليست مع الأسلوب لكنها مع الحقيقة ذاتها، إنه يرفض الإذعان لها ما لم يقيسها مع رغباته وأهوائه ويناسب فيما بينهما، قد يكثر الحديث عن الهوى بحيث يصبح مملاً لكنه واقع والواقع ممل لأنه يتكرر بسبب الطبيعة البشرية التي تقوده وتدفعه لارتكاب ذات الأخطاء مرة تلو الأخرى في متوالية نسميها: التكرار التاريخي. لا يمكن أن نفصل أثر الهوى والرغبة طالما نحن نتحدث عن كائن تدفعه مشاعره في أغلب الأحيان إلى أن يرفض حكم العقل ويعمل بعكسه مندفعًا من ذاته، بل إن الأدب الإنساني كله تمجيد وتخليد بمن يفعل ذلك ومحاولة التغاضي عن ذلك هي تغاضي عن أهم جوانب الخلود الإنساني، الملاحم!

إذا نظرنا للوعي ضمن نطاقه البشري وجب علينا أن نعلم أن المؤشرات عليه ضمن البشر ضعيفة، فهو سلاح يشبه الورقة المدون عليها تعاليم السباحة أمام فرد لا يعرف السباحة ويندفع بسرعة نحو المحيط، وهنا تكمن الإشكالية أننا بطبيعة الحال كبشر نفضل الانسياق مع الأسهل والذي يخاطب ما نريد بسرعة وتسليم أكبر مكتفين ببعض التعليمات وبعض الكلمات والأفكار الفلسفية المقتبسة لنصور أنفسنا قادرين على التعامل مع الواقع كما هو، لا كما نراه، والحال أنه العكس. في مناظرة حضرتها قبل فترة لفت أحد الأصدقاء - مستهزئًا - نظري إلى قول المتحدث: «لا شيء مؤكد، هذا مؤكد». والناس يصفقون وينقلون كلامه وكأنه أتى بفتح العظيم مهملين التناقضات الصارخة التي ترسم ثقوبًا واضحة في منهجيته وتضع تساؤلات لا متناهية عن المستوى العقلي الواعي الذي يتحدث إنطلاقًا منه! لكن هذا يقف لا شيء أمام تصفيق من يطلق عليهم ولو عرفًا النخبة له، إنها نخبة تتصور نفسها واعية وتنطلق من هذا الأساس، والتصور لا يغني عن الواقع فالتعامل مع الحقائق المجردة ليس كالتعامل مع الحقائق في أرض الواقع حيث يختلط السليم بالسقيم والعقل بالعاطفة والميول بالأهواء، إنّ التنظير دائمًا سهل يسير ولكن التطبيق صعب عسير، وهنا يتمايز صاحب الفهم عن حامل العلم.

بالأمس كنت أشاهد فيلمًا مع صديق، فيلمًا يحاكي شيئًا من الخيال العلمي، أخبرته أن يتأمل هذا المخلوق الفضائي المصنوع من أحدث صيحات تكنولوجيا الرسوميات، لم يكن يختلف عن الإنسان الطبيعي سوى بمواده وحركته وقدراته، لا يدل ذلك إلا على أن الإبداع الإنساني تحكمه حدود لا يستطيع أن يتعداها، فهو لا يزال غير قادر على صنع مخلوق خيالي بلا رجلين أو يدين أو رأس وعينين! هذا ينبيك عن الوعي الزائف الذي يتصوره الناس، فالكثير من الوعي هو في الحقيقة نوع من المحاكاة لما يجري بداخل النفس من رغبات مختلطة بأهواء وخلفيات ثقافية وفكرية جزء منها نشأنا عليه وآخر استحققناه ضمن منظومة طويلة من العوالم تعرف بـ: العدل الإلهي.

الوعي، لا يأتي بقراءة المخالفين ولا بضرورة الإنسلاخ من محيطك ولا باستحداث مواقف تتصور فيها التحرر من موروثك ولا بتكرار عبارات لفلاسفة غربيين أكاد أجزم، كما أخبرني أحد أساتذة الفلسفة قبل فترة ضمن جلسة ضاحكة، أن قائليها أنفسهم لم يعرفوا عن ماذا كانوا يتحدثون حينها، هذا ما تدفعك «الميديا» لتتصوره وعيًا بينما هو مجرد هامش من الوعي يعطونك إيّاه بحيث لا تتعداه فتتصور نفسك مدركًا واعيًا وأنت مرتهن وبحاجة دائمة لوسائل الإعلام والتواصل لتعيد صياغة مواقفك وآرائك وفقها ومن ههنا يتم إبراز صنّاع الوعي المزيف، كصاحب التناقضات المذكور آنفًا وأمثاله الذين يغذون عقول الناس بما يُراد لهم أن يكونوا عليه، فترى أصحاب الوعي الزئف كثيرًا ما يدفعون الآخرين دفعًا لاتباع هؤلاء ليماثلوهم، فدرجة الوعي المعطاة  ثابتة عند مستوى معيّن بحيث ترى الخلل المتوهم عند غيرها وتبرر ما هو أسوأ منه الموجود فيها وتغمض عينها عن كثير من التفاصيل الدقيقة التي تعيد "فلترتها" لتناسب أحكامها المسبقة، رغم أنه خطأ بميزانها لكنه الوعي المزيف الناتج من الخلط بين المبدأ والغاية، والرغبة والحاجة.

الحديث عن الوعي لا يصنع وعيًا، مرحلة الوعي لا يصل لها كل شخص لأنها تتطلب قدرة كبيرة على المقاومة، مقاومة النزعات التشكيكية التي تدفع للإنسلاخ عمّا أنت عليه في الحقيقة، ومقاومة الإنجاذابات النفسانية التي تجعلك تعتقد أنه بإنفصالك عن الآخرين وإنفرادك فأنت تتميز عنهم وتعلو عليهم، وتصوره بالتعليم، مهما ارتفع مستواه مغالطة، فأقصى ما يمكن له هو إيجاد الوعي بالموقف النفسي تجاه القضايا المختلفة أما معالجة هذا الموقف فيرجع إليك، أما الذكاء مرتبط بالربط والتحليل، وهما من فروع الإدراك المختص بمعرفة الآلية، أما الوعي فحالة فوق الإدراك وهي معرفة الغاية ولأن الإنسان كائن غائي فإمكانك أن تقيس درجة وعيه من مدى معرفته بغاية وجوده  والأهم حركته نحو هذه الغاية لا مجرد تبصرتها،{لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}؛ فالتذكرة من الله عزّ وجلّ والوعي من الإنسان، وإن غاب الوعي صارت التذكرة حجة بالغة عليه، وفي كليهما إثبات أن القول بالعبثية لا يتسق مع ادعاء الوعي و«هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»**.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


* الميزان للعلامة الطباطبائي / الأحزاب 72.
** عن الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد.

27 مارس 2013

حكايا منتصف الليل


لم يكن اختيار الليل، كرمزية يستعملها كل متحدث عن الإنسان، اعتباطيًا، ففي الأدب والرواية والقصة وحتى الفلسفة والسير والسلوك وصولاً إلى العلم ونظرياته كلها ارتبطت درجات الوصول إليها بالليل، ولعل ظلامه الذي يعمي الأبصار عن رؤية كل شيء ما عدا ما يتكاثر داخل الذهن هو السبب، فإنك تحتاج للنور لتبصر ما حولك لكنك لا تحتاج إلا لذهنٍ لتبصر ما فيك، وسبحان من جعل التبصرة في عوالم الداخل للحظة كاشفة عن عوالم الخارج لدهور، كما تأمل "نيوتن" مع نفسه لثوانٍ فقفز بالعلوم لقرونٍ.

 إننا في النهارات نعيش مع الناس وللناس، نقول ما يقولون، ونفعل ما يريدون وتجبرنا بنوك الخدمات على أن نستهلك طاقاتنا فيها حتى نصل إلى الليل لنعيش مع أنفسنا التي توارت خلف جبالٍ من هموم كسب المعيشة قليلاً، والأسف كل الأسف حين نفرط بهذه اللحظات لأجل الاستعداد من أجل استقبال الآخرين في صباح اليوم التالي، وليس ذلك من العجب فإن الفرص التي يضيعها الإنسان أكثر من تلك التي يتحدث عنها والتي هي في الواقع أكثر من التي اقتنصها، إن حياة معظم الناس ليست سوى تراكمٌ للضياعات، في العمر والفرص والأهداف والغايات وما شئت فقل! نادرًا ما نلتفت إلى كمية الهدر الممارسة في حياتنا لأن سعينا خلف ما لا حاجة لنا به يفوق سعينا لما نحتاجه، فنهمل على حساب ذلك ذواتنا وأفكارنا.


قال لي أحد السائرين على درب السلوك مرة أن العارف لا يصيبه الأرق أبدًا، فالأرق نتيجة التفكير بالخواطر التي تفترس الذهن ليلاً، والعارف لا يستسلم لخواطره بل يتحكم بها، فإن أوقف ذهنه عنها هرب الأرق منه. لعلّه على حق ولكن جمال الأفكار بعفويتها وبكونها تبدأ من زاوية في أقصى اليمين لتجد نفسك في وسط بحر متلاطم يموج بك منها ينقلك من عالم محدود إلى فضاء رحب ترى العالم الواقعي منه على هيئته الحقيقية: كأنه عجلة موضوعة في قفص سنجاب لتعطيه إيحاءً بأنه يركض في البراري الواسعة لا في صندوق ضيق ومظلم!

والحقيقة ثقيلة على النفس دائمًا لا يرغب بحملها إلا من تعوّد عليها أمّا من يكتفي بالتحدث عنها فهو غالبًا يحبها كما يريدها هو، لا كما هي، لذلك لا ينفك عن إيجاد المبررات لنفسه لقبوله بأن يكون مجرد قطعة مؤقتة في هذه الدنيا ينشغل بمشاغلها ويكتفي بهمومها و{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} فرضي بأن يجعل من ذاته آلة يستهلكها الزمن فتنتهي في مكب الخردوات بدلاً من أن يكون إنسانًا يُوّلدُ الزمن لينتهي في عالمٍ أسمى وأرفع.

 إن الليل بستائره التي يسدلها حولنا يحاول أن يعيد هذه الحقيقة إلى أذهاننا، وهي أننا بعيدًا عن  كل الملهيات والمشاغل نقبع في زاوية صغيرة من كونٍ واسع لا نرى فيه إلا أسئلة تبعثها الدهشة، وإن سحر الليل ليس سوى هدوئه الذي يصم آذاننا عن ضجيج الناس فنلتفت لما بداخلنا فنعيد إحياء أسمى معاني الإنسانية فينا وهي العقل، والسؤال، والحوار.

  •   رموز الشعر

قال لي ذات ليلة، بما تفسر هذا الهوس بشعر "فلان" رغم ركاكته؟

قلت له: رموزه الأنثوية. القهوة والليل والعشق والوحدة رموز أنثوية تحاكي مخاوف المرأة من الأرق والظلام وهيجان المشاعر والوحشة، أما الرموز الذكورية فهي تخاطب مخاوفهم المستمرة من العزلة والهجرة والقوة واللقمة وهي رموز سوقها مستتر، يصفق لها الرجال ويحبون شعرائها -القلّة- لكنهم يخجلون من ممارسة فعل التعبير عن ذلك حتى لا يتهموا بوجودهم، فأن يرى الناس شخصًا يخشى الأرق أو الوحشة أهون عنده من أن يُرى شخصًا يدعي القوة وهو يبحث في هامش الحياة عن لُقمة!
.. إن المرأة لا تمانع أن تكشف عن كوامنها لأنها سلاحها الذي تَصطاد به بينما الرجل يخشى ذلك لأنه السلاح الذي يصرعه!
  •   الخضوع

قلت له ذات ليلة: إن أغلب سعي الإنسان هو للبحث عن شيء يخضع له، إن طبيعته أنه لا يملك استقلالية ليشعر بالفقر الذاتي دائمًا ويبقى مندهشًا ومُنشَدِهًا لهذا الوجود يبحث عن الكمال فيه لكنه بمجرد ما أن يصل لأول الخيط يغتر بنفسه فيضيع، إن مثل الإنسان في هذا الأمر مثل الفراشة انجذابها الدائم للنور أحيانًا يجعلها تحرق نفسها حين تقترب من النار أكثر من اللازم.
 قيمة الإنسان بما يخضع له، فالخضوع أمر طبيعي لفكرة أو تيار أو جماعة أو ما يُسمى بالعقل والعلم وهو هوىً ورغبة وأعلى درجات الخضوع هو الخضوع للإنسان الآخر حتى ذاك الذي يدعي الإلحاد ويؤمن بالعلم يخضع لما يظنهم علماء، إن محاربة طبيعة الإنسان الفطرية هذه هي التي تقود إلى الشعور بعبثية الحياة، وما عظمة هذه الرسالة الإلهية إلا لأنها ربطت الخضوع بالكمال وجعلته الغاية، فالحب والبغض والفرح والجزع على الكمل هو انجذاب لهم، بينما أولئك ربطوا الخضوع بالحياة واختاروا "الإنتخاب الطبيعي" فصارت حتى أفعالهم القلبية عاريّة من كل قلب، تهيم في أودية التخبط تحمل أسئلتها على كفيها ولا مُعطٍ لها من جواب!
  •   العدالة

تعتقد أن الحياة عادلة؟
سؤال مباغت في منتصف الليل. فكان الجواب: العدل صفة الفعل، والحياة ليس لها أفعال إنما هي أفعالنا غير العادلة والحياة هي مجهر يكبّر الصورة لنراها بوضوح، إنّ الحياة لا تعطي لأحد شيئًا ولا تأخذ منه، الحياة هي كسكة القطار مسارٌ نمشي عليه وينتهي بالموت، أما العربة التي تسير بنا على هذا المسار فهي استعداداتنا وقابلياتنا وامكانياتنا وهي أشياء تصنعها أيدينا في كل عوالمنا من عالم الذّر والوجود إلى عالم النيّات والخواطر.
  •   بساطة الوجود

البساطة شيء نفتقده في رؤيتنا. قال لي كيف؟
قلت له: وجودنا، إننا نحاول الهرب من حقيقة أننا موجودون بأن نفلسف الوجود ثم نبدأ باستذكار المعاناة والفقر والفساد والحقيقة هي أننا موجودون وهذا يكفي، والمعاناة والفقر والفساد لا يمكن لها أن تختفي لأننا بحكم أننا موجودون بدار اختبار فهذه الأمور من شأن هذا الاختبار، وجوداتنا مثل أسئلة أكمل الفراغ، دائمًا فيها نقص كي يصبح ذلك دافعًا نحو التكامل والنجاح لكن الكثير منّا يفضل أن يعيش مع الأسئلة أو يستأنس بالفراغ كانسًا إيّاه تحت سجادة مشاغل الحياة، أو عدم الاهتمام، فتظل هذه الأمور تتفاقم وتستمر، إنه من المضحك حقًا كيف أنّ معظم النّاس يسأل عن أفضل مطعم أو مسرح أو فيلم لكنه يتهرب من السؤال عن السبب الذي يجعله دائمًا ما يسأل ويبحث عن "الأفضل" ولماذا؟
  •   تسلية الموت

في آخر عمره سألوا مسكويه عن الموت، فكتب رسالة صغيرة عنه وأنه أمر لا خوف منه.
كلما نبغ واحد أتى النّاس وأوّل ما سألوه عن الموت، فعلت ذلك، وسألت أحدهم مرة عنه فقال لي: نحن خلقنا لنموت.
في العقل شيئان ظنٌّ ويقين، إننا متيقنون من الموت لكننا نظن أننا سنعيش أكثر من معاصرينا، فنغلّب الظن على اليقين، أرأيت استهزاءً بالعقل أكثر من هذا؟ هاجس الموت الذي يحوم فوق رأس كل إنسان يجعله دائم البحث عن أسباب الحياة لكنه لا يتوقف لحظة ليتساءل لماذا يريد الحياة؟ والواقع أننا نريد لكن كيف ولماذا فهي أسئلة أخرى تنضم لقافلة الأسئلة الضائعة في صحراء التيه.

*   *   *

قال سعدي شيرازي في غزلياته: هذا الإنسان إذا وصل لمكان لا يرى الله فيه كيف سيحسّ بآدميته؟
إنّ حوارات الليل لا تنتهي لكنها ما دامت لم تصل لمكانٍ ليس فيه الله - سبحانه - فإنها ستظل نعمة تزيح التعب عن كاهل الإنسان .. وهي نعمة لا نوفيها ما تستحق من الشكر. 

1 يناير 2013

عام المعاني

دمعة المرأة العجوز وهي تلامس أرضٍ احتوت شبّانٍ فقدتهم، والتجاعيد التي تحيط عين الجدٍّ وهو يبتسم في وجه أحفاده، وأصوات أولئك الأطفال وهي تعزف موسيقى في خلفية الحياة، وأحلام شباب يرسمونها على حيطان مدارسهم كلها تحكي عن أمنيات يزرعونها كل عامٍ في قلوبهم ويتأملون قطف ثمارها، ومع انتهاء السنة تفضل معظم تلك البذور الذبول بين طوايا القلب على أن تطل برأسها كشجرة فوق تراب الحياة.

ليس أكثر من الإنسان، من ينسج الآمال طوال حياته ليبقيها معلّقة على مشاجب الأيام، مركونة في الزوايا المظلمة يستدعيها كلما أراد أن يُري الآخرين قصة الحلم الذي لم يكتمل، وأحيانًا يحكي بها قصة الأمنية التي خاف أن يحققها لتهرب منه فحبسها في صدره. هو هكذا الإنسان، لشدّة توّلعه بأمانيّه يخاف أن يراها حقيقة فتضيع منه كل الاعتبارات التي يُلبسها لوجوده، ويبقى بعدها وحيدًا لا يدري كيف يصنّف وجوده. أليس العجب أن حالات الانتحار جرّاء الكآبة في السويد تسجل نسب مرتفعة رغم ارتفاع مستوى المعيشة ورفاهية الحياة؟ اكتفى الناس باتهام الليل الطويل الذي يتسرب بظلمته في شرايين الحياة فيحولها لثقوب سوداء أوّل ما تبتلعه هو صاحبها! قال لي صاحبي يومًا محاولاً شرح الحالة: {وَجَعَلْنَا اَللَّيْلَ سُبَاتًا} حين يطول الليل، يكثر السبات، فتتزاحم الأحلام، وتتوالد الأماني، تصطدم احداها بالأخرى، فلا تنتظم على دفتر الحياة، والإنسان بطبعه كلما رأى الفوضى آثر التذمر منها، فيتذمر ويتذمر حتى تصبح قضيته التخلص من هذا التذمر على ترتيب تلك الفوضى لينتهي به الأمر إما مكتفيًا بالتعايش مع تلك الفوضى وآثارها وإما أن يسحب نفسه من المساهمة فيها .. فينتحر! يضع حدًا لحياته، كما نرى، وما لا نراه هو أنه قرر أن يُلملم أمانيه وأحلامه ويأخذها ليزرعها معه في باطن الأرض لعلّها تنبت هناك بعد أن عجزت عن الإنبات في قلبه.

يمكن للإنسان أن يبرر كل أفعاله، سيئها وحسنها دون أن يرف له جفن. خذ هذا المثال: كنت أبحث في بعض كتبي يومًا فوجدت رسالة كتبها أحد الفلاسفة الإنجليز لصديق له يعمل بالتبشير يحثه فيها على عدم مجادلة الآخرين ووالدخول معهم في نقاشاتٍ عن الحق والباطل فما أن تصنف الأمور هكذا حتى تخسر بل حاورهم عن الراحة والتوتر، الروعة والعظمة، سكّن نفوسهم ثم ادفعهم في دائرة الحياة. كأنه كان يقول لصاحبه ليس هناك حق، ذهب الحق مع أولئك الذين كانوا يعتقدون بالوصول إليه أما في زمن صنع الحق بالقوة فاقنعهم بعظمة ما يفعلون! أ رأيت خداعًا للنفس أكثر من هذا؟ يقول لك بأن الحياة لا معنى لها إلا المعنى الذي تعطيه أنت لها هي كالماء ينتظر النكهة التي تصبها فيه، من تعجبه الكلمات الوهّاجة سينسى أنّ الماء بعد ذلك لا يعود ماءً ومن ثمّ لا يروي العطش وإن سكّنَهْ! مرّت على ذهني إلتفاتة «زِنْ» نحن نشرب الماء فلا نحس بلذته ولا نستمتع به لأننا نركز على "ازالة" العطش أكثر من "شرب" الماء ذاته، فتضيع لحظات من حياتنا دون أن نشعر بها، نستعجل اللّذة في "إشباع" الحاجة دون الإلتفات إلى أن اللذة في "قضاء" الحاجة، والفرق بين الشباع والقضاء هو الفرق بين الأخذ والعطاء، ما قاله ذلك الفيلسوف لا يختلف كثيرًا هنا، هو يريد أن يقول لا بد لك من دين فكن على مثل ديني لأنه يشبع حاجتك لا لأنه دين! أعطني كأس الماء الذي بيدك وخذ كأس عصير البرتقال .. إنّه يأخذ ما تملك به قوام الحياة ويعطيك ما يبقي عودك قائمًا. ومن قال بأنه لا بدّ من نكهة للماء؟ ولابدّ للحياة من طعم؟ قد يكون طعمها أنها «بلا طعم» لتختبرك في اختياراتك، أليست هي دار الابتلاء والاختبار؟ حمّالة الهمّ وصانعة الغمّ؟

أليس غريبًا أن الأماني معظم ما وردت في القرآن الكريم كانت في محل الذم؟ والقرآن لا يذم إلا ما يُبعد هذا الغافل عن الحق؟ يحكى أنّ فارسًا بخيلائه كان يمشي في غابة فمرّ على بحيرة وحين أراد عبورها توقف الجواد ورفض، انهالت السياط على ظهره وجنبه حتى عجز جبروت الفارس أن يفرض الحركة على الجواد فرآه عابرٌ رثّ الثياب، شعث الشعر فأخذ حفنة من تراب الأرض ورماها في الماء أمام الجواد فتحرّك، تعجب الفارس وسأل هذا العابر: كيف فعلت ذلك؟ فأجابه: إنّ الجواد رآى انعكاس صورته على الماء فمنعه غروره أنّ يدوس صورته ولو كلّفه ذلك فقدان رقبته.

{وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، طوّر الإنسان الأماني كي ينسج غروره، غرور البقاء والسعي نحو الخلود، وغرور تحقيق المعجزات، وغرور عظمة الذات، تارة يتمنى الحياة لغيره وهو الذي لم يوهبها لروحه، وتارة يطلب الكمال لغيره وهو الناقص في ذاته وأخرى يتمنى بقاء خيلائه ولو كذبًا على نفسه ولا تخرج أمانيه عن تلك الدائرة فهو يهرب من «المعاني» إلى «الأماني» التي صنعها هو في قبال الأولى. رأيت اليوم شخصًا كان يكتب ويشتكي من تفاهة الحياة ومن ضآلة وجوده فيها ومن الشغف الكبير بها عند النّاس الذين تصرعهم الصرعات وتقودهم "الهبّات"، سألته: لمَ تكتب شكاويك؟ فاكتشفت أن «أمنية» بإيضاح حقيقة الحياة للنّاس هي من تحركه! الأمنية تصنع ارتباطًا خفيّا من الصعب فكّه بمجالها وتوهم صاحبها بحقائق لا تملك واقعيات، إنه على الرغم من كل ما يقوله عن الحياة ليس على استعداد لترك أي لذّة فيها بل له الاستعداد لأن يترك «بديهيات الإنسانية» لكي يبقى فيها ويكمل رسالته في كشف الوجه الحقيقي للحياة! وهذا هو الفرق بين صاحب الرسالة وبين مدّعي الرسالة، فصاحب الرسالة صاحب معنى لا يتمنى لأنه مذكّر وليس بمسيطر، ومدّعي الرسالة يتصوّر أنه الموّكل ببثها وهو الأعلى والنّاس الأدنى ويتمنى أن يعوا ذلك!

النّاس بأمانيهم يريدون حياة غيرهم، ليجعلوها امتدادًا لحياتهم وسرّ ذلك حبهم للبقاء. في رأس كل سنة، وفي صبيحة كل عيد، وباقتراب كل مناسبة تكثر الأماني فلا تكاد تسمع سواها، إنهم يهربون من «اللحظة» بواسطتها لأن التوقف عند اللحظة توقظ الأسئلة الغافية في الإنسان، والأسئلة كلها تدور عن المعاني، معنى الحياة، ومعنى الوجود، ومعنى القيمة، ومعنى الإنسان. أسئلة ملّحة تثيرها غريزة حب الفهم عنده، ولو ترك وذاته لأراد تفسير كل شيء بفهم من عنده، لذلك كان «للحقيقة» وجود، فما وُضع السؤال فيه رغمًا عنه إلا ليذكره بالبحث عنها.

لقد قررت التوقف عن صناعة الأماني منذ وعيت أنّ المعاني بعكسها لا نصنعها إنما نطلبها لأننا أعجز من صنع ذاتنا، فكيف وُضعت فيها تلك الأسئلة؟، وبدأت بالبحث عن المعاني لأن من وضع هذه الغريزة فينا أراد لنا أن نختبر أنفسنا، هل ننساق خلف أصنام التمر التي نصنعها لنأكلها أم نستمع لنداء الحقيقة التي ندفنها؟ وقد ورد عن الصادق عليه السلام «.. اطلُب أوَّلًا في نَفسِكَ حَقيقَةَ العُبودِيَّةِ، واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِهِ واستَفهِمِ اللهَ يُفهِمكَ».