23 نوفمبر 2011

مدخل إلى فهم الصراع في الكويت

لا أزال أعتقد أن الصراع الحاصل، الآن وسابقًا، في الكويت هو صراع اجتماعي لا صراع حركي ناشيء من النظام السياسي. بل إن النظام السياسي في حد ذاته هو صورة من صورة الاجتماع وطبيعة المجتمعات، ومع هذا، فإنّه وفي الكويت تحديدًا لا يتحمل وزر ما يحدث، وليس سببًا أو منطلقًا للحراك إنما المساوئ التي تُلصق به هي ناتجة عن هذا الحراك. يمكنك أن ترى الصورة كيفما تشاء، تارة تراها من داخلها وتصنفها على هذا الأساس، وتارة أخرى تفضل رؤيتها من الخارج وتقيّمها وفق هذا المنظور، في كل الحالات فإنّ الإنغماس في أيّ شيء يعني أنك لن ترى سواه، والصورة من داخل الفقاعة تختلف عن الصورة من خارجها.
الصراعات الاجتماعية ليست ذات هيئة واحدة بل تختلف صورها بحسب بواعثها وهي تقوم على دعامتين، الأولى هي «القوة» والثانية هي «التعصب الأعمى». الأنظمة الحديثة، الديمقراطية منها على وجه التحديد، لم تأتِ لتلغي هاتين الدعامتين بل أتت لتعيد تشكيلهما وفق هيئة جديدة. لم تعد الدول القومية، بمفهومها القديم، موجودة وعلى عكس تاريخ العالم ليست القوة العظمى في هذا العصر امبراطورية تنتسب لعرق معيّن، كما كانت روما أو فارس، بل أضحت دولاً تعددية تختلف فيها الأعراق والأفكار والأديان وهذا التحوّل جرّ معه تحولاً آخر وهو «الإعتراف بالأمراض».
لطالما كان الإنسان يقابل أي مشكلة بالإنكار حتى تتفاقم لتقضي عليه في النهاية، ليعيد اكتشاف العجلة من جديد. في دراسته للحضارة الإنسانية يذكر ويل ديورانت صعود وهبوط الحضارات من التطرف بالالتزام إلى أقصى درجات الانحلال والسبب - برأيه -  هو أن الإنسان بطبعه صاحب غرائز منفلتة وجامحة يضطر لأن يكبحها في سبيل خلق الاجتماع ومتى ما استقر بذلك عادت هذه الغرائز للظهور مجددًا بعد تحقق الأمن والرفاهية ومن ثمّ زوال أسباب كبحها وطمسها، ولو على سبيل الوقتية. هذه الدورة الاجتماعية أسبابها باتت تعرف بالأمراض الاجتماعية، وهي عوارض تصيب المجتمعات بالتصدّع ثم التفكك وبعد ذلك الإنحلال والتلاشي، لأنّ المجتمعات كانت  تقوم على ديكتاتورية الفرد والفرد بطبعه يرفض الإعتراف بجوانب النقص فيه فيستكبر حتى يفاجئ بسقوطه تحت هجوم البرابرة، بحسب تعبير إدوارد جيبون.
من هنا كان الهدف الرئيسي لنشأة الدول المتحضرة أن ترتبط بالقانون، فتخرج من دكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية القانون وهو ما تعنيه الدولة المدنية حيث أن الناس سواسية أمام القانون الذي يمكن تمثيله بالمجرى الذي يجبر الماء [الإنسان] على السير وفقه، لا العكس، وعليه يكون أي إنحراف عن القانون أو تخاذل عنه هو مرض يستوجب العلاج حتى لا يتصدع المجتمع. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ هذا الأمر يتبلور بصورة أكمل وأمثل، كان الهدف من القانون هو تحويل القوة من قوة العضلة إلى قوة الحق الذي تفرضه الشرائع التي تنظر للإنسان بما هو إنسان، وتحويل التعصب من المتعلقات الشخصية كالجنس والعِرق على سبيل المثال إلى فضاء أوسع هو الحزب والدولة وغيرها من الأمور التي تمثّل مظلة أوسع تستظل بها شرائح أكبر من المجتمع المتعدد، فهدف القانون هو إخضاع الجموع، بصرف النظر الآن عن واقعية هذا الأمر.
إنّ غريزة الإستخدام، والإستئثار غرائز بشرية تجد دائمًا طريقها للظهور متى ما أحست أنها انطوت تحت مجتمع ما، لتبدأ بالصراع في سبيل اشباعهما من هذا المجتمع. إنّ مفهوم الديمقراطية لا يقوم على حفظ حقوق الأقلية وتطبيق رأي الأكثرية إنما هدفه الرئيس هو منع استبداد الأغلبية لذلك تخضع - الديمقراطية - لقانون ودستور ينّظِمانها، يعمل على تطبيقهما أفراد ينتخبهم الشعب لهذه المهمة لكنّ مجرد كتابة دستور أو وجوده لا يكفي، بحسب هيغل «الدستور المكتوب، عندما يُمنح، لا يُغيّر شيئًا من الدستور الحقيقي، الموجود قبله، والذي يبقى يعمل باستمرار تحت غطائه»[1] هذا الدستور الحقيقي هو الأعراف والقابليات الاجتماعية الكامنة في الشعب.
إنّ أهم ما يجب ملاحظته في أي مجتمع هو التوافق ما بين تطوّر نظامه السياسي وأعرافه وقيمه الاجتماعية، بمجرد ما تكون هناك فجوة فيما بينهما فإنّ الأمور تتجه، حتمًا، إلى العطالة التي هي «قوة سلبية تمنع الإنسان من الانفتاح على الواقع والفهم السليم له»[2] ومن ثم الإنهيار أو الركود. أوضح ملامح هذه العطالة تظهر في طبيعة الحراك أو الصراع في المجتمع، حين ينقسم إلى معسكرات وأطراف يحرّك كل منهما الإندفاع نحو الإستئثار والتغلّب على الآخر لمنفعته الخاصة، في الكويت يتجلّى هذا الأمر في الصراع الأزلي بين الحكومة [أو السلطة] والمعارضة.
لا يمكن لأحد أن يدّعي أن أي طرف فيهما يقدم مشروعًا أو رؤية للدولة، وفي حين تتنازل الحكومة عن دورها في تطبيق القانون فإنّ المشرّع يتجاهل عن عمد صياغة أي قانون، ويهمل ممارسة دوره الرقابي على تطبيق الموجود منها ويتحول إلى مجرد آلة شعاراتية ذات نبرة عالية، لأنه أساسًا لا يهدف إلاّ لحلب ضرع الحكومة وهي لا تهدف إلا لإسكات الأفواه. الشيء الوحيد الذي يجيدانه هو لعبة الإبتزاز المتبادل، ولا يهتمان إلا بخطاب الصراخ المتبادل، وبينما تلعب المعارضة على حبل تقصير الحكومة في أداء مهامها فإنّ الأخيرة تعزف وتناور على وتر تصيّد هفوات المعارضة وأخطائها. إنّ أي قضية إدارية بسيطة مرشحة لأن تكون قضية رأي عام طالما أنه يمكن توظيفها في اكتساب عاطفة عامّة الناس ومن ثم استغلال ذلك في الوصول إلى الأهداف الخاصة، سيّما في مجتمع قابل للإنقسام بسرعة كالمجتمع الكويتي.
مبدأ الفصل بين السلطات، وعدم تداخل الاختصاصات هي مبادئ ورقية حتى عند مدعيها لأنها تسقط أمام أوّل اختبار، القانون الذي يُدعى لتطبيقه هو القانون الذي يكفل المصالح الشخصية لداعيه ومتى ما انتفت عنه هذه الصفة كان تطبيقه إعلانًا للويل والثبور وعظائم الأمور، الفرد في هذا المجتمع يتصور أنّ الحقوق هي وليدة المطالبة بها على لسان أيّ كان، بينما هي وليدة الممارسة الصحيحة لها.
التطوّر في أي مجتمع لا يكون إلا بالاعتراف بوجود «المرض الاجتماعي» وفي ظل الخطاب الحالي فإن أي اشارة لذلك تفسر على أنها سلبية تستهدف النيل من طرف وتعمل على سلب استقرار المجتمع وتفتيت نسيجه، رغم أنه لا تزال معظم الأطراف تستحضر انتماءاتها وعنصريتها وإقصائيتها في حواراتها وتغلّف ذلك بغلاف الدفاع عن النفس أو الوطن أو الدين وحتى الدفاع عن دول الجوار، لا يوجد هناك رغبة في الإنعتاق منها لأن ذلك يعني انتهاء صلاحية أدوات الابتزاز التي يستخدمونها في تنمية منافعهم وفقدانهم للهويّة الحقيقية لهم التي تخالف الهويّة المُدّعاة! إنّ الطرفين لا يبحثان عن حلول واقعية لهذا الصراع، ولا يريدانها، لأنهما يعتاشان على وجوده في خلق الحاجة لهما عند النّاس، كما أنّ الصراع، في جوهره، هو صراع بين طبقات اجتماعية مثقلة بتاريخيتها ولا تملك إلا استحضار هذه الأمور لتبرر تنازعها فيما بينها.
في المفهوم الحديث للدولة يقف المجموع أمام القانون أمّا في دولنا فالقانون خاضع للمجموع لذلك تمتاز لعبة «إدّعاء الأكثرية أو الأغلبية» بشعبية كبيرة هدفها لا يتجاوز التبارز بالعضلات في معارك تحقيق المصالح بين الحكومة والمعارضة، غاية كل طرف هو جرّ النار إلى قرصه، وتحوّل مفهوم الدولة الحديثة للسلطة من وسيلة لخدمة الناس إلى غاية يطلبها هؤلاء. وأبرز ما يُلاحظ أنّ المعارضة تقتصر مطالبها على العناوين العامّة: الديمقراطية، الحريّة، والعدالة، وتطبيق القانون، والحفاظ على الدستور. لكنها لا تتجاوز هذه العناوين أبدًا إلى ما ورائها وماهيّتها، لا يوجد في خطابها من يضع تحديدًا لهذه المفاهيم والعناوين، ولا من يضع برنامجًا لها، لأنّ تحديدها يعني تقييد أيديهم عمّا يفعلونه وكشفٌ لتلّون مواقفهم وتباين شخصياتهم رغم أنّ عملهم كله قائم عليها، ومن ناحية الطرف الآخر فإنّ بقاء هذه العناوين ضبابية وعائمة هكذا يعني إمكانية استغلالها في تبرير أي موقف يتم اتخاذه من قِبلها، والشعب في خضم هذا الصراع هو متراس يحتمي به كل طرف ويرفع قميصه، وينساق الناس غالبًا طوعًا تحت ضغط العاطفة إلى الإصطفاف مع طرف.
النظام السياسي في الكويت يملك الفاعلية والقابلية لعلاج هذه السلبيات لكنها قابليات غير مفعلّة، لا لشيء إلا لأنّ المجتمع يسير وفق «دستوره الحقيقي الخاص به» لا الدستور المكتوب ويغطي هذا بإصراره على العيش في زخم الصراخ الذي يمارسه، وهي حالة مرضية إذا استمر إنكارها وإدّعاء أنّ الخلل في النظام لا في الصورة الذي يُمارس به فإنّ النهاية لن تخرج عن الوقوع إما في ديكتاتورية مقننة، في عودة لحقيقة الإنسان الأوّل، أو الإنزلاق في صراع دموي يعيد بناء المجتمع كما حدث في أوروبا طوال النصف الأول من القرن العشرين.
إنّ الحديث لا يمكن اختصاره بمقالة واحدة ، وكل ما كُتب هو مجرد مدخل أوّلي لفهم حالة الصراع، لا أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مفهوم الدولة، العروي، 24.
[2] العطالة والتجاوز، أحمد حيدر.

3 نوفمبر 2011

الطريق إلى القراءة

شغلت عمليّة القراءة على مدار الزمن أذهان الفلاسفة والمهتمّين بهذا المجال، ولأن المعرفة والعلم ارتبطا  بالقراءة، أصبح من الطبيعي الإشارة إلى القراءة على أنها عملية تعلّم في حد ذاتها.


سواء تعلّمُ شيء جديد أي اكتساب المعارف، أو إعادة إظهار لما هو مطمور داخل النفس كما كان يرى ذلك سقراط، فالإنسان - عنده - وُجد وهو يمتلك كافة المعارف، ويبقى دوره هو إيقاظ هذه المعارف الكامنة داخله.

وعليه يمكن القول بأنّ القراءة مرحلة ثانية، أمّا تأسيس الفكر فهو المرحلة الأولى، وبعدهما التفكير كمرحلة ثالثة.

بمعنى أن نتعلم كيف نفكر أي كيف نبني آلية منهجية للتفكير الصحيح، وبناؤها يعتمد على سؤال الهدف من القراءة، ثم نقرأ، وبعدها نتساءل وفق منهجية التفكير أو الآلية التي بنيناها في ما قرأناه  لاستخلاص المفيد منه.

الإنسان عنده القدرة على استنباط واستكشاف معاني كثيرة من نص واحد، كل شخص بإمكانه أن يفهم النص بما يناسبه، ونحن كبشر نملك استعدادًا لتحوير النصوص وتأطيرها بحسب أفهامنا وهذا يمكن ملاحظته - كمثال - في الاختلافات الفقهية وكيف يستند كل فقيه إلى نفس النص، ومع هذا تختلف النتيجة والآراء.

فأول خطوة قبل القراءة، هي وضع الأرضية التي يمكن من خلالها فهم ما نقرأ ثم التفكير به واستخلاص الفائدة منه، كما مرّ.

نحن بحاجة لتعلم الفهم، وفي نفس الوقت تعلم العقيدة، وبعد ذلك يمكن لنا أن نحاكم ونقرأ أي نص دون خوف، بل سيصبح بإمكاننا بعد ذلك أن نستلهم المفيد من تلك القراءات ونوظفه في ميولنا القرائية، وتدعيم آرائنا، بل واستنباط مؤيداتها ممّا قرأنا، وإن كان مخالفًا بحسب الظاهر لها، وهذا هو علاج الفكر أن يُقابل بالفكر لا بالمنع.

الشهيدة بنت الهدى (آمنة الصدر) استطاعت أن تخرج من التاريخ روائع، صاغتها في خدمة العقيدة والدين بصورة أدبية روائية نفذت إلى الأذهان قبل القلوب؛ الشيخ أبو جعفر الخراساني استطاع أن يوظف ميوله الشعرية في خدمة العقيدة بكتابة أرجوزة «هداية الأمة إلى معارف الأئمة عليهم السلام» بما فاق الأربعة آلاف بيت في الردّ على أصحاب الفلسفة والذوق كما سمّاها، وهكذا بإمكان كل شخص متى ما تشبع بالفكر الصحيح، و وقف على أهم ما فيه، واستحكم منه، أن يوظف ميوله فيه، ولا يهمه بعد ذلك النص الذي أمامه، لمسلم أو كافر، ملحد أو مؤمن، ففي كل الحالات سيكون قادرًا على تفسيره، وتطويع ما يلزم بما يخدم معتقده. كما فعل ذلك مثلاً الشهيد الصدر في نظرية المعرفة. فليست هناك حاجة لتحديد (ما يقرأ) الآخرون، وممارسة الرقابة المسبقة عليهم بل الحاجة الأساسية تكمن في تعليمهم أساسيات التفكير، وأهمها: كيف ينتقدون؟ ولماذا يقرؤون؟

وهم بعد ذلك سيتحولون إلى (مؤثرين) لا متأثرين بالآخرين الذين تكون قراءاتهم بلا فائدة، وعقولهم مقتصرة على كونها (ذاكـرة) للحفظ والتخزين لا أكثر.

ومما يؤسف له، أن الكثير من الشباب لا تتم تربيتهم على هذا الأساس، فخرجت لنا أجيال متأثرة تخلط عقائدها بعقائد الآخرين، لأنها غير قادرة على ممارسة عملية (المعالجة) لأفكار ورؤى الآخرين لكونها لم تزوّد وتُعلّم بهذه الأساسيات
من هنا يمكن أن نطرح هذه الأسئلة.
  • السؤال الأول: لماذا نقرأ؟
لا يمكن أن نجيب على السؤال بأننا نقرأ للقراءة نفسها. فالقراءة ليست موضوعًا إنما طريق. ولأن القراءة هي عملية تركيب لرسومات اتُّفق عليها لاعطاء معنى ما، سُميّت بـ(الأحرف)، فإن هذا يدل على أن عملية القراءة بحد ذاتها مجرد وسيلة لنقل المعرفة.
دانتي أليغييري، الشاعر الإيطالي الشهير بكوميدياه، يذهب إلى أنّ النص، أي نص، يمكن قراءته بنوعين أولاً المعنى الذي نحصل عليه من الأحرف، وهي القراءة المتعارفة أو القراءة اللغوية إن أمكن تسميتها بذلك.
 
وثانيًا المعنى المجازي وهو ما تصفه هذه الأحرف، أي المعاني الباطنية التي يمكن استخراجها من النص. أو القراءة الفكرية.
فكل نص، في الحقيقة، يملك القابلية لاستنباط عشرات المعاني المجازية أو التفسيرات منه، كلٌ بحسب قراءته له.
لذلك نحن حين نقرأ، نبحث عن معرفة، سواء كانت جديدة تضيف لنا شيئًا جديدًا وهي القراءة على المستوى الأول، أم إضافية وهي ما نستخرجه من النصوص لتدعيم آرائنا واثباتها قبال باقي الآراء والاعتقادات وهي القراءة على المستوى الثاني.
 هذه المعرفة بشقيها تساعدنا على فهم أفضل لمختلف القضايا، وتجعلنا على بصيرة بما يدور حولنا، وتمنحنا قدرة أكبر على فهم اعتقاداتنا وما فيها من أسئلة ضرورية.
  •  السؤال الثاني: ماذا نقرأ؟
القراءة كالفرس الجامح، يجب أن يكون له خيّال يوجهه.
كذلك هي القراءة، يجب أن تكون موجهة، وليست عبثية ولمجرد القراءة بحد ذاتها. لا يوجد ما يمنع من قراءة أي شيء بما فيه ما يخالف وجهات نظرنا أو اعتقاداتنا حتى ولو وصلنا إلى درجة القطع واليقين بها،
لأن ذلك لا يخلو من فائدة ولكن هذا لا يعني قراءة كل ما هب ودب دون بناء القواعد الأساسية لمعارفنا واعتقاداتنا.
وهذا هو الأهم في "ماذا نقرأ؟"
أول ما يجب الاهتمام به هو التركيز على بناء قواعد متينة لأكثر الأسئلة إلحاحًا في حياة الإنسان وهي الأسئلة الاعتقادية، حتى تصبح مرجعًا يمكن من خلال الرجوع إليه الإجابة على الاستشكالات التي تواجهنا في حياتنا اليومية، ومع توسع شبكة الانترنت والحاجة اليومية لها، تزداد من هذه الأسئلة طرحًا وبصيغٍ مختلفة، لأنّ المكان يجمع العقول المختلفة ومن ثمّ الإشكالات المختلفة أيضًا.
الاهتمام بالمطالعة، والإطلاع على كل شيء سواء في الأدب، أو العلوم الإنسانية والفلسفية، أو السياسة وغيرها، شيء جميل وتعطي للمرء تفردًا بفهم واسع لمختلف الأمور، سيما في مجتمعات لا تملك التقدير الكافي للقراءة وتميل إلى اسباغ صفات مبالغ فيها على من يتجرأ ويمارس هذه العملية ولو بحدها الأدنى، إنما هذه المطالعات كلها يجب أن مستتبعة لما هو أهم.
 يجب أن يكون للقراءة هدف. والذي يقرأ كل شيء بلا هدف لن يصل إلى فهم شيء أبدًا.
من الخطأ توجيه القراءة إلى الإجابة التساؤلات، لأن هذا يعني اهمال المزرعة لأجل العناية بثمرة . فإجابة التساؤلات هي فرع عن استحكام المعرفة. والمعرفة التي تكون مبنية على معرفة الأسئلة الملحة وإجاباتها فقط لا تجعل من الإنسان يختلف عن الآلة التي لا تجيب إلا بما تؤمر، إن القبض على زمام المعرفة في مجال ما لا يضمن لصاحبه الإجابة على أهم الإشكالات بل تجعله يطوّر من معرفته لتعالج حتى الإشكالات التي لم يحن موعد ولادتها بعد.
  •  السؤال الثالث: كيف نقرأ؟
 هناك نوعان من العقول. عقل انقيادي وعقل نقدي.
العقل الأول ينقاد مع جميع ما يقرأ لأنه لا يملك أرضية صلبة يقف عليها ويمكن من خلالها أن يحاكم الأفكار أمامه.
والعقل الثاني عقل يمكنه أن يستخلص أهم الأفكار، ويحللها ويركبها وفق رؤاه.
أي يصل إلى مرحلة قراءتها على المستويين القراءة اللغوية، والقراءة الفكرية.
حينئذ يكون قادرًا على أن يتعامل مع كافة وجهات النظر المؤيدة له أو المخالفة على حد سواء، ويصبح مؤثرًا بالأفكار بدل أن يكون متأثرًا بها.
يشبّه علي شريعتي عملية القراءة والتفاعل معها بالجهاز الهضمي، يدخل فيه الطعام فيستخلص المفيد ويطرد الضار.
كذلك يجب أن يكون العقل مع القراءة، وهذا الشيء لا يمكن أن يحدث إلا بمعرفة ما هو المفيد وما هو الضار، فنعود لسؤال: ماذا نقرأ؟ وقبله لماذا نقرأ؟
وضع الإجابة لهذه الأسئلة منذ البداية، يوفر علينا تعب الدوران في حلقة مفرغة نضطر فيها لخوض بحار التوهان قبل أن نكتشف الحال بعد فوات الأوان. 
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذه المقالة معدة منذ فترة للنشر بالتزامن مع معرض الكتاب
ولكن لكثرة الإنشغالات لم تر النور إلا الآن.

11 أكتوبر 2011

المحطة الثالثة

وقف عند زميله يستحثه للخروج من صومعته، وهو رافض لذلك، فقد قضى عمره منكبًا على رسم لوحاته حتى شارفت سنواته القليلة على نهاية إقامتها في هذه الأرض، آيس منه فألقى عليه كلمته: كيف تطيب نفسك وقد أضعت سنواتك بين الأوراق والأقمشة والفرش؟ وانشغلت برؤية البقع البيضاء عن رؤية العالم فيما حولك؟ واكتفيت برائحة الأصباغ والزيوت عن شذى الورود ورحيق الأزهار؟
  ولم يقطع سيل أسئلته المنهمرة إلا إجابة صديقه وهو منكب على تعديل فرشه والتدقيق في لوحته: حَمَيتُ سنواتي من الضياع بأن قيدتهم ضمن حدود الإبداع، وحولتهم من أرقام تمشي بإسراع إلى لوحات يتأملها كل ملتاع. فما فائدة متعة لا يبقى منها في النهاية إلا ذكرى مختبئة تنتقل إلى القبر مع جثة منطمرة؟
* * *
  كثيرًا ما تقابلني مثل هذه الجملة: اطلع شوف الدنيا.
تتساءل ما هذه الدنيا؟ لا تجد اجابة واحدة، ومن مجموع الأقوال تصل إلى حقيقة واحدة أنهم يريدونك أن تحيا حياتهم، وأن ترى ما يرونه، وتسمع ما يسمعونه، وإلا فإن كل ما تفعله هو شيء «خارج الدنيا» يضيّع السنوات من عمرك، تتوقف لتتأمل نتائج السنوات التي لم يضيعوها من أعمارهم وشاهدوا فيها الدنيا؟ لتكتشف أنّ الإجابة هي «.. هباءً منثورًا».

  هناك ميل عند الناس عمومًا إلى اعتبارية محوريتهم، يرون في أنفسهم المسطرة التي يجب أن يُقاس كل شيء آخر عليها، فهمهم للأمور هو الفهم السليم، وقولهم هو القول السديد، وكيفية معيشتهم هي المعيشة المُثلى، وإن كان تطبيقهم يشوبه شيء من النقص فلا بد أن تطيع رؤاهم من باب أنهم وإن عجزوا عن تطبيقها على أنفسهم إلا أنّ رؤاهم وتنظيراتهم قطعًا ويقينًا الفُضلى والمُثلى. هذا الميل هو نتيجة الصراع الذي يعيشه كل إنسان داخل نفسه ما بين عقله الذي يهديه لما هو سوي، وما بين غرائزه التي كثيرًا ما ينهزم أمامها، فيُجبر عقله على تبريرها تحت ذرائع شتّى. نفس الأخطاء التي هزمت نابليون في حملته على روسيا هي التي هزمت هتلر، ومع أنّ الثاني كان مطلعًا على مسيرة الأول، إلا أنه وقع في نفس الفخ الذي تصور أنه بذكائه سيفلت منه، وغاب عنه أنه كان يفكر بغرائزه لا بعقله!

  مشكلة البشر أنهم لا يقضون وقتًا في محاسبة ومراجعة أنفسهم كما يقضونها في محاسبة غيرهم وانتقادهم، لذا تراهم يعيدون نفس أخطاء من ينتقدون .. ولو بعد حين! فمن ينشغل في صياغة حياة من حوله لن يجد ما يكفيه من الوقت لأن يصيغ حياته. قال لي المرحوم والدي مرة: إذا كنت لن تتعلم من تجارب الآخرين فهذا يعني أنك ستكرر حياتهم وتضيّع وقتك بالاستماع لقصص الناس، أما إذا تعلمت واستفدت منها فهذا يعني أنك ستستفيد من وقتك، وستعيش حياتك لا حياتهم.

  حين نعيش السنوات، فنحن نعيش معاناة مستمرة مع الآمال التي نرجوها والآلام التي نحصدها، وفجأة حين نرى أنفسنا بمعزلٍ عن الوقت الذي تمثله «السنة»، حين نقف في مقابل أنفسنا وننظر لها ككيان له وجود واقعي ومنفصل، نرى أن كل ما كنا نخشاه وكل ما عشنا ونحن نتأمله وكل ما اضطررنا للمرور فيه تلاشى ولم يبق منه إلا عدة نقاط، مرة تكون مضيئة وأخرى مظلمة .. كمسبحة انفرطت حباتها ولم يبق في يدك منها إلا حبيبات بحسب الزاوية التي تقبع فيها على كف يدك يكون مقدار «النور» المنعكس عنها.

  اليوم أقف على رأس السنة الثالثة في هذه المدونة، لا أرى من مسيرتها إلا هذه النقاط، بعضها أحمد الله أنها لم تنفرط من يدي، وبعضها أخجل إلى يومي من بقائها فيها. وهذا من جميل ما في الإنسان أنّه الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على المراجعة والتصحيح وإحداث التغيير في نفسه، وفيما حوله تبعًا لذلك. خلال هذه السنوات وردتني أسئلة كثيرة، وقابلتني أحداث أكثر ومواقف عديدة، شُتمت، وامتُدحت، وتجادلت، استفدت وخسرت، تصادقت وجرني البعض لعداوات، رحلة جمعت فيها المتناقضات، وهكذا هو الإنسان جُمعت في صفاته الأضداد.

  لعل أكثر ما واجهني هو الإشكال على صعوبة اللغة التي أكتب بها. وجوابي أنّ لغة الكتابة كلون العين، تستطيع أن تجملها بعدسات مؤقتة لكنك لن تستطيع ذلك دائمًا، فأسلوب الكتابة هو طريقة الكاتب في التعبير عن المعاني التي في ذهنه، وهي فيه كالطبع لا تُمحى، فإن كانت معقدة أو مركبة كانت طريقة التعبير عنها كذلك، ولذا قيل أن أعذب الشعر أكذبه، فلو كان الشعر لا يحكي إلا حقيقة الحال لما استساغ الناس قراءته وسماعه حتى وإن كان يعبر عن الحقائق كما هي وفي أبسط أنواع الجمل التي تقبلها كافة الأذهان على تفاوتها.

  أحيانًا كثيرة يكون لبعض الكلمات والتراكيب اللغوية معانٍ تختزل الكثير، فقط تخيّل لو استبدلت لفظ «الجوهر» بـتعريفه الفلسفي وهو: «الموجود في لا موضوع» كيف سيكون وقع الجملة؟ وأي أذن أو عين ستهضمها وتقبلها؟ إن الألفاظ يحدّها استخدامها، وليس من شأن الكاتب إلا صياغتها للتعبير عمّا يراه، وعمّا يعتقده، وعما يشاء التعبير عنه، وما يجده معبرًا عنه، لا عمّا يريد رؤيته الآخرون.
  ولا أنتهي من هذا الجواب حتى يقفز سؤال آخر لماذا لا تكتب عن الشأن العام أو ما يدور حول العالم؟

  لأن الإنسان كائن ذو إقامة مؤقتة، فهو لا يستأنس إلا بالأشياء المؤقتة: تفاهات السياسيين وتخبطاتهم، وإجرام الأنظمة وتسلطها، وعن هموم الحياة التي تجعله يملأ يومه. هو يريد شيئًا يقضي به ساعات اليوم لا أكثر، لهذا السبب يكرر البشر نفس الأخطاء منذ وجودهم فالنظر لما وراء اللوحة التي أمامهم لا يعنيهم. لا أحب ذلك، لا أحب أن أحصر همّي في نقد طاغية وكأن الأرض أو تاريخ البشر خلا منهم ، وبدلاً من أنتقد الثمرة المريضة أفضّل علاج جذر الشجرة.

  قضايا اليوم تموت بانتهائه، والضجة الفارغة تنتهي بمجرد إمتلاء محيطها بالأصوات المتداخلة، لكن القضايا الأساسية التي تصنع الطغيان، وتوّلد الجشع، وتعيد ذات الأخطاء مرة تلو الأخرى، قضايا الإنسان بما هو إنسان، لا تنتهي إلا بانتهاء وجوده هو، لا بانتهاء غايته منها، لذلك أرى أن مناقشة «المصاديق» والإنشغال فيها تجعل الأهم وهي «المفاهيم» يتراجع النظر فيها.
في بدايات المدونة، وجه لي أحد المعلقين سؤالاً هو: هل توجه مدونتك إسلامي أم علمي أم أدبي أم ماذا ؟
  كان جوابي عليه: هذه مدونة و ليست موسوعة علمية أو أطروحة دكتوراه حتى تحتمل كلمات علمية رصينة مجردة، بل هي تعتمد على روح الشخص وهويته لأنها بمثابة أوراقه الخاصة التي تعبر عنها، و هويتي هي ما أكتبه هُنا.
هي شيء من كل شيء أهتم به، ليس مطلوبًا مني أن أخصصها بباب معين سواء كان إسلاميًا أو سياسيًا أو علميًا أم أدبي، فكينونتي متعددة.
لا أعلم إن كان هذا الجواب يصلح إلى اليوم أم لا، لكني على يقين من أنني أردت الإجابة على أسئلة كثيرة طرحت علي خلال هذه السنوات فانتهى بي الحال إلى كتابة معلقة كهذه تشتت القارئ، كما شتت مواضيع المدونة من طرح عليّ ذلك التساؤل!

4 سبتمبر 2011

الـسـؤال

كل يوم في حياتي يعني المزيد من الأسئلة، عنّي وعمّا حولي. طبيعة الحياة أنها مليئة بالتساؤلات ونكهتها تأتي من الغموض الذي تقود إليه هذه الأسئلة، تخيّل رواية بوليسية كُتبت على نسق الأخبار في الصفحات الوسطى من الجريدة، أسلوب إنشائي يكتفي بالوصف وصولاً للنتيجة، من سيقرأها؟

مهما كانت مبدعة في محتواها فإن خلوها من الأسئلة يعني أنها لم تكتب للأذهان بل كتبت للأسماع، شيءٌ نمر عليه مرورًا عابرًا ثم ننساه كما ننسى معظم الأخبار التي نسمعها في الإذاعة ونحن في طريقنا بالسيارة لأي مكان.

والسؤال نفسه في الحياة نوعان، سؤال سطحي وآخر عميق. معظم الناس يكتفون بالسطوح من الأشياء لأنهم يعيشون على سطح الحياة مكتفين بما هو في واقعهم من ارتباطات وأحداث يتفاعلون معها تارة وأخرى يهملونها حتى تأتي لحظة النهاية، وقليل يلتفت إلى الأسئلة العميقة التي لا تريد منك العودة إلى التاريخ لتكتب الحاضر وتستشرف المستقبل، أو تريد منك أن تضع ذهنك في حالة استقبال لكل الآراء والكلمات والمقالات بحجة انتخاب الأحسن، ولا تريد منك في ذات الوقت أن تعيش التوّتر في صراع الذات مع المجتمع، وصراع الـ أنا مع الـ نحن، والوقوف مشدوهًا أمام كل كلمة لأن المعرفة أوسع من أن تحيط بها، واشتمالها كلها يفوق قدرات الإنسان.

إنّ الإجابات، كما يقول أحد الأفاضل، في كل مكان، ومن السهل جدًا الوصول إليها، لكن من الصعب جدًا أن تطرح السؤال الذي يقودك إلى هذه الإجابات المطلوبة. كأنك تملك مكتبة فيها من كل شيء إنما امتلاكك لها لا يعني أنك عرفت كل شيء طالما أنّ هذا الامتلاك لم يتحول إلى استحواذ على ما في بطونها، واقتدارٍ على هضم ما فيها. وهذه هي مشكلة المعرفة في هذا العصر أنّها ركزت على الاجابات أكثر ممّا ركزت على الأسئلة فتحولت المعرفة إلى أغلفة كتب تزيّن الأرفف وإلى مجرّد مصطلحات ومسمّيات تتناقلها الألسنة وعلى قدر ذكرها تباهيًا بها أمام النّاس يكون تقييمك عندهم.

ليس من مهمة السؤال أن يكشف كل المعرفة لك إنما مهمته أن يضعك على الطريق السليم الذي يوصلك لها، فالمعرفة التي تعتمد على حاسة البصر لا يمكن إدراكها بحقيقتها بحاسة السمع فقط فلكل شيء أداته التي تناسبه. قد يفهم الكثيرون من عبارة السؤال العميق هو التساؤل عن الوجود، الأسئلة الثلاثة المشهورة: من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟

من أين أتيت، وفي أين وُضعت، وإلى أين أتجه؟ هذه الأسئلة هي رأس الجبل وما وراءها هو ما يُضفي عليها القيمة وإلا فإنها بذاتها طرحها المؤمن والملحد والمادي والروحاني على حدِّ السواء. السؤال الأهم وراء الأسئلة هو: لماذا أسأل هذه الأسئلة؟ معظم المفكرين والفلاسفة أهملوه وانطلقوا في إجابة الأسئلة الثلاثة السابقة ومنها وصلوا له بينما أرى أن تبدأ منه ومنه تنطلق نحو اجابتهم. لماذا قُدّر لي أن أعيش معاناة طرح الأسئلة؟ ولماذا قُدّر لي أن أكون متسائلاً؟ في جلسة مع أحد الأصدقاء اكتشفت أن جميع الأجوبة التي تتناقل عن امتياز الإنسان بالعقل، ودور الفطرة في حياته، وانجذابه نحو المطلق، وسعيه نحو الكمال، وغيرها صحيحة لكنها اجابات وصفية تصف لك «ماهيّة هذا الإنسان» أي أنها تُبيّن لك أنّ هناك ما يدفعه قهرًا نحو السعي، وأنّ من طبيعته التساؤل لأنه لا يحب أن يتصور نفسه جاهلاً فهذا نقص في حقه، ولا يهمه مدى صحة اجاباته أو معرفته طالما أنه يمتلك اجابة تُسكت الأسئلة عنده، ولو كانت ساذجة .. المهم أنها اجابة وكفى.

الوصف يقدم لك طريقة توّلد السؤال، ولا يقدم لك سبب وجوده في الأساس، كما أن التفسير العلمي يقدّم سبب تحوّل الماء إلى ثلج لكنه لا يقول لك لماذا صار ثلجًا ولم يصبح غازًا تحت نفس الظروف؟ ما أراه أنّ هذا التساؤل في الإنسان إنما وُجد حتى يكون تذكيرًا دائمًا بـ الغاية عند الإنسان، شيء أُجبر عليه الإنسان ولم يوجده هو بنفسه فيه لذلك يتملل معظم النّاس من كثرة الأسئلة في أذهانهم فيجعلونها في خزائن النسيان، وطوايا الإهمال، أتخطر أن نيتشه في «هذا الإنسان» يذكر أنه لم يشغل نفسه يومًا بالبحث عن إجابة لهذه الأسئلة!

التساؤل هو تذكير دائم بالغاية التي هي تذكير دائم لهذا الإنسان لأن يبحث عن مهمته الحقيقية ودوره الواقعي، دون أن يتقمص دور المسؤول عن مهمات الآخرين أو ينفذ  أدوارهم أو ينتظر نقطة ليبدأ فيها الإحساس بوجوده. كالذي يتصوّر أن مسؤولية العالم ملقاة على عاتقه وأن كل ما يجري هو خاطئ وأن الظلام هي محطة النفق الأخير للأرض وكأنّ حكمة الله الذي يؤمن بها لا وجود لها، أو كأنه يريد ازاحته لأن يرى في نفسه الأقدرية –والعياذ بالله- على تصريف أموره وأمور الدنيا التي لا يعجبه جريانها.

إذا كانت الأسئلة السطحية التي تتعلق بأمور المعيشة هي التي يشغل بها الغالبية من البشر أذهانهم عن الأسئلة العميقة خوفًا مما تتطلبه من مجهود في اكتشاف الذات وعلاقتها بما حولها، فإنّ هذا التعريف للأخيرة هو بحد ذاته هروب من تعريف الأسئلة العميقة. سألت أحدهم يومًا وقد عكف كما لم أر أحدًا مثله على كتب التاريخ ليُجيب بواسطتها عن الكيفية التي سيكون عليها المستقبل: وبعدين؟ ولا زلت انتظر اجابته!

لماذا يشغلنا المستقبل بهذه الصورة؟ ببساطة لأن الموظف البسيط يُحب أن يفكر بنفسه وهو على كرسي المدير، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالمستقبل! يطمع بدور أكبر من دوره حتى يمكن أن يرى لوجوده قيمة، وفائدة. ينتظر نقطة في مكانٍ ما، أو زمانٍ ما حتى يبدأ الإحساس عنده بأنه موجود.

معظم الناس يأتون للدنيا ببكاء، ويغادرونها بنحيب، رغم كل ما اكتسبوه من علوم ومعارف، لأنّ العلم بلا نور القلب* لا يختلف عن العلم بأحوال الحيوانات، قد تأمنك من خطرهم وتُعرفك التعامل معهم لكنه لن يُعرفك أبدًا كيف تعيش حياتك.

التساؤل العميق ليس عن سبب الوجود، ودورك الذي ستلعبه فيه أو أثرك الذي ستتركه بعدك هذه كلها أشياء فرعية من الأهم وهو الغاية من الوجود، والتساؤل هو اثبات لاستمرارية هذه الغاية في كل لحظة وكل مكان. فالغاية ليست في معرفة «كيف تعبد» التي يتيه الناس وهم يتصارعون مع أنفسهم والآخرين لتحقيقها، ويطلبونها في الأشياء والعلوم والناس، إنما الغاية في معرفة «من تعبد؟» .. إذا عرفت اجابة هذا السؤال، سيُعرفك هو كيف تعبد دون تعب.
  السؤال العميق لا يطلب منك إجابة، إنما يطلب منك معرفة .. والمعرفة هي التي ستنجيك من كل صراعاتك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن الإمام الصادق عليه السلام: لَيسَ العِلمُ بِكَثرَةِ التَّعَلُّمِ ، إنَّما هُوَ نورٌ يَقَعُ في قَلبِ مَن يُريدُ اللهُ أن يَهدِيَهُ ، فَإِذا أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوَّلًا في نَفسِكَ حَقيقَةَ العُبودِيَّةِ ، واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِهِ واستَفهِمِ اللهَ يُفهِمكَ.

31 أغسطس 2011

العيد الذي عاد

هناك شعور متجذر بالدين عند الإنسان، فـ"الحاجة الدينية مغروسة في الشروط الأساسية لوجود النوع الإنساني" بغض النظر كون هذا الدين مرتبط بالله الواحد الأحد أم بغيره من المخلوقات. يُعرّف إريك فروم الدين على أنه: "نظام للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعًا يكرس من أجله حياته"[1]. وعليه يكون تعريفه شاملاً لكل الأنظمة الفكرية بما فيها الإلحادية على أنها دين يعتنقه أفرادٌ من النّاس. وهذا التحزّب أو التنمّط أو الاعتناق هو استجابة لشعور متجذر بضرورة الإرتباط بما يغذي الجانب الروحي عند الإنسان على تفاوت مراتب هذا الغذاء، سطحيًا كان أم عميقًا.
للعلامة الطباطبائي استنباط لطيف مرتبط بهذه النقطة في ذيل الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فهو يشير أن غاية خلق البشر والجن غرض مرتبط بهم، لا بالله عز وجل، «و أن الغرض هو العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودًا للناس» فلو كان خلقهم كي يصبح معبودًا لكان يريد الاستكمال بعبادتهم، «فقد قال "ليعبدون" و لم يقل لأعبد أو لأكون معبودا لهم» كما في الحديث القدسي "خَـلَـقتُ الخلق لكي أُعرف" لا لكي يعرفوني. فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليها هي وما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك [2].
وقد يُطرح سؤال عمّا هي العبادة؟
وجوابه: بمعناها الشامل لاتقتصر فقط على مجرد أداء الشعائر الدينية الجسمية الروحية من صلاة وصوم وحج وغيرها ، وإنما تعني الالتزام المخلص والأمين بمباديء الإسلام وتعليماته فى كل شؤون الحياة . فحسن استغلال البيئة عبادة والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر إلى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتي يرث الله الأرض ومن عليها عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة وعدم تلويث الماء والهواء عبادة، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة (مدارس ـ مستشفيات ـ مصانع وغيرها) بأسلوبٍ راشدٍ عاقلٍ عبادة[3].
العيد في كل الأديان هو عنصر جوهر من عناصر العبادة[4]. حتى في الأنظمة العلمانية، والشيوعية التي هي أكثرها معاداةً وانفكاكًا عن الدين بمعناه الخاص جلّ ما فعلته هو استبدال الأيام المقدّسة، الأعياد التي هي «المحفل المقدس» كما يعبّر عنها في العبرية أو «أيّام المقابلة مع الله» كما في المسيحية[5]، إلى أيّام المقابلة مع فكر القيادة والاحتفاء بالشجرة والجيش! إنزالٌ من المقدّس العالي إلى تقديس الداني كمحاولة للتغلّب على هذه الضرورة التي لا تغيب عن الإنسان.
تكمن إحدى فلسفات العيد في إعادة الإنسان إلى توازنه بعد الاستغراق إما في الدنيا، وإما في العبادة، فكلاهما يعمل على فصله إما عن واقعه الخارجي المتمثل بما يحيط به، أوعن واقعه الداخلي المتمثل بجوهره النفساني الذي يربطه بـ اللا متناهي، الوجود الأعلى. كانت الطقوس الدينية المرتبط بالأيام المقدسة في الأزمان القديمة تعبيرٌ عن الشعور الوجداني عند الإنسان بوجود قوة قاهرة تتحكم في مسير حياته، وهذه القوة تدفعه إلى أن يحاول استرضاءها نتيجة إمّا بُعده عنها باقي الأيام، أو نتيجة احساسه بأنّها تملّ من كثرة إلحاحه عليها، ويكون ذلك بتقديم القرابين أو بممارسة شعائر يتفرغ فيها إلى خدمة هذه القوة بما يتصورّه مستجلبًا لرضاها ومن ثم لا تتدخل سلبًا في حياته.
الشعوب البدائية كانت تعيش حالة مستمرة من الخلق اليومي لعالمها، بمعنى أنّ العقاب والجزاء لا يرتبط بمرحلة الزمن الأخروي إنما الزمن الأول – الذي يعيد انتاج الأحداث اليومية دائمًا - وطالما مارست طقوسها الدينية بشكلها الصحيح - كما تتوهم - فإنها تخلق نوعًا من الأبدية الدائمة لـ يومها، وما يرتبط به فقط دون أي أثر أو اعتبار لمفهوم المعاد بمعناه الدارج[6]، فهي تعيش ضمن دائرة مغلقة هي مبتدأها ومنتهاها ولاشيء قبلها أوبعدها.
هي نفسها الشعوب التي نتيجة لرؤيتها السطحية هذه للزمن، تصوّرت الإله في التجلّيات التي رأتها لقدرته في فيضان الأنهر، أو الأعاصير وأعراضها، أو حيوانات الطبيعة المفترسة التي تهدد وجود هذه التجمعات البشرية وتُحّجم من قوتها، وتهددها. كثيرة هي التفسيرات التي حاولت تفسير هذا الخلط ما بين تجلّي القدرة وما بين صاحب [علّة] القدرة، الدكتور شايغان يطرح فكرة «الوعي غير الناضج» أي أنّ الـ أنا عند أفراد هذه المجتمعات غير منفصلة عن وعيهم، ومن ثمّ فإن إدراكهم لأي شيء هو إدراك بصورة مشوّهة ومنقوصة للواقع لكونه قائم على صور جزئية تزوده بها حواسه المحدودة، ولم يتطور الوعي بالأنا إلى درجة فصلها عمًا سواها. كان لا يتصور وجود الفاصلة ما بين ذاته هو وما بين فعله، كما لم يتصور أنّ حالاته البشرية من غضب وفرح وحزن وإحساس بالرغبات العارمة هي أشياء لا تنطبق على تلك القوة القاهرة، لقد تصوّرها بذهنه، مثله .. إنسانٌ إنما بطاقة أكبر.
ورغم تطوّر الوعي الإنساني بإحداثه لشرخ جعل وعيه يستقل عن الـ أنا[7]، ومن ثم تطور مفهوم الزمن عنده، ومن خلال هذا التطور توسعت مداركه وبات أكثر فهمًا لمنظومة العالم، إلا أنّ هذا الإحساس لم يسلب منه الشعور بالتوجه ناحية شيء ما يقهره بغيبه وغموضه وسطوته مهما اختلفت تسمياته: اليد الغيبية للطبيعة، أو الإرادة العبثية، أو الوجود، أو العلم الذي بات يرتدي أثوابًا ليست له ليتقمص دورًا ليس له، أو الدولة، وصولاً إلى كل المفاهيم التي اخترعها ليبتعد عن الله عز وجل، رغم أنّ كماله في التوجه له لا لغيره. ونتيجة لذلك لا يزال للعيد ذلك المعنى الذي لم يندثر رغم تطور الإنسان، «ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى ، غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الإجتماع ، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية»[8]
هكذا، يظهر أن كل الأشياء ليست خاضعة لمفهوم التبدّل والتغيّر، قد نضيف عليها بعض الأشياء كنكهات وبهارات لكنها تحت أطنان الماكياج هذه تظل كما هي بصورتها الأوليّة، منها العبادة التي هي دورٌ لن يستطيع الإنسان تجاوزه. إحساسه بالنقص يجبره على استلهام عبادة يسد بها هذا الشعور، ومهما وصل به غروره واستكباره فإن غاية ما يفعله هو "تحوير" لمظاهر ومعاني عبادته ويظل جوهرها واحدًا، ويبقى العيد يعود دائمًا مذكرًا الإنسان بأنه بحاجة لأن يتطهر من الأدران التي يكتسبها من معيشته بكل ما فيها من مماحكات ومراوغات وإلتفاف على الذات ولا يكون ذلك إلا بالتوجه لمن له القدرة على ذلك، وأنه بحاجة لأن يعيد للزمن اعتباره كشاهٍد على كون الإنسان مهما أتى بتعاريفٍ جديدة له فإنه يتوقف على اعتابه معتبرًا إياه دائمًا المنطلق نحو «البداية الجديدة» لكونه إلى اليوم لازال يكرر نفس نهايات الإنسان الأوّل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الإنسان بين الحقيقة والمظهر، ص127 و128

[2] راجع تفسير الآية في الميزان المجلّد 18 والتفصيل في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري الدرس 46

[3] راجع العدل الإلهي، الحيدري، درس 46 وفيه عدة إشكالات وأجوبتها على هذه الآية.

[4] الأعياد السيدية، الأب يوحنّا ميشيل.

[5] المصدر السابق.

[6] داريوش شايغان، الأصنام الذهنية، ص 134.

[7] نفس المصدر

[8] الطباطبائي، الميزان المجلّد 4.