27 فبراير 2011

دولة بعمر رجل واحد

تمثّل الدولة الأموية، وما شاكلها، دولاً بالمعنى المجازي، فهي تختزل كيان الدول برجالاتها، وتفصل ما بين الأرض والشعب وما بين نظام الحكم، وتعتبر الأوليين مجرد كماليّات يُتمم بها أُبهة السلطة، فنشوء وسقوط الأسر الحاكمة لطالما اعتبر نشوءًا وسقوطًا للدولة، وهكذا اعتبر أيّ اختلال واعتلال يمر عليها يستلزم اختلالاً واعتلالاً للدولة بأكلمها، فهي رأس بلا جسد.

هذه الدول كانت تسير بطريق أحادي الإتجاه، تفكيرها، وشعورها، وعملها، وسياستها كلها قائمة على رؤية واحدة لجميع أفراد المجتمع تتبع فيها رأي الحاكم أو القائد، فتمثّل الدولة كُلاًّ كاملاً مصطبغ بصبغة السلطة، بينما تمثّل الدولة الحديثة مجتمعًا متعددًا يمتلك فيه كل شخص آراؤه، وأفكاره، ومشاعره الخاصة به وتتمدد هذه التعددية إلى بنية السلطة نفسها، فتتحول الانتخابات إلى ما يشبه عمليّة ولادة متجددة للمجتمع والدولة، فتضفي عليها مرونة التعامل مع التغيّرات.

يمكن تشبيه الدولة ذات النزعة الأحادية بالأشجار التي تنمو رأسيًا، لا تملك القدرة على تغيير مكانها، ولا المرونة اللازمة لمواجهة الرياح العاتيّة وسلاحها الوحيد في مقاومتها هو غرس وتقوية جذورها، وتثبيت أركانها كحل أخير للتعامل مع ما يواجهها، بينما تحوّلت الدولة التعددية إلى ما يشبه النباتات المتسلقة، تلتف حول العقبة التي تواجهها وتستمر بالنمو متكيفة مع كل ما يحيط بها، فاستبدلت قوة الثبات، بقوة الإلتفاف، يكمن الفارق بين الإثنين في جمود الأولى ومرونة الثانية.

يتمثّل الجمود في الدول بمقاومة أيّة تحديات تراها، سواء داخليّة أو خارجية، ومجابهتها بالقوة، ولا تملك لغة للحوار غيرها لأنّ طبيعة تكوينها قائمة على رأي قاطع يصدره "رأس الدولة" وعلى الجميع الإلتزام به لأن الدولة ككل مختزلة به. هذه الدول تُحكم بواسطة صورة حاكمها أكثر من أفعاله، لذا تصر على زرع صورة القائد الحازم والصلب حتى وإن كان ذلك على حساب الشعب، والدولة، ومتطلباتهما، لأنّ اهتزاز صورته تعني اهتزاز ثقة الشعب بالدولة وقدرتها على البقاء. بينما باتت الدول التعددية تعتبر القوة قمعًا للشخصية الفردية التي تكوّن بمجموعها عقلاً يعتبر «السلطة» فعلاً يستلزم الممارسة الفعلية لا مجرد صورة.

في المجتمع الأول ينشأ الفرد مستلب الإرادة، يكتسب الثقة من الحاكم الذي لا يملك حق محاسبته أو تغييره، بينما ينشأ في الفرد في المجتمع الثاني حر الإرادة، تنبع ثقته من قدرته على تصحيح المسار متى ما انحرف، فالسلطة في المفهوم الأوّل حق مكتسب للحاكم تعطيه الذريعة للتصرف بما يشاء مثل حق التصرف بحياته دون مساءلة عن اختياراته، ، فالحق لا يمتلك أحد محاسبة صاحبه به. وفي المفهوم الثاني هي وظيفة أعطاها المجتمع بإرادته للحاكم مشروطة بمراقبة مستمّرة. ويتمايز المفهومان في كون الوظيفة محددة السياسات والمهام غير مرتبطة بشخص، وجلّ مهمته هو التنفيذ.

تتمايز الحالتان في «ماهيّـة الدولة»، بينما هي مجرد كيان يمثّل سلطة سياسية تتممن على شعبها في الحالة الأولى أي «كيان سلطوي»، تصبح في الحالة الثانية كيان ينفذ الإرادة العامّة لخدمة الشعب، وبكلمة أخرى «كيان خدماتي» مهمته خمة الشعب ورعاية مصالحه التي أناطها به.

غير أنّ الدمج بين الحالتين، حالة الدولة السلطوية والدولة التعددية (أو الديمقراطية بكلمة أخرى) أنتج كيانًا يستغل الخدمات من أجل فرض وتعزيز السلطة، مستغلاًّ بذلك الذهنية الشعبية التي لم تتطوّر لتواكب مفهوم «الإرادة الحرة» لأفراد الشعب وما توفره للتنوع العقائدي والإثني، كما أنّ النظام بحدّ ذاته توقف تجديده عند المشاركة في السلطة، ولم يرتفع السقف عن ذلك. وما بين قصور المجتمع، وتقصير السلطة برزت إشكالية «المساومة على الدولة».

أبرز مظاهر هذه الإشكالية هو مساومة الحكومة لمشاركيها، بخدماتها مقابل ممارستها لسلطاتها، فيتحوّل النائب إلى مخلّص معاملات حتى تتمكن الحكومة من ممارسة السلطة دون مضايقة، ومن جهة أخرى هو يساوم الحكومة على جزء آخر من الخدمات بعرقلة سلطاتها بواسطة الأدوات التي يمتلكها، حتى يستطيع أن يخلّص معاملاته بمساومته للحكومة. والضحية غالبًا هو القانون الذي ينفذه طرف، ويشرّعه الطرف الآخر لأجل عرقلة عمل كل منهما، واستخدامه كورقة ضغط لتحقيق مآربه ضمن معركة التنازع المستمرة، وعليه تندرس هيبة القانون الذي يوضع للكسر، ويسود الجمود رغم هذا التنازع لكونه يدور في مربع واحد لا يتعدّاه، وتمضي هيبة الدولة في الزوال لأن كل طرف هدفه تسقيط الآخر بما هو مباح، وغير مباح.

قد يقول قائل بأنّ هذه مشكلة السلطة في الأساس، وهذا صحيح حين يُشار لذلك على أنّه رأس الهرم، أما جسم الهرم فهو المجتمع ذاته الذي عجز عن كسر طوقه والأخذ بمسؤولياته فهو يتصرّف من ردّات الفعل، وينتظر الواقع ولا يصنعه. إنّ مثله كمثل الهرّ الذي رآى صورته منعكسة على سطح الماء ففزع وبدأ يضرب سطح الماء بمخالبه بدلاً من أن يشرب، هكذا هو قصور المجتمعات عن إدراك ما بيدها حين تلجأ إلى البحث عن شمّاعات تعلّق عليها عدم قدرتها على التعامل مع ما وُهبت إيّاه من سلطات، تلجأ للتعارك معه بدلاً من الاستفادة منها، لأنها لم تستطع نقل نفسها كليًا من دائرة الإتباع إلى المشاركة، ويكفي الدليل على ذلك هو البحث المستمر عن «شخص واحد» يرمى على كاهله أسباب التراجع أو الفساد، سواء كان وزيرًا أو رئيس حكومة، وكأنه منفرد بلا ضابط في سلطاته.

وصف العقاد الدولة الأموية بأنها عمّرت عمر رجل واحد، حيث لم تستمر إلا لقرابة تسعين سنة، معللاً ذلك بما يشبه «الحوبة» لما ارتكبته من الفضائع التي حسبتها بحسبة التجار الذين «ينحون منحى الحساب والجمع والطرح في الدفاتر»، فهي استمرت بتدعيم أركانها بالقوة، واستمر الناس في الثورة على هذه القوة، حتى هلكت طاقتها مبكرًا وهي تدور داخل المربع الأوّل.
إنّ أعظم خطر يواجه أيّ مجتمع، بسلطته وشعبه، هو ألاّ يعرف ما هو، وما يملك، قبل أن يحاول معرفة ما يريد.

20 فبراير 2011

الوردة التي عرّت الرصاصة

كنّا في جلسة مسائية كعادتنا كل ليلة في بيروت أيّام الدراسة، ومن تحت النافذة كان يصعد لنا صوت شجار تعودنا عليه كل ليلة بين مناصري فئة، ومعارضي الأخرى، أحدهما صاحب بقالة والآخر صاحب محل لتنجيد مقاعد السيّارات، يشربان الشاي صباحًا معًا، وبعد العمل يتشاجران على السياسة الداخلية لواقع متأزم في لبنان، دفع صوتهما المتعالي أحد الأصدقاء من دولة خليجية مجاورة، لسؤال الآخر، الذي كان بحرينيًا، عن الذي ينتظرونه لينتفضوا على الوضع المزري القائم عندهم، بطالة، وفقر، وتقسيم فئوي، وإثني، وتجنيس سياسي، وعنصرية بغيضة، وتفرقة طائفية، وقمع، وعنف، وسجناء رأي بالمئات بما فيهم مراهقين لم يتعدّوا الخامسة عشر من أعمارهم.

ابتسم الصديق البحريني، فهو نفسه كان سجينًا سابقًا، وتعرض لتعذيب في التسعينات أصيب على اثره بأمراض متعددة لازال إلى يومنا هذا يُعاني منها، مرددًا بيتًا من الشعر: لا تكشفنّ مغطـًا .. فلربما كشفت جيفة

ولم يخبرنا بما هي هذه الجيفة، فقد انشغلنا بمتابعة الشجار اليومي الذي كان يدور بالشارع عن اكمال حديثنا قبل الإنصراف.

وأنا أشاهد، وأتابع، وأراقب ما يجري هذه الأيّام عرفت معنى ما أراد إيصاله من هذا البيت. مستذكرًا تمام البيت:
إنّ الجواب لحاضرٌ .. ولكنّي أخفيه خيفة.

خيفة من التصنيف، وخيفة من التنميط، وخيفة من هلامية الشعارات، وخيفة من ازدواجية الفكر، وحولان البصر، وسوء النية، وبئس المنقلب.

خيفة من علمه أنهم لا يحاربون حكومة، إنّما يحاربون موروثًا عجنت فيه الإقصائية، والعنصرية، ويحاربون فكرًا تربى على مياه آسنة سممتها الفئوية والطائفية، ويحاربون نظامًا يستند على أعمدة مستوردة، والأَمَر من ذلك كله يحاربون واقعًا مريرًا تزاوجت فيه كل الأمور المذكورة لتخرج لنا مسخًا متعدد الجبهات يرى في مطالبة ابن الوطن أجندة خارجية، وفي قتله على يد مرتزقة من بلاد الهند والسند، بسلاح غربي، وغطاء فئوي أجندة وطنية، وهذه الرؤية تأتي من الناس حولهم، للأسف!

ولمَ كل هذا؟

الخوف من نفوذ «إيران».

الاسطوانة التي شغلها الهالك صدام، حامي البوابة الشرقية، حين مزق اتفاقية الجزائر معلنًا حربًا طحنت مليون مسلم امتدت على ثمان سنوات سوداء. نفسها اليوم تتكرر، بلا أي إضافة جديدة أو حتى تعديل على شعاراتها، تحت هذه الذريعة يتم التبرير لسفك الدماء. وكأن دروس الماضي لم تعلمهم، وحضارات اليوم لم توعيّهم بأن الخوف شعور لا يتملك إلا الضعيف، وهذا الضعيف وحده من يتحمّل تبعية هذا الضعف، والتضحية بالناس لا تكفي لتغطية ضعفك. هذه الدعاية المؤلمة، التي تؤكد بثناياها أنّ الوضع الحالي هو من أوصلهم لهذا الضعف ومع ذلك يرفضون إصلاحه أو تعديله، تحت ذرائع شتّى بطريقها توفر الغطاء لكل عمليات القمع والعنف الممارس.

وعليه، تطل الطائفية برأسها، وتمارس لعبة «التقوّل» بأبشع صورها، ويُتّهم كل من يطالب بإصلاح وطنه، وتوفير لقمة العيش، وإزالة كابوس الرعب والقتل بأنه يعمل لأجندة طائفية، ويتم تقويلهم ما لم يقولوا، تختم الصورة بأنّ هؤلاء العزّل الذين جابهوا الرصاص الحي بصدورهم العارية إيرانيون!
اسطوانة تذكرني باسطورة أم السعف والليف المخيفة التي لم تكن سوى النخلة المسكينة .. مطالبات وطنية من أبناء الوطن لم يريدوا بها سوى إصلاح الحال تُقدم على أوراق الورود ليمزقها رصاص مدّعي المبادئ، قبل رصاص البنادق!

لا يوجد أسوء من سلب إنسانية الإنسان من خلال العناوين التي تغلّفه، قد تملك رؤية، اعتقادًا أو فكرة ما تجاه أيّ أحد، لكنّ ذلك لا يعطيك الحق في نفي وجوده، ولا يبرر بأي حال من الأحوال عدم قبوله. هذه تسمّى اقصائية برزت بأشدّ صورها حين تواطأت وسائل الإعلام التي أشعلت الدنيا للتغيير في مصر وتونس على طمس ما يحصل، وسائل الإعلام التي عَبَرت القارات لتنقل الصورة ثم غرقت في شبر ماء يفصلها عن الأحداث الدموية بجانبها، وبرزت أكثر حين قام من يدّعي الديمقراطية، والعدالة، والحرية ويحمل مشاعلها بإعطاء الحق للقمع، والعنف خوفًا من اختيارات الأغلبية أو ميولهم.

ومما يؤسف له، أنه خوف يقوم على افتراضات مسبقة، وعلى نية مبيتة، تتجاهل كل الوقائع الثابتة بأنّ الحقوق للجميع، وليست حكرًا على طائفة أو فئة، وأنّ المطالبة سلمية لم تكن تريد سوى تنفيذ الوعود المقطوعة.
لتكشف لنا أنّ هذه القيم المذكورة هي «قميص عثمان» ترفع متى ما وافقت الهوى، وتنزل متى ما كانت تخالف التوجسات الموهومة، وأنها رائعة حين يتم توظيفها للمصالح الشخصية، وقبيحة حين تتطلب منك ما يتعدى مصلحتك الذاتية.

هكذا بدت في أحداث البحرين، وهكذا تبدو في أحداث البدون، بتغيير بسيط في العناوين العامة، وابقاء الجوهر كما هو، عنصرية مقيتة، وتبريرات واهية للإلتذاذ بالتعامل الإقصائي.

أثبتت الأحداث أن هذه المبادئ التي رفعت فوق كل زاوية هي مجرد كلمات تلوكها الألسنة، تنزلها في غير منازلها تارة حين تجعلها فرقانًا بين الحق والباطل في قضايا لا تحتمل هذا التقسيم، وتدفنها تارة أخرى في قضايا لا تقبل إلا الحق أو الباطل، لتؤكد مجددًا على أنّ الأزمات لا تولد إلا من أرحامٍ متأزمة "مبادئيًا"، هي بحاجة لتحرير هذه المبادئ قبل أن تدعيها، وترفع أشرعتها.

6 فبراير 2011

من طبيعة الأنظمة الديكتاتورية


السلطة في إحدى مفاهيمها تعني القدرة على التأثير والإخضاع، وهي تقوم على مجموعة من الأسس والمبادئ التي تسعى إلى وضع تنظيم للعلاقة ما بين طرف يتمثل بالفئة الحاكمة، والآخر وهو الفئة المحكومة. في الأنظمة الشمولية أو الديكتاتورية تتحوّل هذه القدرة إلى ضرورة لابدّ منها، وتتحول من أسس لتنظيم العلاقة إلى غاية هدفها العامّ هو ضمان السيطرة على الموارد الإقتصادية، واستمرارية الحكم. وكل ما ينتج من طبيعة اجتماعية بعد ذلك افراز لطبيعة هذه السلطة.

تختلف الأنظمة الدكتاتورية بالدرجة فيما بينها لكن لا تختلف بالنوع. كما أنّها تختلف بالوسيلة والغاية، لكن جميعها يمارس التسلّط والطغيان بصوره المتعدده، من التعسّف باستخدام السلطة إلى قمع الحريات أو التضييق عليها أو الجمع ما بين الثروة والسلطة أو مصادرتها لحقوق الشعب المكتسبة وصولاً إلى التحكّم بمصير الشعب ورسم مستقبله دون إرادة منه. وتتفاوت الأنظمة الديكتاتورية في التوفيق ما بين هذه الأشياء كلها، فبعضها يمارس صورًا من هذا التسلط، وأخرى تطبقها كلها على أرض الواقع.

كما أنّ هذه الأنظمة تأتي منطلقة من دوافع مختلفة، بعضها يهدف إلى خدمة الشعب كما يراها هو، وبعضها عميل لدول أخرى بصورة وطنية، والبعض الآخر يبحث عن ثروة يصنعها أو ينميها، وبعضها يهدف إلى تنظيم المجتمع وتأسيس نموذج للدول الأخرى حتى تقتدي به. في الطبيعة الإجتماعية للتجمعات البشريّة أنها تكتسب ملامح شخصية القائد، من باب تبعية المغلوب للغالب، ولايقتصر هذا الأمر على الدول ذات الرمز الأوحد[1] فقط إنما يتعداه للدول الديمقراطية والتعددية، فالرئيس أو القائد أو الزعيم يحصل على مميّزات يوفرها الكرسي له وهي تكفل له أن يصبغ سياسة الدولة بصبغته.

غير أنّ الفرق ما بين الأنظمة التعدديّة والديكتاتورية في هذا المجال هو أنّه في الأولى هناك سعة للتحرك المضاد، ومن التضاد ما بين الأفكار المطروحة[2] يتم تلافي الأخطاء وتجاوزها، وهذا الحراك يسمح بإيجاد حيوية في المجتمع بحيث يتطبع بالصفات الإيجابية ويناهض السلبية[3]، بعكس المجتمعات التي تقودها الأنظمة الديكتاتورية فهي كحمار الطاحونة، يدور في مكانه ولا يبرحه.

والمتتبّع يرى بوضوح هذه الأنظمة تعمد لابتكار الدعاية، وتصنعها حتى تبرر لنفسها موقفها، وتستغل هذا التبرير في خداع شعبها. فتهتم كثيرًا بممارسات شكلية لا تقدّم ولا تؤخر، وغير ذات فائدة في ظلّ سلطة لا تعترف إلا بقراراتها ورؤيتها، كالإنتخابات، وعلى الحفاظ على مؤسسات مسلوبة الإرادة كالنقابات، وعلى السماح بمستوى من النقد العام لطبقة معينة في الصحف والمجلات وباقي وسائل الإعلام حتى تتخلص من الشعور الطاغي بالنفور الشعبي منها.

ومن جهة أخرى تصر هذه الأنظمة على التركيز على مجالاتٍ محددّة تكون هي الذريعة لممارستها لهذا التسلّط الديكتاتوري، وتعتبر الأنظمة هذه المجالات انجازاتٍ لها حققتها بفضل طريقة عملها، مثل التركيز على التخطيط والنهضة العمرانية، أو على المستوى التعليمي والتنظيم الإداري، وأخرى على محاربة الفساد ومدى قدرتها على ضبط الأمن، وبعضها الآخر على مدى رفاهية الشعب الماديّة، بينما في بعض الأنظمة الأخرى تركز على الدور المحوري الذي تمارسه في السياسة الدولية ومركزيتها بالقضايا العامّة أو الإقليميّة.

جميعها هي صور من طريقة عمل السطات الدكتاتورية التي تكبّرها وتقدمها على إنها انجازات خاصة لا يمكن تحقيقها لولا طريقتها السلطوية في التخطيط والتنفيذ، ومسك زمام القرارات. وعادة ما تعمد إلى إبراز سلبيات الأنظمة الديمقراطية من خلال التركيز على السلبيات الموجودة في الأنظمة الأخرى كالتفكك الاجتماعي، أو قلّة الرفاهية المادية أو احصائيات الجرائم المتزايدة، أو صعوبة الحياة عندهم من طرف. ومن طرفٍ آخر تستمر بزرع أفكارٍ إيحائية بأنّ وجودها واستمرارها على رأس السلطة هو ضرورة لابدّ منها فالشعب إمّا قاصر على الوصول إلى الديمقراطية، أو غير قادر على تقبّل التعددية، أو أنه على شفا السقوط في حفرة الفوضى والفساد، أو أن ما تمتع به الشعب في أي من المجالات المذكورة لا يمكن تحقيقه دون هذا النظام تارة، وتارة أخرى تتذرع بقوة الدول الكبرى ورغبتهم باستمرارها. أي تبحث عن الشرعية من خلال زرع الخوف من التفكك الداخلي أو من من خلال الخضوع الخارجي.

يمكن توصيف أسباب ذلك بالاستعانة بنظرية "آلفرد أدلر" بـ«مركب الإحساس بالنقص» حيث تقع السلطة فريسة المنازعة بين إحساسين، الأوّل هو الشعور الشامل بالضعف، والثاني هو الرغبة في أن تكون قويّة. لذا تحاول هذه الأنظمة إيجاد تبريرات متعددة لعلمها بأنها لا تملك القبول العام بين الشعب، فتحاول خلق صورة القوة أو تستعيرها ممن تدور في فلكه، لتخادع بها الشعب لاثبات أهمية وجودها على رأس السلطة.

ولهذا تسقط هذه الأنظمة بمجرد هزّها بقوة، أو تخلّي الأقوى عنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] راجع: شعوب الرمز الأوحد
[2] راجع: حساسية: حوار
[3] وهذا يتطلب حراكًا فعليًا مؤثرًا بالسلطة، لا خاضعًا لها كما هو الحال في أغلب الأنظمة التسلطية.
راجع: ماذا بعد المعارضة؟