24 أكتوبر 2012

تأملات في سمات المجتمعات المرفهة

الطبيعة الإنسانية محيّرة، يمكن التنبؤ بأفعالها لكن نادرًا ما يمكن استباق رد الفعل على تلك الأفعال. تتكرر كثيرًا كلمة أنّ التاريخ يعيد نفسه، وبتأمل بسيط يمكنك أن ترى كيف أنّ هذه الجملة تحتوي مقدارًا كبيرًا من الصحّة وفي الاتجاه المعاكس سترى مقدارًا أكبر من الفشل في التعامل مع الأحداث المتكررة ممّا يجعلنا –كبشر– نكرر نفس الأخطاء. إنك ترى عشرات الثورات في التاريخ وتقف متسائلاً مستغربًا: كيف تكثّفت كل هذه العوامل وتجمعت ولم يرها ويستوعبها أصحابها؟ لكنّك في نفس اللحظة تنسى أنك ترى الصورة كاملة من موقف الشاهد لا من موقف الفاعل والمؤثر، بينما أولئك كانوا مشغولين بإحدى زواياها فلم يروا حقيقة الصورة إلا بعد دفعوا دفعًا لخارجها.

إنّ هذا التكرار حقيقة لا ينكرها إنسان بل وتجري على كل لسان لكن كما أنّ حفظ الحِكم لا يجعلك حكيمًا، كذلك تكرارها لا يجعلك بالضرورة عاملاً ومستوعبًا لها، ولعلّ هذا يعود في إحدى مسبباته إلى الشعور الذي لا يمكن تغافله في كل إنسان وهو الشعور بالنقص والمحدودية فهو يخوض كل يوم تحديًا جديدًا لانكار هذا الإحساس، وغالبًا ما يكون ذلك بالإدعاء، ليعطي لنفسه اثباتًا جديدًا في برهان الوجود، ويتعاظم هذا الإحساس ضمن علاقة طردية مع مستوى رفاهية الفرد، فكلما زادت رفاهيته كلما إزداد الشعور بالنقص والمحدودية لأنّ الغنى والرفاهية يقلّصان مجالات التحدّي المتاحة أمامه فلا يعود كذلك الكادح أو الفقير أو المسحوق الذي تشغله لقمة عيشه أو السقف الذي سيأويه ليلته عن التطلع إلى رفاهيّات المعيشة فما بالك برفاهيّات الأفكار ونُظمها.

دراسة المجتمعات المرفهة هي دراسة في الواقع لحالة انسانية مكبّرة، هي حالة ذلك الإنسان الذي يمتلك كل شيء ولكنه في ذات الوقت يتملكه الافتقاد لمعظم الأشياء، وليس الفقد هنا بمعنى عدم الحيازة إنما بمعنى عدم الإحساس بالقيمة. إن الأشياء تفقد قيمتها بمجرد الاعتياد عليها، وأحيانًا كثيرة بمجرد الشعور الوجداني بضمان الحصول عليها وإن لم يحزها ومن ثم يمكن تفسير الكثير من سلوكيات المجتمعات المرفهة بناءً على هذه القاعدة، غير أنّ هناك عوامل أخرى كثيرة متدافعة ومتشابكة تتقاطع معها مثل أصالة الشعوب وطروئها (المجتمعات المكونة من شعوب أصيلة والأخرى القائمة بناءً على تجمع الهجرات)، وكذلك المسار التاريخي الذي أدّى إلى إيجاد حالة الرفاهية، وهذان موضوعان يستحقان البحث كل على حدة.

المجتمعات المرفهة تظن أن رفاهيتها كفيلة بحصولها على كل ما تريد فتصبح المثاليات مقياسها لكل شيء وهي أبعد النّاس عنها سيّما إن كانت هذه الرفاهية ليست منتجة بقدر ما هي متولّدة بلا مجهود، فافتقاد السعي يؤدي إلى افتقاد الإحساس باستحقاق الملكية، وشعور عدم الاستحقاق هذا يتعاظم عند الطبقات المرفهة لشعورها بسهولة الحصول على ما تريد، ومن ثم يصبح الصراع في المجتمعات المرفهة مختزلاُ بالصراع على الماديات، الأموال والممتلكات تحديدًا. وكل القضايا الأخرى تندفع لأن تكون مؤطرة ضمن هذا الإطار، وتكتسب أهميتها بقدر اقترابها أو بُعدها منه، فهو صراع أناني ينطلق من أساس أن الثروة والرفاهية هي هبة السماء وهمُّ كل فئة أن تستحوذ على أكبر قدر منها قبل أن تزول لأنهم كمجتمع لا يملكون وسائل إدامة هذه الرفاهية.

تنتج الرفاهية «طبقات فراغية» في مجتمعها، تجعل جلّ همها ابتكار أعرافٍ ومظاهر مكلفة وصعبة وثقيلة على النفس حتى تميّز نفسها بأي وسيلة كانت عن الطبقات الأخرى. حين تكون الرفاهية المبالغ بها سمة المجتمع العامة، ويكون الدخل كبيرًا في مقابل الجهد المبذول، فإن قيمة العمل تتدنّى إلى الدرجات السفلى، وفي مجتمع ليس فيه عمّال، بمعنى الطبقة الكادحة العمالية فهو ليس بالمجتمع الزراعي ولا الصناعي، فإن الطبقات الاجتماعية لا تعود طبقات اقتصادية «بروليتاريا وبرجوازية وارستقراطية» إنما طائفية وعرقية وفئوية تحاول من خلال هذه الأمور إيجاد التمايز فيما بينها بعد أن تساوت الكثير من الرؤوس طبقيًا، وفي مجتمع يفتقر بوضعه الحالي للعمق التاريخي المنسجم يكون البحث عن شيء آخر يعوض عن هذا الإحساس بعدم القدرة على الانسجام فيتم اللجوء لتقسيمات أخرى يعايرون بها غيرهم ، تقسيمات قد تبدو سخيفة ولكنها موجودة للأسف لأنها الوحيدة المتوافرة والتي يمكن الجهر بها :هذا من القومية الفلانية والآخر من تلك القومية، وهذا من أبناء هذه المنطقة وذاك من تلك.. إلخ!

هناك طبقات اجتماعية ذات ملامح مميزة لكل منها، بدوية وحضرية ومذهبية وفئوية، في المجتمع المرفه، لكنها غير قادرة على الإندماج لأنها لا تشترك بشيء غير ثروات الأرض، فلا رسالة حضارية ولا انتاج ولا قوة، لذلك يتم الحديث عنها كمكونات منفصلة حين الحديث عن وحدة المجتمع، هي تعيش في كانتونات منفصلة لا يجمع أفرادها إلا المدارس أوالوزارات أومدرجات كرة القدم وفيما عدا ذلك تستمر الحياة منفصلة داخل كل كانتون، وإذا تنزّل فرد من طبقة لمشاركة أخرى يُنظر له من قِبل فئته بعين الريبة وكأنه ارتكب جريمة، بينما تتسابق وسائل الإعلام –وتبعًا لهم المتكسبون- لاعتباره نموذجًا للمواطنة والوحدة الوطنية ومحاولة «ترميزه»  في إشارة واضحة إلى ندرة هذه الحالات! ومجتمع بمثل هذه الصفات لا يمكن له أن يعيش ويستمر دون قضية يقتات عليها، قضية تعمل عمل المحفز الكيميائي (catalyst) حيث تساعد على اتحاد فئة مع أخرى في مقابل الثالثة مرحليًا، ليتم تصوير الأمر على أنه اتفاق وطني، فالفعل في هذا المجتمع ليس غايته تحقيق مصلحة إنما إيجاد زخم للتغلّب على رتابة الحياة ومن ثم إمكانية القول للآخرين: أنا موجود.

إن أهم شعور إنسانيّ هو الإحساس بالمظلومية، وهو – بخلاف أي عامل آخر – السبب الرئيسي الذي ينسب لأي ثورة وعادة ما يكون هو، والبحث عن "الكرامة" والتي هي للمناسبة لا تملك تعريفًا جامعًا متفقًا عليه إلى اليوم، شعارات أي ثورة تخرج، أو خرجت. لكنّ المظلومية لا تنشأ في المجتمعات المرفهة عادة من سلبها حقوقها إنما مردّها إلى الإحساس المتجذر بعدم الرغبة بمشاركة الرفاهية مع الآخرين، إنّ دعاوى المظلومية في هذه المجتمعات لا تقوم على المطالبة بالحقوق بقدر ما تقوم على التذمر من مشاركة الآخرين لهم بأموالهم، وهو أمر لا بدّ منه في اللعبة السياسية لكن النّاس لا يهتمون بحسابات السياسة الدوليّة فهم يعيشون بفقاعة تعزلهم اجتماعيًا عن باقي الشعوب وإن ارتبطوا معها برابطة فكرية أو تعاطفوا معها سياسيًا ومذهبيًا ويتبدّى هذا واضح بطريقة تعبير أفراد المجتمع عن باقي المجتمعات وعدم استحقاقهم لما "يمنّون" عليهم به من أموال، وأسهل طريقة لإثارة النّاس هي التركيز على هذه القضايا وتصوير الأمر على أنه تزاحم ما بين هذه الهبات وتوفير الخدمات التي كثيرًا ما يُستغل النقص فيها لخلق مادة للصراع  واستخدامها لإلقاء اللوم على طرف بدلاً من طرح الحلول لها والاعتراف بقصور المشاركة الذي أدّى لها، فزرع الشعور بالمظلومية عند الناس أعظم أثرًا من وقوعها عليهم.

الشعوب المرفهة غالبًا غير ناضجة فتجاربها لم تكتمل نظرًا لاختزال المراحل التطورية مع هبوط الرفاهية المفاجئة عليها، وحين يكون المجتمع منقسمًا على ذاته وفئاته فإنّ العقلية الفئوية هي عقلية عاطفية بالدرجة الأولى وهي عقلية لا تتساءل بقدر ما تتجاوب، ويغيب عقلها لكون رفاهيتها الماديّة، بزعم أفرادها، قادرة على صنع أي موقف وشراء واحتقار أي رأي ومن ثمّ لا حاجة لاتعاب العقل بالتفكير والتحليل فتتصور أن حلول مشاكلها هي بتوفير المال وتُهمِل توفير الخطط وكل ما تفعله هي أنها تسلّط مجهرها على ما تعانيه بحياتها اليومية، وحين يغيب العقل لا تعود هناك حاجة للبرهان، فالقضايا الكبرى التي تحرّك الشارع هي في الواقع قضايا هامشيّة ولا معنى لها عند الآخرين إنما تكتسب أهميتها في هذا المجتمع لكونها تعطي الذريعة لفئة لإقصاء الأخرى حتى لا تشاركها في "رفاهيتها" فتسجّل امتيازًا للفئة الأولى عليها، ومن هنا ينحصر دور السياسي غالبًا في إثارة الشارع وتزويده بالقضايا اليومية بدلاً من التشريع والمراقبة، ولا يحتاج لمهارات كثيرة حتى يقوم بهذا الدور.

افتقاد المهارة سمة أساسية في المجتمعات المرفهة، وحين تفتقد المهارة فإن الشخصية المميزة لا يعود لها وجود لذلك يتميّز المجتمع المرفه بالمحاكاة والتقليد، فقضاياه وشعاراته وأهدافه وتحركاته هي مجرّد محاكاة لواقع الشعوب الأخرى، وغالبًا ما تكون تقليدًا مطابقًا وليس مطورًا حتى في مطالباته عنها، فهو يثير الناس بما يمس حياتهم من سوء الخدمات ثم يستغلهم في تدعيم قضايا أخرى لا تتعلق بها إنما تتعلق بأهداف السياسي وتياره في الوصول إلى نسبة أكبر من التحكم بموارد السلطة. إنّ حال المجتمع المرفه في هذا الأمر كحال الطفل الذي يُعجب بشكل السيجارة في يد البالغين فيقلدها دون أن يعلم أن البالغين إنما أدمنوا عليها لحاجتهم الملّحة لما فيها لا لحبهم لها ورغبتهم بها، والإنشغال بالمحاكاة يجعل الذهن مشغولاً بأدق التفاصيل لتقليدها بينما لا يلتفت إلى القضية الكلية وهي أن كل ما يفعله هو مجرد صناعة للوهم لا صياغة للواقع.

8 أغسطس 2012

لأنّك لم تكن للدنيا ولم تكن لك


(فما يحيط المادح وصفك)[1]

إنهم يقولون لنا بأن الدنيا صراع حق مع باطل، ندّ مقابل الندّ يتصارعان، يتطارحان، مرة يكسب هذا وأخرى ذاك وكأن للباطل قوة ودولة وصولة بها يستطيع أن يتغلب على الحق، لكنهم ما عرفوا الدنيا، فكيف لهم أن يعرفوا ما هي؟ ألا ترى تهافتهم واقتتالهم وصراخهم على فتاتها؟ فهل من يعلم حقيقة الحق والباطل يُفني الحقّ لأجل الاستيلاء على الباطل؟ يبكون لياليهم وتمتلئ نهاراتهم بالوعظ عن زيف الدنيا وخداعها وأنها كالحسناء الغانية لا تتجمّل إلا لإيقاع ضحاياها في شباكها لكنهم لا يمانعون أن يبذلوا أرواحهم لأجلها وأن يسطّروا الكلمات في مدح الحق لأنه يكفل لهم جبهة يمارسون بها تكالبهم على باطل الدنيا وسلطانها ولو على أنفارٍ ما أغنى عنهم مالهم وما كسبوا!

الناس، ومن جلس مجالسهم، أحبّوا الدين، لكنّهم نحوّه، عشقوا الله لكنهم كعادة بني البشر حوّلوا العشق إلى ابتذال، عاشوا الدين لكن في أذهانهم، ففصلوا واقعهم عنه، قدّموا حلولهم للمجتمعات وللناس باسم الدين وبذريعة العقل، رفعوا العصيّ على الناس وصاحوا بأن الدين ليس مظهرًا إنما مخبر وجوهر، فما لِلعوام يتدافعون على المظاهر؟ وما لهم وغاية الدين عندهم ذكر وتسبيح؟ أ فللآخرة نترك الدنيا وزخرفها وزبرجدها؟ ولأجل ذِكرٍ على اللسان نترك العلم والتطور ومقارعة الباطل وحزبه؟ وجلسوا كجلوس مشركي قريش يلاعبون لحيّهم الصفراء وينكروا على الضعاف انعدام «عقولهم» لهرولتهم خلف رسولٍ {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}؟ ألم يقولوا للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله {وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّالّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}؟ قل لي بربك ألم يأخذوا على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنه ليس على الصورة التي رسموها بـ«عقولهم» له {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}؟ هكذا هم البشر {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} إن عقولهم لا تملك ضمانة هدايتهم فأمام المصلحة والشهوة والهوى والعلم يضعف العقل، فهل يعطيك الضعيف استمرارًا؟

 إن المعركة بين الحق والباطل ليست صراعًا ولا نزاعًا وليست سيفًا في مقابل سيف ولا رمحًا يريد التكسّر على نصال الآخرين، إنها ليست فروسيّة (يزدان)[2] أمام (أهريمن)[3]، وليس الله عزّ شأنه في مقابل الشيطان، إن الباطل {كَانَ زَهُوقًا} و{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فهل ما لا واقع له يكون ندًّا لأصل الوجود والواقعيات؟ تلك إذن قسمة ضيزى! لكنها هي العقول القاصرة تُلبِس الحق بالباطل لتهرب من حقيقة نقصانها و(إن دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة)[4]، إن الحق والباطل، الصواب والخطأ، الخير والشر هي علاقات تجلّي، يتجلّى بها لكل ذي روح سويّة عظمة الحق والخير فيخر له {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}، هي أشياء وُجدت لتُعرف بها أضدادها ولتكون ميزانًا يعرف بها المرأ صفاء نفسه ومدى انصياعه وقبوله لها. إن دور إبليس ليس أكثر من {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو يعلم أنه {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ}، فليس هناك نزاع، وهل ينازع العالم الجاهل؟ وهل يؤاخذ الكبير صيحة الطفل الصغير؟  إن أرباب العقول على هذا المعنى يقفون، وله يُسلّمون.

الناس عمومًا يريدون دينًا (بشرط لا)، أي مشروطًا بأن لا يمس حياتهم المعاشة وطبيعة علاقاتهم مع أنفسهم ومع النّاس، ومع رؤاهم للعالم حولهم. يريدون دينًا يوجِدون فيه زخمًا بحيث يعتبرون أنفسهم المالكين الحقيقين لجوهره ليتسلطوا بهذه المعرفة الزائفة على غيرهم، دعواهم في الحقيقة تكالب على الدنيا باسم الحق، بحثٌ عن السيطرة والرفعة والعلو فيها، وحزن وألم إن افتقدوها، وكأنّ الدين دون فهمهم له هو عجز وحجز عن حيازتها! هذه الدنيا التي هي مسرح تجلّيات الباطل ومحل تجسّم كلِّ زائل وتَعيّن كل محدودٍ جعلوها ندّا وحولوها إلى وحشٍ كاسر يخوفون الناس من فك الارتباط بها باسم جوهر الدين ليكسبوهم ثم ليتسلطوا فيها عليهم، وغفلوا أنّ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

إن الدنيا على اتساعها ليست سوى غرفة مظلمة تقع في أقاصي أطراف هذا الكون، وإن العلم مهما اتسع وتحَدّث فهو علم لمخلوق ناقص بمخلوقات محدودة يصل تارة إلى نهاية ليس له قدرة على تجاوزها وتارات أخرى يقف في مكانه لينشغل بالتساؤل عن نفسه قبل غيره، فلا طاقة للإنسان بما هو أعلى وأرفع من رأسه! إنك لكي تفهم «علي» عليه السلام عليك أن ترى كيف أن تقادم الزمان لم يزده تجرّدًا بحيث يفقده بريقه، وأن تطور العلوم وحداثة الأفكار لم تنتقص منه شيئًا بل زادته رفعةً وعلوًا، وأن اليوم الذي يمر هو درجة  إضافية نرتقي فيها لنعيد تعريف الشعاع الذي نستفيده من شمسه عليه السلام.

 الناس تفهم أنّ هذه الدنيا محل اختبار وتتوقف هنا، إلا أنه في الاختبار ليس عليك أن تترقب إجابات الآخرين بل أن تبحث عن اجابتك بين متاهاتها ووقوعك بالخطأ ليس لخفاء الحق وإنما لسوء فهمك وتعبيرك عنه. إن «علي» عليه السلام ما كان ينظر للحياة على أنها دار التحدّي كيف ذلك وهو يراها بعينه أهون (من عِراق خنزير في يد مجذوم)[5] لكنه كان يراها موضعًا للتجلّي، مكانًا يكتب فيه الحلول كاملة ولا يرضا فيه بأنصاف الحلول فهو لا يساوم لأجل الانتصار لأنه عليه السلام كان  حريصًا على أن يُظهر أن وجوده ليس معركة مع مخالفيه إنما وجوده هو ظهورٌ تام للحق، وعلى الناس بعد ذلك أن يختاروا إما الإنحياز للحق والتسليم به وإما الاكتفاء بالرغبة فيه وإقصائه .. لأن الكمال يتعارض مع طلبهم وقد تبصّر عليه السلام لذلك فقال: (لمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول {تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين} بلى و اللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها)[6].

يسألني الناس لماذا لم ينتفض لحقه المغصوب؟ وكأنهم تناسوا قوله (فسدلت دونها ثوبًا وطويت عنها كشحًا)[7] ليس لأنه لا يرى حقه في ذلك، إنما لأنه لا يرى نفسه في معركة مع الباطل، فما اعترى الريب بالحق يومًا ليُنزله الدهر ويجعله في مقابل الباطل وكأنهما صنوان متساويان ولكن الناس ارتابوا لأنهم تعودوا على الثنائيات والحق واحد! فبحثوا عن «علي» السياسي والمناضل والمكافح والزاهد وغيرها من الصور التي تهواها نفسوهم، بحثوا عن  صورة «علي» التي رسموها بأذهانهم وجعلوها مقياسًا له، عن «علي» الذي يبرر لهم انحيازهم لدنياهم ورغبتهم بالآخرة في نفس الوقت، عن «علي» الذي يصارع الباطل كندّ فينتصر تارة وينهزم أخرى حتى يتخذوا ذلك ذريعة لبكائهم ليلاً خشية من الله وضحكهم من اعتدائهم على حرماته نهارًا.

فما كان قتلُ أمير المؤمنين عليه السلام في المحراب إلا بسبب ذلك، فقد قاسه اللعين ابن ملجم بذهنه وتصوره فلم تعجبه صورته وهكذا قاده عقله إلى أن يكون أشقى الآخرين[8] بضربته، لم يكن علي عليه السلام ليخوض معركة بل ليصنع مثالاً (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعير ما فعلته)، والمثال مترفع عن خوض ما هو دونه، وكان عالمًا بأن الناس إنما يريدون الدَّون دائمًا لذا نعى لهم نفسه بقوله: (غدًا ترون أيامي، ويُكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلوِّ مكاني، وقيام غيري مقامي)[9] لعلّهم يعقلون الحقيقة، ولكنهم لا زالوا يعقلون الباطل .. فسلام عليك يا أوّل مظلوم[10]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] من الزيارة الجامعة المروية عن الامام الهادي عليه السلام
[2] إله الخير في الديانات الثنوية.
[3] إله الشر في الديانات الثنوية.
[4] من رواية طويلة عن الإمام زين العابدين عليه السلام مروية في كتاب(كمال الدين) للشيخ الصدوق
[5] بحار الأنوار، ج70
[6] نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية
[7] نفس المصدر أعلاه
[8] السلسلة الصحيحة للألباني ح 1088
[9] نهج البلاغة، خ 148
[10] من الزيارة الخامسة للإمام علي عليه السلام في مفاتيح الجنان، ورواها الكليني بسنده.

7 يوليو 2012

الحرب هي الحل!

أكثر ما يخافه الناس ويخشونه هي الحروب، بنظرة إلى أدبيّات الأدباء وانتاجهم في الفترات التي تسبق الحروب حين يلف صمت العاصفة جميع الأنحاء تنبؤك بمدى الإحساس المفزع الذي ينطق على ألسنتهم، وحالة الإنعدام للوزن والطفو وعدم الاستقرار التي تستحوذ على أقلامهم، رغم فزع هذه التجربة إلا أنها في أوقاتٍ كثيرة من تاريخ الإنسانية تصبح هي الحل الوحيد الذي لا بد منه لإعادة رسم العلاقات الإنسانية وبناء منظومات التعايش من جديد، إنّ حالة الحرب بهذه اللحظة تصبح مطلوبة رغم مرارتها لأن الداء قد استفحل ولم يعد علاجه متاحًا إلا بأمّر دواء يمكن أخذه.
إن النّاس ينتجون واقعًا وما يلبثوا أن يصبحوا مأسورين لهذا الواقع، وبدلاً من أن يرسموه هم، يعيد هو رسمهم وتحديد مهامهم بالحياة وما عليهم فعله، ولا يمكنهم الإنعتاق من هذا الواقع إلا بالثورة عليه. إن الظروف التي تجمع الناس على أمر ما هي نفسها تمامًا التي تفرقهم بعد ذلك عنه، حين تتداخل رغباتهم بأمنياتهم مع أهدافهم وتجد أوضاعهم النفسية مجالاً للتعبير عنها خارج دائرة الجموع البشريّة، يُعاد التمترس خلف نفس الأسباب التي خلقت الواقع الأوّل لتبرير إعادته من جديد بعد الثورة عليه.
حين يقول لنا التاريخ بأن «الثورة تأكل أبناءها»، فإنّ الفهم العام هو أن الصراعات تبدأ بالبروز بين أصحابها تبعًا لمطامعهم في السلطة فيصبح بأسهم بينهم، ولكن القراءة الأخرى لهذه المقولة تقول بأن حالة الثورة هي حالة تشكيل عقيدة واحدة لمحاربة عقيدة أخرى، وما أن تنتهي هذه الحرب يرجع الناس لعقائدهم الحقيقية الكامنة في أنفسهم، ولكن لأن شرعيتهم إنما استمدوها من تلك العقيدة الواحدة يبدأ كل طرف بإعادة تأويلها لتناسب العقيدة الكامنة في نفسه،  باختصار هي نوع من إعادة انتاج الذات تحت اسم جديد ليمكن تسويقها مجددًا، كل ما يمكن قوله عن مقولة أنّ «الثورة تأكل أبناءها» هو أنّ بعد الثورة يخرج الثائرون من حالة القطيع إلى حالة الإنسانية، أي من حالة عيش «اللحظة باللحظة» إلى حالة «العودة بالذاكرة» لاستذكار كل المخزون النفسي والمعرفي المختبئ فيهم.

  بعبارات أبسط، يمكن القول بأنّ أي واقع ينتجه الإنسان من خلال النظام الذي ينصاع له يصل في مرحلة ما إلى الاستهلاك التام ولا يعود قادرًا على بعث الحماسة له في الناس، ولا هو قادر على توليد المزيد من التحديات التي تشكل حافزًا لجمهوره لأن يستمر فيه فيصل إلى درجة الإنهيار أو شبه الإنهيار على أقل تقدير. تصبح الحياة رتيبة، روتينية، مملة إلى جانب كونها محملة بالأثقال تسحق البشر بحجم الفساد والصراع اليومي للحصول على لقمة العيش والإحساس بالكرامة الإنسانية ومملوءة بإعادة اجترار ذات القضايا يوميًا في دوامة لا تنتهي، يصبح العيش مرهونًا بمقدار التذمر من المشاكل الحياتية، وبحسب تعبير هوفر «عندما يسرف المحبطون في اتهام الحاضر وانتقاصه فإنهم في حقيقة الأمر يخففون من وطأة إحساسهم بالفشل والعزلة وكأنهم يقولون أن العيب ليس فينا ولكنه موجود عند كل معاصرينا»، وكأن مشاركة الإحساس بالسوء ستقلبه للأفضل!

  إنّ هذا الإحباط بقدر ما يبعث الراحة في نفوس أصحابه عند التشكي بقدر ما يوّلد كراهية شديدة للواقع بحيث لا يُرى في الثورة إلا مخرجًا وحيدًا. إلا أنّ الثورة في حدّ ذاتها تمثل دائمًا قلقًا ملازمًا للإنسان لأنها فعل لا يمكن التكهن بنتائجه، والإنسان جبان بطبعه يفضل العيش متناغمًا مع ألم ما يعرف نتيجته على تحمّل قلق ما لا يعلم نتيجته. هذا التفاوت في الشعور هو العلامة المميزة للمجتمعات البشرية عمومًا، وهو ما يجعل التوتر ملازمًا دائمًا للوضع الإنساني. وهذا ما يشكل الحافز الأكبر للإنسان غالبًا لصنع عوالم جديدة تجعله يمتلك الإحساس باللا محدودية، فينشئ أحزاب ثورية، وجمعيات نفع عام، ويختلق قضايا إنسانية، ويستهلك نفسه في حركات جماهيرية أو تنظيمات سرية يحاول من خلالها إيجاد معنى لحياته بالدعوة لما يعتقده يشكل ثورة على واقعه الحالي.

  الفهم المحدود للثورة على أنها عملية انتزاع نظام حاكم واجتثاثه هو فهم منقوص لا يوفي لكلمة الثورة معناها الحقيقي. هي كلمة تشير إلى الحاجة إلى إحداث تغيير ولو بشكلٍ صوري، بعض علماء الاجتماع يعتبر الانتخابات الرئاسية والنيابية ثورات مصغرة استبدلت الرصاصة بورقة الاقتراع [ولكن هل انتهت ثورات البشر لهذه السلمية؟]، في بلدان أخرى لا صوت للانتخاب فيها تظهر الثورة على شكل تغييرات اجتماعية يلمسها الإنسان في محيطه وحياته اليومية، ولا يرتبط مفهوم الثورة بالإيجاب دومًا بل في كثير من الأحيان تأخذ الثورة صورًا سلبية كما حدث في ثورات الهيبيز بعد الحرب العالمية الثانية واشتدت مع حرب فيتنام، فالثورة هي تعبير عن رفض الواقع لمن يتملكه الإحساس بالندم لكونه يشكل جزءًا من هذا الواقع.
  
 الحلم بواقع أفضل، ومن لا يحلم بذلك؟، والرغبة بتحسينه في المستقبل هي الدافع الأكبر وراء سعي النّاس لإحداث التغيير، ولكن ذلك ليس إلا بالسعي نحو إحداث الكراهية، إن النّاس يعشقون الكُره بقدر ما يتحدثون عن الحب! مهمّة السياسي غالبًا هي أن يزرع فيك كره الحاضر «كأنه أورغ بشري يطلق نفس الدعايات عليك على مدار الساعة المرة تلو الأخرى مكررًا الكره .. الكره .. لنكره أكثر وأكثر حتى تشعر أن شيئًا ما دخل إلى جمجمتك وهو يطرق على دماغك بقوة»، هذا ما كتبته جورج أورويل واصفًا الوضع السياسي في بريطانيا قبل أشهر من بداية الحرب العالمية الثانية! لا يختلف الوضع في أي مكانٍ آخر. تمتزج مشاعر الكراهية مصاحبة لمشاعر الغيرة، ولا بدّ من ترميز كلٍ منهما برمز يشير إليه، بدولة أو شعب أو عرق أو مذهب أو فرد أو سلطة، لاحظ ذلك جيدًا في الخطابات المتصدرة دائمًا ما يقترن ذم الواقع الحاضر بمقارنة مع من هو أفضل، أو بمن اتخذ خطوة عجز الناس عنها هنا لسبب أو آخر، وبتحميل السبب على رمز تختزل فيه كل المساوئ، وثنائية الكره والغيرة هذه تهيء النفوس وتحصرها في قالب يبحث عن التمرد ويطلبه حثيثًا بيد من كان، وبأي صورة يكون. قد لا تتصور قيمة الغيرة إلا حين تعرف أنّ كثير من أفعال الإنسان إنما يُقدم عليها لأنه لا يريد أن يرى نفسه أقل ممن أقدم عليها، إلا أنّ خطورة مثل هذه المشاعر تكمن في أنها تنشيء عقلاً خاصًا بها لا يتحدث بالمنطق إنما يتلاعب بالعاطفة، لذلك تغيب الحلول الواقعية والخطط الواضحة وتحضر بدلاً منها شعارات خطابية ووعود انتخابية وثورية سرعان ما يمحوها الواقع بأول اصطدام معه.
الرغبة العارمة بالوصول إلى الأفضل في المستقبل عند النّاس حين تتحوّل إلى بضاعة سياسية يتم اغفال تحديد معنى الأفضل، لأن تحديده يعني الوصول إلى نقطة نهاية حين لا يعود للمزيد من الحديث عن الأفضل وانتقاد الحاضر التأثير السحري على تحريك الناس، وهذا يُسقط أهم أسلحة الإبتزاز بين السلطة، أي كانت، وبين المتكسبين من أفعالها. لكن دوام هذا الإبتزاز، والحث على المزيد من الكراهية وسوداوية الواقع مع العجز عن تغييره واقعًا، كما نرى في مجمتعات كثيرة، يُلجِئ الناس إلى الحل الأخير: استجداء الحرب.
من الغريب أن ترى الناس يطلبون الحرب بل ويستجدونها لكن ابحث في الخطابات حولك، وفي أحاديث العوام، وسترى أن الخوف من الحرب هو الدافع الأكبر لاستجدائهم وطلبهم إياها، فحين يرتفع سقف خطاب الكراهية والإقصاء ويزداد جبن النّاس عن وضع حدّ لذلك، وحين يصبحوا مجرد محركات يتلاعب بهم «عقل العاطفة» المفعم بالسلبيات التي زرعها السياسيون والمتكسبون من تلك الخطابات، لا يرون أمامهم إلا الحرب لتهدم كل شيء على أمل بمستقبل أفضل يأتي بعد إزالة ذلك التوتر، كما يتوهمون. إن ثورتهم هنا بعد أن عجزوا على تحقيقها في أنفسهم، يطلبونها بغيرهم، إن عطالة واقعهم وكرههم له يجعلهم يطلبون هدمه لأنهم أعجز من إعادة ترميمه، على أمل بمستقبل أفضل يعيدون بنائه بعد تدمير كل شيء .. ولكنّ طول الأمل حماقة، وثمن الحماقة لا يُعرف إلا بعد ارتكابها!

27 مايو 2012

[||] حين يحدثني الحلم


* * *

الأحلام لا تعترف بزمانٍ ولا مكان، قد يكون الحلم في الواقع لا يتعدى أجزاء الثانية لكن الحالم يستصحب شعوره به لأزمانٍ متوالية. هناك لحظات في الحياة تمر سريعًا كأحداث، لكنها كحديث لا تفارق لسان الإنسان على مدى الدهر، ولعلّ ذلك لأنّ الكلمات بزخمها وحروفها غير قادرة على أن تصف تلك اللحظات بدقة فتستمر الكلمات بالتوالد والتكاثر لأنها لا ترتاح للمعاني التي تنتجها التعبيرات المختلفة والصياغات المتنوعة في رسم تلك المشاهد.
إنّ الحلم يغنيك عمّا في أيدي النّاس، «وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس»[1] ألا ترى أن الناس يتناقلون بشوقٍ ولهفة قصص الحالمين، ويصبون اللعنات على الطامحين؟ يعشقون من يخرجهم من دائرة الواقع، ويكرهون من ينافسهم في الاستحواذ على ما في الواقع؟
أحيانًا، أن تمدّ حلمك لأيام وأشهر، خير من أن تعيش الواقع لثوانٍ وأنت تنظر، فالحلم ليس فقط ما يراه النائم في نومه، في بعض الأحيان، هو ما يراه المبصر فيما وراء وعيه وإدراكه. وليس الحلم هو الحالة التي يعيشها الإنسان بل الحالة التي يفهم بها الأشياء.
كان الحلم يحدثني قبل أشهر، على تعدد شخصياته، وحديثهم لا يزال مستمرًا.

(1)

أقف أمام قبر مندرس في الطريق، تحته كان في يوم من الأيام إنسان حمل آماله وطموحاته ورؤاه فوق رأسه، فاستبدلتها الحياة بتراب غطّى وجهه، مفارقة جعلتني أتأمّل هذا القبر كيف أنه يختصر عليك فهم الواقع: نحن نشكل جزءًا، بل نقطة، إن لم يكن أصغر في هذه الأرض القابعة في أقصى زاوية من الكون الفسيح، ومع هذا نعيش معه إنطلاقًا من أنفسنا، نرى الأشياء بمنظورنا، ونفسّر الأحداث بأهوائنا، ونتصادم مع الناس لأنهم تعدوّا على ممتلكاتنا، ولا نتساءل يومًا: كيف لنا أن نبذل هذه النفس المتضخمة لأجل ممتلكات لا تمثل في هذا الكون إلا ما تمثله الذرة للجبل، ولربما أصغر؟
غريب كيف يُفني الإنسان هذه الأنا المتضخمة التي تتصور أنها وسعت كل شيء لأجل هوامش متصاغرة في هذا الكون حين المقارنة هي لا شيء!

(2)

على أبواب البيوت العتيقة تشاهد وجوهًا استبدلت ملامحها بقصص تختزل في تجاعيدها غِصَص البشرية بأكملها.
كل أثر، وندبة، وتجعيدة هي سطرٌ خطته الحياة على صفحات الوجوه، وكلما زادت سنين الحياة زادت أسطرها، وكأنها تتحدّى اندفاعنا نحوها بتسجيل انتصاراتها على جباهنا!
تتساءل: كم حلمٍ تحمله جفون هؤلاء؟ ثم تعجز عن الإجابة حين تتذكر أنّك مثلهم، وأن عقلك الذي تظنه قادرًا على إجابة كل شيء في الحقيقة لا يكشف لك الأشياء بقدر ما يهيؤك لتجرّع الغصّة[2] من عدم قدرته على إجابة أسئلة الحياة.

(3)

لا بدّ للشمس من مغيب، ورغم هذا ننذهل من كل صورة ترسم لنا مشهد الغروب، ونقف أمامها وقوفنا بالحضرة، خاشعين صامتين .. متأملين.
شيئان رغم تكرارهما لا نمل منهما: الغروب والشروق.
هما يحاكيان طبيعة هذه النفس البشرية، الرغبة والألم، الغروب هو الألم أكثر ما يؤثر في الإنسان، والشروق هو الرغبة التي تغيّر فيه.. كثيرًا ما نصطنع الألم للآخرين ونظن أننا نعلمهم بينما نحن نُصلّبهم على ما هم عليه، وكثيرًا ما نختلق الرغبات عندهم لعلنا نستميلهم وننسى أنّ التغيير بذرة يضعها الله فيمن حرث نفسه واستعدّ لإنباتها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
كنت أحدث نفسي بذلك، وأنا أرى طوفانًا بشريًا يعيش بجانب شمس لا تغيب، ولا يتغيّر، قد تتعب نفسك في مصارعة الأذهان ومقاومة الأفهام وتتصور نفسك قادرًا بالحجة والبرهان على الإقناع لكنك تنسى أن الأمر ليس بالحجة والبرهان بقدر ما هو قبول بهما، إن الألم والرغبة شيئان ينبعان من داخل النفس ولا يصنعان خارجها، وكل محاولة لذلك هي حجاب نضيفه على الحجب الموجودة، تأملت ذلك حتى عدت للمنزل فوقعت عيني على: «يا ابن النعمان: إن الله جل وعز إذا أراد بعبدٍ خيرًا نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب يطلب الحق، ثم هو إلى أمركم أسرع من الطير إلى وكره»[3]

 (4)

«ويح ابن آدم ما أغفله، وعن رُشده ما أذهله»
- الإمام علي عليه السلام

روائح الجص والطين، وعطور الغادين والرائحين، سيرة الماضين وأنفاس المستقبلين، كلها تجتمع في أزقة ضيقة تلتوي كبطون الحيّات بعد أن تشويها حرارة الشمس، قال لي: الأوضاع ليست على ما يرام، قبل أسبوع كان هناك صدام مسلح ولا تزال الأمور متوترة.
ومضينا صامتين نخترق تلك البطون قاصدين مطلبنا .. وتلفتني بالطريق تلك الوجوه المستعدة وأصابعها على الزناد تنتظر استقبال رصاصة أو إطلاق أخرى، تحمل أرواحها يوميًا على أكتافها لتبيعها بسوق سقفه طمع الإنسان وأرضه خوفه.
لا جديد، يعيش الناس مع الخوف منذ ولادتهم حتى يعتادون عليه فإذا زال الخوف من حولهم خافوا من أنفسهم، وطالما وجد إنسان في مكان فإن التوتر والخشية يوجدان معه، إنهما يشغلان الإنسان ويعطيانه الغفلة؛ فإما أن تتعب نفسك بهما وإما أن تتعب غيرك فيهما وهذا هو الكدح {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} .. أن تغافل الغفلة، وأكثر ما نتصوره حياة .. هو غفلةٌ تُغافِلُنا!

(5)

لقـد قلتُ: أي عذر سـوف أقـوله للملك؟
الملك نفسه قد جاء حاملاً بيده العذر لنا[4]

على بابه نظر إليّ، وأخبرني أنني حضرت قبل عام مع أناس آخرين غير الذين أقف معهم، ليست هناك علامة مميزة ولا إشارة منبثقة تميزني، قد تتفاجأ في بعض الأحيان من شدة التشابه بين البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأصولهم حتى لا تعود قادرًا على تمييز نفسك من بينهم، جدًا أدهشني الأمر، أثار فيّ تساؤلات عن قدرات هذا الإنسان الكامنة كيف أنه استطاع التمييز من بين هذه الجموع التي تمر أمامه يوميًا، مدّ يده في جيبه، أخرج ورقة صغيرة مطوية فيها ذرّات من التراب ودسها بيدي، لم أعلم كيف أشكره، ثم علمت أنه لا يحتاج للشكر فاستئناسه بالناس يكفيه، ألا ترى أنك تنشغل مع ما تحب وتنفر مما تكره حتى يشتبه عليك، هكذا هو أحب الناس والحب قيمة ثمينة لا تُشترى، وحين تتعامل مع الثمين بقَدَرِه يغنيك هو بثمنه.

(6)

إذا كان الكأس جميلٌ صُنعهُ
فلـمَ يشوهـه الرجـلُ بثـمـله؟[5]

قد تضفي أنت القيمة على الأشياء تارة، وتارة أخرى تكتسب الأشياء قيمتها من ندرتها، في كل الأحوال يتطلب الأمر أن توجد هذه الأشياء قبل أن تأخذ قيمتها، ولكن قليل جدًا من الأشياء ما توضع قيمته قبل وجوده، ومعرفته.
إنّ سجل الخلود يحتوي الأضداد، ولا يسجل في صفحاته طرفًا واحدًا فقط، إنه كما يسجل القديسين في صدر أوراقه، يسجل على هوامشها الطغاة والمجرمين، ليس الأمر عبثًا إنما غاية الاختبار هي أن ترى الطريقين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} لتختار من بينهما، وقبل ذلك أن تعرف قيمة ما تختاره، بل أعتقد أن الاختبار الأكبر هو في معرفة القيمة بحقيقتها، فما فائدة اختيار طريق لا تعرف قيمته؟
«هذه الحياة هي موتُ مرتقب في كل لحظة»، هكذا قرأت مرة في أحد الكتب، ما يعني أنك في كل لحظة في موضع اختبار لأي خانة ستضع نفسك فيها؟
مودعًا له، أقرأ: اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا دينَ اللهِ الْقَويمَ، وَصِراطَهُ الْمُسْتَقيمَ.
وأتذكر كلمته لكميل بعد جملة من الوصايا أوصاه إيّاها: «أطفئ السراج فقد طلع الصبح»
فما قيمة ضوء السراج أمام ضوء الشمس .. لقد بان الصبح لذي عينين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقتطف من رواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هي(.. إرغب فيما عند الله يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) مشكاة الأنوار للطبرسي، 207.
[2] سئل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: ما العقل؟ قال: التجرُّع للغُصة، ومداهنة الاعداء، ومداراة الأصدقاء.
[3] من وصية الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر بن النعمان المعروف بـ مؤمن الطاق.
[4] تعريب بيت لجلال الدين الرومي
[5] تعريب بيت من رباعيات عمر الخيّام

19 أبريل 2012

التدّين في زمن الإنحطاط


 «أَي بُنَيّ، إنّي ـ وإن لم أكن عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كان قَبلي ـ فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسِرتُ في آثارهم، حتّى عُدّتُ كأحدِهم، بل كأنّي ـ بِما آنتهى إليّ مِن أُمورِهم ـ قد عُمِّرتُ مع أوّلهم إلى آخِرِهم، فعَرَفتُ صَفْوَ ذلك مِن كَدَرِه، ونفعَه مِن ضَررِه»
 أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

المتتبع لسير التاريخ لا يلحظ اختلافًا جوهريًا بين ماضٍ سحيق أو حاضر قريب، إننا في قراءتنا للتاريخ غالبًا ننظر للعامل المتحرك ونعتبره المقياس وننسى العامل الثابت، نُثبت الزمان وتغيراته وتطوراته وننسى الإنسان وثبوته، بذاته وحاجاته ورغباته. نرى ارتفاع البنيان وتفرّع العلوم وتطوّر الأدوات ونغفل عن رؤية أنها كلها أشياء مرتبطة بعامل واحد لا يتغيّر ولا يتطوّر وهو الإنسان، وأن ما يعتريه ممّا نعتبره تطورًا هو إعادة تكيّف مع الواقع، كما يتكيّف المرء مع البرد بإثقال ملابسه وإلاّ فإنه إن نقلته من القطب الشمالي إلى الربع الخالي ظل كما هو لا يطرأ عليه تغيير بداخله ولا يعتريه تبدّلٌ بجوهره.

إن صحّ القول، أمكن أن نقول بأن التاريخ البشري بأكمله هو كالممثلين الثانويين في المسارح، طوال العرض لا يتغير فيهم شيء سوى مظهرهم ليناسب المشهد الذي يكونون فيه، فهم مجرد عِيال على الواقع. لابد من الإلتفات إلى هذه الحقيقة البديهية المغفل عنها حتى نفهم أن مسألة إعادة التاريخ لنفسه ليست لأننا محكومون بثوابت من حولنا لا يمكن لها أن تتغير، بل لأننا نحن الثابتون الذين لا نتغير، إنّ التاريخ لا يعيد نفسه لكننا نحن نعيد الإلتفات لأنفسنا في كل حين لنتفاجئ أننا كمثل الماكث على رمال متحركة مهما أعمل رجله في الأرض حتى ينهكه التعب يكتشف أنه لم ينجح إلا بإثارة الغبار وتضييق الرؤية وزيادة الغرق!

لستَ بحاجة لأن تعيش كافة التجارب حتى تكتسب ما فيها، ما يُقال عن ضرورة ذلك هو نوع من الفذلكة يستخدمها الناس ليقنعوا الآخرين بضرورة الخطأ وليبرروا لأنفسهم أخطاءهم بأن حتى الآخرون يرتكبونها. لا تحتاج لأن تحرق نفسك حتى تعرف أن النار محرقة، إنما الواقع الإنساني المؤسف يقول أننا كبشر نعيد إحراق أنفسنا مرة تلو الأخرى بذريعة التعلّم، ولكن ما فائدة تعلّم الدرس بعد أن رسبت فيه؟ أقرأ التاريخ، وأرى حالات الرسوب تتكرر لا لضعف الأستاذ إنما لبلادة الطالب. أذكر كلمة للشهيد الصدر الأول وهو يشرح سنن التاريخ: العقاب الأخروي دائمًا ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.

لكن ما هو العقاب الدنيوي؟ هو أن تستوعب أنك لا زلت بمكانك، بدلاً من أن تقضي على الحروب تضع القوانين التي تنظمها، وبدلاً من أن تستند لأبنائك لتشارك الآخرين، تغرر بهم لينضموا إليك بعد أن تجد لهم هوية جامعة جديدة، لتغزو المقابلين لك وتسجل انتصاراتك عليهم. أنك لا تختلف عن جدك الذي كان يعيش في كهف الظلمات وأنّ جلّ من فعلته هو أنك أنرت هذا الكهف بالكهرباء. باختصار أنك نميّت ما تسميه بالحضارة لا لترتفع بواسطتها نحو الإنسانية التي هي بحقيقتها أفضل من الملائكة ولكن لتستغل ما ينتج منها في الاستقواء والاستعلاء على الآخر ومن ثم النزول إلى درك البهيمية أكثر! .. ما أبشع أن تكون «الدرر تحت أقدام الخنازير»، كما يصرّح إنجيل متّى، هذا هو أسوأ عقاب يمكن تصوّره.

ليس من السهل أن تعترف بقصورك، فما بالك أن تعترف بجهلك؟ إنّ الإنسان عليه أن يقاوم نزعة الاستعلاء الكامنة فيه، ونزعة الشعور بالأفضلية على باقي المخلوقات حتى يمكن أن يعترف بجهله، وهاتان النزعتان ليس من السهل مقاومتهما لأنهما تتسلحان برغبة وهوى الإنسان وتتدرعان بذاكرة تاريخية عميقة من المبررات التي يصيغها الإنسان لإعطاء معاني رفيعة لسلوكياته المنحطة. ولهذا دائمًا يتصور أنّ الحلول موجودة عنده وما عليه إلا تنفيذها، وليست الحلول في الواقع إلا ردّات فعلٍ لا أكثر.

إنّ التاريخ البشري تحكمه نمطية ظاهرة للعيان، لا تحدث هذه النمطية بسبب تشابه المعطيات ولكنها تحدث بسبب غباء الفعل الإنساني المتكرر، إنّ أي سلوك هو في الواقع علة لسلوك آخر يقع على الطرف الآخر المقابل له. ظهر التبتل المسيحي كردة فعل على الإنحلال الأخلاقي في عهد كومودوس، كما ظهر التصوّف كحلٍّ لشيوع الفجور والترف في المجتمع الإسلامي، وصورة الدين هذه التي ولدت في الحالتين هي تعبير لإعتراض الناس على واقعهم ورفضهم إيّاه وليست قبولاً واقعيًا بالدين وأحكامه، تمامًا كما سجلت المجتمعات الفقيرة اعتراضها على سحقها من قِبل الأغنياء بالإيمان بالشيوعية والإشتراكية حتى إذا وصل أفرادها للسلطة سحقوا كل من طالبهم بالشياع والمشاركة!

يذكر التاريخ أن «الطاو أو التاو»، الصراط –الصيني- المستقيم هو  ردة فعل لاو تسي على تطواف الرجال والنساء عرايا في مملكة تشو شين بالصين القديمة، هكذا، تسير نمطية المجتمع الإنساني، نزاع بين إنحلالٍ وإنغلاق، يلجأ للدين ليعترض على الترف والإباحية، لكنه لا يؤمن واقعًا بالدين لأنه إنما يريد منه وصاياه في الزهد، وأوامره في الإعتدال، وطريقته في تطهير النفس من أدران المجتمع، أمّا الدين كإيمانٍ حقيقي، ومنهج واقعي، ونظام إلهي فإنه مرفوض لأنه يسلب من هؤلاء الذين يدّعونه أهم ما يمتلكونه وهو الإدعاء بالإرتفاع عن مشاركة المجتمع في تفاهاته، والواقع هو أنهم يمارسون هذه التفاهات كأقرانهم لكنهم يريدون التميّز عنهم بصورة الورع والتقوى. فلا عجب أن تقرأ في التاريخ عن أحدهم أنه كان ورعًا فقيهًا قاضيًا للقضاة .. لوطيًا! فهو يمارس ملذات مجتمعه وينغمس فيها كغيره لكنه يتصور بأن إدعائه القضاء باسم الله هو تطهير له من هذا العيب، وغريب هو كيف أنّ من كان منغسمًا في ملذاته حتى المباح منها عادة ينقلب ليصبح الأكثر تزمتًا في ظاهره، فهو في كلا الحالتين واحد إنما ثوبه الذي يرتديه أثناء تزمته اختلف فقط .

عصور البشرية إلى اليوم هي عصور إنحطاط مستمر، تخللتها قمم ارتفعت عن هذا الإنحطاط، لكنها كانت قمم فردية مثّلها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، بينما ظل باقي الناس يمارسون إنحطاطهم حتى إذا وصلوا مرحلة لم تعد فيها الأوضاع تطاق تصوروا الحل بالإنقلاب عليها، وهم واهمون لأنهم ظلوا يمارسون نفس سلوكياتهم وبنفس الدرجة إنما هذه المرة من الطرف المقابل مثلهم كمثل الفايكنج حين كانوا يضعون الصليب على صدورهم ثم يصلون له كما كانوا يصلون للإله "ثـور" قبل معاركهم!. إنّ الإحساس بثقل الذنب ومدى الإنحطاط يدفع الناس إلى الرغبة بالتطهر من دنس المشاركة فيه فيلجؤون إلى إدّعاء الدين، الصراط الربّاني القويم، لا رغبة بالوصول من خلاله إلى الرب جل وعلا إنما رغبة بالهروب من المسؤولية عن الواقع لذالك كلما طال زمن الإنحطاط كلما زادت مظاهر الدين القشرية ظهورًا، وإزداد الناس تزمتًا بها وتكالبًا عليها.

موجات التدّين الظاهري والتزمت الأخلاقي دائمًا تأتي متزامنة مع الشعور الطاغي بضرورة التطهر للتخلص من تبعات الفساد المنتشر الذي لا يطاق، فكلما زاد الفساد إزدادت القيود الأخلاقية والمظاهر الدينية حتى إذا وصلت لدرجة الإختناق عاد الإنحلال والفجور أسوأ مما كان عليه، وهكذا يعيش البشر إنحاطاطتهم على مدى التاريخ ما بين المطالبة بالحرية للتخلص من قيود التزمت الديني، وما بين المناداة بضرورة الإنضباط الأخلاقي لإخلاء المسؤولية من فلتان الحرية الواسعة وخطرها، وما بين هذه المتوالية المستمرة يظل الدين وحيدًا يعاني في غربته من إستئكال الناس باسمه، ما بين ذامٍ له للتخلص من ضوابطه أو مادحٍ له للوصول إلى غاياته الخاصة، فانحياز الإنسان لمشروع الشيطان كان ولا يزال، وهكذا «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»