29 فبراير 2012

[I] حين يحدثني الحلم


كانت الأيام المنصرمة بمثابة الحلم، وإن كان البعض يعتبر الأحلام هي تعابير مصورة عن الرغبات الداخلية المكبوتة فإنني على يقين بأن الحلم هو انكشاف للإنسان في هذا العالم على نفسه في العوالم الأخرى، ولكن لأننا حشرنا أنفسنا في زاوية الظواهر من هذا العالم غابت عن أعيننا لغة الباطن، فاعتبرنا رموزها وحروفها طلاسم أدّت بنا بالنهاية إلى تفسيرها وتأويلها بالظواهر والرغبات التي لم نعد نفهم سواها!، وَرّد في الرواية عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «ما من شيء تراه عينك إلا وفيه موعظة»، وكما أنّ هذه الجارحة التي نرى فيها الموجودات عين، فإن تلك الباصرة داخل النفس التي نحس بها بالوجودات هي عينٌ، كذلك، وكلاهما مختصان بعالم يصل ما بينهما الحلم، وبقدر فهمك لما تراه، بقدر ما تكون رسالة العوالم، لعالمك، واضحة.
وما أكثر العبر، وأقل الاعتبار.
(1)

قبل سنتين تقريبًا كان أحد الأفاضل من العلماء يتجاذب أطراف الحديث معنا، ومن باب (اللطيفة) بتعبير طلبة العلم أخبرنا عن زيارته لأحد العلماء العاملين المحققين، تجاوز أو قارب التسعين من عمره، فسأله: سيدنا، كيف أحوالكم؟ فكان جوابه: إنني زرع ينتظر قطافه!
كانت هذه الطرفة، في نفسي، أشدّ من الموعظة، كيف لإنسان أن ينتظر ما يهرب منه الآخرون؟
كان أملي أن أصل لإجابة، وحلمي أن أراه.
حدث ذلك، لم تفصلني عنه سوى أمتار قليلة، وعن دجاجاته وديكه في ردهة بيته المتواضع ستارة خفيفة، بقيت لدقائق استمع لأحد بحوثه، وما أن انتهى، برزت حروف الرسالة من حلمي: لو جمعت ألف عقل، فإنك لن تهرب من حقيقة واحدة: أنها ستفنى في يوم من الأيام، لكنك لو زرعت ألف عقل، فإن كل ثمرة تقطفها من هذه العقول ستحمل في بطنها بذور آلاف العقول الأخرى، إنّ الزرع يستمر باستمرار قطف ثماره، ويموت بتركها.

(2)

بجانبه جلست، أتى أحدهم يناجيه بالسر، لم أسمع شيئًا، لكنني حلمت بالسؤال، فسمعت جوابه، لمن أسرّه الحديث: تفاءلوا بالخير تجدوه، التفاؤل ليس بمجرد القول والإعتقاد، تفاءلوا يعني أن تراه، ليس بقلبك فقط ولكن أمام عينك أيضًا، وإذا آمنت بالله فعلاً، فإنك لن تجد إلا خيرًا.
قلت في نفسي: والشرور؟ الآلام؟ المصاعب؟
طفقت أتصفح الوجوه لعلّي أرى تساؤلي على لسان أحد آخر، فسمعت شبه تساؤل على كلامه ابتدأ بـ: ولكن ....
ابتسم كعادته حين  يسمع اعتراضًا مرّ جوابه في ثنايا حديثه، فتذكرت: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»

(3)

«قل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك»
- الإمام الكاظم عليه السلام
قبل أن نتشرف بالدخول عليه، كنت قد أخبرت بعض الأصدقاء عمّا قاله لي في زيارتي الأخيرة له: «لا تكذب».
لماذا يصر الإنسان على تكرار بعض الكلمات؟
هذه المرة أيضًا، ضمن حديثه، أعاد ذكر هذه التوصية وشدّد عليها.
بعدها، ابتسم بعض الأصدقاء من تكرار هذه الوصية، آخرون انشغلوا بالنزاع في مراد باقي كلامه، وانشغل خلدي بمغزى هذه الكلمة وسبب تكرارها دائمًا، كان حلمي دائمًا أن أقرأ ما وراء حروف الكلمات، ليس الحلم ما تراه في نومك حين تتجرد روحك من ثوب البدن الثقيل بل الحلم هو كل ما تعجز أن تصل لمعناه كما هو، بدلاً من أن «تكذب» على نفسك بربطه بما تعرف معناه، خذ الحقيقة كما هي، لا تكذب، أي اصبر على ألم الحقيقة، لأن الصبر وحده يحول الألم إلى كنز.
كان بوصيته التي دائمًا ما يكررها يريد أن يرشدنا إلى طريقة الوصول إلى الكنز الذي نضيعه حين ننشغل في طريق الحياة، عن الحياة.

 (4)

أمر على المقابر والقبور، أرى بعضها يضفي الوحشة على ظلمة الليل، وبعضها يأنس الليل لأن موعده أتى ليحيطها.
هل تساءلت يومًا: لماذا لا تخاف من هذا الإنسان الحي، مصدر الشرور والخطر لمن حوله، حين تنفرد معه، بينما يغمرك الخوف حين تنفرد بجثة هامدة لا حياة بها؟
حلمت مرة بالإجابة، لكنني ركزت على الباب، ونسيت المفتاح، وما تنساه في الحياة ينساك،  ولأننا نركز على تجاوز الحياة أكثر من سبرها، نتعطش دائمًا لسفك الدم، والميّت لا دم له فلا يروي عطشنا لذلك نخاف منه، ونأنس بالحي الذي يذهب الظمأ عنّا بدمه.
إن الإنسان يخاف ممن يستغني عنه، أكثر ممن يحتاجه، لذلك يحارب الأنبياء والأولياء فهم مستغنون عنه، ويمّجد بالطغاة والبغاة لأنهم يحتاجونه.
وقفت أمام باب المدخل الأيمن لمرقد أمير المؤمنين عليه السلام فوجدت مقولته محفورة على أعلاه: قيمة كل إمرئ ما يحسنه.
أحسن الحياة، تحسن الموت.

(5)

أسرّني، بأن كل ما فعلته شاهده بحلمه، بل إنّ حضوره كان بسبب حلم رآه.
كانت لحظة، هي بذاتها، كالحلم، قرر فيها أن يوجه فيها مفتاح الصمت لقفل القلب.
يملك الصمت القدرة على أن يخترق العوالم، وبعكس الضجيج، فإن اختراقه يبعث الراحة والطمأنينة، وإن كان – كما في الإنجيل – في البدأ كانت الكلمة، فإن ما بعد أي كلمة هو الصمت الذي يفصل ما بين الكلمات ليعطي كلاً منها المعنى، تخيّل لو كانت الكلمات متصلة بلا صمت بينها ما سيكون حالنا حين نسمعها؟
أخبرني بهاتين الجملتين، وصمت، حاولت أن استخرج المزيد منه فاكتفى بالصمت والابتسام.
"في هذه الدنيا أي راحة يحصل عليها ذلك المرء الذي يتخذ له فراشًا من الشوك؟"
 جعلتُ من الصمت شوكًا سلب راحتي، ومنعني من الحلم، إن الأحلام تهرب من الشوك لأنها أرق وألطف من أن تكون قرينة التعب والضنك، فالأحلام تزور من يصمت حين يَسْكُن وينام، ولا تزور اليقظ لكثرة كلامه، كان يريد أن يريني أننا قادرون على رؤية كل شيء، وأي شيء، وما نحتاجه هو «أذُنٌ واعِيَةٌ» تترقب الصمت لتقتنص الفائدة، ولا تترقب الكلمة لأن ذلك يُعوّج المفتاح، وإذا انعوج المفتاح لم يُفتح القفل. 

.. ولا يزال حديث الأحلام مستمرًا


(اضغط هنا لقراءة حين يحدثني الحلم، الجزء الثاني)