
لتكشف لنا أنّ هذه القيم المذكورة هي «قميص عثمان» ترفع متى ما وافقت الهوى، وتنزل متى ما كانت تخالف التوجسات الموهومة، وأنها رائعة حين يتم توظيفها للمصالح الشخصية، وقبيحة حين تتطلب منك ما يتعدى مصلحتك الذاتية.
.
ما يحدث في إيران اليوم أعاد لذاكرتي هذه الجملة ، فحمّى المظاهرات و الإندفاع الأعمى في الوقوف مع طرف ضد آخر و تصوير هذه المظاهرات على أنها نهاية للثورة و نقل صورها لا يختلف كثيرًا عن ذلك المصور الذي يجعل زووم الكاميرا على بضعة أفراد متراصصين ليكتب تحتهم "مئات الآلاف يتظاهرون" ؛ الواقع الإيراني ليس في مناطق شمال طهران و لا في ميدان "ولي عصر" و لا في ساحة "آزادي" ، الواقع الإيراني موجود خارج تلك البقع في مدن الأرياف حيث يقبع معظم الشعب ، هناك يمكن أن يُفهم الذي يجري..
.
. إيران بعد الثورة
قبل الثورة الإسلامية كانت معظم القوى السياسية و الفكرية تشارك في مناهضة نظام الشاه ، النظام الدموي الشمولي الذي جابه في أقل من خمسين سنة أربع محاولات انقلاب (شعبية) نجح منها اثنتان الأولى انقلاب مصدق الذي أطاح به الـCIA و الثاني الثورة الإسلامية التي أتت بنظام الجمهورية الإسلامية بعد استفتاء سنة 1980.
.
هذه الثورة لم تنطلق من طهران أو من أصفهان بل انطلقت من قرى جنوب طهران المناطق المدقعة بالفقر (مسقط رأس نجاد)، و كانت شرارتها انطلقت من عبادان مدن تعد مقارنة بالحواضر في ذلك الزمن على هامش الدولة و بلا تأثير و لكن ما نتصوره عديم التأثير يكون هو عامل التغيير غالبًا.
.
حينما أتت الثورة لم يكن على الساحة من يملك مشروعًا و تصورًا لماهيّة الدولة سوى اثنين حزب توده (الشيوعي) و حزب الجمهورية (الإسلامي) و اضطر الباقون إلى المشاركة في مشروع أحد هذين الحزبين قبل أن ينتهي الحزب الشيوعي في إيران بعد سنة 80[1].
.
كان المثقفون و النخب الفكرية في إيران باستثناء القوميين و الشيوعيين ما بين تيارين رئيسين تيار حداثي ليبرالي/علماني و تيار ديني أصولي كان الاول يتزعمه الراحل المهندس مهدي بازرڰان إلى جانب أبو الحسن بني صدر و غيرهم و التيار الثاني كان زعماؤه الشهيد رجائي (ثاني رئيس للجمهورية) و الشهيد باهنر و غيرهم.
.
حين أتى وقت التطبيق انضوى هذين التيارين تحت مسمى الجمهورية لتشكيل جبهتين (روحانيون مبارز) التي تمثل الإصلاحيين في هذا الوقت و (روحانيت مبارز) و تمثل المحافظين في التسمية الجديدة ، تيّار الروحانيون و إن كان مؤمنًا بنظام الجمهورية و مقرًا لنظام ولاية الفقيه الذي يمثل إحدى نظريات الحكم الشيعية و طرحه الإمام الخميني رحمه الله كأسلوب حكم في كتابه (الحكومة الإسلامية) إلا أنهم كانوا يسعون إلى هامش أكبر من "الدولة المدنية" على حساب الدولة الدينية التي يطرحها المحافظون و إن كان فيه الآن من يعترض على أصل الحكومة الإسلامية برمتها و يدعو لدولة علمانية بحتة ، و أبرز مفكريهم هو الشهيد شريعتي[2] الذي خالف والده الشيخ محمد تقي شريعتي و أستاذه الشهيد مطهري في كثير من رؤاهم لدرجة أن الشهيد مطهري (كما في كتاب الإمامة –مثلاً-) يرد على بعض أفكاره بتلميح هو أشبه بالتصريح! إلى جانب خلافه الكبير مع الكثير من علماء الحوزة في قم المقدسة و غيرها و هو شيء اعترف به في رسالته التي بعثها قبيل اغتياله بل و وصل به الأمر للطلب من الشهيد مطهري أن يصوب بعض كتبه و لكنه اغتيل بعده بفترة زمنية يسيرة.
.
كان شريعتي و بازرڰان من محركي الثورة الكبار في إيران و رغم أن الثاني يُعد من رموز الليبراليين في عهد الشاه إلا أنه شارك بفعالية في حكومة الثورة قبل أن ينسحب من الساحة بعد أن انتهت فترة رئاسته للوزراء في عهد الحكومة الإنتقالية، و لكن أثرهم لازال باقيًا في إيران من خلال التيار الإصلاحي الذي يستلهم رؤاهم في معالجة القضايا و إن كان تيارهم مغلفًا بالغلاف الديني.
.
. إيران وقت الإنتخابات
مير حسين موسوي كان رئيس الوزراء في عهد رئاسة السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الحالي أثناء الحرب العراقية –الإيرانية ، كان السيد الخامنئي من المحسوبين على "روحانيت مبارز" بينما كان موسوي من المحسوبين على تيار اليسار "روحانيون مبارز" إلا أن وجود الإمام الخميني رحمه الله في ذلك الوقت و ظروف الحرب لم تسمح لظهور الخلاف و التباين كما هو بصورته الحالية .
لا أعتقد أن هناك من يختلف على عقلية موسوي الاقتصادية التي أخرجت إيران من حرب استمرت لثمان سنوات دون أن تكون مدينة بدولار واحد لأي طرف كان، و لكن أعتقد بوجود الكثيرين الذين يجهلون "نكهته السياسية".
.
و هذا يؤيده بُعده عن الساحة و ضعف مناورته السياسية منذ انتهاء الحرب قبل عشرين سنة، الفضل الأكبر في ذلك الوقت سياسيًا كان يعود لرفسنجاني و السيد الخامنئي اللذان قادا العملية السياسية بأكملها على الرغم من تباين (الوجهتين) بينهما، لذلك عندما أتى الشيخ مهدي كروبي في الإنتخابات الماضيةو هو يرجوه أن يرشح نفسه رفض موسوي هذا الأمر فاضطر التيّار أن يرشح كروبي لتبرئة الذمة إن صح التعبير و يدعم رفسنجاني أحد رموز الثورة و رئيس سابق للجمهورية و صاحب ثقل يعادل ثقل المرشد معنويًا هناك إلا أن هزيمته أمام نجاد دقت جرس الإنذار على هبوط التيار الإصلاحي الذي توالى ليشهد في السنوات الأخيرة أسوء أعوامه بعد أن انحسر عدد ممثليه في البرلمان.
.
كانت المعركة الإنتخابية الأخيرة معركة كسر عظم بين تيارات و ليست بين شخوص في المقام الأول ، و أثبتت المناظرات التلفزيونية بين المرشحين أن نجاد استطاع أن يناور خصومه و يوجه لهم ضربات قاضية حولتهم من خانة الهجوم إلى خانة الدفاع المستميت ، كانت محاولة تحجيمه قائمة على قدم و ساق قبل بداية حملته الرسمية التي بدأت متأخرة (قبل الإنتخابات بأسبوعين) و كونه محسوبًا على المحافظين و أسقط أحد رموز الثورة في الإنتخابات الماضية فقد كان رأسه مطلوبًا عند النخب الإيرانية الذين أصبحوا اليوم تلقائيًا في التيار الإصلاحي (النخبوي) على عكس تيار المحافظين الذي يحظى بالقبول الشعبي أكثر.
يـتبــع إن شاء الله ..
ملاحظة : غدًا سُتقام صلاة الجمعة في طهران بإمامة السيد الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية، من المتوقع أن تضع الخطبة الكثير من النقاط على الحروف ، لذلك سأؤجل الحلقة الثانية لما بعدها .
____________________________
[1] كانت الشرطة السرية (السافاك) في عهد الشاه تعتقل و تعذب و تعدم الكثيرين من المحسوبين على المعارضين لنظام الشاه،و أثناء اعتقال الشهيد السيد عبدالحسين دستغيب حُبس في زنزانة انفرادية مع أحد أعضاء حزب توده و كان شيوعيًا ملحدًا نكاية به!
أسوء ما في التاريخ أن أحداثه لا تُكتب إلا بأحبار حمراء من دماء الأبرياء ، منذ قتل قابيل أخاه فأهلك ثلث البشرية إلى اليوم ، لا زال الإنسان يرسم ملامح قوته و يثبتها بقدرته على سفك الدماء ، هكذا يحقق مطالبه ، لم يتعلم طوال هذا التاريخ أن تاريخه دون البشر لا معنى له ، و أن الدماء التي يسفكها ستكون أول اسفين يدق في نعش ما يحاول بناءه ، كلهم يقتلون ليبنوا مجدهم فيتحول هذا المجد إلى لعنات تنصب عليهم بعد سنوات لأنه مجدٍ بني على عظام الموتى الهشة .
على رغم كل هذا التطور المادي و الإرتفاع في المستوى العقلي لا زالت سنن البشرية كما هي " و لو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى ، غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الإجتماع ، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية " [1] ، هكذا تحول القتل من وسيلة في عصر قابيل إلى غاية و هدف في عصرنا الحالي كل ما اختلف بينهما هو أنّ قابيل لم يعطي المبررات و لم يغلف ما فعله بالحجج و البراهين حتى يغسل الدماء من يده بتلك الحجة ، و هذا ما لا يحدث الآن ، تحول القتل إلى غاية تساق له المبررات و تصفق له الجموع البشرية و تنطرب لأصوات أزيز الطائرات و المدافع لأنها تظهر عنصر التجبر و الاستكبار الكامن في نفسه ، يندفعون لتأييد القاتل و يصفقون له لأنهم أجبن من أن يقتلوا بأيديهم و قام القاتل بما عجزوا عنه .
سألوا يوما الإمام الرضا عليه السلام عن ثأر القائم عليه السلام من أبناء قتلة الحسين عليه السلام فكان جوابه : و من رضى شيئا كان كمن أتاه و لو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل [2] .
هذه هي الحقيقة البديهية التي لا يريدون استيعابها ، لو لم يجد القاتل من يعطيه القابلية لعمله ما استمر بفعله ، فكل فعاليته هي نابعة من قابلية من يمهد له الطريق ، و يسبغ عليه الثناء ، و يعطيه المبررات ، و يكتب له التأويلات ، بل و يعتبر نفسه ناطقًا باسمه قائمًا بفعله لأنه في داخل نفسه أجبن من أن يتخذ موقفًا يثبت فيه استقلاليته و حريته ، مثل ما كان في الحرب الأهلية الأمريكية حين وقف بعض العبيد ضد القوات الإتحادية لأنهم لم يتصوروا أن يتمكنوا من الحياة دون أسيادهم.
الهجمة الصهيونية على غزة و ما يحدث فيها لا يمكن فصلها عن الواقع السياسي المزري الذي وصلت له الأمة ، و لا يمكن فهمها بدون استقراء واضح للتاريخ حتى وصولنا لهذه اللحظة و لكن لا يمكن اختزال تاريخ أمة ببضعة سطور للأسف .
بتجريدٍ بحت حين ننظر لقضية غزة بعيدًا عن شقها المأساوي ، نرى أنها قضية مفصلية لرسم واقع المنطقة خلال السنوات القادمة ، السياسيون لا يهتمون بمقدار التضحيات و المقدمات بل تهمهم النتائج و ما يُبنى عليها ، بداية ما حدث لغزة يعود لنهاية عهد كلينتون حين تم القرار بإنهاء القضية الفلسطينية و تسويتها و لكن كان لياسر عرفات موقف خالف فيه التوجه الذي أرادته الإدارة الصهيونية بسلب حقوق الشعب الفلسطيني على رغم كل مواقفه وسلبياته إلا أنه استوعب أن أوسلو لم تكن سوى ألعوبة ، لذلك رمى كلينتون تبعية عدم انهاء القضية على رأسه عند انتهاء ولايته ، و قرروا التخلص منه كعقبة موجودة في طريق طي ملف هذه القضية .
انتهوا من عرفات و ظلت سوريا و إيران و حزب الله و الفصائل الفلسطينية في المرصاد ، حاول الصهاينة كسر حزب الله عام 2006 فكانت هزيمة ساحقة لهم و لمخططهم الذي أبلغوه لدول الاعتدال العربية [3] قبل إعلان الحرب على لبنان ، هذه الحرب التي حدثت تحت مبرر " الطائفية " كما عبر ذلك شيمون بيريز : " حزب الله سيكون أداة لبسط النفوذ الفارسي لإيران الشيعية على الشرق الاوسط المعروف بغالبيته العربية السنية، ومن ثم من حق الدول السنية الكبرى في المنطقة أن تشعر بالقلق. " ، و هي الحرب التي وصفتها رايس بأنها المخاض للشرق الأوسط الجديد ، إن أسوء ما الحروب ليس بشاعتها و دمويتها و لكن تبريرها لهذه البشاعة و الدموية تحت ذريعة الخوف من ( هويّة ) الطرف المقابل .
تحت هذه الذريعة برروا حرب لبنان ، و برروا همجية الصهاينة في غزة ، و برروا كل المواقف الدوليّة المتخاذلة و فضلوا أن يرموا بتبعات الدماء على رقبة الضحيّة ، لأنها أضعف من الجلاد و لأن التبعية له أهون على نفوسهم من الإقرار بـ " هويّة " الضحية ، دماء هؤلاء الأبرياء سيتشارك فيها كل آثر أن يقبع بزاويته مبررًا و مدافعًا عن السفاحين و لو بكلمة بحجة أنّ فأسهم أكبر من سكين الضحايا ، و كأن على الناس أن يقبلوا شرب الهيم من الحميم لأنهم لا يجدون الماء المعين !
و الآن برغبة و إرادة الدول العربية المعتدلة تم شن الحرب الأخيرة على غزة كخطة بديلة عن الفشل في لبنان لمحاولة إعادة إحياء عملية طي الملف الإسرائيلي الفلسطيني نهائيًا برغبة عربية وفق الشروط الإسرائيلية، و لكنهم صدموا بالهزيمة تتكرر مجددًا لتضع بصمة جديدة على درب الفشل الصهيوني في العهد الجديد ، فهذه المرة لا بارود فاروق و لا ماكو أوامر غلوب باشا هي من تحاربهم ، و رجعت نفس المبررات مجددًا .
الصراع الآن هو صراع بقاء إسرائيل لذلك هي تتوحش في كل يوم أكثر بهجومها على غزة قبل الهدنة و بعد سقوطها كما توحشت في هجومها على لبنان لأنها تعلم أن القوى الكبرى لا يمكن لها أن تغفر لها انكسارين بعد هذا الغطاء الدولي المفتوح ، و هي تعلم يقينا أن فشلها يعني انفاذ المطالب التي تريدها إيران و سوريا رغما عنها بموافقة أمريكية ، لأن أمريكا الحالية بانتظار النتائج لما يحدث في غزة و بناء عليها سيرسم أوباما السياسة التي دعا إليها بالمفاوضات ، طبيعي انه يريد أن يفرض شروطه في تلك المفاوضات و لكن ما يحصل على أرض الواقع لا يبشر بهذا الشيء ، و ايقاف إطلاق النار هو شهادة وفاة جديدة للعسكرية الصهيونية الهمجية ، إيذان بفشل جديد يضاف لسجلات الفشل العربي في المراهنة الخاطئة على البيدق الخاطئ.
النتائج التي ستترتب على ما حدث في غزة ، و ما حدث في لبنان قبل ثلاث سنوات ستأتي أكلها قريبًا ، و قريبًا جدًا .
و ستبقى دماء الأبرياء شاهدًا على همجية الإنسان الكامنة فيه ، و إن تمظهر بالتمدن و التحضر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] من كلمات العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان ج 4.
[2] الرواية كما رواها الشيخ الجليل الصدوق قدس سره في " علل الشرائع " ج1 :
عبد السلام بن صالح الهروي قال : قلت لأبي الحسن علي ابن موسى الرضا " عليه السلام " يا بن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق " عليه السلام " أنه قال : إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين " ع " بفعال آبائها ؟
فقال " ع " : هو كذلك.
فقلت : فقول الله عز وجل ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ما معناه ؟
فقال: صدق الله في جميع أقواله لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها ومن رضى شيئا كان كمن أتاه ولو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل وإنما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم.
[3] BBC- طائفية" حزب الله بين إسرائيل ولبنان"
تم اليوم الحكم ببراءة سماحة السيد الفالي من التهم المنسوبة له :
- لقراءة التفاصيل : اضغط .
- لقراءة ما يتعلق بالموضوع : اضغط .