‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد العالـَم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد العالـَم. إظهار كافة الرسائل

20 فبراير 2011

الوردة التي عرّت الرصاصة

كنّا في جلسة مسائية كعادتنا كل ليلة في بيروت أيّام الدراسة، ومن تحت النافذة كان يصعد لنا صوت شجار تعودنا عليه كل ليلة بين مناصري فئة، ومعارضي الأخرى، أحدهما صاحب بقالة والآخر صاحب محل لتنجيد مقاعد السيّارات، يشربان الشاي صباحًا معًا، وبعد العمل يتشاجران على السياسة الداخلية لواقع متأزم في لبنان، دفع صوتهما المتعالي أحد الأصدقاء من دولة خليجية مجاورة، لسؤال الآخر، الذي كان بحرينيًا، عن الذي ينتظرونه لينتفضوا على الوضع المزري القائم عندهم، بطالة، وفقر، وتقسيم فئوي، وإثني، وتجنيس سياسي، وعنصرية بغيضة، وتفرقة طائفية، وقمع، وعنف، وسجناء رأي بالمئات بما فيهم مراهقين لم يتعدّوا الخامسة عشر من أعمارهم.

ابتسم الصديق البحريني، فهو نفسه كان سجينًا سابقًا، وتعرض لتعذيب في التسعينات أصيب على اثره بأمراض متعددة لازال إلى يومنا هذا يُعاني منها، مرددًا بيتًا من الشعر: لا تكشفنّ مغطـًا .. فلربما كشفت جيفة

ولم يخبرنا بما هي هذه الجيفة، فقد انشغلنا بمتابعة الشجار اليومي الذي كان يدور بالشارع عن اكمال حديثنا قبل الإنصراف.

وأنا أشاهد، وأتابع، وأراقب ما يجري هذه الأيّام عرفت معنى ما أراد إيصاله من هذا البيت. مستذكرًا تمام البيت:
إنّ الجواب لحاضرٌ .. ولكنّي أخفيه خيفة.

خيفة من التصنيف، وخيفة من التنميط، وخيفة من هلامية الشعارات، وخيفة من ازدواجية الفكر، وحولان البصر، وسوء النية، وبئس المنقلب.

خيفة من علمه أنهم لا يحاربون حكومة، إنّما يحاربون موروثًا عجنت فيه الإقصائية، والعنصرية، ويحاربون فكرًا تربى على مياه آسنة سممتها الفئوية والطائفية، ويحاربون نظامًا يستند على أعمدة مستوردة، والأَمَر من ذلك كله يحاربون واقعًا مريرًا تزاوجت فيه كل الأمور المذكورة لتخرج لنا مسخًا متعدد الجبهات يرى في مطالبة ابن الوطن أجندة خارجية، وفي قتله على يد مرتزقة من بلاد الهند والسند، بسلاح غربي، وغطاء فئوي أجندة وطنية، وهذه الرؤية تأتي من الناس حولهم، للأسف!

ولمَ كل هذا؟

الخوف من نفوذ «إيران».

الاسطوانة التي شغلها الهالك صدام، حامي البوابة الشرقية، حين مزق اتفاقية الجزائر معلنًا حربًا طحنت مليون مسلم امتدت على ثمان سنوات سوداء. نفسها اليوم تتكرر، بلا أي إضافة جديدة أو حتى تعديل على شعاراتها، تحت هذه الذريعة يتم التبرير لسفك الدماء. وكأن دروس الماضي لم تعلمهم، وحضارات اليوم لم توعيّهم بأن الخوف شعور لا يتملك إلا الضعيف، وهذا الضعيف وحده من يتحمّل تبعية هذا الضعف، والتضحية بالناس لا تكفي لتغطية ضعفك. هذه الدعاية المؤلمة، التي تؤكد بثناياها أنّ الوضع الحالي هو من أوصلهم لهذا الضعف ومع ذلك يرفضون إصلاحه أو تعديله، تحت ذرائع شتّى بطريقها توفر الغطاء لكل عمليات القمع والعنف الممارس.

وعليه، تطل الطائفية برأسها، وتمارس لعبة «التقوّل» بأبشع صورها، ويُتّهم كل من يطالب بإصلاح وطنه، وتوفير لقمة العيش، وإزالة كابوس الرعب والقتل بأنه يعمل لأجندة طائفية، ويتم تقويلهم ما لم يقولوا، تختم الصورة بأنّ هؤلاء العزّل الذين جابهوا الرصاص الحي بصدورهم العارية إيرانيون!
اسطوانة تذكرني باسطورة أم السعف والليف المخيفة التي لم تكن سوى النخلة المسكينة .. مطالبات وطنية من أبناء الوطن لم يريدوا بها سوى إصلاح الحال تُقدم على أوراق الورود ليمزقها رصاص مدّعي المبادئ، قبل رصاص البنادق!

لا يوجد أسوء من سلب إنسانية الإنسان من خلال العناوين التي تغلّفه، قد تملك رؤية، اعتقادًا أو فكرة ما تجاه أيّ أحد، لكنّ ذلك لا يعطيك الحق في نفي وجوده، ولا يبرر بأي حال من الأحوال عدم قبوله. هذه تسمّى اقصائية برزت بأشدّ صورها حين تواطأت وسائل الإعلام التي أشعلت الدنيا للتغيير في مصر وتونس على طمس ما يحصل، وسائل الإعلام التي عَبَرت القارات لتنقل الصورة ثم غرقت في شبر ماء يفصلها عن الأحداث الدموية بجانبها، وبرزت أكثر حين قام من يدّعي الديمقراطية، والعدالة، والحرية ويحمل مشاعلها بإعطاء الحق للقمع، والعنف خوفًا من اختيارات الأغلبية أو ميولهم.

ومما يؤسف له، أنه خوف يقوم على افتراضات مسبقة، وعلى نية مبيتة، تتجاهل كل الوقائع الثابتة بأنّ الحقوق للجميع، وليست حكرًا على طائفة أو فئة، وأنّ المطالبة سلمية لم تكن تريد سوى تنفيذ الوعود المقطوعة.
لتكشف لنا أنّ هذه القيم المذكورة هي «قميص عثمان» ترفع متى ما وافقت الهوى، وتنزل متى ما كانت تخالف التوجسات الموهومة، وأنها رائعة حين يتم توظيفها للمصالح الشخصية، وقبيحة حين تتطلب منك ما يتعدى مصلحتك الذاتية.

هكذا بدت في أحداث البحرين، وهكذا تبدو في أحداث البدون، بتغيير بسيط في العناوين العامة، وابقاء الجوهر كما هو، عنصرية مقيتة، وتبريرات واهية للإلتذاذ بالتعامل الإقصائي.

أثبتت الأحداث أن هذه المبادئ التي رفعت فوق كل زاوية هي مجرد كلمات تلوكها الألسنة، تنزلها في غير منازلها تارة حين تجعلها فرقانًا بين الحق والباطل في قضايا لا تحتمل هذا التقسيم، وتدفنها تارة أخرى في قضايا لا تقبل إلا الحق أو الباطل، لتؤكد مجددًا على أنّ الأزمات لا تولد إلا من أرحامٍ متأزمة "مبادئيًا"، هي بحاجة لتحرير هذه المبادئ قبل أن تدعيها، وترفع أشرعتها.

31 يناير 2011

السلب والنهب كواقع

الحضارات تقدّم تاريخًا وأفكارًا، والأفكار لا تعلّم الأمم بقدر ما تعلمهم الآلام. فهي بالنهاية تشكل جزءًا من ثقافة الأفراد المنحدرون منها، لكنها لا تضع طبيعة موّحدة لهم. فتجارب الحضارات تقدّم مخزونًا ثريًا لشعوبها في حال استمرار توارثها والحفاظ عليها، وحيث تتوالى التجارب يزداد تأثيرها في تشكيل الهويّة الشخصية لأبنائها.

إلاّ أن محاولة تأسيس حضارة جديدة تلغي كل تجارب الحضارة السابقة يمثل قطعًا في طريق تدفق هذه الخبرات بما تحتويه من أعراف اجتماعية وآداب أخلاقية تشكل بمجملها هويّة لأفراد هذه الحضارة. اليابان على سبيل المثال التي تمتلك حضارة ممتدة من أكثر من ألفي عام إلى الآن، لا تزال ترفد شعبها بخلاصة هذه الحضارة مشكلة هويّة مميزة لهم، لم ينفصل حاضرها عن ماضيها.

بينما باتت الحضارة التي يتم التغزّل بها في بلداننا العربية مجرد كلمات مسطورة في كتب التاريخ، لم تعد تملك تأثيرًا أو امتدادًا مع الحاضر في ظل التقافز عليها، ولا ينفع استمرار التغني بها وبانجازاتها لإدّعاء لبس أثوابها. فالحضارة المندثرة لا تملك عصا سحرية تنثر من خلالها مفاهيم الحرية والعدالة والتحضر على شعوب تسكن أرضها، ودورها أصبح مقصورًا على استدعاء أسماء حكامها في دروس التاريخ، والأعياد الوطنية.

الشعوب لا تصيغ طبيعتها الحضارات، إنما الأنظمة الحاكمة، والناس على دين ملوكهم [ لا على شاكلة حضاراتهم!] إن شاؤوا التحضر أنتجوا شعبًا متحضرًا، وإن شاؤوا التخلف فلن يتركوا خلفهم إلا التخلّف. فالمحصلة هي أنه في ظل تأسيس دول جديدة بمفاهيم جديدة في كل عقد بدولنا العربية، وكلما اعتلت أمة منصة السلطة نسفت تاريخ ما قبلها، فإنه لا يحق لها التبجح بتراث قطعت كل صلتها معه، ولم تأخذ في يوم من الأيام العبرة منه.

هذه المقدمة مهمة حتى أوّضح أن جذور الشعوب مهما توغلت بالقدم وأنتجت من آثار، فهذا لا يعني أنها تملك ضمانة من العبث، ومانعًا من الإنزلاق نحو العودة إلى تصرفات الإنسان الأول التي وصفها (وِلْ ديورانت) بالاستجابة التامة للغريزة، والميل إلى القتال، والولع بالاكتساب.

هذه الجذور يهذبها النظام، فالأنظمة بالبيئة التي تخلقها توّفر مجالات النمّو لطبائع شعوبها، وتعيد تشكيل مفاهميهم تجاه الأخلاقيّات، وفي ظلّ نظام يحكم باسم قانون الطوارئ، وبشريعة الحزب الواحد، وباقتصاد رجال (أو لصوص) الأعمال، وبأمية وصلت إلى قرابة 28% من تعداد الشعب، ونسبة فقر تخطت 52% منه، وتطورها العمراني هو بالعشوائيات التي غزت المدن المكتظة، وبقبضة أمنية مستبدة، وبرأس سلطة هرم، وبدستور أعرج، كلها مجتمعة خلقت بيئة جعلت من الشعب يشعر بالنفور التام من كل الشعارات التي تضعها السلطة حتى وإن كانت تشير لتنظيم المصالح الشعبوية، ومن ثمّ يبدأ بتربية نفسه وفق القواعد التي تتطلبها الحياة القاسية التي تحيط بهم. إنّ نسبة التعليم، وحجم الطبقة الوسطى والنظام الإداري للسلطة هي التي تُشكّل عقلية الفرد بالمجتمع.

سألَ جيجيس أفلاطون: من يَلزَم الاستقامة إذا أمِن الناس ألاّ يراهم أحد؟

يبقى هذا السؤال ما بقي البشر. فكل التصرفات التي يقومون بها إما تنطلق من باعث داخلي تزرعه فيه البيئة التي يحيا فيها، أو تنطلق من «الخشية» من رؤية العين الرقيبة له. فإذا كانت العين هي نظام مترهل يقاتل للبقاء وهو على وشك السقوط، فهذا يفسح المجال للعودة إلى السنن الأول للإنسان القديم، وتبدأ عمليّات السلب والنهب، ولا زلت أتذكر مثل هذه العملّيات بعد اندحار الجيش العراقي من الكويت، ففي الحين الذي يغيب فيه القانون، ويضعف صوت الفطرة، تسود شريعة الغاب التي تديرها الأنانية للحصول على أكبر قدر من المكتسبات بشتّى الذرائع أبرزها تصور الحق بتمّلك ما تركه الآخرون.

في الحالة المصرية، من يقوم بهذه الأعمال يرى فيما يسرقه حقًا من حقوقه قام النظام المتسلط بعملية استيلاب منظمة له على مدار عقود من الزمن، وتحت راية الظلم والطغيان الذي حرق بناره هؤلاء، فإنّ مثل هذه الأمور متوقعة جدًا لكونها ردود فعل غريزية تنطلق من خلفية اجتماعية/اقتصادية مليئة بالحرمان والاستبداد وسلب الحقوق أسسها النظام الحاكم. نفس هذه الحالة تكررت في العراق صاحب الحضارة التي انتجت أوّل شريعة في تاريخ البشرية، بعد سقوط نظام البعث المجرم، وهي قابلة للحدوث في أي مجتمع بشري آخر.

لا يمكنك أن تلوم الجائع على عدم إلتزامه بآداب المائدة، كذلك لا يمكن لوم حالات الإنفلات هذه التي تتصرف بنداء الغريزة لا بقانون العقل، لأنها نمت في بيئة تشجع الاستحواذ وتوّقر الوصولية وتحترم القفز على أي أخلاقيات تكفل نظام المجتمع، ووجدت فرصتها في غياب عين الرقيب لارتكاب ممارسات كانت حصرية على النظام ورجاله سابقًا.

إنّ إبراز مثل هذه الصور وتركيز النظر عليها بغض النظر عن الظروف التي تحيط بها هو وصمة عار في جبين النظام الذي يحاول استغلالها لإثبات عبثية المتظاهرين، واتهامهم بالفوضى والسلب والنهب، لأنّ هذه الأعمال هي وليدة سياسة النظام، وابنة شرعية لمنهجيته في إدارة البلاد. إبرازها بهذا الشكل لا يخدم الصورة التي يحاول النظام نشرها، بل يقدّم تبريرًا لجموع المتظاهرين لاستمرار ثورتهم لكونه يشير إلى مدى الحرمان الذي كبّلهم به، ومدى الجوع الذي دفعهم إليه، وإلى أيّ حالة من مسخ الهويّة الحضارية أوصلهم إليه، هذا النظام، وآن أوان التخلّص من من أدرانه النتنة.

25 يناير 2011

ماذا بعد الـمعارضـة؟

أكتب الآن وأمامي ثلاثة ملفات سياسية ساخنة، سياسية بامتياز تعبّر عن الصراع السياسي بوجهه الحقيقي. الملف الأوّل هو الملف اللبناني الذي نجحت فيه المعارضة بتحويل خسارتها المفاجئة في الإنتخابات النيابية الماضية إلى انتصار وقّع عليه أغلبية الشارع اللبناني.

هذه الممارسة السياسيّة ذات النفس الطويل، وامتصاص الصدمة المفاجئة، تنبئ عن وجود أهداف رئيسية هي الغاية صيغت لها طرق متعددة، قد يبدو بعضها ممكنًا وفي اليد فيُعتمد عليه، وتُترك باقي الطرق على الرف، فإن فشل الأول تم اللجوء للباقين. العمل نحو تحقيق هذه الأهداف يضع باعتباره جميع العقبات، ويحدد التعامل المناسب معها، بحيث لا يكون هناك مجال للعفوية، أو العبثية، أو المواقف وليدة اللحظة.

الملف الثاني هو الملف التونسي، بعد انقشاع سكرة الانتصار بدأت التسريبات عن الساعات الأخيرة بالظهور. بات من الواضح أن ابتعاد زين العابدين كان تضحيةً ثمنها إبقاء النظام. تونس تختلف عن جاراتها بأنّ بورقبية استلهم النموذج الأتاتوركي بصورة عربيّة محسنّة، وعمل بكل ما بوسعه لتأسيس الدولة على هذا المفهوم وهو ابقاء النظام بغض النظر عن الرأس بالسلطة، حيّد الجيش، ففي دولة صغيرة بين عمالقة لا توجد مهام واقعية ترتبط به، وفعّل الأمن الداخلي مؤسسًا لنظام علماني، مدني، تكفل المؤسسات القائمة تفردّه بالسلطة وتحكم أي شخص يعتليه بالسير في هذا الإتجاه.

حين هرب "بن علي"، أراد بهروبه اكمال عملّية التجميل لوجوه السلطة في سبيل الحفاظ على النظام القائم، لكن خاب من افترى، وأثبت الشعب التونسي أنه واعٍ لهذه اللعبة، ومطالبه ليست بتغيير «أشخاص» إنما بنظام مؤسساتي كامل. لا يريد الترميم، بل إعادة البناء، والهدف هو قطع الماضي، وبناء الحاضر لأجل تشييد المستقبل.

الملف الثالث هو الملف المصري، من المفترض أن يكون اليوم «يوم الغضب» وشرارة الثورة، لكنه حسب الظاهر سينتهي كعشرات الأيّام غيره دون أن يأتي بالجديد، مقارنة بالملفين السابقين يبقى النظام المصري الوحيد القادر على مجابهة الشارع رغم كل الغضب الشعبي العارم، والحالة المتردية التي تمثل أرضًا خصبة لأي حالم بالثورة التي قد تولد في أية لحظة وتجرف معها كل شيء.

الشيء المشترك بين الملفات الثلاثة هو دور الذكاء السياسي الذي يتمثل في الهدف وصولاً إلى الغاية. فالعبثية تذبح أي فعلٍ، والعشوائية هي شهادة وفاة مبكرة لأي تحرك في الشارع، واقرار بالهزيمة المبكرة، وغالبًا ما تكون هذه العشوائية وليدة الضعف الفكري الذي يجمع الفرقاء، فهم بحسب أفلاطون مثل «مُروّض أوكلت إليه العناية بوحش كبير قوي» يهتمّ بمداراته أكثر من دراسته.

في تونس انطلقت المظاهرات بشعار «أنا تونس، كلنا تونس»، وفي لبنان كان التحرّك واضحًا ومتوافقًا شعبيًا وسياسيًا لرفع اليد الأمريكية عن رأس السلطة التي عطلت البلاد وشلّته وهي على شفير وضع لبنان بأكمله تحت البند السابع لمجلس الأمن، أي سلب السلطة نهائيًا من الدولة! وفي مصر التي سمح النظام بها بالصراخ ضده، استطاع أن يحافظ على يده الطولى في الإمساك بالبلاد دون أن يتأثر، احتوى المعارضة بتحويلها إلى معارضة صراخ وخطابات ونزول إلى الشوارع بعد أن انتزع من حركتها «الغايـة».

قدرة الامتصاص الكبيرة التي يمتكلها النظام المصري، هي بسبب هامش الحريّة النسبيّة للصراخ الذي وهبه مجانًا للشعب، بعد أن سلبه كل معاني الحياة الكريمة، لأنه يعلم أنّ الصراخ لا يزيل البنيان، والنحيب لا ينتزع الحقوق. أصبح سب الحكومة بدءًا من الرئيس وانتهاءًا بأصغر موظف في أحقر دائرة وشتمها واتهامها بالعمالة والفساد يجري على كل لسان، ويتكرر في كل موقف يصادف المواطن في كل يوم، إلى درجة غدت بها مثل هذه الألفاظ تعبيرًا بليغًا تجري مجرى الأمثال والحكم.

أصبحت المعارضة المصرية - حتى الآن أقلاً-، دون وعي منها، رهينة بالحكومة، هي التي تغذيها متعمدة بالقضايا، وتثير الأزمات بلا مقابل، لتعطي الذريعة للمعارضة التي تبدأ تلقائيًا بتلقفها والصراخ بها، وتُشعل الصحف بالمقالات، وتنتهي ساعات البثّ التلفزيوني وخطابات التذمّر لم تنته، ووصلات السخريّة التلفزيونية، والنقمة الشعبية لم تنته، وتخرج الجموع للشوارع هاتفة ليعود كل منهم لفراشه ليلاً بعد أن أتمّ وجبته النضالية، وبقيت الحكومة كما هي تسيّر الأمور مثل ما تشتهي، وتمد أذرعها كما ترغب، في نفس الوقت تكون قد نفّست عن الاحتقان الشعبي، وقللّت من مستوى ردّات الفعل، ضامنةً بذلك عدم مجابهة انفجار مفاجئ يخلط أوراقها، بعكس تونس التي منعت حتى الهمس بما يجري، فاربك انفجار المعارضة السلطة، وانهارت.

«إنّ الفرد الذي اكتشف فجأة أنّ عمليات حرمانية تجري على دائرته الاجتماعية، قد يقرن تاريخ هذه العمليات بالحدث الذي لفت نظره إليها لأوّل مرة، فيصبح هذا الحدث في ذهنه هو بداية العمليّات»*، هكذا يتم تحويل المعارضة، دون وعي، إلى آلة بيد السلطة، على قدر الضوضاء التي تثيرها وتبدو أنها متوجهة نحو السلطة، وتهددها، في الحقيقة هي تخدمها نتيجة الإنطلاق من ردّة الفعل دائمًا، تحركها الرغبات، ويدفعها حبّ استثمار اللحظة، فتنساق خلف مصيدة السلطة، وتهدف إلى محاكمة أفعالٍ آنيّة، أو منهجيّة معيّنة، لا إلى تأسيس منهجيّة جديدة، أو لوضع رؤية تنفذ إلى ما خلف الوعي المزّيف المُقدّم لها، الذي تعيد - هذه المعارضة - تصديره للعامّة، في ممارسة رتيبة لـ«حقل المكيدة» بتعبير دوبريه. فغدت الحكومة تشغل المعارضة وتهيجها بحسب ما تشتهي، وتريد.

ما حدث في لبنان كشف أنّ المعارضة ليست عبثية، همّها المعارضة وانتظار ما تقدمه الحكومة لها من قضايا لتعمل وفقها، ولتمارس ألاعيب الحيلة للإبقاء على الوضع كما هو لاستنزافه لمصلحتها، إنما غائية، لها أهداف واضحة تعمل لأجلها، ولا تنتظر هفوات الحكومة حتى تصيغ برنامجها عليه. وما حدث في تونس يمكن الإشارة إليه بالدرس البليغ الذي يستحق التحيّة حتى الآن، وهو موقف الوعي، لا وعي الموقف، وأنّ هذه الثورة ليست حالة تنفيس عن الغضب من شخص «الرئيس» فقط، فهو حلقة من منظومة مؤسساتية كاملة تقود البلاد هي التي بحاجة للتغيير بكاملها، لا مجرد شخصياتها.

تفاعل المعارضة في لبنان، وتونس مع الأحداث الجارية يُظهر أنها لا تنتظر ما تسفر عنه الأوضاع لتضع أهدافها، بل تتفاعل معها لتعيد تشكيل طريقة الوصول لهذه الأهداف المحددة التي تنطلق منها، وهذا هو المطلوب من المعارضة لتكون ناجحة واقعيًا، فمن الغباء الإصرار على حلٍّ واحد أثبت فشله سابقًا، برجاء نجاحه هذه المرة، كمن يقود سيارته في طريق مسدود كل يوم على أمل أن تحدث معجزة غيبية تفتح الطريق هذا اليوم.
الطريق الوحيد لنجاح أي معارضة، هي بتحويلها إلى حركة هادفة عامّة، لا لحركة انتقامية تستهدف شخصًا لا منهجية، وأوّل خطوة في هذا السبيل هي بالتخلّص من مكوّني الوعي المزيّف.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي، ص95

=> فضلاً راجع: الرمز ناصر المحمد

3 سبتمبر 2009

شعوب الرمـز الأوحد

أذكر صحفيًا مصريًا معروفًا دشّن حملة هوجاء على سوريا بعد استلام بشار الأسد لرئاسة الجمهورية خلفًا لوالده الراحل، بعد أن قرر مجلس الشعب الإنعقاد استثنائيًا لتعديل الدستور السوري حتى يمكن له استلام المنصب الذي خُيّط على مقاسه. هجومه تناول بشكل مباشر و فادح ما سمّاه بالمسرحية الهزليّة التي جعلت من جمهوريّة و شعب يتحول إلى كومبارس لا يملك قرارًا.
.
هذا الصحفي نفسه، سبحان الله، وجدته بعد ذلك بسنوات قليلة يكتب مدافعًا عن 'نظريّة' التوريث هذه، و لكن هذه المرة لجمال مبارك في جمهورية يفوق عدد نفوسها الثمانين مليونًا. كان التحوّل على قدر مرارته مضحكًا، انتقل خطابه من استهزاء بما حدث في دمشق، إلى استجداء حدوثه مجددًا و لكن بصيغة قاهريّة و صورة مصريّة.
.
من السهل نقد الآخرين، و ذلك لأننا لا نعيش ظروفهم، لا ندور في الحلقة التي تحيط بهم، بمعنى آخر نحن كأفراد نراقبهم من بعيد، هذا البُعد يفسح مجالاً لأن ننظر للقضية بأكملها بتجريدٍ تام، فنحن لسنا طرفًا بها، قد تكون أحكامنا تبعًا لذلك قاسية نوعًا ما، و لكنها كذلك لأنها لا تمسّنا بصورة مباشرة. مقالات هذا الصحفي (الدكتور) من هذا الباب، من وحي دراسته و تخصصه و (بُعده) استطاع أن يطلق حكمه و هو حكم صائب بنظري، لكنه وقع بفخّ ما سمّاه كانط بـ(الرغبة الشخصية). حين أتى الدور عليه و بدأت القضيّة تمسه شخصيًا كان حكمه مشوشًا و لم يختلف تصرفه عن الذي عاب عليهم ذلك. نظريّة الزعيم الأوحد التي جعلها هذا الصحفي محورًا لسلسلة من المقالات شديدة اللهجة، و هو يهاجمها و يهاجم هيمنتها على العقول، وقف أمامها مطأطئ الرأس و هو يقبلها و يسوّغها تحت نفس المبررات التي عابها على غيره.
.
الخلل ليس في هذا الصحفي و أمثاله، فهو نتاج لبيئة تقوم على نفس هذا الفكر المزدوج، تطعن بالآخرين طالما أنهم بعيدون، و لا ترى أنّ ما تطعن به هو ذاته فيهم. تبحث عن الحريّة و التغيير و تنّظر عن الديمقراطية و التعدديّة عند الآخرين، وترفضها داخليًا طالما أنها ليست على مزاجها، لا تمانع في الوقوف على الخطوط الأولى و هي تسفه اختيارات شعوبٍ أخرى، ولكنها تتراجع للخطوط الخلفية و تدعي أن ما يُفرض عليها هو باختيارها، ليس حبًا بهذا الإختيار و لكنه 'تبريرٌ' سخيف للتناقض بين الشعار و التطبيق!
.
الشعوب المخصية تفعل هكذا مع قادتها، رموزها، رياضيّها، و حتى الفنانين و الممثلين فيها. هذه الشعوب تعيش تحت شعارات أنها في دائرة اهتمام هؤلاء، أنّهم مدينون بكل ما يملكونه لهؤلاء الذين 'يمنّون' عليهم بتعبهم، فهم لا يعتبرون ما يقومون به واجبًا بل تفضّل و تكرّم من هؤلاء عليهم. يحدث كثيرًا أن يشعر التلميذ بالإنجذاب لأستاذه، أو المريض لطبيبه، لأنّه يتوهم أن ما يقوم به هذا الأستاذ أو الطبيب دافعه هو الإهتمام الخاص به، أو كونه في محل عناية خاصة عنده بسبب القرب و الملازمة بينه و بين هذا الأستاذ أو الطبيب الذي قد يطلع بناءً على هذا الأمر على الكثير مما خفي عن الآخرين عند من يرعاه، بينما هذا الإهتمام ليس سوى اهتمامٌ مهنيٌ تفرضه طبيعة العمل، و لا علاقة له بأي شيء آخر.
.
هذه هي الحقيقة ببساطتها وضوحها فإنها مع ذلك قد تغيب عن النظر أو تستعصي على الفهم، و السبب هو أنها تسلب كل ما يتوهمه الإنسان من (خصوصية العلاقة) التي تجعل منه محور كل شيء، فلا يقبل بما يصوّره في ذاته و مشاعره بالبسيط*.
.
رغم كل شعارات الكراهيّة، و كل عناوين النقد و أصابع الإتهام الموجهة لهؤلاء الرموز يوميًا، فإنهم يملكون قداسة في نفوس الشعوب المخصية التي سرعان ما تتجاوز عن كل سيئاتهم، ليس لكونهم يقدّمون ما يشفع لهم أمام هذه الشعوب، و لكن لتحولهم إلى 'رمـوز' منادين بما تفتقده هذه الشعوب و حاملي لواء المطالبة بها.
.
في الواقع فإن أصحاب شعارات التغيير هم أكثر من يحارب التغيير الفعلي، لعلمهم بأنه لولا هذه المسرحيات التي يحبكونها، وهذه المطالبات التي يخدعون العوام فيها لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة. حركة التغيير في تاريخ البشرية مرتبطة بالأفراد عادة لا بالجماعات، فالأفراد القادرين على التغيير هم التهديد الذي يواجه هؤلاء و وأدهم لا يكون إلا بسلبهم 'إرادتهم' الوحيدة و هي التغيير و تزويرها و تحويل معناها إلى محتوى فارغ و اسم ذائع، إلى مجرد شعار تتناوله الألسنة يجعلهم يشعرون بأنّه حاجة ضروريّة و لكن واقع الحال أنه ليس هناك عمل جدّي لسد هذه الحاجة. و هذا ما يمارسه هؤلاء بكل صلافة، و يساعدهم على ذلك عقليّة المجتمع التي ' تـدّجنـت'، حتى باتت تبكي إذا مات زعيمها الأوحد و هي التي تلعن ظروف معيشتها التعيسة التي جرّها عليهم، و تنتحر لأن مطربها المفضّل مات، و تنتحب لأن نجمها الرياضي الأوحد اعتزل.
.
و السبب أنها لم تعرف معنى القوّة و لا معنى الإرادة، و لم تعرف معنى أن تعيش بإرادتها و أن تختار بإرادتها، و أنّها من تعظم الرموز، و ترفع الأبطال، لا العكس. فتوّهمت أنّ قوتها هي بوجود ذلك "الـزعيم الأوحـد" و أن عزّتها تتمثل بذلك الرياضي الأوحد و أنّ ثقافتها محصورة بتمثيل ذلك الفنان الأوحد، فحين ينتهون تبدأ البكائيّات لأن الحياة –كما يتصورها هؤلاء- لا يمكن ان تستمر بدونهم أو بمعنى آخر (لا يعرفون طعمها من غيرهم!). مثل الرضيع التي يبكي حين خروجه من بطن أمّه بعد أن تصوّره العالم الأوحد، و ما بعده عـدم.
.
رفض التغيير و محاربته، و الدفاع عن 'رموز' تدعي التغيير للأفضل و تطالب به و هي بمراكز السلطة منذ عشرات السنين دون فائدة، و إعلان الحرب على من يطالب بتغييرهم، و وصم هذه المطالبات على أنها نوعٌ من (الإفساد) و الإصطفاف بصفه، هو تدجين يقوم بدور التكفين للشعوب الميتة عمليًا، التي تكتفي بدور بسيط على هامش الحياة اليومية، و تتصور أنّ هؤلاء وحدهم القادرين على قيادة الأدوار الهامّة في حياتهم العامّة، و تخطيط مسيرها، و انهم يستحقون أن يعيش النّاس بـ"صـنميّـة" لأجلهم.
.
أكبر استخفاف بالبشريّة هو حين نطالب الآخرين بالتغيّر و نعجز عن تغيير ذواتنا، حين نضحك من اختيارات 'شعوب حرّة' لأنها لا تعجبنا، و نستغرب ممّا يغيّروه، و نحن - كشعوب - نعجز عن كسر صنم نصنعه بأوهامنا ثم نكعف عليه!
و هذا بالضبط ما مارسه ذلك الصحفي المحترم، و ما تمارسه معظم شعوب هذه المنطقة، التي تفتي بكل شيء إلا بما يمّسها و يمّس واقعها المؤسف!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*راجع: لـيـش مـعـقـد؟


22 يونيو 2009

3: عن إيران تحدثتُ !

الحلقة الاولى : عن إيران أتحدث ..
الحلقة الثانية : عن إيران أتحدث ..
.
القوانين الإجتماعية التي تحكم مسير المجتعات في مجال التغيير تحديدًا هي قوانين عرفية أو نسبية خاضعة لمقاييس معينة تناسب مجتمع ما و لا تناسب مجتمع آخر حتى و إن اشتركوا بالقضية ،كان لجلوس روزا باركس في مقدمة حافلة النقل حافزًا للثورة على معاملة "السود" في الولايات المتحدة بينما تكررت هذه الحادثة عشرات و ربما مئات المرات في جنوب أفريقيا و لم تبلغ مثل الأثر في أمريكا، لأن لكل مجتمعه سماته التي يبني التغيير على أساسها.
.
قبل الإنتخابات الإيرانية كانت الذهنية العامة محكومة بالتغيير ما حدث في الولايات المتحدة ثم ما تبعه في الكويت و في غيرها من الدول كوّن رأيًا عامًا في هذه البلدان بأن "الموضة" هي التغيير لأجل التغيير فقط، الكثيرون قاسوا واقعهم على إيران و هذا أول الأخطاء.
.
ثاني الأخطاء أن حملة موسوي الإنتخابية بدأت مبكرة و ركز الإعلام الإيراني و العربي و الغربي أنظاره عليها لكونه العائد من التاريخ و المحسوب على الإصلاحيين و المدعوم من قبل رئيسين سابقين للجمهورية، بدأ موسوي حملته باحتكار اللون الأخضر و بدأت وسائل الإعلام تزيد من تركيزها عليه و على برنامجه الإنتخابي و الاهم من ذلك كله التركيز على هجومه الشديد على (نجاد) غير المرغوب به (غربيًا)، أعطى الإعلام زخمًا مبالغاً به لتيّار موسوي!
.
لقد وظفت وسائل الإعلام المعارضة في الخارج و الغربية دعايات موسوي من باب (لا حبًا بعلي و لكن كرهًا بمعاوية) ،فكلاهما ثوريين و كلاهما مرشحين لرئاسة دولة مصنفة بمحور الشر،و هذا ما تحدثت عنه في الجزء السابق عن كونه الوجه الذي استخدمه المعارضون لمعارضة النظام من (داخله).
.
هذا ناهيك عن الميزانية الضخمة التي رصدها الإصلاحيون للدعاية الإنتخابية بحيث أصبح الإعلام أخضرًا، و في الحقيقة فإن إبراز موسوي كان بسبب أن معظم الناخبين في إيران هم من فئة الشباب (التصويت في الإنتخابات للبالغين 18 سنة) الذين لم يعاصروا الثمانينات و أحداثها و لم يعرفوا موسوي سوى على أنه وجه من الثورة يعارض نجاد "المحافظ"!.
بينما حملة نجاد الإنتخابية بدأت قبل الإنتخابات بأسبوعين و معظمها كانت من المتطوعين لذلك شكل نجاحه صدمة لمن حكم بحتمية التغيير دون أن يلتفت إلى أن أسباب التغيير غير متوافرة و ليس هناك حاجة ماسة له.
.
. لماذا فاز نجاد ؟
.
لا أعتقد أن هذا السؤال يشكل صعوبة حين الإجابة عليه ،فاز نجاد لانه قدم ما يوفر له الفوز في فترة رئاسته الاولى،قام نجاد بتوفير الضمان الصحي لمئالات الآلاف من النسوة العاملات في مجال الحياكة و النسيج (السجاد) و حدّث القطاع الصناعي بقفزات مذهلة و قام بإحياء برنامج الفضاء الإيراني مما أسفر عن إطلاق أول قمر صناعي مصنع بالكامل في إيران عن طريق محطة فضاء داخل الأراضي الإيرانية و على الصعيد العسكري كان مجال التصنيع العسكري يمضي قدمًا بخطوات ثابتة و الاهم من ذلك كله أن نجاد استطاع أن يحول البرنامج النووي الإيراني من وضع "الإيقاف" الذي قام به خاتمي إلى الإستمرار و انتزع الإعتراف الدولي به دون أي شرط من القوى العالمية، و رغم الإنتقاد اليومي الشديد له بسبب سياسته الخارجية على صدر الجرائد الإيرانية فإن حريّة الصحافة المحلية هناك شهدت ارتفاعًا بسقفها تعدى بكثير عهد سلفه السيد خاتمي.
.
هذا لا يعني أنه لم يرتكب أخطاءً أو كان مثاليًا ،فسياسة التخصيص التي قام بها و إن أدت إلى انخفاض كبير في معدل البيروقراطية الحكومية و لكنها قادت إلى تضخم في الإقتصاد الإيراني، و سياسته الخارجية و ما تبعها من فرض قيود اقتصادية على إيران أثرت بشكل واضح على الطبقات العُليا من الميسورين و إن لم يشعر بها الفقراء لارتفاع مداخيلهم و استهداف خطته الإقتصادية لهم بشكل رئيسي و المجال لا يسع للتفصيل هنا أكثر.
.
هذا كله بالإضافة إلى تواضعه و نظافة يده و ما سنه أثناء استلام رئاسته في الدورة الأولى من تخصيصه كل شهر لزيارة مدينة في إيران للوقوف على متطلباتها أعطاه دعمًا كبيرًا بين فئات الشعب،خصوصًا أولئك الذين استشعروا قربه منهم.
لم يكن فوزه يُشكل مفاجأة للمطلعين على أحوال إيران أو مستقرئيها، و لكن شكل مفاجأة لمن تعلق بوهم التغيير فقط.

.
. المظـاهرات
.
"إذا كانت النخب السياسية تريد أن تخترق القانون، فإنهم مسؤولون عن الفوضى والدماء التي قد تراق في هذه العمليات الفوضوية" – السيد الخامنئي.
.
شكل إعلان مير حسين موسوي فوزه بالإنتخابات قبل أن تغلق الصناديق و دون أي مستند رسمي أو إعلان محايد صدمة في الإنتخابات الماضية،و أعتقد اليوم أن هذه المظاهرات لم تكن عفوية إنما كانت معدة مسبقًا كخطة بديلة في حال خسارة موسوي المتوقعة كان هناك أمل بأن تنتقل الإنتخابات للمرحلة الثانية و منها يمكن حصر الأصوات جميعها بموسوي على حساب نجاد و لكن هذا ما لم يحدث،و هذا يذكرني بأول مناظرة من المناظرات الرئاسية حين استهل نجاد كلامه بالحديث عن بعض الشخصيات مشبهًا ما يجري بـ"حرب الجمل"،فكان تعبيرًا موحيًا باستقراء ما يُحاك لما بعد الإنتخابات.
.
لا توجد إنتخابات في العالم لا تشوبها بعض الشوائب، في جميع ديمقراطيات و إنتخابات العالم هناك أخطاء و هنّات و لكنها تُقاس بالمظهر العام لا بالشواذ،و هناك مؤسسات لها الحكم الفصل طالما أن هؤلاء رضوا بها في المقام الأول،دعوى التزوير لا تستقيم مع الأرقام المليونية التي ظهرت،فارق 11 مليون صوت ليس كفارق 100 ألف صوت أو مليون صوت حتى يمكن تزويره،و في ظل غياب أي مستند يدعم هذا الإدعاء و في ظل العجز التام عن إثباته لا يمكن فهم ما يحدث إلا على أن هذه المظاهرات ليست سوى وسيلة في صراع التيّارات لا أكثر، و أن هؤلاء لا يهتمون بالقانون الذي يدّعون الحفاظ عليه، طالما أنهم آثروا الإبتعاد عن المسالك القانونية و الإكتفاء بإشعال فتيل الاضطرابات التي استغلها من يتحينون الفرص.
.
تخلف موسوي و كروبي عن حضور جلسة مجلس صيانة الدستور ،و لم يقدما طعونهم أو اثباتاتهم في نتيجة الإنتخابات بل لجؤوا للشوارع لإلغاء نتيجة الإنتخابات و تخلفوا أيضًا عن حضور صلاة الجمعة التي أمّها المرشد في طهران و هذا يؤيده ما ذكره السيد الخامنئي في خطبته: (المنافسة بين المرشحين الأربعة كانت بين أشخاص وتيارات تؤمن كلها بالحكم الإسلامي،المرشحون من قادة ورجالات النظام. وبالقطع هناك خلافات بينهم. لم تكن المنافسة بينهم منافسة بين الداخل والخارج، بل في إطار النظام.).
.
تزوير الإنتخابات لصالح "نجاد" هو إدعاء مضحك لكونه يخوض هذه الدورة الرئاسية كخاتمة له فهو بنص الدستور لا يستطيع أن يترشح في الإنتخابات القادمة لهذا المنصب، من يعتقد أن يمكن المجازفة بإنجازات الثورة لأجل شخصية أو شخصيتين هو واهم،تعرض رموز الثورة للإغتيال و التصفية،و شنت عليها حرب دموية لعقد من الزمان و انشق عنها بعض من كانوا فيها و اختفى آخرون و مع هذا استمرت دون الحاجة للتزوير و هي - الثورة - من أعطت الرئاسة لخاتمي و قبله رفسنجاني و سلمت رئاسة مجلس الشورى لكروبي فمثل هذه الإدعاءات تعود لقائليها قبل أن تمس غيرهم.
.
مع هذا هناك نقطتان مهمتان أولاً: لا يمكن أبدًا تبرير الدماء المسفوكة ،هذه الدماء مهما كانت فهي محترمة أما ثانيًا: فهو أن التظاهر حق شعبي لا جدال فيه و لكن هناك فرق بين المظاهرة و الشغب ما يحدث في إيران الآن هو شغب استعمل كأداة ضغط ،ما لم تذكره وسائل الإعلام أن معظم القتلى سقطوا أثناء هجومهم على مقرات الشرطة و البسيج.
.
برأيي أن الإعلام الإيراني الرسمي تعامل بشفافية كبيرة مع الأحداث و أثبت مصداقية في قبال وسائل الإعلام الأخرى خصوصًا الغربية منها فهو اعترف بالقتلى و نقل صور ما يحدث هناك ،و أن أنصار نجاد لازالوا بعيدين عن ردة الفعل في الشوارع، رغم أن الإضطرابات حاليًا أصبحت حركة تستهدف المساجد و المحال و قوات الشرطة و المدنيين و ليست مظاهرات سلمية احتجاجية على نتائج الإنتخابات، و هذا ما دفع السيد الخاتمي إلى التبرء من هذه الأفعال بالأمس.
.
استمرار التصاعد في التجاذب السياسي يثبت أن الصراع و إن كان لازال في إطار النظام (و هو ما أكده موسوي بالأمس) و ليس خارجه، إلا أنه صعّد مصلحة التيار السياسي على مصلحة إيران الدولة،و أن الأوان قد حان لقطع أرجل الجمل.
.
انتهى.


20 يونيو 2009

2: عن إيران أتحدث ..


الحلقة الأولى : عن إيران أتحدث ..


في الثمانينات أيّد الإمام الخميني رحمه الله تشكيل الجبهتين "روحانيت و روحانيون مبارز " فقد كان يؤمن بأن الإختلاف واقع و طبيعي و لكن من الضروري أن يتم تأطيره في إطار (الجمهورية الإسلامية) حتى لا يصبح ذراعًا تفتت الدولة من الداخل،كانت رؤيته بأنه يمكن لجبهتين مختلفتين تقومان على أساس الإيمان بـ(السياسة الدينية) كأصل لهما أن يستوعبا كافة وجهات النظر الأخرى،كما أن الحزبين الجمهوري و الديمقراطي أو العمال و المحافظون يحتوون كافة الآراء و إن كانت تتباين مع زعامات الأحزاب أحيانًا إلا أنه يجمعهم كلهم (الخطاب الوطني)،هكذا استطاعت إيران أن تتجنب الكثير من عقبات "الإختلاف" الشديد بين السياسيين.
.
يشكل الإصلاحيون حاليًا جبهة (2خرداد) و هي تكتل سياسي ينضوي تحته العديد من التكتلات الأخرى ذات الصبغة الإسلامية أو الليبرالية من يؤمن بالنظام الإسلامي و من لا يراه بتاتًا، و على الطرف الآخر يشكل المحافظون تباينًا فيما بينهم أيضًا فهناك من يرى فيهم أن منصب ولاية الفقيه (المرشد) لا يجب أن يكون بالإنتخاب عن طريق مجلس الخبراء كما هو حاصل الآن بل يذهبون إلى أن جميع المناصب القيادية في الدولة يجب أن تكون بالتعيين من قِبله،فالفقيه أعلى سلطة في الدولة.
ما بين هؤلاء و هؤلاء تحدث التجاذبات السياسية على الساحة الإيرانية،و تظهر بأبهى صورها في الإنتخابات البرلمانية و الرئاسية.
.
الدستور الإيراني يصرّح بأنه لا يجوز للرئيس الترشح لثلاث دورات رئاسية متواصلة، بمعنى أن التغيير لابد و أن يحدث بعد دورة أو دورتين بحد أقصى و بعده لا يجوز له أن يرشح نفسه إلا بعد دورة رئاسية يتولاها غيره، و هذا ما حدث مع الشيخ رفسنجاني الذي انتهت ولايته الثانية عام 1997 و لم يستطع ترشيح نفسه إلا في الإنتخابات ما قبل الماضية حين وصل إلى المرحلة الثانية لينهزم أمام خصمه الدكتور محمود أحمدي نجاد.
.
.رفسنجاني و نجاد
.
يُعتبر الشيخ رفسنجاني من أعمدة الثورة و رموزها في إيران ، و أدواره و تأثيره السياسي لا يخفى على كل مطلع، و لكن ما يتميز به رفسنجاني عن أقرانه في الثورة أنه ولد لعائلة غنية فهو أحد أبناء الطبقة الإرستقراطية و هذا ما أضفى على سلوكه "براغماتية" على عكس أقرانه الذين آثروا الإلتزام بمسطرة السياسة (الإسلامية)،و لهذا السبب لا يصنف رفسنجاني على أنه من المحافظين و لا من الإصلاحيين بل هو رجل بذاته، اصطدم مع جنرالات حرس الثورة أثناء حرب (الدفاع المقدس)* و أعاد اصطدامه في ولايته الرئاسية الأولى عندما طرح ضرورة التخلي عن شعار الموت لأمريكا، و مواقفه بهذا الخصوص كثيرة، فهو يمتلك منهج قائم على قياس المصالح بعكس المحافظين الذين يتميزون بالوضوح التام في سياستهم، هذه العوامل حفرت في وجدان الطبقات الفقيرة في إيران أن رفسنجاني ليس سوى وجه آخر للإصلاحيين الذين يضعون الفقراء في آخر اهتماماتهم، و بما أن خصمه نجاد ابن الحداد الفقير و الجندي البسيط و أستاذ الجامعة العصامي فلم يشكل فوزه أمرًا غريبًا في انتخاباتٍ صوتُ المستضعفين فيها هو الأقوى.
.
.المناظرات الرئاسية
.
في الإنتخابات الأخيرة حدث أمر جديد و هو المناظرات الرئاسية التي بثت مباشرة في التلفزيون الوطني بين المرشحين لمنصب الرئاسة، هذه المناظرات بإعتقادي لم ينجح فيها إلا نجاد ليثبت مجددًا أن خلف مظهره البسيط ثعلب سياسي ماكر جدًا تغلب على خصومه بضربات قليلة.
.
منذ افتراق الشيخ كروبي عن الإصلاحيين و تشكيله لحزب (اعتماد ملي) فإن شعبيته لم تعد كما كانت، أما الدكتور رضائي فهو أستاذ بالإقتصاد و لكنه رجل عسكري محسوب على المحافظين اليساريين إن صح التعبير و إن كان برنامجه الإنتخابي لا يختلف كثيرًا عن موسوي و كروبي.
.
أما مير حسين موسوي فهي الشخصية التي تعلق بها بشكل رئيسي ** من يعارض النظام من (داخل النظام) ، و هنا أعود لأول فقرة عن التحرك من داخل التيارين، جماهير الثورة و من قامت على أكتافهم لم تكن بالأساس جماهير المدن الكبيرة أو الطبقات المرفهة فيها إنما كانت طبقات الفقراء و المحرومين في القرى و الأرياف و الجبال و المدن الصغيرة، نجاح خاتمي لدورتين رئاسيتين و قبله رفسنجاني لمثلهم كان يعتمد على أصوات أولئك الذين لا يجدون حرجًا في معارضة النظام و يعارضونه من خلال إيصال أقطاب (المعارضة) قبال المحافظين و هؤلاء هم الطبقات العُليا من الطبقة المتوسطة و المرفهين و الأغنياء و النخب الثقافية، هؤلاء فيهم من يُعارض النظام و لكن تحت ستار تأييد شخص من النظام.
.
موسوي اعتمد في حملاته الإنتخابية على زوجته في التصريحات الصحافية و على خطب السيد محمد خاتمي في لقاءاته الجماهيرية و على مقالات عطاء الله مهاجراني و السيد محمد علي أبطحي و ماشاء الله شمس الواعظين و غيرهم من رموز 2خرداد، نادرًا ما كان يخطب أو يصرّح بلسانه هو، و هذا الشيء جعل من السهل على نجاد أن ينهيه في المناظرة الأولى، و ظهر عجز موسوي عن متابعة نجاد واضحًا فيها.
.
نجاد استطاع أن يصطاد بحجر واحد عدة عصافير، في هذه الإنتخابات ألقى هاشمي رفسنجاني ثقله كله خلف موسوي ، لذلك في أول مناظرة وصمه نجاد بأنه دمية في يد رفسنجاني ثم بدأ بانتقاد رفسنجاني و سياسته، بهذه الضربة الإستباقية ضمن نجاد "تحييد" رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام فهو أصبح خصمًا مباشرًا لنجاد كما كان في الإنتخابات الماضية و بالتالي لم يعد تدخل رفسنجاني بصفته الحالية مسموحًا بأي طريقة ضد نجاد لأنه سينطلق من باب الانتصار للذات على حقيقة الإنتصار لمبادئ الثورة و هذا هو سبب رسالة رفسنجاني التي وجهها للسيد الخامنئي.
هكذا استطاع نجاد أن يستفرد بالمرشحين الواحد تلو الآخر بعض أن فصلهم عن التأثير المضاد لـ(القوى الداعمة) لهم.
.
.نجاد و موسوي و الإصلاحيون
.
طوال المناظرات و الإنتخابات لم يستطع أحد المرشحين أن يطعن بذمة نجاد،فهو و وزراؤه كلهم قدموا ذممهم المالية، لذلك تركز الهجوم على وصف سياسته الخارجية بـ(الإهانة) لإيران على حد تعبير موسوي، بينما وصفها رضائي بأنها (عبثية) و لم يختلف عنهما كروبي، فالانتقادات كلها توجهت لسياسته على حساب شخصه، و هو ما استطاع نجاد أن يستفيد منه في توجيه اتهاماته لـ(مافيا الفساد) التي اتهمها بدعم خصومه و تعهد بالاستمرار في محاربتها كما فعل طوال فترة رئاسته الاولى، الفساد الذي اعترف السيد الخامنئي بوجوده في خطبته بالأمس، و تعهد بالاستمرار في محاربتها.
نقل نجاد ما يدور بين عموم الشعب في محلاتهم و نطق به أمام مرشحي الرئاسة هكذا نال زخمًا أضاف لرصيده الشعبي الكثير.
.
في أثناء استلام الإصلاحيين للرئاسة في عهد الرئيس خاتمي استطاع أن يجعل لإيران موضوع قبول مجددًا في الساحة الدولية، و لكن على الصعيد الداخلي شهدت إيران تراجعًا اقتصاديًا في الإستثمارات و توقفت التنمية الصناعية، و وصل السيد الخاتمي إلى إيقاف البرنامج النووي لمدة سنتين طمعًا بفتح قنوات جديدة مع الولايات المتحدة، و على الرغم من الحريات التي تم افساح المجال لها فقد فتحت محلات الأغاني في عهده و اختفت الشرطة الدينية من الشوارع و لكن هذا كله لم يشفع له أمام أنصاره و خيبتهم من نتائج الدورتين الرئاسيتين له.
.
لم تكن هناك برامج تناولت شؤون الفقراء أو رفع المستوى المعيشي كان الإهتمام الأكبر منصبًا على السياسة الخارجية و على الصراع (الإصلاحي – المحافظ) في إيران و ضاع الشعب في أتونها.

.
يـتـبـع إن شاء الله ..


- لماذا نجح نجاد ؟

- المظاهرات .. كيف أراها؟
و غيرها.
_____________________
* (حرب الدفاع المقدس) هو الإسم الرسمي للحرب العراقية - الإيرانية ، المستعمل في الجمهورية.
** لا أعمم هنا فالسيد حسين الموسوي يُعتبر من الذين أسهموا في صياغة (الجمهورية) كما هي الآن، و أحد الذين أحدثوا علامات فارقة بها، و كونه شخصية عامة يحتم أن ينجذب إليه المعارض و الموافق كلٌ بحسب مصلحته و رؤيته.

18 يونيو 2009

1: عن إيران أتحدث ..


في أثناء حرب المظاهرات في بيروت برزت جملة (صغـّر الزووم أد ما بدك ، و كبر الزووم أد ما بدك ) لأن كل طرف كان يشير إلى ضخامة جماهيره و كل إعلام يصور تلك الحشود من الزاوية التي يبرز بها هذا الإدعاء ، و لكن فاتهم أن الإعلام ينقل عبر كاميرا تعطي زاوية واحدة إما تضخم و إما تصغر بحسب طريقة إلتقاط الزاوية.

.
ما يحدث في إيران اليوم أعاد لذاكرتي هذه الجملة ، فحمّى المظاهرات و الإندفاع الأعمى في الوقوف مع طرف ضد آخر و تصوير هذه المظاهرات على أنها نهاية للثورة و نقل صورها لا يختلف كثيرًا عن ذلك المصور الذي يجعل زووم الكاميرا على بضعة أفراد متراصصين ليكتب تحتهم "مئات الآلاف يتظاهرون" ؛ الواقع الإيراني ليس في مناطق شمال طهران و لا في ميدان "ولي عصر" و لا في ساحة "آزادي" ، الواقع الإيراني موجود خارج تلك البقع في مدن الأرياف حيث يقبع معظم الشعب ، هناك يمكن أن يُفهم الذي يجري..

.
. إيران بعد الثورة

قبل الثورة الإسلامية كانت معظم القوى السياسية و الفكرية تشارك في مناهضة نظام الشاه ، النظام الدموي الشمولي الذي جابه في أقل من خمسين سنة أربع محاولات انقلاب (شعبية) نجح منها اثنتان الأولى انقلاب مصدق الذي أطاح به الـCIA و الثاني الثورة الإسلامية التي أتت بنظام الجمهورية الإسلامية بعد استفتاء سنة 1980.

.
هذه الثورة لم تنطلق من طهران أو من أصفهان بل انطلقت من قرى جنوب طهران المناطق المدقعة بالفقر (مسقط رأس نجاد)، و كانت شرارتها انطلقت من عبادان مدن تعد مقارنة بالحواضر في ذلك الزمن على هامش الدولة و بلا تأثير و لكن ما نتصوره عديم التأثير يكون هو عامل التغيير غالبًا.

.
حينما أتت الثورة لم يكن على الساحة من يملك مشروعًا و تصورًا لماهيّة الدولة سوى اثنين حزب توده (الشيوعي) و حزب الجمهورية (الإسلامي) و اضطر الباقون إلى المشاركة في مشروع أحد هذين الحزبين قبل أن ينتهي الحزب الشيوعي في إيران بعد سنة 80[1].

.
كان المثقفون و النخب الفكرية في إيران باستثناء القوميين و الشيوعيين ما بين تيارين رئيسين تيار حداثي ليبرالي/علماني و تيار ديني أصولي كان الاول يتزعمه الراحل المهندس مهدي بازرڰان إلى جانب أبو الحسن بني صدر و غيرهم و التيار الثاني كان زعماؤه الشهيد رجائي (ثاني رئيس للجمهورية) و الشهيد باهنر و غيرهم.

.
حين أتى وقت التطبيق انضوى هذين التيارين تحت مسمى الجمهورية لتشكيل جبهتين (روحانيون مبارز) التي تمثل الإصلاحيين في هذا الوقت و (روحانيت مبارز) و تمثل المحافظين في التسمية الجديدة ، تيّار الروحانيون و إن كان مؤمنًا بنظام الجمهورية و مقرًا لنظام ولاية الفقيه الذي يمثل إحدى نظريات الحكم الشيعية و طرحه الإمام الخميني رحمه الله كأسلوب حكم في كتابه (الحكومة الإسلامية) إلا أنهم كانوا يسعون إلى هامش أكبر من "الدولة المدنية" على حساب الدولة الدينية التي يطرحها المحافظون و إن كان فيه الآن من يعترض على أصل الحكومة الإسلامية برمتها و يدعو لدولة علمانية بحتة ، و أبرز مفكريهم هو الشهيد شريعتي[2] الذي خالف والده الشيخ محمد تقي شريعتي و أستاذه الشهيد مطهري في كثير من رؤاهم لدرجة أن الشهيد مطهري (كما في كتاب الإمامة –مثلاً-) يرد على بعض أفكاره بتلميح هو أشبه بالتصريح! إلى جانب خلافه الكبير مع الكثير من علماء الحوزة في قم المقدسة و غيرها و هو شيء اعترف به في رسالته التي بعثها قبيل اغتياله بل و وصل به الأمر للطلب من الشهيد مطهري أن يصوب بعض كتبه و لكنه اغتيل بعده بفترة زمنية يسيرة.

.
كان شريعتي و بازرڰان من محركي الثورة الكبار في إيران و رغم أن الثاني يُعد من رموز الليبراليين في عهد الشاه إلا أنه شارك بفعالية في حكومة الثورة قبل أن ينسحب من الساحة بعد أن انتهت فترة رئاسته للوزراء في عهد الحكومة الإنتقالية، و لكن أثرهم لازال باقيًا في إيران من خلال التيار الإصلاحي الذي يستلهم رؤاهم في معالجة القضايا و إن كان تيارهم مغلفًا بالغلاف الديني.
.
. إيران وقت الإنتخابات

مير حسين موسوي كان رئيس الوزراء في عهد رئاسة السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الحالي أثناء الحرب العراقية –الإيرانية ، كان السيد الخامنئي من المحسوبين على "روحانيت مبارز" بينما كان موسوي من المحسوبين على تيار اليسار "روحانيون مبارز" إلا أن وجود الإمام الخميني رحمه الله في ذلك الوقت و ظروف الحرب لم تسمح لظهور الخلاف و التباين كما هو بصورته الحالية .

لا أعتقد أن هناك من يختلف على عقلية موسوي الاقتصادية التي أخرجت إيران من حرب استمرت لثمان سنوات دون أن تكون مدينة بدولار واحد لأي طرف كان، و لكن أعتقد بوجود الكثيرين الذين يجهلون "نكهته السياسية".

.
و هذا يؤيده بُعده عن الساحة و ضعف مناورته السياسية منذ انتهاء الحرب قبل عشرين سنة، الفضل الأكبر في ذلك الوقت سياسيًا كان يعود لرفسنجاني و السيد الخامنئي اللذان قادا العملية السياسية بأكملها على الرغم من تباين (الوجهتين) بينهما، لذلك عندما أتى الشيخ مهدي كروبي في الإنتخابات الماضيةو هو يرجوه أن يرشح نفسه رفض موسوي هذا الأمر فاضطر التيّار أن يرشح كروبي لتبرئة الذمة إن صح التعبير و يدعم رفسنجاني أحد رموز الثورة و رئيس سابق للجمهورية و صاحب ثقل يعادل ثقل المرشد معنويًا هناك إلا أن هزيمته أمام نجاد دقت جرس الإنذار على هبوط التيار الإصلاحي الذي توالى ليشهد في السنوات الأخيرة أسوء أعوامه بعد أن انحسر عدد ممثليه في البرلمان.

.
كانت المعركة الإنتخابية الأخيرة معركة كسر عظم بين تيارات و ليست بين شخوص في المقام الأول ، و أثبتت المناظرات التلفزيونية بين المرشحين أن نجاد استطاع أن يناور خصومه و يوجه لهم ضربات قاضية حولتهم من خانة الهجوم إلى خانة الدفاع المستميت ، كانت محاولة تحجيمه قائمة على قدم و ساق قبل بداية حملته الرسمية التي بدأت متأخرة (قبل الإنتخابات بأسبوعين) و كونه محسوبًا على المحافظين و أسقط أحد رموز الثورة في الإنتخابات الماضية فقد كان رأسه مطلوبًا عند النخب الإيرانية الذين أصبحوا اليوم تلقائيًا في التيار الإصلاحي (النخبوي) على عكس تيار المحافظين الذي يحظى بالقبول الشعبي أكثر.


يـتبــع إن شاء الله ..

ملاحظة : غدًا سُتقام صلاة الجمعة في طهران بإمامة السيد الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية، من المتوقع أن تضع الخطبة الكثير من النقاط على الحروف ، لذلك سأؤجل الحلقة الثانية لما بعدها .


____________________________
[1] كانت الشرطة السرية (السافاك) في عهد الشاه تعتقل و تعذب و تعدم الكثيرين من المحسوبين على المعارضين لنظام الشاه،و أثناء اعتقال الشهيد السيد عبدالحسين دستغيب حُبس في زنزانة انفرادية مع أحد أعضاء حزب توده و كان شيوعيًا ملحدًا نكاية به!


[2] في الخطاب الأخير قبيل الإنتخابات لمير حسين موسوي كانت هناك صورة جدارية ضخمة لـ د. علي شريعتي شكلت إحدى الخلفيات لمير حسين !

19 يناير 2009

غزة .. شيء من السياسة و التعاسة .





أسوء ما في التاريخ أن أحداثه لا تُكتب إلا بأحبار حمراء من دماء الأبرياء ، منذ قتل قابيل أخاه فأهلك ثلث البشرية إلى اليوم ، لا زال الإنسان يرسم ملامح قوته و يثبتها بقدرته على سفك الدماء ، هكذا يحقق مطالبه ، لم يتعلم طوال هذا التاريخ أن تاريخه دون البشر لا معنى له ، و أن الدماء التي يسفكها ستكون أول اسفين يدق في نعش ما يحاول بناءه ، كلهم يقتلون ليبنوا مجدهم فيتحول هذا المجد إلى لعنات تنصب عليهم بعد سنوات لأنه مجدٍ بني على عظام الموتى الهشة .


على رغم كل هذا التطور المادي و الإرتفاع في المستوى العقلي لا زالت سنن البشرية كما هي " و لو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى ، غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الإجتماع ، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية " [1] ، هكذا تحول القتل من وسيلة في عصر قابيل إلى غاية و هدف في عصرنا الحالي كل ما اختلف بينهما هو أنّ قابيل لم يعطي المبررات و لم يغلف ما فعله بالحجج و البراهين حتى يغسل الدماء من يده بتلك الحجة ، و هذا ما لا يحدث الآن ، تحول القتل إلى غاية تساق له المبررات و تصفق له الجموع البشرية و تنطرب لأصوات أزيز الطائرات و المدافع لأنها تظهر عنصر التجبر و الاستكبار الكامن في نفسه ، يندفعون لتأييد القاتل و يصفقون له لأنهم أجبن من أن يقتلوا بأيديهم و قام القاتل بما عجزوا عنه .


سألوا يوما الإمام الرضا عليه السلام عن ثأر القائم عليه السلام من أبناء قتلة الحسين عليه السلام فكان جوابه : و من رضى شيئا كان كمن أتاه و لو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل [2] .


هذه هي الحقيقة البديهية التي لا يريدون استيعابها ، لو لم يجد القاتل من يعطيه القابلية لعمله ما استمر بفعله ، فكل فعاليته هي نابعة من قابلية من يمهد له الطريق ، و يسبغ عليه الثناء ، و يعطيه المبررات ، و يكتب له التأويلات ، بل و يعتبر نفسه ناطقًا باسمه قائمًا بفعله لأنه في داخل نفسه أجبن من أن يتخذ موقفًا يثبت فيه استقلاليته و حريته ، مثل ما كان في الحرب الأهلية الأمريكية حين وقف بعض العبيد ضد القوات الإتحادية لأنهم لم يتصوروا أن يتمكنوا من الحياة دون أسيادهم.


الهجمة الصهيونية على غزة و ما يحدث فيها لا يمكن فصلها عن الواقع السياسي المزري الذي وصلت له الأمة ، و لا يمكن فهمها بدون استقراء واضح للتاريخ حتى وصولنا لهذه اللحظة و لكن لا يمكن اختزال تاريخ أمة ببضعة سطور للأسف .


بتجريدٍ بحت حين ننظر لقضية غزة بعيدًا عن شقها المأساوي ، نرى أنها قضية مفصلية لرسم واقع المنطقة خلال السنوات القادمة ، السياسيون لا يهتمون بمقدار التضحيات و المقدمات بل تهمهم النتائج و ما يُبنى عليها ، بداية ما حدث لغزة يعود لنهاية عهد كلينتون حين تم القرار بإنهاء القضية الفلسطينية و تسويتها و لكن كان لياسر عرفات موقف خالف فيه التوجه الذي أرادته الإدارة الصهيونية بسلب حقوق الشعب الفلسطيني على رغم كل مواقفه وسلبياته إلا أنه استوعب أن أوسلو لم تكن سوى ألعوبة ، لذلك رمى كلينتون تبعية عدم انهاء القضية على رأسه عند انتهاء ولايته ، و قرروا التخلص منه كعقبة موجودة في طريق طي ملف هذه القضية .


انتهوا من عرفات و ظلت سوريا و إيران و حزب الله و الفصائل الفلسطينية في المرصاد ، حاول الصهاينة كسر حزب الله عام 2006 فكانت هزيمة ساحقة لهم و لمخططهم الذي أبلغوه لدول الاعتدال العربية [3] قبل إعلان الحرب على لبنان ، هذه الحرب التي حدثت تحت مبرر " الطائفية " كما عبر ذلك شيمون بيريز : " حزب الله سيكون أداة لبسط النفوذ الفارسي لإيران الشيعية على الشرق الاوسط المعروف بغالبيته العربية السنية، ومن ثم من حق الدول السنية الكبرى في المنطقة أن تشعر بالقلق. " ، و هي الحرب التي وصفتها رايس بأنها المخاض للشرق الأوسط الجديد ، إن أسوء ما الحروب ليس بشاعتها و دمويتها و لكن تبريرها لهذه البشاعة و الدموية تحت ذريعة الخوف من ( هويّة ) الطرف المقابل .


تحت هذه الذريعة برروا حرب لبنان ، و برروا همجية الصهاينة في غزة ، و برروا كل المواقف الدوليّة المتخاذلة و فضلوا أن يرموا بتبعات الدماء على رقبة الضحيّة ، لأنها أضعف من الجلاد و لأن التبعية له أهون على نفوسهم من الإقرار بـ " هويّة " الضحية ، دماء هؤلاء الأبرياء سيتشارك فيها كل آثر أن يقبع بزاويته مبررًا و مدافعًا عن السفاحين و لو بكلمة بحجة أنّ فأسهم أكبر من سكين الضحايا ، و كأن على الناس أن يقبلوا شرب الهيم من الحميم لأنهم لا يجدون الماء المعين !


و الآن برغبة و إرادة الدول العربية المعتدلة تم شن الحرب الأخيرة على غزة كخطة بديلة عن الفشل في لبنان لمحاولة إعادة إحياء عملية طي الملف الإسرائيلي الفلسطيني نهائيًا برغبة عربية وفق الشروط الإسرائيلية، و لكنهم صدموا بالهزيمة تتكرر مجددًا لتضع بصمة جديدة على درب الفشل الصهيوني في العهد الجديد ، فهذه المرة لا بارود فاروق و لا ماكو أوامر غلوب باشا هي من تحاربهم ، و رجعت نفس المبررات مجددًا .


الصراع الآن هو صراع بقاء إسرائيل لذلك هي تتوحش في كل يوم أكثر بهجومها على غزة قبل الهدنة و بعد سقوطها كما توحشت في هجومها على لبنان لأنها تعلم أن القوى الكبرى لا يمكن لها أن تغفر لها انكسارين بعد هذا الغطاء الدولي المفتوح ، و هي تعلم يقينا أن فشلها يعني انفاذ المطالب التي تريدها إيران و سوريا رغما عنها بموافقة أمريكية ، لأن أمريكا الحالية بانتظار النتائج لما يحدث في غزة و بناء عليها سيرسم أوباما السياسة التي دعا إليها بالمفاوضات ، طبيعي انه يريد أن يفرض شروطه في تلك المفاوضات و لكن ما يحصل على أرض الواقع لا يبشر بهذا الشيء ، و ايقاف إطلاق النار هو شهادة وفاة جديدة للعسكرية الصهيونية الهمجية ، إيذان بفشل جديد يضاف لسجلات الفشل العربي في المراهنة الخاطئة على البيدق الخاطئ.


النتائج التي ستترتب على ما حدث في غزة ، و ما حدث في لبنان قبل ثلاث سنوات ستأتي أكلها قريبًا ، و قريبًا جدًا .


و ستبقى دماء الأبرياء شاهدًا على همجية الإنسان الكامنة فيه ، و إن تمظهر بالتمدن و التحضر .




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] من كلمات العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان ج 4.


[2] الرواية كما رواها الشيخ الجليل الصدوق قدس سره في " علل الشرائع " ج1 :


عبد السلام بن صالح الهروي قال : قلت لأبي الحسن علي ابن موسى الرضا " عليه السلام " يا بن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق " عليه السلام " أنه قال : إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين " ع " بفعال آبائها ؟


فقال " ع " : هو كذلك.


فقلت : فقول الله عز وجل ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ما معناه ؟


فقال: صدق الله في جميع أقواله لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها ومن رضى شيئا كان كمن أتاه ولو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل وإنما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم.


[3] BBC- طائفية" حزب الله بين إسرائيل ولبنان"

  • تحديث لا علاقة له بأصل الموضوع:

تم اليوم الحكم ببراءة سماحة السيد الفالي من التهم المنسوبة له :

- لقراءة التفاصيل : اضغط .

- لقراءة ما يتعلق بالموضوع : اضغط .