‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد الاجتماع. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سفيد الاجتماع. إظهار كافة الرسائل

13 مارس 2014

صناعة الإنحراف

الانحراف ليس موقفًا، وليس حالة يمر بها الشخص بل هي طبيعة يُصنع عليها ويكبر. قد تكون كلمة الإنحراف ثقيلة على النفس، فمن يخوّلك أن تسمي فلانًا منحرفًا أم لا؟ من نصبك قاضيًا أو نبيًا يوحى إليه بحقائق الناس؟ حسنًا، مثل هذه الأسئلة صحيحة لكنها أيضًا ليست مطلقة. الانحراف صناعة يتم فيها نحت فكر الفرد، وصناعة شخصيته بحيث تعود كالمنخل لا يمر منه إلا ما يناسب المعايير المنحرفة التي زُوّد بها. لست بحاجة لأن تكون نبيًا أو قاضيًا حتى تحكم بانحراف شيء ما، فإن الحسن والقبح يدركهما العقل، كما يدرك تمامًا أنّ التعدي على ما هو حق للآخرين قبيح وأن الإصرار عليه انحراف، يدرك أنّ الأمانة – وهي قيمة مطلقة لا تتغير بتغيّر الزمان أو المكان – أمر حسن وأن الإصرار عليها هو سلامة في العقل والنفس. إن صناعة الانحراف تحاول تبرير انحرافها بأن تصور لك انعدام الحقيقة، بطرح صعوبة الوصول إليها أولاً، ثم تساوي كل الحقائق وتشكك فيها حتى تصل معك إلى أن الحقيقة هي ما تريده أو تشتهيه فيصبح معيار الصحة والسلامة نفسك وما تهواه وأما كل المعايير الخارجية فهي مجموعة أكاذيب لا واقعية لها، تحاربها بشدة.

لا يمكنك الحكم على نيّات الناس، لكن يمكنك محاكمة أفعالهم ومواقفهم وإن الخلط بين الاثنين لتخويف الآخر من ممارسة هذا الأمر العقلاني يعود في جذوره إلى الرغبة بعدم بيان خطا الانحراف. تراه سليط اللسان بالنقد والاتهام لكل ما لا يعجبه لكن ما أن تشير لخطئه في النقد وفقدان مقدماته تتملكه الثورة فيبدأ سيل اتهاماته بالتحجر والتخلف والجهل ومعاداة العقل! رغم أن العقل كقوة مدركة يحكم بوجود معايير خارجية تميّز الصحيح من الخطأ، لكن العقل كمصدر معرفي متوهم مثل الذي يدعون إليه يقول لك بأن الصحة منفعتك والخطأ هو إيقاف منفعتك لأجل الآخر، يضع لك المقاصد ويطلب منك أن تحوّر كل شيء وفقها، فهو عقل نفساني (سيكولوجي) محكوم بالرغبات والحاجات ومسيطر عليه بالمنافع والغايات. قد تضع رجلك أمام أحدهم وليس بنيّتك إهانته لكن فعل الإهانة قد تحقق بغض النظر عن النيّة، وتكرار الفعل يكشف عن نية ما لبثت أن تترجم نفسها لسلوكٍ دائم ومستمر. إن أكبر مورد لانتشار الدجالين وقبولهم بين الناس هو هذا التهوين والعبث بالحقائق وموازينها ونسف مقدماتها، بحيث يصبح لكل راية ضلال أتباع[1].

لكن ما هو منشأ هذا الانحراف؟ في القرآن الكريم التفاتات ظاهرية لطيفة جدًا، فهناك حقيقة قرآنية ملفتة للنظر هي أنّ الناس يؤمنون بدعوات الأنبياء بعد جهد جهيد وصراع مرير ولكنهم سرعان ما ينقلبون على أعقابهم بعد رحيلهم أو غيابهم، وفي الغالب الأعم – إن لم يكن الكل – لا يكون ذلك الانقلاب إلا بعد العلم والمعرفة وليس ناشئًا من جهل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[2] لكن العلم ليس هو السبب في الضلالة والانحراف كما قد يندفع الذهن لاستظهار ذلك إنما هو بمنطوق الآية (البغي) وهو شيء يتعلق بذات النفس الإنسانية لا بشيء آخر.

صحيح أن العلم والمعرفة يمتلكان القدرة على إنشاء هويّة متفردة للإنسان بين الباقين فيصبح ذاك مميزًا بالعلم أو عالمًا وذاك عارفًا لكن هذه الهويات لتعلقها بالإنسان تبيتُ وهي لها جانب شخصي يتعلق بصاحبها ويتبعه، وهذا الجانب الشخصي يتمثل في إعادة تفسير ذلك العلم ليناسب الهوى الذي يعارض حقيقة العلم {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}[3] وهذا العلم المُلّفق دائمًا ما يكون منطبعًا بالهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[4] لكن هذا الخطاب لمن؟

يظهر أنه متعلّق بعقلية المجتمع التي ترفض التنازل عن موروثاتها لأنها تعتبر ذلك الموروث هويتها {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[5] فمهما تعددت الهويّات المصنوعة من العلم فإنها تخضع بالنهاية للطبيعة الإنسانية المصطبغة بالهوى والرغبة والإتباع والانتماء لفئة وإرثٍ ما، وهذه الهويّة الموروثة تنشا من عاملين مودعين في النفس {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[6] ورغم أن الاختلاف والتباين بين الناس يتمظهر بصورة خلاف هويات في العادة، إلا انّ الاختلاف والتباين حقيقته ليس صراع هويات إنما صراع النفس الإنسانية ذاتها في داخلها وينعكس على الخارج بصورة خلاف هويات وأيدلوجيات، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[7] أي أنّه ما دام الإنسان إنسانًا يتنازع في داخله هذين العاملين سيستمر الخلاف ما بقي، فصراع الحق والباطل، الخير والشر، هو صراع الإنسان اليومي مع نزعة الفجور فيه ونزعة التقوى، لكن لأنهما داخليان وساحتهما النفس الباطنة فهو يرشحان للخارج بصورة هويات أو اعتقادات ما تلبث أن تحاول الانتشار وهي أسوأ أنواع الانحراف، لأنها تسوّق لك أهواء المنحرفين ورغباتهم بالتسلط على أنها حقائق يقينية وهي ليست سوى ظنون وهمية لا تملك قطميرًا من القبول العلمي.

لكن كيف تكون صناعة الانحراف؟ تتميّز صناعة الانحراف بأنها صناعة اجتماعية تقوم على تشويه المعرفة، ونقض أسسها، وتحطيم كل ما له علاقة بضبط ميزان العقل تجاه الحكم على القضايا. تبدأ بتغذية نزعة التشكيك من خلال التركيز على التناقضات لكنها أبدًا لا تعود للجذور لتوضيح السبب في نشوء التناقضات إنما تكتفي بأخذ ظواهرها[8]، وتتميز صناعة الانحراف بأنها لا تقدم علاجًا لهذه القضايا إنما تعمد إلى خلق وضع بديل بحيث ترمى كل المساوئ على الوضع الأول وتصور الحلول محصورة بالوضع الثاني. وهي تنزع إلى تبرير كافة الأخطاء وتسوّق لكافة الانحرافات حتى لا يكون هناك معيار واضح يمكن استخدامه في الاشارة إلى واقع هذا الانحراف المصطنع. وهذه علامة مميزة لصُناع الانحراف فإنهم لا يتعلمون العلوم للوصول إلى اليقين إنما لضرب بعضها ببعض لابقاء حالة التشكيك[9] لأنه في مثل هذه الحالة، يكون استقبال أي فكرة أو دعوى ترتكز على نسف كل معرفة وعلوم عقلائية معتبرة، في مورد القبول!

غير أنّ لُبّ سر صناعة الانحراف يكمن هنا، في أن العقل البشري غير قادر على تنقية ذاته بذاته، فهو كالآلة يعتمد على ما تغذيه به من معطيات[10] وعقلاً يتغذى المغالطات يتصور أن التفكير المنطقي السليم هو خطأ وعدوٌّ له، ومن ثم فإن المتلاعبين به ليس عليهم أن يشيروا له لمواضع الانحراف حتى يقبلها ويسير بخطاها بل سيتجه بنفسه بفعل ما ينتجه عقله من أفكار منحرفة إلى توليدها واتباعها فتبدأ ظواهر الانحراف تطفو على السطح من نكران البديهيات إلى كسر كل المحظورات الأخلاقية والإنسانية لتصل حتى إلى شرعنة المثلية والنفعية! وليس ذلك بسرّ، فإن أفكارًا كالنازية أو مذاهبًا كالخوارج أو سلوكيات كما كانت عند الحشاشين مات مُنّظروها منذ سنوات وقرون، لا يزال متبعوها يتكاثرون ويتوالدون لأن المنظومة الفكرية التي أخرجت هذه الأفكار المتصارعة والمتناقضة التي صيغت في بدايتها لخدمة أهداف معينة عند أصحابها في طلب القوة والسلطة لها خاصية العدوى كعدوى الجراثيم، سرعان ما تلتهم العقل وتخضع كافة قواه لسيطرتها وتعود قادرة على التكاثر بنفسها وتوليد ذاتها كالميكروبات في طول السلسلة البشرية، وحينها قد لا تعجب أن ترى بروفيسورًا في الطب يقدّس بقرة فإنّ بديهة المعرفة التي ترفض ذلك قد طمست بفعل ما آمن به من نكران المعرفة الحقيقية القائمة على البديهيات اليقينية فتراه لا يمانع أن يؤمن باجتماع الظلمة والنور في بقعة واحدة وزمنٍ واحد!

إن هذه العالم ليس بعالم الملائكة بل هو أقرب لعالم الأباليس، وكان إبليس أول من صاغ معرفة تقوم على تفضيل الذات على أساس انها الحقيقة المطلقة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[11] وعلى دربه يسير سُرّاق المعرفة وصُنّاع الانحراف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في الكافي، ج8، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما من عبد يدعو إلى ضلالة إلا وجد من يتابعه.
انظر أيضًا: سفيد: كلاوات العقل
http://safeed.blogspot.com/2011/01/blog-post_22.html
[2] آل عمران / 19
[3] البقرة /  145
[4] البقرة / 145
[5] يونس / 78
[6] الشمس / 8
[7] هود / 118
[8] إننا نرى الأفعى سامة والسم قاتل لنا، فنتصور ذلك شر من صنع الله – عز وجل – ولكن الواقع أنه ليس شرًّا بل بهذا السم تحيى الأفعى حياتها، فهو خير لها، وأن ميزان الأمور العدل وليس المساواة فكما زُوّدنا بما نحتاجه للحياة التي نحياها زُوّدت هي بما تحتاج للحياة التي تحياها في بيئتها ومحيطها. دون الرجوع إلى جذر المسألة وهو بيان مدى الاستعدادات والقابليات والطبائع فإن وجود السم عند الأفعى وانعدامه عندنا يمثل تناقضًا في نظام الوجود الخيّر بينما هو ليس كذلك!
[9] "فالشك ما هو إلا قنطرة ووسيلة ومقدمة لتمحيص الحقائق والمعتقدات، فإما أن يصل الإنسان بعد البحث والتحقيق إلى حالة الإذعان بالنفي أو الإذعان بالثبوت، وأما بقاؤه مرابطًا في منطقة الشك مع كفاية ما يصلح للاستدلال على الحقيقة فإنها حالة مرَضيّة غير طبيعية، فإن حالة الشك عبارة عن تذبذب واضطراب وتحيّر في النفس من جانب القوى العمليّة في انصياعها للقوى الإدراكية ومن ثم أرشدت الشريعة ونهت عن البقاء في حالة الشك وعن جعل اليقين شكًا..." انظر: بحوث في قراءة النص الديني، الشيخ محمد السند، ص 30 وما بعدها.
[10] وهنا البحث في افتراق العقل الذي هو قوة مدركة عن الفطرة أو العلم البديهي "النفس-أمري" كما يُصطلح عليه، فإن الأول يعمل عمل الآلة بينما الثانية تعمل عمل الوجدان وهي صوت التذكير بوجود الخطأ الذي قد يخرسه السخام الناتج عن الآلة (العقل).
[11] ص / 76

29 أكتوبر 2013

الإتصال والإنفصال في صناعة الأبطال

الشعور الأقلياتي ليس مختصًا بالأقليات العددية*، بل هو شعور يتنامى مع تنامي الإحساس بالاستقصاد والاستهداف**، وإن كان يستند الإحساس بالاستهداف إلى ماضٍ يثبت الواقع بأن هناك على مستوى ما من المستويات عملية استهداف مؤكدة إلا أنها في هذه الحالة تكون حالة مضخمة بدرجات أكبر. ويتعاظم هذا الإحساس أكثر مع الشعور المتجذّر باللاوعي بوجود الاختلاف رغم السعي على مستوى الوعي لنفيه وهو ما تراه من دعايات ساذجة تؤكد على هوية واحدة جامعة تصهر الجميع يكررها الناس رغم عدم إيمانهم بها. وقد ترى فئات عظيمة يتملكها الإحساس الأقلوي، وقد ترى فردًا ينتمي لأقلية لا يستحوذه هذا الشعور، وفي جميع الحالات المسألة خاضعة لنوعية الشعور وطبيعته لا لمجرد التصنيف العددي وحجم شريحة الانتماء الفكري أو الإثني.

يتميّز الشعور الأقلياتي بأنه ذو طبيعة مزدوجة، فتارة هو يفرض على صاحبه الإحساس بالإنتماء لمجتمع كبير وتارة أخرى متزامنة يدفع إلى خلق مجتمع جديد يعيش في حلقة تترابط مع المجتمع الكبير من جهة وتنعزل عنه من جهات كثيرة، ولتوضيح الفكرة يمكنك تصوّر عدة دوائرة مرسومة بداخل بعضها البعض، وعلى الرغم من وجود دائرة كبيرة تحيط بهذه الدوائر لتكون الدائرة الأم فإن الدوائر الأصغر بداخلها تمثل جزءًا من الدائرة الكبيرة وفي ذات الوقت دائرة متفرّدة بذاتها، ولهذا أنت ترى المسلم مثلاً في بريطانيا يصنف نفسه كجزء من المجتمع البريطاني تارة، وفي الأخرى يدعو إلى احترام خصوصيات المجتمع المسلم المستقل بذاته هناك، فلولا هذا الإحساس المزدوج والمتضاد بالإنتماء والإستقلال لما كان لمصطلح الأقلية - وما يستتبعه - أن يظهر. مع هذا، فإن التوصيف للأقلية كما مرّ ليس مختصًا بعدد أفراده إنما يتوّلد الشعور السابق عند أصحابه.

من هنا يمكن فهم الشعور الأقلياتي على أنه منهج في التعامل مع الواقع، فهو يعطي الشعور بالإنتماء وفي ذات الواقت يوهم بالإستقلال، لكنّ وجود نزعتين متضادتين عملّية منهكة جدًا، وهذا واقع كل نزاع يدور بين متعاكسين، فالقانون الأخلاقي في أنفسنا يتنازع مع رغبة التحرر من الإلتزام فينا، فتكون النتيجة {إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} للحفاظ على الإلتزام الأخلاقي مع مقاومة نزعة الإنعتاق من هذا الفرض، وهكذا، يبدأ الشعور الأقلياتي برسم ملامحه سواءً للفرد أو على مستوى أكبر لفئة ما.

أولى ملامح الشعور الأقلياتي هو التأكيد المبالغ فيه على الهويّة الجامعة بحيث تُلغى أي اشارة للهوية الذاتية إلا أنه سرعان ما يتم الرجوع لها بمجرّد الإحساس ببوادر الانفصال، فهي أشبه بلعبة حافة الهاوية، كما أن الشعور الأقلياتي يتميّز بعدم الرغبة على اثبات الذات إلا على مستوى القشور، أي تسجيل ما يعطي له التفرّد على الدائرة الأوسع وفي نفس الوقت لا يصبح دائرة مستقلة خارج الدائرة الأم. كما أنّ الشعور الأقلياتي يتمثّل في سعي أفراده للنزوع الشديد لتكوين جبهة معلّقة تبنى أساساتها على اعتقادات الفرد ويترجم سلوكها لسلوكيات الأغلبية، فلا يعود غريبًا أن ترى الشعور الأقلياتي يُصنَع من الاعتزاز بالهويّة لكنه في نفس الوقت ينبذ أي تمثّل واقعي لهذه الهويّة، يمكنك أن تفهم الصورة بشكل أوضح على سبيل المثال فيمن يدّعي الليبرالية في المجتمعات المغلقة كفكر ينتمي إليه ولكنه في نفس الوقت يدعو إلى الالتزام الشديد بالأعراف والعادات الاجتماعية وإن كانت غير صحيحة! إنّ الصراع الذي يمثله تضاد الدوائر الإنتمائية لدى الفرد يجعله مشتتًا فهو تارة داعية للحريّة في دائرة وإقصائي متطرف في دائرة أخرى ولا يرى بأسًا في ذلك لأنه محيط كل دائرة يجعله يتوهم غمتلاكه العذر في تذبذبه واختلاله هذا!

غير أنّ الشعور الأقلياتي يتجاوز الهويّة في كثير من الأحيان إلى أمر آخر على قدر كبير من الأهمية ألا وهو الاتجاه إلى صناعة "الأبطال" لكن على غير العادة فإن هذا البطل يتعاظم في مكانته وقيمته كلما كان "مزدوجًا" في شخصية وأفكاره التي يقدمها، وهذا خلاف العادة في اعتبار "البطل الأسطوري" يتمثل بشخصية الرجل "المبدئي" الذي يبذل كل ما يغليه في سبيل مبادئه والإبقاء عليها، وهنا يفترق "واقع الأقلية" عن "الشعور الأقلياتي" فواقع الأقلية هو السعي نحو الانكفاء وزيادة الارتباط للحفاظ على الهويّة بالإضافة إلى السعي نحو البقاء، أما الشعور الأقلياتي فهو يسعى نحو التذرر في الأكثرية وتضعيف الارتباط مع الأقلية مع الإبقاء على فوارق تحفظ لهم بعض الخصوصية التي تعيق الاندماج التام، والفارق الرئيسي بين "واقع الأقلية" وبين "الشعور الأقلياتي" هو أنّ البطل في واقع الأقلية عادة ما يكون أمثولة للنظام القِيَمي السامي لها بينما في الشعور الأقلياتي هو أمثولة للإحساس الكامن بالإزدواجية، فهو الحالة الأمثل التي تجمع التناقضات في نفسها دون أن يرف لها جفن لإزدواجيتها الواضحة.

إنّ طبيعة البطل الذي تصنعه دوائر الإتصال والإنفصال طبيعة احتفالية، أي طبيعة صاخبة تفقد صاحبها القدرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو مزيّف فيكتفي بطرح الكلمات والمفاهيم دون إنصات أو تفكير، ويتركز هجوم بطل الشعور الأقلياتي على القديم دون تقديم بديل واقعي لسبب رئيسي وهو اعتبار القديم هو المسؤول عن زرع الإحساس الأقلياتي ومن ثم عدم القدرة على الإندماج التام مع الباقين، ولهذا السبب بالتحديد يحاول بطل الشعور الأقلياتي اظهار التميّز بأيّ صورة كانت ولو على حساب مبادئه وتعاليمه السابقة، ويتبدى هذا التميّز في مخالفة السائد حتى وإن كان مبنٍ على أسس سليمة فقط لأن الشعور الأقلياتي يأنف من السائد الذي يجعله متقوقعًا في دائرته بدلاً من امتلاك مرونة الإنتماء والتحرك في أكثر من دائرة.

إنّ البطل في الشعور الأقلياتي هو الذي يستطيع أن يكون مصلحيًا لا مبدئيًا لكون كثرة التعامل مع المتناقضات واحتوائها لا تجعل ثابتًا إلا المصلحة وكل ما عداها متغيّر، وبناءّ على ذلك يكون البطل الأقلياتي مثيرًا للفوضى أكثر من جمعه للكلمة لأن الفوضى بطبيعتها تبرر المصلحة وتعطي الذريعة للتلّون لدرجة الإنقلاب على كل ما ادعاه صاحبها، وكلما تعاظمت المصلحة تعاظم معها الـ(أنـا) لهذا البطل تزامنًا مع تضخيمه من قِبل أمثاله لأنه حالة تعبّر عنهم، وهذه الأنا تلتهم أثناء تعاظمها الجميع حتى يصبح قولها قولهم، وفعلها فعلهم، وحكمها حكمهم ومن ثمّ يكون عقلاً وضميرًا وبطلاً لهم.

متلّسحًا بقوة الجمهور هذه، يصبح بطل الشعور الأقلياتي تحديًّا للواقع، يتعامل معه بالصدمات لا بالحلول، لإثبات أن القوة والشجاعة لا تنقصه، لتعويض الإحساس بالنقص عنده لعدم كونه إنبساطيًا يبسط وجوده على الجميع لا مجرد مماثليه من ذوي الشعور الأقلياتي، بل يصبح إنطوائيًا يمنعه جمهوره من أن يكون شخصية طبيعية لأنه يعتبر ذلك خذلانًا لهم رغم كل ما يمثلونه من تنافر مع الشخصية السويّة، وهذا الإنطواء هو دفاع عن الأنا التي تعاظمت حتى إلتهمت الـ"نحن" لتصبح رمزًا لهم، فبإنطوائه يفرد استاذيته وينتزع كافة القيود في تعامله دون أن يكون خاضعًا لمشرط النقد الأخلاقي.

إن الإحساس بالقوّة المستقاة من الجمهور تخفي في باطنها الضعف الذي يجعل من صاحبها عبدًا يستكبر حتى يدخل في دائرة الطغيان، وليس الطغيان منوط بالسلطة فقط بل يتعداه للقدرة على إطلاق الأحكام دون رادع داخلي أو خارجي وكلما استسهل المرأ هذا الشيء ازداد ارتباطًا بالدنيا فهو بالنهاية صنيعة أفرادها وصياغة أطماعها ومنحوتة لمصالحها وبُعدَه عنها والعودة للشخصية السوية يعني فقدان صفة البطل ولو على أُناسٍ لا بطولة لهم، وهذا أمر لا طاقة له به. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: مَثَل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ كلما ازدادت من القزّ على نفسها لفًّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمًّا***.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورد في سورة النحل {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} فالقرآن الكريم لم يشر لإبراهيم عليه السلام رغم كونه فردًا في وسط مجتمع إلا بكونه أمة وهي أكبر من المجتمع، وفي هذا إلتفاتة لطيفة إلى أن الشعور الأقلياتي ليس منوطًا بالعدد بقدر ما هو منوط بالفرد ذاته.
** هناك فرق جوهري بين الإحساس والوقوع، وقد يجتمع الإثنان معًا، إلا أن الفارق الأساس هو في التعامل مع هذا الاستقصاد والاستهداف فبدلاً من اعتباره علامة على الصحة والقوة يتم اعتباره عن أصحاب الشعور الأقلياتي علامة ضعف.
*** مشكاة الأنوار، الطبرسي، ح 1544.

24 أكتوبر 2012

تأملات في سمات المجتمعات المرفهة

الطبيعة الإنسانية محيّرة، يمكن التنبؤ بأفعالها لكن نادرًا ما يمكن استباق رد الفعل على تلك الأفعال. تتكرر كثيرًا كلمة أنّ التاريخ يعيد نفسه، وبتأمل بسيط يمكنك أن ترى كيف أنّ هذه الجملة تحتوي مقدارًا كبيرًا من الصحّة وفي الاتجاه المعاكس سترى مقدارًا أكبر من الفشل في التعامل مع الأحداث المتكررة ممّا يجعلنا –كبشر– نكرر نفس الأخطاء. إنك ترى عشرات الثورات في التاريخ وتقف متسائلاً مستغربًا: كيف تكثّفت كل هذه العوامل وتجمعت ولم يرها ويستوعبها أصحابها؟ لكنّك في نفس اللحظة تنسى أنك ترى الصورة كاملة من موقف الشاهد لا من موقف الفاعل والمؤثر، بينما أولئك كانوا مشغولين بإحدى زواياها فلم يروا حقيقة الصورة إلا بعد دفعوا دفعًا لخارجها.

إنّ هذا التكرار حقيقة لا ينكرها إنسان بل وتجري على كل لسان لكن كما أنّ حفظ الحِكم لا يجعلك حكيمًا، كذلك تكرارها لا يجعلك بالضرورة عاملاً ومستوعبًا لها، ولعلّ هذا يعود في إحدى مسبباته إلى الشعور الذي لا يمكن تغافله في كل إنسان وهو الشعور بالنقص والمحدودية فهو يخوض كل يوم تحديًا جديدًا لانكار هذا الإحساس، وغالبًا ما يكون ذلك بالإدعاء، ليعطي لنفسه اثباتًا جديدًا في برهان الوجود، ويتعاظم هذا الإحساس ضمن علاقة طردية مع مستوى رفاهية الفرد، فكلما زادت رفاهيته كلما إزداد الشعور بالنقص والمحدودية لأنّ الغنى والرفاهية يقلّصان مجالات التحدّي المتاحة أمامه فلا يعود كذلك الكادح أو الفقير أو المسحوق الذي تشغله لقمة عيشه أو السقف الذي سيأويه ليلته عن التطلع إلى رفاهيّات المعيشة فما بالك برفاهيّات الأفكار ونُظمها.

دراسة المجتمعات المرفهة هي دراسة في الواقع لحالة انسانية مكبّرة، هي حالة ذلك الإنسان الذي يمتلك كل شيء ولكنه في ذات الوقت يتملكه الافتقاد لمعظم الأشياء، وليس الفقد هنا بمعنى عدم الحيازة إنما بمعنى عدم الإحساس بالقيمة. إن الأشياء تفقد قيمتها بمجرد الاعتياد عليها، وأحيانًا كثيرة بمجرد الشعور الوجداني بضمان الحصول عليها وإن لم يحزها ومن ثم يمكن تفسير الكثير من سلوكيات المجتمعات المرفهة بناءً على هذه القاعدة، غير أنّ هناك عوامل أخرى كثيرة متدافعة ومتشابكة تتقاطع معها مثل أصالة الشعوب وطروئها (المجتمعات المكونة من شعوب أصيلة والأخرى القائمة بناءً على تجمع الهجرات)، وكذلك المسار التاريخي الذي أدّى إلى إيجاد حالة الرفاهية، وهذان موضوعان يستحقان البحث كل على حدة.

المجتمعات المرفهة تظن أن رفاهيتها كفيلة بحصولها على كل ما تريد فتصبح المثاليات مقياسها لكل شيء وهي أبعد النّاس عنها سيّما إن كانت هذه الرفاهية ليست منتجة بقدر ما هي متولّدة بلا مجهود، فافتقاد السعي يؤدي إلى افتقاد الإحساس باستحقاق الملكية، وشعور عدم الاستحقاق هذا يتعاظم عند الطبقات المرفهة لشعورها بسهولة الحصول على ما تريد، ومن ثم يصبح الصراع في المجتمعات المرفهة مختزلاُ بالصراع على الماديات، الأموال والممتلكات تحديدًا. وكل القضايا الأخرى تندفع لأن تكون مؤطرة ضمن هذا الإطار، وتكتسب أهميتها بقدر اقترابها أو بُعدها منه، فهو صراع أناني ينطلق من أساس أن الثروة والرفاهية هي هبة السماء وهمُّ كل فئة أن تستحوذ على أكبر قدر منها قبل أن تزول لأنهم كمجتمع لا يملكون وسائل إدامة هذه الرفاهية.

تنتج الرفاهية «طبقات فراغية» في مجتمعها، تجعل جلّ همها ابتكار أعرافٍ ومظاهر مكلفة وصعبة وثقيلة على النفس حتى تميّز نفسها بأي وسيلة كانت عن الطبقات الأخرى. حين تكون الرفاهية المبالغ بها سمة المجتمع العامة، ويكون الدخل كبيرًا في مقابل الجهد المبذول، فإن قيمة العمل تتدنّى إلى الدرجات السفلى، وفي مجتمع ليس فيه عمّال، بمعنى الطبقة الكادحة العمالية فهو ليس بالمجتمع الزراعي ولا الصناعي، فإن الطبقات الاجتماعية لا تعود طبقات اقتصادية «بروليتاريا وبرجوازية وارستقراطية» إنما طائفية وعرقية وفئوية تحاول من خلال هذه الأمور إيجاد التمايز فيما بينها بعد أن تساوت الكثير من الرؤوس طبقيًا، وفي مجتمع يفتقر بوضعه الحالي للعمق التاريخي المنسجم يكون البحث عن شيء آخر يعوض عن هذا الإحساس بعدم القدرة على الانسجام فيتم اللجوء لتقسيمات أخرى يعايرون بها غيرهم ، تقسيمات قد تبدو سخيفة ولكنها موجودة للأسف لأنها الوحيدة المتوافرة والتي يمكن الجهر بها :هذا من القومية الفلانية والآخر من تلك القومية، وهذا من أبناء هذه المنطقة وذاك من تلك.. إلخ!

هناك طبقات اجتماعية ذات ملامح مميزة لكل منها، بدوية وحضرية ومذهبية وفئوية، في المجتمع المرفه، لكنها غير قادرة على الإندماج لأنها لا تشترك بشيء غير ثروات الأرض، فلا رسالة حضارية ولا انتاج ولا قوة، لذلك يتم الحديث عنها كمكونات منفصلة حين الحديث عن وحدة المجتمع، هي تعيش في كانتونات منفصلة لا يجمع أفرادها إلا المدارس أوالوزارات أومدرجات كرة القدم وفيما عدا ذلك تستمر الحياة منفصلة داخل كل كانتون، وإذا تنزّل فرد من طبقة لمشاركة أخرى يُنظر له من قِبل فئته بعين الريبة وكأنه ارتكب جريمة، بينما تتسابق وسائل الإعلام –وتبعًا لهم المتكسبون- لاعتباره نموذجًا للمواطنة والوحدة الوطنية ومحاولة «ترميزه»  في إشارة واضحة إلى ندرة هذه الحالات! ومجتمع بمثل هذه الصفات لا يمكن له أن يعيش ويستمر دون قضية يقتات عليها، قضية تعمل عمل المحفز الكيميائي (catalyst) حيث تساعد على اتحاد فئة مع أخرى في مقابل الثالثة مرحليًا، ليتم تصوير الأمر على أنه اتفاق وطني، فالفعل في هذا المجتمع ليس غايته تحقيق مصلحة إنما إيجاد زخم للتغلّب على رتابة الحياة ومن ثم إمكانية القول للآخرين: أنا موجود.

إن أهم شعور إنسانيّ هو الإحساس بالمظلومية، وهو – بخلاف أي عامل آخر – السبب الرئيسي الذي ينسب لأي ثورة وعادة ما يكون هو، والبحث عن "الكرامة" والتي هي للمناسبة لا تملك تعريفًا جامعًا متفقًا عليه إلى اليوم، شعارات أي ثورة تخرج، أو خرجت. لكنّ المظلومية لا تنشأ في المجتمعات المرفهة عادة من سلبها حقوقها إنما مردّها إلى الإحساس المتجذر بعدم الرغبة بمشاركة الرفاهية مع الآخرين، إنّ دعاوى المظلومية في هذه المجتمعات لا تقوم على المطالبة بالحقوق بقدر ما تقوم على التذمر من مشاركة الآخرين لهم بأموالهم، وهو أمر لا بدّ منه في اللعبة السياسية لكن النّاس لا يهتمون بحسابات السياسة الدوليّة فهم يعيشون بفقاعة تعزلهم اجتماعيًا عن باقي الشعوب وإن ارتبطوا معها برابطة فكرية أو تعاطفوا معها سياسيًا ومذهبيًا ويتبدّى هذا واضح بطريقة تعبير أفراد المجتمع عن باقي المجتمعات وعدم استحقاقهم لما "يمنّون" عليهم به من أموال، وأسهل طريقة لإثارة النّاس هي التركيز على هذه القضايا وتصوير الأمر على أنه تزاحم ما بين هذه الهبات وتوفير الخدمات التي كثيرًا ما يُستغل النقص فيها لخلق مادة للصراع  واستخدامها لإلقاء اللوم على طرف بدلاً من طرح الحلول لها والاعتراف بقصور المشاركة الذي أدّى لها، فزرع الشعور بالمظلومية عند الناس أعظم أثرًا من وقوعها عليهم.

الشعوب المرفهة غالبًا غير ناضجة فتجاربها لم تكتمل نظرًا لاختزال المراحل التطورية مع هبوط الرفاهية المفاجئة عليها، وحين يكون المجتمع منقسمًا على ذاته وفئاته فإنّ العقلية الفئوية هي عقلية عاطفية بالدرجة الأولى وهي عقلية لا تتساءل بقدر ما تتجاوب، ويغيب عقلها لكون رفاهيتها الماديّة، بزعم أفرادها، قادرة على صنع أي موقف وشراء واحتقار أي رأي ومن ثمّ لا حاجة لاتعاب العقل بالتفكير والتحليل فتتصور أن حلول مشاكلها هي بتوفير المال وتُهمِل توفير الخطط وكل ما تفعله هي أنها تسلّط مجهرها على ما تعانيه بحياتها اليومية، وحين يغيب العقل لا تعود هناك حاجة للبرهان، فالقضايا الكبرى التي تحرّك الشارع هي في الواقع قضايا هامشيّة ولا معنى لها عند الآخرين إنما تكتسب أهميتها في هذا المجتمع لكونها تعطي الذريعة لفئة لإقصاء الأخرى حتى لا تشاركها في "رفاهيتها" فتسجّل امتيازًا للفئة الأولى عليها، ومن هنا ينحصر دور السياسي غالبًا في إثارة الشارع وتزويده بالقضايا اليومية بدلاً من التشريع والمراقبة، ولا يحتاج لمهارات كثيرة حتى يقوم بهذا الدور.

افتقاد المهارة سمة أساسية في المجتمعات المرفهة، وحين تفتقد المهارة فإن الشخصية المميزة لا يعود لها وجود لذلك يتميّز المجتمع المرفه بالمحاكاة والتقليد، فقضاياه وشعاراته وأهدافه وتحركاته هي مجرّد محاكاة لواقع الشعوب الأخرى، وغالبًا ما تكون تقليدًا مطابقًا وليس مطورًا حتى في مطالباته عنها، فهو يثير الناس بما يمس حياتهم من سوء الخدمات ثم يستغلهم في تدعيم قضايا أخرى لا تتعلق بها إنما تتعلق بأهداف السياسي وتياره في الوصول إلى نسبة أكبر من التحكم بموارد السلطة. إنّ حال المجتمع المرفه في هذا الأمر كحال الطفل الذي يُعجب بشكل السيجارة في يد البالغين فيقلدها دون أن يعلم أن البالغين إنما أدمنوا عليها لحاجتهم الملّحة لما فيها لا لحبهم لها ورغبتهم بها، والإنشغال بالمحاكاة يجعل الذهن مشغولاً بأدق التفاصيل لتقليدها بينما لا يلتفت إلى القضية الكلية وهي أن كل ما يفعله هو مجرد صناعة للوهم لا صياغة للواقع.

7 يوليو 2012

الحرب هي الحل!

أكثر ما يخافه الناس ويخشونه هي الحروب، بنظرة إلى أدبيّات الأدباء وانتاجهم في الفترات التي تسبق الحروب حين يلف صمت العاصفة جميع الأنحاء تنبؤك بمدى الإحساس المفزع الذي ينطق على ألسنتهم، وحالة الإنعدام للوزن والطفو وعدم الاستقرار التي تستحوذ على أقلامهم، رغم فزع هذه التجربة إلا أنها في أوقاتٍ كثيرة من تاريخ الإنسانية تصبح هي الحل الوحيد الذي لا بد منه لإعادة رسم العلاقات الإنسانية وبناء منظومات التعايش من جديد، إنّ حالة الحرب بهذه اللحظة تصبح مطلوبة رغم مرارتها لأن الداء قد استفحل ولم يعد علاجه متاحًا إلا بأمّر دواء يمكن أخذه.
إن النّاس ينتجون واقعًا وما يلبثوا أن يصبحوا مأسورين لهذا الواقع، وبدلاً من أن يرسموه هم، يعيد هو رسمهم وتحديد مهامهم بالحياة وما عليهم فعله، ولا يمكنهم الإنعتاق من هذا الواقع إلا بالثورة عليه. إن الظروف التي تجمع الناس على أمر ما هي نفسها تمامًا التي تفرقهم بعد ذلك عنه، حين تتداخل رغباتهم بأمنياتهم مع أهدافهم وتجد أوضاعهم النفسية مجالاً للتعبير عنها خارج دائرة الجموع البشريّة، يُعاد التمترس خلف نفس الأسباب التي خلقت الواقع الأوّل لتبرير إعادته من جديد بعد الثورة عليه.
حين يقول لنا التاريخ بأن «الثورة تأكل أبناءها»، فإنّ الفهم العام هو أن الصراعات تبدأ بالبروز بين أصحابها تبعًا لمطامعهم في السلطة فيصبح بأسهم بينهم، ولكن القراءة الأخرى لهذه المقولة تقول بأن حالة الثورة هي حالة تشكيل عقيدة واحدة لمحاربة عقيدة أخرى، وما أن تنتهي هذه الحرب يرجع الناس لعقائدهم الحقيقية الكامنة في أنفسهم، ولكن لأن شرعيتهم إنما استمدوها من تلك العقيدة الواحدة يبدأ كل طرف بإعادة تأويلها لتناسب العقيدة الكامنة في نفسه،  باختصار هي نوع من إعادة انتاج الذات تحت اسم جديد ليمكن تسويقها مجددًا، كل ما يمكن قوله عن مقولة أنّ «الثورة تأكل أبناءها» هو أنّ بعد الثورة يخرج الثائرون من حالة القطيع إلى حالة الإنسانية، أي من حالة عيش «اللحظة باللحظة» إلى حالة «العودة بالذاكرة» لاستذكار كل المخزون النفسي والمعرفي المختبئ فيهم.

  بعبارات أبسط، يمكن القول بأنّ أي واقع ينتجه الإنسان من خلال النظام الذي ينصاع له يصل في مرحلة ما إلى الاستهلاك التام ولا يعود قادرًا على بعث الحماسة له في الناس، ولا هو قادر على توليد المزيد من التحديات التي تشكل حافزًا لجمهوره لأن يستمر فيه فيصل إلى درجة الإنهيار أو شبه الإنهيار على أقل تقدير. تصبح الحياة رتيبة، روتينية، مملة إلى جانب كونها محملة بالأثقال تسحق البشر بحجم الفساد والصراع اليومي للحصول على لقمة العيش والإحساس بالكرامة الإنسانية ومملوءة بإعادة اجترار ذات القضايا يوميًا في دوامة لا تنتهي، يصبح العيش مرهونًا بمقدار التذمر من المشاكل الحياتية، وبحسب تعبير هوفر «عندما يسرف المحبطون في اتهام الحاضر وانتقاصه فإنهم في حقيقة الأمر يخففون من وطأة إحساسهم بالفشل والعزلة وكأنهم يقولون أن العيب ليس فينا ولكنه موجود عند كل معاصرينا»، وكأن مشاركة الإحساس بالسوء ستقلبه للأفضل!

  إنّ هذا الإحباط بقدر ما يبعث الراحة في نفوس أصحابه عند التشكي بقدر ما يوّلد كراهية شديدة للواقع بحيث لا يُرى في الثورة إلا مخرجًا وحيدًا. إلا أنّ الثورة في حدّ ذاتها تمثل دائمًا قلقًا ملازمًا للإنسان لأنها فعل لا يمكن التكهن بنتائجه، والإنسان جبان بطبعه يفضل العيش متناغمًا مع ألم ما يعرف نتيجته على تحمّل قلق ما لا يعلم نتيجته. هذا التفاوت في الشعور هو العلامة المميزة للمجتمعات البشرية عمومًا، وهو ما يجعل التوتر ملازمًا دائمًا للوضع الإنساني. وهذا ما يشكل الحافز الأكبر للإنسان غالبًا لصنع عوالم جديدة تجعله يمتلك الإحساس باللا محدودية، فينشئ أحزاب ثورية، وجمعيات نفع عام، ويختلق قضايا إنسانية، ويستهلك نفسه في حركات جماهيرية أو تنظيمات سرية يحاول من خلالها إيجاد معنى لحياته بالدعوة لما يعتقده يشكل ثورة على واقعه الحالي.

  الفهم المحدود للثورة على أنها عملية انتزاع نظام حاكم واجتثاثه هو فهم منقوص لا يوفي لكلمة الثورة معناها الحقيقي. هي كلمة تشير إلى الحاجة إلى إحداث تغيير ولو بشكلٍ صوري، بعض علماء الاجتماع يعتبر الانتخابات الرئاسية والنيابية ثورات مصغرة استبدلت الرصاصة بورقة الاقتراع [ولكن هل انتهت ثورات البشر لهذه السلمية؟]، في بلدان أخرى لا صوت للانتخاب فيها تظهر الثورة على شكل تغييرات اجتماعية يلمسها الإنسان في محيطه وحياته اليومية، ولا يرتبط مفهوم الثورة بالإيجاب دومًا بل في كثير من الأحيان تأخذ الثورة صورًا سلبية كما حدث في ثورات الهيبيز بعد الحرب العالمية الثانية واشتدت مع حرب فيتنام، فالثورة هي تعبير عن رفض الواقع لمن يتملكه الإحساس بالندم لكونه يشكل جزءًا من هذا الواقع.
  
 الحلم بواقع أفضل، ومن لا يحلم بذلك؟، والرغبة بتحسينه في المستقبل هي الدافع الأكبر وراء سعي النّاس لإحداث التغيير، ولكن ذلك ليس إلا بالسعي نحو إحداث الكراهية، إن النّاس يعشقون الكُره بقدر ما يتحدثون عن الحب! مهمّة السياسي غالبًا هي أن يزرع فيك كره الحاضر «كأنه أورغ بشري يطلق نفس الدعايات عليك على مدار الساعة المرة تلو الأخرى مكررًا الكره .. الكره .. لنكره أكثر وأكثر حتى تشعر أن شيئًا ما دخل إلى جمجمتك وهو يطرق على دماغك بقوة»، هذا ما كتبته جورج أورويل واصفًا الوضع السياسي في بريطانيا قبل أشهر من بداية الحرب العالمية الثانية! لا يختلف الوضع في أي مكانٍ آخر. تمتزج مشاعر الكراهية مصاحبة لمشاعر الغيرة، ولا بدّ من ترميز كلٍ منهما برمز يشير إليه، بدولة أو شعب أو عرق أو مذهب أو فرد أو سلطة، لاحظ ذلك جيدًا في الخطابات المتصدرة دائمًا ما يقترن ذم الواقع الحاضر بمقارنة مع من هو أفضل، أو بمن اتخذ خطوة عجز الناس عنها هنا لسبب أو آخر، وبتحميل السبب على رمز تختزل فيه كل المساوئ، وثنائية الكره والغيرة هذه تهيء النفوس وتحصرها في قالب يبحث عن التمرد ويطلبه حثيثًا بيد من كان، وبأي صورة يكون. قد لا تتصور قيمة الغيرة إلا حين تعرف أنّ كثير من أفعال الإنسان إنما يُقدم عليها لأنه لا يريد أن يرى نفسه أقل ممن أقدم عليها، إلا أنّ خطورة مثل هذه المشاعر تكمن في أنها تنشيء عقلاً خاصًا بها لا يتحدث بالمنطق إنما يتلاعب بالعاطفة، لذلك تغيب الحلول الواقعية والخطط الواضحة وتحضر بدلاً منها شعارات خطابية ووعود انتخابية وثورية سرعان ما يمحوها الواقع بأول اصطدام معه.
الرغبة العارمة بالوصول إلى الأفضل في المستقبل عند النّاس حين تتحوّل إلى بضاعة سياسية يتم اغفال تحديد معنى الأفضل، لأن تحديده يعني الوصول إلى نقطة نهاية حين لا يعود للمزيد من الحديث عن الأفضل وانتقاد الحاضر التأثير السحري على تحريك الناس، وهذا يُسقط أهم أسلحة الإبتزاز بين السلطة، أي كانت، وبين المتكسبين من أفعالها. لكن دوام هذا الإبتزاز، والحث على المزيد من الكراهية وسوداوية الواقع مع العجز عن تغييره واقعًا، كما نرى في مجمتعات كثيرة، يُلجِئ الناس إلى الحل الأخير: استجداء الحرب.
من الغريب أن ترى الناس يطلبون الحرب بل ويستجدونها لكن ابحث في الخطابات حولك، وفي أحاديث العوام، وسترى أن الخوف من الحرب هو الدافع الأكبر لاستجدائهم وطلبهم إياها، فحين يرتفع سقف خطاب الكراهية والإقصاء ويزداد جبن النّاس عن وضع حدّ لذلك، وحين يصبحوا مجرد محركات يتلاعب بهم «عقل العاطفة» المفعم بالسلبيات التي زرعها السياسيون والمتكسبون من تلك الخطابات، لا يرون أمامهم إلا الحرب لتهدم كل شيء على أمل بمستقبل أفضل يأتي بعد إزالة ذلك التوتر، كما يتوهمون. إن ثورتهم هنا بعد أن عجزوا على تحقيقها في أنفسهم، يطلبونها بغيرهم، إن عطالة واقعهم وكرههم له يجعلهم يطلبون هدمه لأنهم أعجز من إعادة ترميمه، على أمل بمستقبل أفضل يعيدون بنائه بعد تدمير كل شيء .. ولكنّ طول الأمل حماقة، وثمن الحماقة لا يُعرف إلا بعد ارتكابها!

19 أبريل 2012

التدّين في زمن الإنحطاط


 «أَي بُنَيّ، إنّي ـ وإن لم أكن عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كان قَبلي ـ فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسِرتُ في آثارهم، حتّى عُدّتُ كأحدِهم، بل كأنّي ـ بِما آنتهى إليّ مِن أُمورِهم ـ قد عُمِّرتُ مع أوّلهم إلى آخِرِهم، فعَرَفتُ صَفْوَ ذلك مِن كَدَرِه، ونفعَه مِن ضَررِه»
 أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

المتتبع لسير التاريخ لا يلحظ اختلافًا جوهريًا بين ماضٍ سحيق أو حاضر قريب، إننا في قراءتنا للتاريخ غالبًا ننظر للعامل المتحرك ونعتبره المقياس وننسى العامل الثابت، نُثبت الزمان وتغيراته وتطوراته وننسى الإنسان وثبوته، بذاته وحاجاته ورغباته. نرى ارتفاع البنيان وتفرّع العلوم وتطوّر الأدوات ونغفل عن رؤية أنها كلها أشياء مرتبطة بعامل واحد لا يتغيّر ولا يتطوّر وهو الإنسان، وأن ما يعتريه ممّا نعتبره تطورًا هو إعادة تكيّف مع الواقع، كما يتكيّف المرء مع البرد بإثقال ملابسه وإلاّ فإنه إن نقلته من القطب الشمالي إلى الربع الخالي ظل كما هو لا يطرأ عليه تغيير بداخله ولا يعتريه تبدّلٌ بجوهره.

إن صحّ القول، أمكن أن نقول بأن التاريخ البشري بأكمله هو كالممثلين الثانويين في المسارح، طوال العرض لا يتغير فيهم شيء سوى مظهرهم ليناسب المشهد الذي يكونون فيه، فهم مجرد عِيال على الواقع. لابد من الإلتفات إلى هذه الحقيقة البديهية المغفل عنها حتى نفهم أن مسألة إعادة التاريخ لنفسه ليست لأننا محكومون بثوابت من حولنا لا يمكن لها أن تتغير، بل لأننا نحن الثابتون الذين لا نتغير، إنّ التاريخ لا يعيد نفسه لكننا نحن نعيد الإلتفات لأنفسنا في كل حين لنتفاجئ أننا كمثل الماكث على رمال متحركة مهما أعمل رجله في الأرض حتى ينهكه التعب يكتشف أنه لم ينجح إلا بإثارة الغبار وتضييق الرؤية وزيادة الغرق!

لستَ بحاجة لأن تعيش كافة التجارب حتى تكتسب ما فيها، ما يُقال عن ضرورة ذلك هو نوع من الفذلكة يستخدمها الناس ليقنعوا الآخرين بضرورة الخطأ وليبرروا لأنفسهم أخطاءهم بأن حتى الآخرون يرتكبونها. لا تحتاج لأن تحرق نفسك حتى تعرف أن النار محرقة، إنما الواقع الإنساني المؤسف يقول أننا كبشر نعيد إحراق أنفسنا مرة تلو الأخرى بذريعة التعلّم، ولكن ما فائدة تعلّم الدرس بعد أن رسبت فيه؟ أقرأ التاريخ، وأرى حالات الرسوب تتكرر لا لضعف الأستاذ إنما لبلادة الطالب. أذكر كلمة للشهيد الصدر الأول وهو يشرح سنن التاريخ: العقاب الأخروي دائمًا ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.

لكن ما هو العقاب الدنيوي؟ هو أن تستوعب أنك لا زلت بمكانك، بدلاً من أن تقضي على الحروب تضع القوانين التي تنظمها، وبدلاً من أن تستند لأبنائك لتشارك الآخرين، تغرر بهم لينضموا إليك بعد أن تجد لهم هوية جامعة جديدة، لتغزو المقابلين لك وتسجل انتصاراتك عليهم. أنك لا تختلف عن جدك الذي كان يعيش في كهف الظلمات وأنّ جلّ من فعلته هو أنك أنرت هذا الكهف بالكهرباء. باختصار أنك نميّت ما تسميه بالحضارة لا لترتفع بواسطتها نحو الإنسانية التي هي بحقيقتها أفضل من الملائكة ولكن لتستغل ما ينتج منها في الاستقواء والاستعلاء على الآخر ومن ثم النزول إلى درك البهيمية أكثر! .. ما أبشع أن تكون «الدرر تحت أقدام الخنازير»، كما يصرّح إنجيل متّى، هذا هو أسوأ عقاب يمكن تصوّره.

ليس من السهل أن تعترف بقصورك، فما بالك أن تعترف بجهلك؟ إنّ الإنسان عليه أن يقاوم نزعة الاستعلاء الكامنة فيه، ونزعة الشعور بالأفضلية على باقي المخلوقات حتى يمكن أن يعترف بجهله، وهاتان النزعتان ليس من السهل مقاومتهما لأنهما تتسلحان برغبة وهوى الإنسان وتتدرعان بذاكرة تاريخية عميقة من المبررات التي يصيغها الإنسان لإعطاء معاني رفيعة لسلوكياته المنحطة. ولهذا دائمًا يتصور أنّ الحلول موجودة عنده وما عليه إلا تنفيذها، وليست الحلول في الواقع إلا ردّات فعلٍ لا أكثر.

إنّ التاريخ البشري تحكمه نمطية ظاهرة للعيان، لا تحدث هذه النمطية بسبب تشابه المعطيات ولكنها تحدث بسبب غباء الفعل الإنساني المتكرر، إنّ أي سلوك هو في الواقع علة لسلوك آخر يقع على الطرف الآخر المقابل له. ظهر التبتل المسيحي كردة فعل على الإنحلال الأخلاقي في عهد كومودوس، كما ظهر التصوّف كحلٍّ لشيوع الفجور والترف في المجتمع الإسلامي، وصورة الدين هذه التي ولدت في الحالتين هي تعبير لإعتراض الناس على واقعهم ورفضهم إيّاه وليست قبولاً واقعيًا بالدين وأحكامه، تمامًا كما سجلت المجتمعات الفقيرة اعتراضها على سحقها من قِبل الأغنياء بالإيمان بالشيوعية والإشتراكية حتى إذا وصل أفرادها للسلطة سحقوا كل من طالبهم بالشياع والمشاركة!

يذكر التاريخ أن «الطاو أو التاو»، الصراط –الصيني- المستقيم هو  ردة فعل لاو تسي على تطواف الرجال والنساء عرايا في مملكة تشو شين بالصين القديمة، هكذا، تسير نمطية المجتمع الإنساني، نزاع بين إنحلالٍ وإنغلاق، يلجأ للدين ليعترض على الترف والإباحية، لكنه لا يؤمن واقعًا بالدين لأنه إنما يريد منه وصاياه في الزهد، وأوامره في الإعتدال، وطريقته في تطهير النفس من أدران المجتمع، أمّا الدين كإيمانٍ حقيقي، ومنهج واقعي، ونظام إلهي فإنه مرفوض لأنه يسلب من هؤلاء الذين يدّعونه أهم ما يمتلكونه وهو الإدعاء بالإرتفاع عن مشاركة المجتمع في تفاهاته، والواقع هو أنهم يمارسون هذه التفاهات كأقرانهم لكنهم يريدون التميّز عنهم بصورة الورع والتقوى. فلا عجب أن تقرأ في التاريخ عن أحدهم أنه كان ورعًا فقيهًا قاضيًا للقضاة .. لوطيًا! فهو يمارس ملذات مجتمعه وينغمس فيها كغيره لكنه يتصور بأن إدعائه القضاء باسم الله هو تطهير له من هذا العيب، وغريب هو كيف أنّ من كان منغسمًا في ملذاته حتى المباح منها عادة ينقلب ليصبح الأكثر تزمتًا في ظاهره، فهو في كلا الحالتين واحد إنما ثوبه الذي يرتديه أثناء تزمته اختلف فقط .

عصور البشرية إلى اليوم هي عصور إنحطاط مستمر، تخللتها قمم ارتفعت عن هذا الإنحطاط، لكنها كانت قمم فردية مثّلها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، بينما ظل باقي الناس يمارسون إنحطاطهم حتى إذا وصلوا مرحلة لم تعد فيها الأوضاع تطاق تصوروا الحل بالإنقلاب عليها، وهم واهمون لأنهم ظلوا يمارسون نفس سلوكياتهم وبنفس الدرجة إنما هذه المرة من الطرف المقابل مثلهم كمثل الفايكنج حين كانوا يضعون الصليب على صدورهم ثم يصلون له كما كانوا يصلون للإله "ثـور" قبل معاركهم!. إنّ الإحساس بثقل الذنب ومدى الإنحطاط يدفع الناس إلى الرغبة بالتطهر من دنس المشاركة فيه فيلجؤون إلى إدّعاء الدين، الصراط الربّاني القويم، لا رغبة بالوصول من خلاله إلى الرب جل وعلا إنما رغبة بالهروب من المسؤولية عن الواقع لذالك كلما طال زمن الإنحطاط كلما زادت مظاهر الدين القشرية ظهورًا، وإزداد الناس تزمتًا بها وتكالبًا عليها.

موجات التدّين الظاهري والتزمت الأخلاقي دائمًا تأتي متزامنة مع الشعور الطاغي بضرورة التطهر للتخلص من تبعات الفساد المنتشر الذي لا يطاق، فكلما زاد الفساد إزدادت القيود الأخلاقية والمظاهر الدينية حتى إذا وصلت لدرجة الإختناق عاد الإنحلال والفجور أسوأ مما كان عليه، وهكذا يعيش البشر إنحاطاطتهم على مدى التاريخ ما بين المطالبة بالحرية للتخلص من قيود التزمت الديني، وما بين المناداة بضرورة الإنضباط الأخلاقي لإخلاء المسؤولية من فلتان الحرية الواسعة وخطرها، وما بين هذه المتوالية المستمرة يظل الدين وحيدًا يعاني في غربته من إستئكال الناس باسمه، ما بين ذامٍ له للتخلص من ضوابطه أو مادحٍ له للوصول إلى غاياته الخاصة، فانحياز الإنسان لمشروع الشيطان كان ولا يزال، وهكذا «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»

28 مارس 2012

الطائفية أفيون الجماهير

الدين أفيون الشعوب (حرفيًا هو الشعب!)، مقولة حين نطقها ماركس كان يشير فيها لما وراء قناع الحياة وصراعاتها المادية إلى هذا الإنسان اللاهث خلف سؤال (كيف يعيش؟). مثّل الدين بالنسبة لماركس تنهيدة المضطهد، وقلب العالم الخالي من القلب بسبب صراع الطبقات فيه وطغيان البرجوازية والروح التي يلجأ إليها المستضعف .. إلى آخر هذه المصطلحات التي انتشرت في أزمنة البؤس الإنساني المعاصرة لتفسر حب الإنسان وميله للغلبة والاستخدام، أو (استثمار القوي للضعيف).
الكلمات حمّالة أوجه، وهي قابلة لإخضاعها للفهم المتعدد بحسب زاوية النظر إليها، إنّ كلمة ماركس هذه ليست خارج هذه الدائرة، فقد استغلّت في إظهار موقف الشيوعية من الدين، واستغلّت في إظهار موقف الدين من الشيوعية، وفي الحالتين كان التأويل يُستخدم في صف فئة ضد الأخرى، وفي غمرة ذلك ضاع الهدف من النّص.
حين بدأ التحوّل مع عصر النهضة في أوروبا برزت على الساحة إشكالية الدين متمثلة بالتسلّط الكنسي على الدولة، حيث باتت إدارة الدولة تأتي بأوامر الرجل المتحدث باسم الرب وإنطلاقًا من هذا الإنسان الضعيف باتت إرادة الله تُحدد، وكأنّ مقام الألوهية -والعياذ بالله- صار تابعًا لمقام الإنسان، لا العكس. وهكذا صودرت أهم خصائص الدين، ما تكرر كثيرًا في تاريخ الأديان! وإن شذَ الإسلام بتلّسط السلطة على الدين ونطقها بلسان الله سبحانه!
متابعة التاريخ البشري تنبؤنا بأن الدين لم يفارق الإنسان لحظة واحدة في تاريخه، ففي قبال هذا الوجود العظيم المحيط به، وإحساسه المتزامن مع ذلك بالضآلة، كان الدين الملجأ الموضوع للهداية. تأمل كلمة الهداية وستجد أنها متضمنة الراحة، وما ذلك إلا لأنه يُيَسّر مقابلة الناس للحياة، ويزودهم بالإطمئنان، والراحة في ظل ما يعصف بهم من جهالة المستقبل.
الإرتباط العاطفي الكبير بالدين، أحد أسبابه هو هذا، محبة الإنسان للراحة والدّعة والسكينة. لن تجد غرابة في وجود إرتباط عاطفي للشخص مع غرفة في منزله، أو فئة في مجتمعه، أو حتى وسادة لا يهنأ له النوم إلا عليها وليست المسألة في ذلك إلا الشعور الطاغي بالألفة والإستئناس، ودفع الإحساس المُلح بالتوتر، ومن ثم الإرتباط العاطفي. الأفكار ليست خارج هذه الدائرة، بل قد يكون هذا هو سبب من أهم الأسباب التي تجعل الأفكار قابلة للخضوع بصورة أكبر للعاطفة، ولكنّ هناك مائِز وهو أن الأفكار ليست كيانات ماديّة/محسوسة إنما عقلية/شعورية، تعيش مع "الوجود الإنساني" ولا تموت مع "الإنسان" ذاته، فمعدّل أعمارها لا يُقاس بأعمار الماديات المحكومة بالإنتهاء والتلاشي.
من هنا، كان الدين أفيون الشعوب، فهو بقدر ما يُشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة بقدر ما يكون محفزًا ومُهيّجًا، ومثيرًا لأن يندفع الإنسان في التماهي مع الشعارات المنسوبة له وإن كانت «كلمة حق يُراد بها باطل» لتسيطر على العقول، قبل النفوس، وتحولها إلى مستقبلة ومنفعلة بدلاً من أن تكون  مرسلة وفاعلة. والتخلص من الدين لا يحل المشكلة إنما يستبدلها بمشكلة أخرى فإن طبيعة المجتمع تفرض نوعية الصراع فيه، ويتحول الصراع وفقها من شيعي/سني إلى صراع يميني/يساري، ديني/علماني، وحتى فئوي/قبلي، وحزبي/حزبي، فالهدف الأساسي يتمثل بالوصول إلى مركز القوة ومن ثم فرض الرؤى على الآخرين بواسطة قوة هذا المركز، وهذا هو حب الإستئثار والأنا.

إنّ خطورة الطائفية ليست في كونها مادة خصبة للصراع، فهي تشترك بهذا الشيء مع كل نُظم الإنسان وأفكاره، إنما خطورتها تكمن في قابليتها السريعة للاشتعال. إن الطائفة هويّة تعطي لحاملها حق الإنتماء في محيط ينسجم معه، ويعبّر عن نفسه فيه دون أن يشعر بالتوتر الناشيء من الإحساس بالاختلاف والنبذ، ومن ثم الأمن والراحة، وهنا مكمن الخطر. فالحروب الطائفية، ومثلها الأهلية، هي تصرفات لا إرادية من الناس، يندفعون لها بلا وعي، لأن الدين، ومثله أي فكرة يتم إنزالها بمنزلته، هو العمق الدفاعي والدرع الواقي لحامله في قِبال هذا العالم بأسئلته، وتساؤلاته، وتحدياته، وهو «الأفيون» الذي يعطي القوة والشجاعة للإنسان للوقوف ومجابهتها، ولذلك فإن الناس على استعداد للقتل والتدمير في سبيله لأنهم يتصورون في سلبه، سلبٌ لراحتهم ومصدر قوتهم.

السياسيون، يستغلون صراع الهويات هذا في تحقيق مكاسبهم، والحسابات السياسية لا تختلف عن حسابات التجار في دفاترهم، كلها متعلقة بالربح والخسارة، وكلما كان الربح أسرع كان الإقبال أكثر. لذلك كانت ولا زالت القضايا الطائفية هي المفضلة لهم، والتهويل والتضخيم والتخويف هي بضاعتهم المفضلة. إن المجموع البشري مجموع خائفٌ بطبعه، يتوجس من كل شيء ولا يشعر بالاستقرار، ومع إزدياد تحدّيات الحضارة، وتقلبات الدول ينعكس ذلك الواقع على الفرد، وهذا ما التفت إليه صامويل هانتغتون، فالصراع في ظل العولمة سيتحول إلى صراع طائفي تتزعمه الحركات المتطرفة.

تردي الواقع السياسي، والتنموي، وتعاظم الصراع على مكامن الحكم والقوة ودخول الدول في سلك العطالة كلها أسباب تزيد من توترات الناس، وفي الوقت الذي يحاربون فيه الإنفتاح على العالم يعانون من تملك الإحساس بالتوجه نحو المجهول، والخوف من مؤشرات الإنهيار، وباجتماع هذه العوامل يكون الدين – بمعناه العام- هو الكهف الحصين في وسط هذا العالم، وهو ملجأهم الأخير، فالعزف على وتر الطائفية وإذكاء روحها بواسطة السياسيين هو استغلال لمخاوف الناس في سبيل استثارتهم واستغلالهم خدمة لأهدافهم. معظم الطائفيين يعبّرون بطائفيتهم الإقصائية عن مقدار الخوف والتذبذب الذي يعتريهم ويكمن في نفوسهم أكثر مما يعبر عن يقينهم بصوابيتهم، إنّ معدل إذكاء الطائفية يتناسب طرديًا مع معدل التردي الاجتماعي، فكلما زاد الأخير إزداد الأوّل، وهذا بسبب أن الفراغ ينقل الإهتمام من الإنتاج إلى الأفكار المجردة، وفي عصر باتت الجماهير هي من تقود الحضارة، فإنه من الطبيعي أن يكون مقود التحكم بهذه الجماهير هو أكثر الأفكار نزوعًا للمثالية التي تغذي إحساسه بالكمال بعيدًا عن هذا العالم الذي لا يتمتع به، الدين.

الأفيون هو في الأصل دواء تحوّل إلى داء، وإدمانه يخرجه من دائرة الفائدة إلى دائرة المضرّة، وهكذا هو الدين، كلما انحصر في الطقوس المجردة انفصل تطبيقه العملي عن الواقع الاجتماعي، وتحوّل إلى عامل محفز مهمته تحريك الجماهير، فالتلاعب بمخاوف الإنسان يخرجه من حالة الإنسانية إلى حالة الوحشية حيث لا يعود للآخر حرمة، ولا للقانون هيبة، ولا للدماء عصمة، والتاريخ يقف شاهدًا على أنّ أعظم الحروب نشأت من أطماع فئة قليلة، أرادت اشباعها بتحريك الجموع الغفيرة من خلال اشعارها بالتهديد في وجودها.


الطائفية تارة تظهر بصورة معارضة سياسية وأخرى بصورة صراع طبقي وثالثة بصورة تنافس اقتصادي واجتماعي، بالنهاية هي وجه يختبئ تحته عشرات الأقنعة، فهي العنصر الجامع لكل ما يُشكل الإنسان، والتلاعب فيها هو كالسير على حافة جبل لا يضمن الفرد فيه أن تُسقطه منها حصوة صغيرة، وبقدر نسبة النشوة التي تثيرها بقدر نسبة خطر الموت الذي تمثله كل جرعة منها، فالطائفية هي أفيون الجماهير، تعلم بخطرها وتستلذ بها لأنها تتصور فيها تطهيرًا لأنفسها من مسؤولية الإنحطاط الحاصل، وانفصالاً عن احباطات الواقع، ودفاعًا عن آخر خطوط الإحساس بالقيمة في هذا الوجود!