25 سبتمبر 2008

حطيتوا " الحجوه " بحلجه .




ليس من عادتي أن أكتب عن أمثال كاردينالات القرون الوسطى إلا في حال الذكر التاريخي أو للاستشهاد فقط ، فالتاريخ واضح بأن هؤلاء لم يكونوا أكثر من كسبة باسم الدين فلا همهم علم و لا كان غاية أملهم دولة ، أو حتى الإلتزام بمبادئ الدين من باب أنها الطريق القويم للمجتمعات في حينها ، كان همهم هو السيـطرة ، و جمع المال و لا شيء أكثر من هذا .


قلاعهم و كنائسهم و أديرتهم كانت باذخة و ما وصلنا منهم اليوم يثبت التفاوت ما بين حقيقة الدين الذي يدعون إليه ، و ما بين واقع ما عملوه ، فالطمع و الإنتهازية و المصالح الخاصة هي ما حركتهم و لا شيء آخر ، لا أظن أنني أستطيع أن أزيد على ما ذكره نيكولا ميكافيلي في كتيبه ( الأمير ) حين بدأ الحكاية عن الولايات الدينية في الفصل الحادي عشر .


و لأن الزمن دوّار ، و لأن كل شيء يرتبط بدائرة أو بالأحرى حلقة تعيد نقطة البداية كل تارة و أخرى فما نعيشه اليوم نحن هو ارهاصات تماثل ما عاشته البندقية و روما قبل مجئ البابا يوليوس الذي بدأ حقبة الباباوية الحاكمة .


النائب المحترم محمد هايف المطيري انتفض و امتطى صهوة جواده وسن رماح أقلامه و شحذ عضلات لسانه ليبدأ حربه الهوجاء ضد موقع YouTube الذي سمع اسمه لأول مرة حين تم ذكره على صفحات الجريدة ، و لم يكن هذا منه إلا من بعد حركة غبية قام بها البعض للحث على استخدام الوسيلة الوحيدة التي تفتق عنها ذهنه لمحاربة الإلحاد و الرذيلة - و هي اسهل طريقة لكسب التعاطف في مجتمع يحب مظاهر التدين أكثر من الدين ! ألا و هي الـمنع .


رغم أن القرار تم التراجع عنه ، إلا أنه أصبح يشكل مكسبًا جديدا لشخص غاية الدين عنده هو أن يتم " تعليب " عقول الناس حتى يلاقوا ربهم ، و ليس أفضل من ذلك إلا سلوك سبيل الدفاع عن الدين و الأخلاق ، فهما مطية كل من لا مطية له في هذا الزمن ، فموقع يوتيوب صار حجبه واجبا شرعيا و وطنيا ( صدق أو لا تصدق لم ينطقها " وثنية " بل قال " وطنية " ! ) ، و كأن أزمة البلاد هي في موقع على شبكة الانترنت يهدد دين و اخلاق و بقاء الكويتيين .


يا سيد هايف ،


الخمور تصنع من البطاطا و التمور و العنب ، و الطعام يصنع منهم !


المخدرات تصنع من نبات الكوكا ، و الأدوية كذلك !


الأوراق تطبع عليهم البلاي بوي ، و كذلك تصريحاتك !


التلفيزيون فيه الشوتايم ، و فيه فتوى قتل الفأر !



عفوًا يا سيد هايف ، و لكن ..



في عهد الأمويين كانت هناك دور البغاء .


و في عهد العباسيين كانت ألف ليلة و ليلة .


و في عهد العثمانيين كان هناك ( الحريم ) .


و في عهدنا الحالي يتندرون بحوادث ( الـرميلة ) .


فانت يا سيد هايف تعيش بزمن أنا أجزم أنه الأكثر إلتزامًا في الصورة العامة مما كانت عليه المجتمعات طوال 1400 سنة في منطقتنا !


بل أنت تعيش في مجتمع " ملائكي " إن قارنته بعهود من سبق ذكرهم ، فلا ملحدين يناظرون علماء المسلمين في أوساط بلادهم ، و لا حكام يصلون الصبح أربع ركعات ، و لا أدباء يعارضون القرآن بكتبهم ، و لا شعراء يصفون الحكام بصفات الإلوهية ، و لا شعوب تموت من الجوع في الأحياء الجنوبية بينما يمشي العسس في الأحياء الشمالية ليضمنوا بقاءها نقية منهم ، و لا دور بغاء مرخصة من الدولة و يرتادها من يرتادها ، و لا حوانيت تبيع و تنشر مخمّرات التمور و الأعناب ، و لا جواري يطربن أبناء الفريج ، و لا غلمان يباعون كما يباع الرقي على أرصفة الدائرة الرابعة .


فماذا تريد أكثر من هذا ؟


أن تريد أن يتخلى الإنسان عن إنسانيته بكل ما فيها ، فهذا مستحيل .. فالإنسان خلق .. عجول ، هلوع ، ظلوم ، جهول ضعيف ، كفار ، كنود ، يؤوس ، مُعرِض ، قتور ، مجادل ، فاجر .


و ليس المطلوب منّا أن ننصب قضاةً من أنفسنا عليهم نحدد ما يكونوا أو ما يصبحوا ، أُمرنا أن نأمر بالمعروف و ننهى عن المنكر و لم نؤمر بأن نجبر الناس على المعروف و ندمر المنكر و أهله ، و إلا لما بقي أحد على وجه البسيطة بما فيهم أنت يا نائبنا الفاضل !


و أن تريد أن تنصب نفسك مرشدا للناس فالإرشاد يكون بالكلمة و التعليم، و أن تريد أن تنصب نفسك وليًا على الناس فولايتك محصورة بمن أرادك إلا إن اردت ابتداع قاعدة جديدة فيها.


يا سيد هايف ،


تذكر أنّ الله سبحانه قال لنبيه ( لست عليهم بمصيطر ) ، لأن البشر لم يخلقهم الله سبحانه ملائكة !


أرسل الله سبحانه رسوله الكريم ليكون مبشرا و نذيرها و داعيا إلى الله و سراجا منيرا ، حتى يتم الله حجته فيكون له الحجة البالغة إن اختار الإنسان أن يكفر أو أن يؤمن ، و لم يرسله ليكون عذابا على بني البشر في الدنيا .

هناك أوليات لا يجب أن تهمل على حساب اثبات الوجود في الصراخ على " مواقع إليكترونية " وضعت للخدمة العامة ..

فالأولى أن تنشغل فيما يهدد الوطن و البلاد حقا من عنصرية و سرقات و تفكك بدأب يضرب أطنابه في الكويت ، و أحد معاوله بيدك !


و الأولى أن تتحول غيرتك " الدينية " و " الوطنية " هذه إلى فعل يثبتها على أرض الواقع ، لا أن تكون مجرد كلمات تخرجها من الأدراج حين تمارس هوايتك في المطالبة بالمنع و التكميم لأن قدرتك على الرد و التربية منعدمة .


و الاولى أن تقرا تاريخك و تاريخ هذه الامة و تاريخ الأمم الإنسانية كلها لتعرف أن فرض مظاهر التدين لا يعني تديّن المجتمع ، و أن المنع لا يعني أنك سلمت من النقد ، و أن التكميم لا يعني أنك لن تُجابه ، فهذه الأساليب كلها تهاوت حين تهاوت أطراف جدار برلين ، و لكن كما يبدو أن الخبر لم يبلغ مسامعكم !

.
.





ينتخب الناس نوابا ليكونوا مشرعين و مراقبين، و ننتخب نحن نوابا ليكونوا علينا ( أنبياء ) !

الله يسامحكم ياللي حطيتوا ( الحجوة ) بحلجه .. شنو يفكنا الحين ؟



18 سبتمبر 2008

دفنوه ، و ما دفنوه !



كان أول معرض كتاب ينظم في الكويت بعد الغزو العراقي ، لا أذكر بالتحديد في عام 1992 أم 1993 و لكني أذكر تماما أنني كنت في بداية سنواتي الدراسية بالابتدائية ، أظلم القراءة حين أقول إنني كنت أجيدها ، و لكن كنت ( أفك الخط ) و لم يمنعني هذا من شراء أول كتاب في حياتي ، ليس كتابًا بالمعنى العام بل يمكن أن يطلق عليه كتيب و لا زلت أحتفظ فيه ، اشتريته بـ " نص دينار " قيمة مصروفي اليومي من احدى دور النشر المشاركة في المعرض ، اسمه كان ( علي .. قدوة الثائرين ) ، في اليوم الثاني مسكته و بدأت بالقراءة ع..ل..ي ..عل..علي.. , و ارتبط الاسم بوجداني .

قلة في التاريخ الإنساني هم الذين وصلوا لمرتبة الكمال ، و أتكلم هنا عن التقييم البشري لا التقييم الديني فهذا أمرٌ آخر ، فعند بني البشر هناك مقاييس تقيس الكمال وفق منظورهم الدنيوي الذي يأخذ الإنسان ككائن مجرد و يسلط عليه الضوء ، ليحكم عليه بما يحمله من قيم إنسانية ، يتفق كل الناس على شخصيات محددة وصلت للمراتب العُليا هذه ، لا يختلف أحد على " كونفوشيوس " و لا على " سقراط " مثلاً كأشخاص كانوا ذوي رسالة و مفهوم عمَّ البشرية بأجمعها ، و لا يمكن أن نذكر هؤلاء دون أن يمر ذكر ( عـلـي ) معهم ، مع هؤلاء لا تحكم الانتماءات الدينية أو الأصول العرقية أو الأفكار السياسية إنما تحكم الفطرة الإنسانية و القيم السامية التي تضمنتها مبادئهم التي حكمت حياتهم ، حتى غدت مضربًا للمثل في جمع الصفات الكماليّة ، النفسيّة منها و العقلية ، يكتب عنهم المسلم و يبحث في حياتهم المسيحي و يجلهم اليهودي و يستشهد بكلامهم الملحد و العلماني ، لأنهم يعدون في باب ( الإنسانية ) ، إرثًا مشتركا بين كل البشر على اختلاف أطيافهم و مشاربهم ..

نادرًا ما تُحفر في التاريخ أسماء شخصيات لم يخلدها اجرامها، أو ارتباطها بمواقع القوة و النفوذ و استعمالها لها ، أو لانها وقعت في زمن سُلّطت عليه الأضواء ، بل تخلد بسبب ما تضفيه للتراث الإنساني من نقاط مضيئة تجبر العالم أن ينحي احتراما و اجلالا لها ، حتى لو مرت قرون تبقى هذه التعاليم العالية ، لأنه عندها يعلمُ العالم أن هذه الإضاءات ليست وليدة إنسان اعتيادي إنما هي غصنٌ من شجرة الحكمة المتعالية رويت بماء الخبرة و نمت في أوساط العلم و المعرفة ، و لا يكون ذلك إلا عندما تكون هذه الشخصية المثال الأكمل للصفاء و النقاء الذي ينشر عبيره عبر ردهات الزمن.


عندما يؤمن شخصٌ بفكرة ما و يُخلص لها تصبح هذه الفكرة مندكة فيه لا يمكن عندها أن تفرق صفات هذا الفرد و طباعه و حركاته و سكناته عن اطار هذه الفكرة ، هذا الإندكاك ما بين الفكرة و الفرد ، نتيجته العظمة فإن كان معهما الدين فالنتيجة تضيف قيمة التفرّد إلى العظمة ، آمن " فولتير " بالحرية فصارت منهجًا له لا زال التاريخ يذكره بها ، أضحى اسمه مرادفًا لها ،فأنت عندما تعشق " شيئا " فأنت تنتحله ، تتابعه ، تتقمصه ، حتى لا يتم التفريق بينك و بين ما تعشق ، مع هذا يظل النقص مستولٍ عليك في ناحية فهذا من طبيعة البشر ، و لكن الإنسان الكامل هو من ترسخت في نفسه الفضائل حتى أصبحت ملَكةً فيه ، لا تنفك عنه ، هنا تتحدث عن " تعبير الدين " ، عن اعجوزة و اعجوبة هي جوهرة نادرة لأنها عرجت بروحها إلى اعلى المدارج و وصلت لأنقى المسالك.


عندما تحكي عن " كونفوشيوس " أو عن " بوذا " ، تتكلم عن رجال حاولوا رغم زلاتهم ، لم تصل فيهم الفضائل لدرجة " المَلَكة " لأنها فيهم كانت مجرد " حالة " ، كونفوشيوس عقد اتفاقه مع الامبراطور : لكم السياسة و لي الدين ! و بوذا قال لأتباعه : " اليقظة " لمن اتبعني !

و لكن عندما تحكي عن ( علي ) فأنت تتكلم عن شخص دفع حياته ثمنًا لأنه أصبح للبشرية مثال الكمال و تمام الدين ، لأنه بعدله و تقواه و سموّه أصبح حرجًا لنقائص الإنسان ، و لرغباته التي تحركه .. لا زال الإنسان يقتبس من ابليس موقف الاستكبار ، ولا زال يعيد قول ابن آدم لأخيه : لأقتلنك !

لماذا ؟ لأن قربانه لم يتقبل ، و لأنه أسقط ما فيه يده عندما مدّ يده ليقتل أخاه فكان جوابه : لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي إليك لأقتلك .. فكان القتل هو الجواب لأنه شعر بالنقص أمام أخيه ، و لا يسود النقص إلا حين يُزال الكمال .

هناك فرق بين يسمو بروحه ليخلص نفسه بعد ما أعياها الأجل ، و من يسمو بروحه لينصب نفسه على الناس ، و بين من يسمو في نفسه لأنه مقتنع بهذا السمو مؤمنٌ فيه ، ثابت عليه مهما جار عليه الزمن ، و مهما تخطفته الخطوب ، كشجرة غرسها ثابت و فرعها في السماء ينحدر عنها السيل و لا يرقى إليها الطير .




كنت أتساءل ، لماذا وصف النبي الأكرم - صلى الله عليه و آله - قاتل علي بأنه أشقى الآخرين ؟

لماذا فاق بشقاوته كل هؤلاء المجرمين فيما بعده من القرون ، قتل ستالين 50 مليون شخص !
و قتل ابن ملجم شخصًا واحدًا ؟



فكيف يعدل الميزان ؟

و لكني علمت بعد ذلك ..

أنّ الأمم تحيا بحياة رموزها

أن الأمم تستمد بقاءها من عبق رموزها

و أن الأمم لا تكون أمما إلا حين تملك مفاتيح تجمعها .


فلا يكون للنحل مملكة حتى تكون لهم مَـلِكة !


كان ( عليًا ) أمة وُضعت لتكون نبراسًا للأمم ..


عندما يطفئ أحدهم المنارة في يوم عاصف لا يحكم عليه لأنه أطفأها فقط بل يحكم عليه بدماء كل من فقد روحه بسبب اطفائها !


ليست الجريمة في ( كمّها ) ، كما هي في ( كيفها ) .. فهناك من يقتل عشرات من أمة ، و تبقى الأمة في سيرها ، و هناك من يقتل واحد من أمة تضيع بعده ، فلكل أمةٍ ( هاد ) يكون سبيلها " للرشاد " .

.

قدرُ العظماء أن تكون نهاية رحتلهم على يد التعساء ،
ليثبت بني البشر كيف أنهم يحبون وأد الفضائل مرة أخرى على مذبح الرذائل!
قتلوه بالكوفة ، و لكنه لم يقتل فينا .
و دفنوه بظهرها ، و لكنه لم يدفن في نفوسنا ..
فهو باقِ ما دام توق الإنسان للعدالة حاضرا ..
و ما دام تطلع الإنسان نحو الكرامة مستمرًا ..
و تبقى مراقد العظام ، ملهمةً للأنامِ !
.
.

أ ترى النور كيف يشدو
نغمات العشق في كهوف
.. الشتاءْ !
أ ترى البحر كيف يُصْغي
لنواحِ الضعفاءْ !
أ ترى الجبال كيف تبأسُ
قلوب الأقوياءْ !
ذاك هواكَ فـيَّ
.. كمدينة بيضاءْ !
تسمو و تسنو كأن طفلا
يلهو في حديقة غنّاءْ !
كأن نهارًا بات يَمضِي
سابحًا في بحور الصَّفاءْ !
مُنبتًا منازلَ وحيٍ كأنها ..
أعشُبٌ في موحِش..
.. الصَّحراءْ !
كلُّ قولٍ عند مدحِكَ هو
جزءٌ من .. ضياءْ !
كل حرفٍ عند اسمكَ ..
حبة ثرىً في البيداءْ !
كل شِعرٍ دون ذكركَ ..
حنظلٌ وسَط الأنواءْ !
و تبقى الحروف عند ذكرك ..

مقعدةً في.. كنهٍ عَجز عن إدراكهِ
.. الحُكماءْ !
و كلُّ الناسِ نوازِلٌ
.. إن عدوا قبالك .. القرناءْ !




16 سبتمبر 2008

ج 3 ، سفيد : .. لكن مختلف !



.


" إننا نشهد منذ سنوات ، تدهور حال هذه القرية . و أعتقد ، في الوقت الحاضر ، أن ذلك ليس نتيجة عقاب إلهي ، لسبب بسيط هو أننا نقبل ، باستمرار ، ما أعطي لنا دون أن نطلب ، و كأننا كنّا نستحق أن نفقد المكان الذي نسكن فيه ، و الأرض التي نزرعها ، و المنازل المبنية بأحلام أجدادنا . أخبروني ، يا إخواني ، أما حان الوقت لكي نتمرد ؟ "

الكاهن ، رواية: الشيطان و الآنسة بريم .


كان بنيتي أن أختم حديثي بالجزء الثاني ، بعد أن أنقل كلام محدثي و أدع الباقي لعقولكم لتستخلص منه المعاني المطلوبة و ما أكثرها في الحقيقة ، و لكن ضجة حدثت مؤخرا دفعتني إلى أن أشارك لعل رسالة محدثي تصل و لو قليلا .


أشار كلام محدثي السابق إلى إشكالية غابت و لا تزال غائبة عن أذهان الكثيرين ، عن مفهومية الأخلاق ، و دورها في تكوين الإنسان أو تحقيق المجتمعات ، ذهب فلاسفة الإغريق إلى أنّ الإنسان هو القطب الأوحد ، و هذا ما أشار له الفلاسفة الوجوديون ( و أظن أن الكلمة لـ هيدغر ) بـ أن الإنسان هو الوجود المحض ، و ليس هناك من يختلف مع هذا الكلام بصورته العامة ، إلا أنّ في تفصيلاته خلافات كثيرة ، فلا مجتمع بلا إنسان و لا دولة بلا مجتمع ! و على ذلك قس ، فالإنسان هو حجر الزاوية ، و بلاه لا يكون هناك بناء ، و الطريف في الأمثال أن حجر الزاوية دائمًا يكون هو الحجر الذي يستبعده البناؤون قبل أن يستشعروا أهميته !
.
لم يكن الهدف من " الثورة " في كلام محدثي هو الإنقلاب على الشاه فقط أو تكوين حكومة إسلامية بقدر ما كان الهدف الأساسي هو إعادة احياء المجتمع الذي دمره الشاه ، إعادة بث القيم السليمة و على رأسها مفاهيم العدالة التي غابت ، و إعادة تكوين المبادئ التي حاول الشاه أن يطمسها ، ليست غاية الدين دولة بالأصل و لكن غايته ( العدل ) التي هي وليدة الحرية و كلاهما محدودان بالإنسان.






قبل أسابيع قليلة قامت ضجة كبيرة في الولايات المتحدة لأن شركة مطاعم " ماكدونالدز " دفعت ما يقارب 20 ألف دولار كدعم لهيئة تدعم الشذوذ ، جون ستيوارت قام بالسخرية من هذا الفعل ، و بنفس الوقت المجتمع تحرك و أعلن رفضه ، لم يكتف بالسخرية أو الضحك أو وضع رجلا على رجل و قال : ما هكذا الظن بك يا ماكدونالدز !


و على نفس المنوال ، حدث ما حدث مع حدس و استقبالهم للسفيرة الأمريكية [ و هذا مجرّد مثال ]، فتحول جميع الكويتيين إلى نسخ كربونية مكررة ، إما صامتة أو مستهزأة .. لم يتجرأ أحد و يناقش الأسباب في حقيقتها ، كما لم يغص أحد لمعرفة حقيقة ( الفعل الأخلاقي ) * عند هؤلاء ، اكتفوا بكلمات على المدونات ، و اكتفوا بالاستهزاء ، و كأنهم كانوا بانتظار شيء يفرغون فيهم طاقاتهم، فعل حدس لا يختلف عن فعل ماكدونالدز فكلاهما خالف أخلاقيات المجتمع ، تلك الاخلاقيات التي يدعون إليها و يعتبرون أنفسهم مساهمين فيها و في تثبيتها ، تحول المجتمع الكويتي كله إلى جون ستيوارت ، و اكتفى بذلك .
.
من السهل علينا دائمًا أن ننتقد ، لأن الحديث هو أسهل ما يمكن للإنسان أن يفعله ، و لكن ( الإلتزام ) صعب لذلك هو مهمل و لا محل له عندهم ، نطالب بالتغيير و نكره أن نتغير ، و ننادي بالإصلاح و لا نحب أن نتحرك في سبيله ، مجتمعنا اليوم ميّت أخلاقيًا ، و لا حراك فيه !


الأخلاق ليست " الأمانة " ، أو " عدم الكذب " أو حتى " الإخلاص " فقط ، الأخلاق مفهوم أشمل و أوسع من هذا كله ، هي أعراف و أحكام و إلزامات اختارها المجتمع لكي يضبط فيها مساره ، و يحيط نفسه بإطارها ، هي أعمق من مجرد إحساس داخلي لأنّ المطلوب منها أن تكون فكرًا جمعيًا يربط الناس و يؤمنون بضرورة الحفاظ عليها .
.
نحن مجتمع يقوم على " رد الفعل " ، و لا يعرف للفعل مكانا ، لم يتعب أحد نفسه في يوم من الأيام أن يتحرك لصالح المجتمع العام ، بل ينتظر من غيره أن يفعل لكي يلحق به هو ، حتى على مستوى النقد الذي هو بذاته حالة صحية طالما أنه يفتح الباب لتحديد مكمن الخلل و إصلاحه ، لا أن يفتح الباب ليشير للخطأ حتى ( نضغطه ) !

أصبح النقد مجرد حالة " تنفيس " عن الإحتقان و سكتنا عن التصحيح ، و اكتفينا بالمطالبة به .
.
لا أدعو لإنقلاب أو ثورة أو مظاهرات أو عصيان فهذه أشياء انتهت و انقضت، لأنّ هذا الزمن هو زمن معرفة حقيقة المجتمعات فهي المُصلحة ، أدعو لما قاله المهاتما غاندي عندما سأله أحدهم : ماذا نفعل لكي نغير واقع الهند الإستعماري ؟

فأجاب : يجب ان تكون انت التغيير الذي تريد ان تراه في العالم .
.
نشتكي من الظلم ، و لا نرى الظلم في أنفسنا ، و نلطم بسبب السرقات و لا نرى تبريرنا لها و سكوتنا عنها ، و نبكي على فقدان الرغبة بالإصلاح و لا نبحث عنها في داخلنا ، فلا نستغرب بعد ذلك من هذا الجمود ، هذا المجتمع مكون مني و منك و من غيرنا ، و لكن لأننا شعب قتلنا الترف الفكري أصبحنا نطالب الآخرين أن يتحلوا بما نفقده و نغضب إذا لم يفعلوا ذلك .
0
لماذا أنا مختلف ؟
.
لأنني قررت أن أكون التغيير الذي أود أراه ، و أبدأه بنفسي ، أن أكون مختلفـًا عن النسخ الكربونية التي تتعاطى مع الوضع في الكويت ، لا أريد أن أضع صورة الناشي و السفيرة و أكتفي بالتعليقات فغيري كفاني هذا الامر لماذا أكرره عندي ؟
.
إسحاق نيوتن سقطت التفاحة على رأسه ، كان بإمكانه أن يعتبرها هدية من السماء ثم يأكلها ، و لكنه بدلاً عن ذلك تساءل عن سبب سقوطها ؟
لقد بنى عظمته لأنه راى شيئًا بسيطا يحدث يوميا لآلاف المزارعين ، و لكن أيًا من هؤلاء المزارعين لم يمعن النظر في هذا الشيء البسيط ليتساءل مع نفسه عن سبب سقوط التفاحة لأسفل بدلا من طيرانها لأعلى كما فعل نيوتن .
لا أود أن أكون ردة فعل ، بل أن أكون فعلاً يطبق ما يؤمن على نفسه أولاً ، لا يدعو لعدالة لا يعرفها مع نفسه ، و لا يدعو لحرية يمنعها على غيره .
.
هذا هو ملخص الحديث و هذا ما أراد محدثي أن يدير بصري إليه أن الإنسان بكونه إنسان بحاجة أن ينظر لداخل نفسه أولاً ، و أن يعرف حدوده و إلتزاماته ، أن يحدد أخلاقياته و يؤطر نفسه بها ، الاخلاقيات التي تسمح له و لمجتمعه أن يحافظ على حياته و حراكه بها ، بدلاً أن يكتفي بالموت البطيء و هو ينتظر زلة غيره ليضحك عليها ، مكتفيا بذلك فقط.
انتهى .

________________________________
* عند علماء الأخلاق في الإسلام ، هناك تفريق ما بين الأخلاق
و ما بين الفعل المرتبط بهذه الأخلاق .
و سأحاول بيان معناها في موضوع آخر إن شاء الله .

14 سبتمبر 2008

ج 2 ، سفيد : نعم ، كويتي و ..

" لا تنظر إلى من قال ، و انظر لما قيل "
.: الإمام علي بن أبي طالب (ع) :.

يقول محدثي : حملت بداية الثمانينات أقوى الهزات ، بداية من أحداث استبعاد بني صدر ثم اغتيال ثاني رئيس جمهورية منتخب و هو محمد علي رجائي إلى اغتيال " فيلسوف الثورة " الذي كان يسميه السيد الخميني ( ابني ، و ثمرة حياتي ) و هو الشهيد الدكتور مرتضى مطهري ، و تبع ذلك اندلاع الحرب المفروضة ، ثم اغتيال 72 من رجال الثورة و مفكريها في عملية تفجير مقر الحزب الجمهوري ، كل هذه الأحداث في ظل الإنفلات الأمني بعد انهيار نظام الشاه قبل أن يستلم آية الله خلخالي ملف الامن هناك ، دفع الكثير من الوجوه في الصف الثاني و الثالث إلى المقدمة لسد الفراغ الحاصل ، و كانوا دائما يأتون لزيارته و يسألونه النصيحة و الإرشاد و يكرر عليهم نفس الحديث السابق بدون تفريق بين كبير أو صغير ، هنا أردف محدثي مبتسمًا : كنّا نظن أنه بحديثه هذا لهم ، يعبر عن رغبته في ابعادهم أو أنهم لا يرى فيهم القدرة على أداء العمل و المهام المطلوبة منهم كما كان المفقودين ، لذلك يطالبهم بمعرفة الأحكام العبادية ..

و لكن ...

مع بداية الحرب تحولت حسينية جمران إلى قبلة الصحافيين و السياسيين في العالم ، و خطب السيد فيها كانت تذاع لكل دول العالم ، و في أوج الحرب كان السيد يتكلم عن العرفان عند الإمام علي (ع) ، أو عن دروس عاشوراء الحسين (ع) ، أو عن المفاهيم الأخلاقية و الإسلامية ، و طريقة إدارة المجتمع الإسلامي .. كانت خرمشهر تحتل ، ثم يتم احتلال الفاو و يصل الجنود لمشارف البصرة ، و المعارك الطاحنة في خانقين مستمرة ، و حديثه السياسي في خطبه لا يأخذ نفس الحيز الذي كانت تأخذه المفاهيم الإسلامية و الأخلاقية ، لم نكن نعلم كيف نفسر هذا الأمر سوى بأن السيد منذ بداية دراسته و حياته كانت له اهتمامات عرفانية و فلسفية ، و أن مكانته كمرجع ديني لا تزال هي المسيطرة رغم أنه قائد لثورة ، و زعيم روحي لدولة الآن .

.

كل هذا الأمر ، تهاوى أمام أعيننا بعد هذه السنوات ، كل هذه الاستنتاجات كانت خاطئة ، و بعيدة عن الهدف الحقيقي ، لأننا وضعنا فكرة برأسنا و أخذتنا سكرة انتصار الثورة و قدرة الشباب على التغيير فأدارت أبصرنا عن المقصد الحقيقي له ، يُقال بأن الأشياء لا تُعرف حقيقتها إلا عند التجربة ، فليس كل ما يلمع ذهبًا .. و أنا اليوم كما الكثير غيري ممن عاصر تلك المرحلة عرفنا قيمة تلك الكلمات ، بتجرد بعيدا عن الصور النمطية و الأفكار المسبقة التي كانت تقودنا لمثل تلك الاستنتاجات .

.

و استشهادًا يذكر محدثي حادثة حصلت على نهايات الحرب العراقية - الإيرانية ، حين خرجت إحدى الشخصيات الكبيرة في الدولة و ذات منصب رفيع في مقابلة تلفيزيونية ، و حدث أن تم سؤاله عن مسألة " سلمان رشدي " فأجاب : إن هذه المسألة ترجع لما يراه الفقيه .

لم تمض على هذه المقابلة ساعات حتى ظهر بيان للسيد ينفي هذا الأمر و يؤكد أن هذه المسالة من الثوابت و ليس للفقيه مسألة التشخيص بحسب المصلحة ، فهناك أشياء لا يتم الحكم عليها بناءً على المصلحة .

.

- إذن يا " سفيد " ، ما هي المسألة ؟

أجاب محدثي : كما كل شيء في هذه الدنيا ، أي انتصار لابد و أن يعني أن هناك مركز قوة ، و مركز القوة هذا مثل " اللمبة " توفر مكانا مضيئا للناس ، و مدفئا للفراشات ، و مكانًا للحشرات من مختلف الأطياف ، لقد كان هدفه من كلامه ان يشير إلى حاجة العالم إلى ( الأخلاق ) ، إلى المفاهيم الأخلاقية السليمة ، هذه المفاهيم التي تناساها العالم و يحمل رايتها الآن بابا الفاتيكان و يُطالب بها ، و للأسف أنها منّا و ابنة ثقافتنا و أخذها غيرنا !

لقد كان يشير إلى أن هناك مرتكزات و أساسات لابد من معرفتها و الإلتزام بها ، هذه المرتكزات ليست في محل مساومة أو قابلة لأن تؤخذ بحسب المصلحة ، متى ما أردنا لبسناها و متى ما شئنا خلعناها كأنها " دشداشة " ..

ما يميّز الإنسان ليس مظهره الخارجي ، و لا حسبه و لا نسبه ، فكلنا نملك نفس الملامح على اختلاف أشكالها ، كلنا لدينا أنوف و أعين و أيدي و أرجل ، تؤدي نفس المهمة و تختلف أشكالها ، لكنها بالنهاية مشتركة بين كل البشر ، و لكن ما يميز أحدًا عن الآخر هو فكره ، و منطقه ، و مدى إلتزامه بالأطر التي يختارها لنفسه ..

اخلاصك لفكرتك ، تعني ضرورة معرفتك بها ، و العمل فيها حتى تصبغك ، بحيث تكون مثالا حيًا عليها ..

هذا كان مقصد السيد من تلك الكلمات ، لا يجدر بمن يعلن أنه يناصر ثورة إسلامية أو يعتبر نفسه منتميا لخط إسلامي أن يكتفي بلحية مهذبة و خاتم عقيق و السلام ... أبدًا ، فالمظهر مجرد شكل خارجي ، إنما المهم هو الباطن ، المهم هو معرفة حدودك و معرفة حقيقة ما تؤمن به و تقوم فيه ، لا تظن أن الناس سيؤمنون بشيء و هم يرون المنتمين له لا يعرفون أبسط أحكامه الأخلاقية و العبادية أو لا يلتزمون بها ، و لا تظن أنّ الناس على استعداد لدعم و تأييد ثورة أو حركة أو فكرة لا يقوم الداعين لها بالإلتزام بمبادئها ، لو عرف كل شخص ما هو عليه و ما هو له لما أصبحت هناك حاجة للإرشاد في كل لحظة و حين ، لأنه حينها سيقوم كل شخص بما هو مطلوبٌ منه .. و الكلام ينسحب لكل الأفكار الأخرى علمانية / ليبرالية / اشتراكية .. إلخ .

.

- هل هذا كل شيء ؟

.

أكمل محدثي قائلا : ليس هناك مخلوق ، و بالتالي إنسان ليس عليه تكليف أو واجب ، هذا التكليف يقوده لهدف .. هناك أشخاص يبررون كل الوسائل للوصول لهذا الهدف ، و هناك أشخاص يفضلون أن يصلوا لهذا الهدف بنقاء ، بصفاء ، من خلال فكر يعتقدون به ، لأنهم يظنون أن هذا الهدف هو مقدمة لأمر آخر ، فمن يصل لهدفه بقذارة سيلوث نفسه و سيصبغ أهدافه بتلوثه ، بينما من يصل له بصفائه ، فإنه سيحافظ على نقاء هدفه و مسيرته .

لقد علم السيد أن الثورة التي حدثت و جلبت تلك السلطة ستكون مغرية للكثيرين ، داخل إيران و خارجها ، لذلك ركز على معرفة احكام الإسلام و على مفاهيم الأخلاق ، لأنه أراد أن تستمر المسيرة أو أن تستنسخ بنفس الفكرة النقية التي دعت لها الثورة ، لقد أراد أن يُعرّف الكل بضرورة معرفة ما يدعونا له الإسلام في العمل ، و إلى المدى المسموح فيه بالإسلام .. لم تكن نصائحه ابعادا له لهؤلاء ، و لكن كانت محاولة لجعلهم يدركون أن هذه الثورة ليست بدعة أو أنها نتاج تحرك شخصي ، بل إنها فكرة إسلامية و لكن لها حدود شرعية لا يجب تخطيها ، هناك احترام للنفس الإنسانية ، و هناك أخلاق لا يجب أن يتم التعدي عليها .. ليست البندقية هي الهدف ، و لا السلاح هو المبتغى ، بل هو الإنسان .. الإنسان بذاته هو المطلب .

.

ليس مطلوبًا أن أسمي بلادي " ثورية " ، أو أن أجعلها " إسلامية " ، أو " علمانية " .. المطلوب هو أن أجعلها أخلاقية .. و الأهم هو أن أعرف أنّ هذا هو المطلوب مني !

.

هنا اضطر محدثي أن يتجاوب مع أحد زملائه المقربين الذي أتى له و تحدث معه في بعض المسائل الأخرى .. و لكن بقيت كلماته ترن في أذني ، لأنها حملت لي معنى آخر ، و وجهة نظر مغايرة لكثير من الأشياء التي كنت أؤمن بها ، فهي كلمات جعلتني أعيد التفكير مرارا و مرارا ..

.

و للحديث بقيـة إن شاء الله ..


13 سبتمبر 2008

ناصفة شهر رمضان



الخامس عشر من شهر رمضان المبارك على الأبواب ، و ناصفة رمضان هي ذكرى مولد الإمام الحسن المجتبى بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - ، في المدينة المنورّة بعد الهجرة الشريفة بثلاث سنوات ، أو سنتين على اختلاف الأقوال .

.

بهذه الذكرى طلب مني بعض الأخوة اعداد كلمة قصيرة لتلقى في احتفال بهذه المناسبة ، و أثناء مراجعتي للمصادر و الروايات ، وجدت هذه الرواية المعتبرة سندًا اليوم ، ينقلها المحدث القمي في كتاب " منتهى الآمال " ، و هي عِظة له لـ جنادة بن أبي أمية ، قبل وفاته ، أنقل مقاطع مقتبسة منها ، للتأمل فيها :

.

" استعد لسفرك و حصّل زادك قبل حلول أجلك ، و اعلم أنك تطلب الدنيا و الموت يطلبك .

.

لا تحمل همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، و اعلم أنك لا تكسب من المال شيئًا فوق قوتك إلا كنتَ فيه خازنًا لغيرك .

.

اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا ، و اعمل لآخرتك كأنما تموت غدا.

.

و إذا أردت عزًا بلا عشيرة ، و هيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز و جل .

.

إذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، و إذا خدمته صانك ، و إذا أردت منه معونة أعانك ، إن قـُلت صدّق قولك ، و إن صِلْت شدّ صولك ، و إن مددت يدك بفضل مدّها ، و إن بدت عندك ثلمة سدّها ، و إن رأى منك حسنة عدّها ، و إن سألته أعطاك ، و إن سكتَّ عنه ابتداك ، إن نزلت إحدى الملمات به ساءك ، من لا يأتيك منه البوائق ، و لا يختلف عليك منه الطرائق ، و لا يخذلك عند الحقائق . "
.
ملاحظة : سأعود لاكمال الموضوع الذي ابتدأته لاحقًا إن شاء الله :)

ج 1 : سفيد ، هل أنت كويتي ؟

تحذير قبل أن تقرأ : ارم كل صورك النمطية ، و أفكارك المسبقة خلف ظهرك .

قبل عدة أشهر و في لقاء أو بالأحرى ملتقى ثقافي جمعني صدفةً مع أحد الفضلاء حديثٌ امتد لأشياء كثيرة و في جوانب عديدة و تشعب لأغلب القضايا المطروحة ، محدثي هذا عراقي و تحديدًا من مدينة الكوفة لكنه نتيجة صراعه مع حزب البعث هرب من العراق و إلتجأ لايران قبل الثورة الإسلامية ، و نظرًا لأنه سليل عائلة علمية ، فقد انضم للحوزة العلمية في مدينة قـُم في سن الشباب و بفترة حرجة من تاريخ المنطقة ، و في غمرة الصراع بإيران ، و مكنه ذلك من أن يكون على مقربة من رجالات الثورة كالشهيد مطهري و الشهيد بهشتي و الشيخ حسين منتظري و ثم بعد ذلك الإمام الخميني الذي كان يقيم قبيل الثورة بقليل في نوفل لوشاتو - باريس، و هذا ما جعله مطلّع على حيثيات الصراع مع آخر الشاهات محمد رضا بهلوي من قرب .
.
يقول محدثي : بعد نجاح الثورة بقليل ، و في أوائل سنة الثمانين حينها كان الاستفتاء على نظام الحكم يتم العمل عليه ، و الأجنحة هناك تتصارع على شكل نظام الحكم القادم هل هو جمهوري أم ملكي ؟
هل هو شيوعي بقيادة " نوري " و حزب توده أو ليبرالي بقيادة المهندس بازركان المقرب من الإسلاميين أو بني صدر العلماني المعتق ؟
، أم هو إسلامي بالاسم كحال الدولة القاجارية ؟
.. إلخ .
.
وقتها كان الإمام الخميني لديه مجلس يومي في حسينية جمران باحدى ضواحي جنوب طهران الفقيرة [ الحسينية التي تعتبر المحرك الأول للثورة و الملاصقة لمسكنه المؤجر ] .. يتابع محدثي : كنت ذات يوم في هذا المجلس و معي عدة علماء آخرين من لبنان و العراق و ايران و باكستان جالسين عنده و نراه و هو يستقبل الوفود القادمة للسلام عليه و سؤاله من مختلف المناطق الإيرانية ، و كان معظمهم لديه سؤال واحد :
.
- ماذا نفعل الآن ؟
- هل لديكم الرسالة العملية ؟
- نعم .
- إذن افتحوها و تعلموا أحكامها و اعملوا بتكليفكم الشرعي .
.
هنا ارتسمت على محدثي نبرة جديدة و أكمل : كنت أنظر حولي ثم أنظر لهذه الوفود ثم أنظر مجددًا للسيد الخميني ، و لا نفقه حقيقة جوابه ماذا ؟
كنّا شبابا متأثرين بنجاح ثورة أسقطت واحدة من أقسى الامبراطوريات في المنطقة ، و الحماس يملأ نفوسنا ، و نرى القوة كلها بيدنا و كأننا قادرين على تغيير العالم ، ثم نرى محرك هذه الثورة و مفجرها يقول للشعب : تعلموا الأحكام الفقهية ثم اعملوا بها .
.
أنا [ سفيد ] نفسي لم أفهم المقصد من هذا الكلام ، لأنه من المعلوم أن الرسالة العملية و هي الكتاب الجامع للأحكام الفقهية للعبادات و المعاملات لا يخلو منها بيت ، و لابد لكل بالغ من ذكر أو انثى أن يطلع عليها و يقرأها حتى يعرف الأحكام الشرعية ، و يبدو أن محدثي لاحظ نظرات الاستغراب في قسمات وجهي .
.
اكمل حديثه : ما يدور في نفسك الآن هو نفسه ما يكون يدور في رأسي و رأس غيري ، لذلك كنت ألجأ و زملائي لتأويلات غريبة لهذا الحديث ، تارة نفسره بتأييده للجهة الفلانية ، و تارة نفسره بتأييده للجماعة الفلانية ، و حجتنا كانت أنه لم يطلب السلطة لنفسه و منع أي أحد من أقربائه أن يتولى أي منصب أو سلطة ، حتى ابنه الوحيد منعه من ابداء رأيه أو تأييده لأي جهة و أن يترك الأمر للاستفتاء الشعبي و الشعب هو من سيقرر ، لذلك هو يلجأ للعبارات العامّة لايصال رسائله .
.
و لكن .. كانت هيبته تمنعنا من سؤاله ، و ابنه كان مكتفيًا بإدارة مكتب والده و الإجابة على الاستفتاءات الشرعية ، مبتعدا عن التدخل المباشر بمثل هذه الخطابات السياسية ، فكنا نكتفي بما نصل إليه من نتائج لوحدنا .
.
اليـوم و بعد هذا السن ، و هذه التجربة و الرؤية للحركات الإسلامية ، بل و الإنغماس في بعضها ، عرفت معنى كلمته ، كما عرفها غيري ممن كان معي ، لقد كان مقصده واضحًا و بسيطًا ، و لكن كما يُقال : إنّ أعقد الأشياء ، تكمن عقدتها في أن جوهرها بسيط جدًا ..
.
.
يــتــبــع إن شاء الله ،،

11 سبتمبر 2008

ذكرى السنة السابعة

" لا تصدقوا هذا الحصان ، مهما يمكن أن يكون ،
لأنني أخشى هؤلاء الإغريق ، و لو حملوا لنا العطاء بأيديهم . "
إلياذة فرجيل ، 201قبل الميلاد.
.
.
11 سبتمبر 2001 ، عصر ثلاثاء ثقيل جديد على طالب بالثانوية ، يضيع وقته على الانترنت ، فجأة ياتيه النداء : شوف قناة الجزيرة .. أفصل الدايل آب ، لأتابع التلفيزيون ، كانت الطائرة الأولى أخذت مكانها و الثانية آتية بطريقها ، الدخان يتصاعد بمشهد يذكرك بحريق روما على يد نيرون ، لكنها هذه المرة كانت روما الجديدة ، في قلب العالم الجديد ، بما أطلق عليه يورك الجديدة .. و لم يكن نيرون هو من أحرقها ، بل شخص آخر يتشابه معه في الحرف الأخير من اسمه .
.
كانت المشاعر متناقضة ، تفرح أم تحزن ؟
إعلام يزرع عقلية البغض و الكراهية ، و حكومات تكرس مفاهيم العبودية ، و يبقى الفرد متحيرًا : يفرح بما أصابهم ، أم يحزن ؟
حينها تذكرت حديث الإمام الرضا - عليه السلام - : لو أن رجلا قـُتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل .
و أنا لا طاقة لي بدماء الناس ، سيّما إن كانوا أبرياء .
.
لم أحب أن تفوتني ذكرى هذا اليوم دون بصمة ، و بصمتي هي مقولة إريك دورتشميد : لعب الغباء البشري دورًا يفوق دور الشجاعة و البطولة في تغيير مجرى التاريخ ، لقد كان الغباء البشري و الصدفة هما العامل الحاسم .
.
انتهى .

تساؤل : بعد اسبوع على انهيارات جبل المقطم في القاهرة ، السلطات تحول المكان إلى مقبرة جماعية و تسويه بالأرض .. كم استمرت عمليات رفع الانقاض و الإنقاذ في نيويورك ؟

10 سبتمبر 2008

كويليو و شيطان بريم !

.
علاقتي مع الروايات مثل علاقة والدتي حفظها الله مع الحلويات ، و لمن لا يعرفها فهي تجيد صنع اللقيمات و لكنها لا تستسيغ طعمها !
.
عشقت في طفولتي أغاثا كريستي فقرأت رواياتها كلها ، ثم عشقت أرسين لوبين فغصت في بحره ، ثم حبوت في عالم روايات الكبار مع جرجي زيدان ، ذلك الفذ في روايته النادرة " غادة كربلاء " مع هذا فلم أكن في يوم من الأيام نهمًا باتجاه الروايات بل فضلت اتجاهات أخرى ، اتجاهات أخذتني لموارد كانت و لا زالت تجذبني و لكني معها أمسيت كمن قال فيهم الشيخ الرئيس ابن سينا - و النقل بالمعنى عن ذاكرتي التعيسة -: لا تناقش هذا الذي كل يعرف كل شيء عن شيء واحد فلن تغلبه ، و لكن ناقش هذا الذي يعرف شيئًا عن كل شيء فستغلبه .
.
معرفتي بـ " باولو كويليو [اضغط] " قصيرة ، بدأتها مع " الخيميائي " حين اشتهرت و لم تعجبني كثيرًا ، و لكن أصريت على توطيد العلاقة مع " الزهير " فأثارت اعجابي ، و لكني وقفت لأصفق و أنا أقرأ " الشيطان و الآنسة بريم " .. رغم أن كويليو لم يأت بجديد ، و لم يطرق بابًا تركه الأولون بل سبقه فيه الكثيرون ، و لكنها صياغته لهذا الباب تستحق الثناء .
.
في الشيطان و الآنسة بريم يناقش كويليو قضية محورية ذُكرت كثيرًا في مكاتبات الفلاسفة و عُلماء الكلام : وجوه الشر .
هل الشر أصلٌ في الإنسان أم هو طارئٌ مكتسب ؟
.
لن أناقش الرواية ، فلست في هذا المجال .. و لكني هُنا أنقل كما هي عادتي في الكتب التي تعجبني أنقل مقتبسات تحت عنوان التأملات ، لعلها تلامس هوىً في غيري كما لامست فيَّ .
A
ـــــــ
" تقول شانتال [ بطلة الرواية ] و هي تسر في نفسها : يا للأغبياء ![ سكان القرية الريفيون ]
إنهم لا يدركون أنه في كل مرة يُدني فيها شخص ما ، في مكانٍ ما ، شوكة من فمه إنما يفعل ذلك بفضل أناس من طينة أهل بسكوس [ القرية] الذي يكدون من الصباح حتى المساء بلا كلل ، حرفيين كانوا أم مزارعين أو مربي مواشي إنهم ضروريون للعالم أكثر من كل سكان المدن الكبيرة و مع ذلك يتصرفون أو يعتبرون أنفسهم مثل كائناتٍ دُنيا ، معقدة و غير مفيدة . "
.
B
ـــــــ
" إنَّ للخير و الشر وجهًا واحدًا ، كل شيء يتعلق باللحظة التي يلتقيان فيها بالكائن البشري ، و هو في طريقه . "
.
C
ـــــــ
" إنَّ لعب دور النفوس الرحيمة هو أمر جيّد فقط لأولئك الذين يخشون الاضطلاع بمواقف في الحياة .
إنَّ إيمان المرء بطيبته الذاتية أسهل عليه دائمًا من مجابهته للآخرين و كفاحه من أجل حقوقه الشخصية ، و إنَّ من الأيسر دائمًا أن نتلقى الإهانة من أن نملك الشجاعة لمجابهة خصم أقوى منّا .
باستطاعتنا أن نقول دائمًا إن الحجر الذي رُشقنا به لم يصبنا و في الليل فقط عندما نكون بمفردنا أو يكون الزوج نائمًا أو الزوجة أو زميل الصف ، في الليل فقط نستطيع أن نرثي بصمتِ جُبننا . "
.
D
ـــــــ
" ليست الرغبة في الخضوع للقوانين هي التي تلزم الجميع بما يفرضه المجتمع ، بل الخوف من العقاب .. كل منّا يحمل مشنقة في أعماقه . "
.
E
ـــــــ
" هناك نوعان من الحمقى: أولئك الذين يعدلون عن فعل شئ لأنهم تلقوا تهديداً، و أولئك الذين يعتقدون بأنهم سيفعلون شيئاً لأنهم يهددون الغير . "

8 سبتمبر 2008

اعظام القلوب

يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يصف أهل المعرفة :
.
" يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم ، و هم أشدُّ اعظامًا لموت قلوب أحيائهم "
.
.
و معنى كلمته أن العارفين يعظمون و يهابون موت القلب أكثر من موت الجسد بعكس أهل الدنيا و من يركضون خلف ملذاتها ، لأنهم يعلمون أن موت البدن هو حرمان من ملذات الدنيا التي ستنتهي في يوم من الأيام و لن تستمر للأبد ، و لكن موت القلب هو حرمان من السعادة الدائمة في الدنيا و الآخرة ، حرمان من معرفة الله سبحانه و بالتالي خسران الآخرة ، و حرمان من سعادة الدنيا لأنهم لا يشعرون بالراحة النفسية فيها .
.
عندما يمرض أي عضو من أعضاء الإنسان ، أسنانه مثلاً فإنه يشعر بالألم و الضيق ، و لكن هذا الألم و الضيق مختص بالدنيا فقط أي ما دام حيًا و مستيقظًا ، و لكن لو أصيب بأحد أمراض القلب فإنه رغم البلاءات التي ستواجهه بعد الموت ، يعيش في هذه الدنيا بضيق و ألم لا يشعر بلذة النوم و لا اليقظة ، و تضغط عليه هذه الآلام النفسية حتى يصبح مستعدًا أو يفكر أحيانًا بالانتحار .
.
يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام " الحسود دائمُ السُّـقم [ المرض ] و إن كان صحيح الجسم "
.
فالحسود [ و الحسد أحد امراض القلب ] لا ينام و يتألم في داخله لأن فلان أو فلان وصل لمرتبة معينة ، أو ربح جائزة معينة ، أو توفق في مجال معين ، فيعيش بنار تحرقه في داخله حسدًا لهذا الشخص ، و بدل ان يعمل للحصول على مثل هذا المقام ، ينتظر زوال النعمة عن غيره ، و غالبا ما لا يحصل فيموت في كمده و حسرته ، فهو عاش بحرقة و ألم في دنياه ، و فقد آخرته بسبب هذا المرض.
.
و هذا مثاله المروي في الأخبار : لله در الحسد ما أعدله ، بدأ في صاحبه فقتله .
.
نعوذ بالله من موت القلوب و أمراضها .

7 سبتمبر 2008

تفلسف عـزاب !

المأذُونْ..
هو الطاهي الذي
يُحوِّلُ علاقاتِ الحُبِّ الجميلةْ
إلى أسماكٍ مُثَلَّجَةْ...

نزار قبّاني


كثيرون مروا علينا في حياتنا نقرا أسماءهم ، و نقرا سيرهم ، و نرى انتاجاتهم التي شكلت حجرًا مهما في مجالاتهم ؛ يقولون أن وراء كل رجل عظيم إمرأة .. قائل هذه العبارة عبقري لأنه لم يحصر المراة في ( الزوجة ) !

هل يمكن للرجل أن يكون مبدعًا و هو أعزب ؟

هذا ما ترويه سيرة الكثير من العظماء في مجالاتهم ، نختلف معهم أو نتفق في النهاية ذكر كلٌ منهم فلسفته التي صاغها ليبرر لنفسه أن يبقى حرًا طليقا بلا أي قيد يربطه ،سيما إن كان في هذا ( القيد ) جناية على النفس البشرية كما ذهب لذلك المعري .

.

- فولتير .

.

فرانسوا ماري أرويه المشهور بـ " فولتير " لدوره في عصر التنوير بأوروبا، فيلسوف فرنسي و كاتب مسرحي لا يمكن لأي شخص يمر على الادب الفرنسي و لا يلحظه ، فولتير يعتبر بمثابة ( شكسبير ) و لكنه يتحدث الفرنسية بدلاً من الإنجليزية ، و على عكس شكسبير كان فولتير يكتب كتبه و آراءه ثم ينزل للشارع ليحرض الناس ضد التعصب و الجهل و يقرن كلماته بأفعاله رغم أنه لم يتخل عن تعصبه لأفكاره ، كان كاثوليكيًا وقف في وجه الكاثوليك و كاتبًا مرموقًا وقف في وجه المتعصبين و دافع عن حرية الرأي و هو صاحب المقولة الشهيرة : أختلف معك بالرأي و لكني مستعد لدفع حياتي ثمنًا لتقول رأيك !

مع هذا تعصب جدًا ضد ( الزواج ) لأنه كان يراه مجرد عائق أمام رسالته في توثيق الحرية و نبذ التعصب و التنوير !

كان تبرير " فولتير " لعدم زواجه رغم أنه وصل لسنه الـ 83 هو :إن الزواج هو المغامرة الوحيدة المتاحة ... للجبناء !

.

- آدم سميث .

.

هل ترى اقتصاد العالم الآن ؟

كله مبني على آراء و نظريات آدم سميث التي صاغ الكثير منها في كتابه ( ثروة الأمم ) لم يكن سميث ( الاسكتلندي ) مجرد عالم اقتصادي بل فيلسوف تشهد له آراءه الكثيرة في قدرته بهذا المجال .رغم أنه تخطى الـ 70 من عمره إلا أنه لم يتزوج أبدًا ، و فلسفته في عدم الزواج كانت نابعة من نظرياته الفلسفية ، فهو يقول :" أعطيني ما أحتاجه منك ، وسأعطيك أنت ما تحتاجه مني " لأنه كان يعتقد أن أساس العلاقة بين البشر هي المنفعة المتبادلة ، بالتالي لا تجب أن تكون المبادلة قائمة على العاطفة البشرية بل على العقل و على حسابات الربح و الخسارة ، و هذا معنى المجتمع عنده ، فأن تعيش بمجتمع يعني أن تعيش بمحيط يتم تبادل المنفعة فيه بين أعضاءه ، لانه إذا اعتمد الإنسان على عطف الآخرين عليه فلن يضمن بذلك اشباع احتياجاته أبدًا!

و الزواج بنظره مجرد علاقة تبادل عنده و لأنها تتطلب عطف و عناية أحد الأطراف ... و العطف و العناية تعني عدم اشباع الحاجات فهي بالنتيجة علاقة خاسرة !

.

- عباس محمود العقاد .

.

لا يوجد أحد لا يعرف هذا الكاتب العملاق ، بكتبه الأدبية أو التاريخية او مقالاته و بحوثه و حتى السير الذاتية التي كتبها للشخصيات الإسلامية المختلفة ، رغم أنه عاش بحالة مادية جيدة و كان له صالون يرتاده الادباء و السياسيون و العلماء و الطلبة ، و رغم اشتهاره إلا أنه لم يتزوج أبدًا !

سألوه كثيرًا لماذا لم يتزوج .. و لم يجب على السؤال بصورة واضحة أبدًا !
في مقالة كتبها سنة 1953 بمجلة الهلال المصرية ، قال العقاد مخاطبًا أمه : " لو وجدت لي زوجة مثلك تزوجت الساعة " كان اعجاب العقاد الشديد بامه التي ربته رغم الظروف الصعبة التي مروا بها ، و قوة إيمانها لدرجة اعتكافها لأيام طويلة السبب في بُعده عن الزواج لأن نظرته لشخصية أمه أعمت عينه عن شخصيات باقي النساء .
ينقل أنيس منصور في كتابه ( في صالون العقاد كانت لنا أيام .. ) ، أن احدى الطالبات سألته يومًا : لماذا لم تتزوج يا أستاذ ؟
هل لأنك لا تحب المرأة أو لأنك لم تجد التي المرأة تناسبك ؟

.. فقال: إن الذين يحبون المرأة و الذين يكرهونها يتزوجونها. فالزواج ليس دليلاً على الحب .. كما أن الطلاق ليس دليلاً على الكراهية ، و العزوبة ليس معناها أن يتساوى لدى الإنسان أن يتزوج و ألا يتزوج ، فلو كان الزواج قائماً على الحب، ما كانت هذه الاختلافات العنيفة بين الأزواج ، إنها تصل إلى درجة الفضيحة و إلى المحاكم و إلى القتل و إلى الخيانة .. و لكن الزواج هو اتفاق في وجهات النظر و في المصالح.
فالذي يحب إنما يحب شخصاً ، و الذي يتزوج إنما يتزوج شخصاً من عائلة لتكون له عائلة هو أيضاً !

.

- أبو العلاء المعري .

.

رهين المحبسين أحمد بن عبد الله التنوخي المعرّي ، الشاعر و الأديب الذي لا يشق له غبار ، و لكنه فوق هذا كله الفيلسوف الذي رفض أن يجعل شعره إلا طريقا ليكتب بها فلسفته في الحياة ، فيصف نفسه قائلاً :

و إني و إن كنتُ الأخيرَ زمانه .. لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

رغم أنه فقد بصره صغيرًا إلا أن وجود أمه معه ساعده على تخطي هذه العقبة ، فسافر و طاف البلدان يتعلم و يُعلّم حتى ماتت أمه فحبس نفسه في البيت لا يغادره حتى مات ، و يصف حالته بعد وفاة أمه بقوله :

.

و أحمل فيك الحزن حيًا فإن أمت .. و ألقـكِ لم أسلك طـريقًا إلى الحزنِ

و بعدك لا يهوى الفؤاد مسـرةً .. و إن خانَ في وصل السرور فلا يهني

.

هذا الحزن انعكس على أبو العلاء المعري فلم يتزوج طول حياته حتى مات ، و عندما حضرته الوفاة أوصى بان يكتبوا على قبره :

هذا [ ما ] جناه أبي عليّ .. و ما جنيتُ على أحد *

و معنى كلامه : أن والده عندما تزوج و أنجب أبو العلاء فهو جنى عليه لانه وضعه في العالم حيث يتعرض للأحزان و المصائب و الحوادث و الآفات ، فأبو العلاء لم يتزوج حتى لا ينجب و يعرض أولاده لهذه الأشياء المؤلمة !

كان رفضه للزواج من منبع إنساني لأنه يعتقد أن الزواج هو جناية على الأبناء !

.

.

...و العزّاب الأدباء ... لا زالوا يزدادون
* ما بين [ ..] من اضافتي للتوضيح .

5 سبتمبر 2008

ظواهر سلبية !

أغمض عينيك و تخيل نفسك صاحب أملاك لمزارع التفاح مثلاً ، و أنت تقوم بجولتك اليومية فيها رأيت مرضًا أصاب ثمار المزرعة ، فأسرعت للهاتف و طلبت الأدوية الزراعية المناسبة و بدأت باستعمالها للتخلص من هذا المرض الذي أصاب قشور التفاح حتى تستطيع أن تبيع محصول هذه السنة و هو سليم و لا ترى الخسارة ، و هذا ما سيكون إنما المشكلة ستتكرر معك في السنة القادمة و التي بعدها و التي بعدها ، لأن علاجك كان لقشور التفاح لا لجذور الشجر المريض .
وفق نظرية ابن خلدون فإن الظواهر الكونية تنسحب على كل شيء في الكون لأنها تسير بنفس الأحكام و تلزمها نفس القوانين ، لذلك من اليسير علينا معرفة أن هذا المثال بعينه ينطبق على مجتمعنا بصورة جلية ، فعندما نشكل لجان و محاكم تفتيش نسيها العالم منذ القرون الوسطى لعلاج ما نظنه مشكلة فإننا في الحقيقة نخلق مشكلة جديدة فرعية على أصل المشكلة الرئيسية ، فوضعنا سيكون شبيهًا بمن يحارب ( السكارى ) و يسجنهم و في نفس الوقت يسمح بالخمارات و المراقص و العياذ بالله .سوء الأخلاق و تغير الآداب و المعاكسات و تراجع القيم كلها مصطلحات ملموسة على أرض الواقع بصورة فعلية و تمثل مشكلة ، إنما هي مشكلة فرعية نابتة من جذع الأسرة ، لأن الإنسان هو ابن بيئته و طباعه و آدابه هي ما يكتسبها من هذه البيئة فهو صورة حية للآداب المعنوية التي يتشكل منها مجتمعه و بيئته و التي أقرها كحدود مؤطرة له .طالما اننا نهمل التركيز على دور الأسرة في زرع قيمها ، و نهمل دور الفرد نفسه في ايجاد قابلية للتحلي بالأخلاق السليمة في نفسه فإن أي معالجة للـ"ظواهر الدخيلة " التي تعتبر مشكلة هي معالجة مؤقتة ما دام أن أصلها لا يزال يحمل " فايروس " هذه الاشكالية ، فأي علاج هو بالضبط كرجل التنظيف الذي يكنس الغبار و يخبؤه تحت السجادة .اذا استمر هذا التجاهل لدور الأسرة و الفرد نفسه ، فهذا يعني أن الخلل هو في نظام المجتمع و البيئة و أنه هو الذي يجب أن يُصلح قبل كل شيء ، و لو لم يُصلح فإن حتى اعضاء هذه اللجان الافتراضية المُشكلة سيكونون من نفس سنخية هؤلاء المعاكسين ، فالمسألة ستصبح كالمثل الكويتي ( عمي يمشط أصلع ) !
ثم إن لعب دور الوصاية على الناس يتطلب أن يكون ( الوصي ) أفضل من الموصى عليهم ، فهل هناك ضمانة أن هذه اللجان هي بأفرادها تشكل أفضلية على الناس و لو نسبية ؟ و هل هناك ضمانة أن هذه اللجان تملك المرونة اللازمة للعمل في بيئة متعددة المشارب كما هو عندنا في الكويت ؟طالما أن الضمان منعدم ، و فيه مخالفة دستورية لحرية الأفراد فتشكيل أمثال هذه اللجان هو مجرد شكليات لا تغني و لا تسمن من جوع .الله سبحانه زودنا بعقل و بطريقة عمل من شذ عنها فإن حسابه على الله ما لم يتعد بدليل على أحد حدوده أو على قانون منصوص عليه ، ما عدا ذلك فلم يخلقنا الله سبحانه لنكون أوصياء على الناس !
لو كل فرد أصلح نفسه قبل أن ينصب نفسه حاكمًا و مقيمًا لغيره من الناس لما رأينا أمثال هذه الظواهر التي تعد سلبية تأخذ كل هذه الضجة المفتعلة ، فهي موجودة منذ فجر التاريخ ، لكنها لم تكن في يوم من الأيام محاطة بمثل هذه الضجة التي جعلتها تقفز إلى خانة المراتب الأولى في الأزمات التي نواجهها .التعامل معها جدًا بسيط و في أطر قانونية و ليس هناك حاجة لمثل هذه اللجان التي يهدف مقترحيها إلى دغدغة مشاعر و عواطف الناخبين من مدعي المثالية العظمى حتى يضمنوا بقاءهم على الكرسي الأخضر .
...
لديك معاملة في إحدى وزارات أو إدارات الدولة ، إذا كان جوابك بنعم فستضطر آسفًا إلى أن تأخذ إجازة عرضية أو مرضية و كلاهما في الكويت واحد لتبدأ معاناة جمع التواقيع بما فيها توقيع رجل الأمن على بوابة الوزارة ، و ستمر بماراثون يذكرنا برالي داكار ما بين الإدارات المختلفة و وزارات الدولة حتى تستطيع جمع الأوراق المطلوبة لتنتهي من معاملة بسيطة يمكن تلخيصها بسطرين في ورقة عادية و لكن يلزمها لتدخل حيز التطبيق عشر ورقات A4 مملوءة بالتواقيع و الشخابيط .
ما كتب أعلاه ليس سيناريو لحلقة كوميدية في مسلسل تلفيزيوني يضخم الأشياء البسيطة لإدرار الضحك ، بل هو عين الواقع الذي نمر فيه يوميًا في الكويت ، و هو ليس سوى إرث أخذناه من البيروقراطية المصرية التي استوردناها بكل مآسيها بعد ألقتها الدولة العثمانية في تخوم المحروسة .
و هو نتيجة طبيعية لمفهوم الإدارة و الكرسي المغلوط عندنا ، فكل شخص يزور كرسي لمنصب قيادي لعقدين من الزمن يأبى أن يرحل دون أن يُبقي اسمه محفورًا في أرشيف المنصب بعدة قوانين و نظم و تعليمات ، فوجاهة الكرسي لا تعني إلا أن صاحبها قادر على إصدار القوانين الملزمة و جعلها سارية العمل و لو لم يكن لها داع أو فائدة ، و هذه عادة ( شرقية ) بامتياز بحيث أصبحت هذه القوانين و التعليمات بعد أربعين سنة من البيروقراطية مجلدات متراكمة يحتاج المراجع البسيط إلى أن يصل أيامه بلياليها حتى ينتهي من تعدادها .
أعضاء مجلس الأمة المحترمين الذين ناموا ليلة الانتخابات و صحوا على وقع حلم تحول بين ليلة و ضحاها إلى حقيقة و هو أنهم سيطروا على ثلث مقاعد مجلس الأمة أصابهم داء المسئولين هذا ، فتعاهدوا على أن يتركوا أثرهم بقوانين تقترح لا لشيء إلا لإثبات الوجود و لضرب عدة عصافير بحجر واحد :
- الكل يعلم بان هذه الوجوه لم تصل لمجلس الأمة إلا بأصوات مدعي المثالية الزائدة من الملتزمين ، و الكل يعلم بأن أمثال هذه المقترحات لا محل لها في ارض الواقع لأن المطالبة النظرية شيء و التطبيق العملي شيء آخر ، فالنتيجة النهائية هي أن هذه المقترحات ليست سوى دغدغة لمشاعر الناخبين حتى يثبتوا لهم بأن صوتهم موجود .
- لعبة الابتزاز السياسي يجب ألا تغيب عن الأذهان ، فهؤلاء انشغلوا في صدمة وصول هذا العدد الكبير منهم لقبة عبد الله السالم إلى درجة أنستهم أسس التفكير المنطقي و أن هذه الدولة دستورية تحكمها قوانين تكفل الحرية الشخصية و ترفض الوصاية سيما في مجال الأخلاق و الآداب ، لذلك أسهل سبل ابتزاز الحكومة و بالتحديد رأسها يمكن في مثل هذه المقترحات التي تظهر على السطح مزهوةً بمن يقف خلفها .- هناك تململ قبلي من نتائج الانتخابات الأخيرة و طريقة تقسيم الدوائر ، الهوية القبلية التي تحاول فرض نفسها غصبًا كهوية تصبغ المجتمع الكويتي لا زالت تحارب على جبهات عديدة لإثبات أن تقاليدها و عاداتها هي عين ذات تقاليد المجتمع الكويتي و ما تعارف عليه ، و هناك تدخلات من دول ( مجاورة ) في مجلس الامة تلعب لأجل إثبات ذاتها و لأجل تزيين صورتها .
هذه كلها أسباب قد تفسر نوعا ما سبب مطالبة هؤلاء بمثل هذه اللجان ، و لكن هل نحن حقًا بحاجة لها ؟
كما قلتُ سابقا أن بيروقراطيتنا تعاني من تراكم القوانين المسنونة ، و لا غرابة إن أعطتنا هذه البيروقراطية بحكم نظرية الأحقاب لابن خلدون صورة أوضح عن ديمقراطيتنا التي أصبحت تبحث عن تكبيل الأيدي و تغلل الأرجل بدلاً من الحفاظ على الحرية الشخصية و العقائدية و الفكرية ، في الواقع نحن لسنا بحاجة لمزيد من القوانين أو اللجان و هي هواية كويتية بامتياز ، بل ما نحن بحاجة إليه هو تفعيل دور القانون الحالي و إعادة الاعتبارية له .نحن نعيش في مجتمع يعتبر أن الإلتزام بالقانون في الكويت هو عيب اجتماعي يلصق بالفرد ، فان تتبع القانون هذا يعني أنك " معيوب " و " بادبخت " لا تملك من أمرك شيئا ، نحن نعيش في مجتمع يقدس الواسطة و كسر القوانين ثم يمضي بقية يومه يتشكى من تغلغل الواسطة في إدارات الدولة و تفشيها مما أدى إلى خروجنا من السباق الحضاري مع جاراتنا ( و المقصود طبعا دبي و البحرين و قطر ) ، لذلك فلا عجب أن يتم اقتراح سن المزيد من القوانين الهلامية كقانون التشبه بالجنس الآخر الخاضع لمزاج حضرة الضابط كما هو قانون الطوارئ في مصر لمجرد إعادة الثقة باننا في دولة تملك قانون ، رغم أنه وضع لكسره بمتعة لا يضاهيها شيء على حسب المزاج ، و الآن نرى قانون لجان للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .بدلاً من سن القوانين كان الاولى العمل على إعادة تفعيل القوانين الموجودة مسبقًا و تأكيدها و الحرص و المراقبة و هي وظيفة عضو مجلس الامة على تطبيقها بصورتها السليمة و محاسبة المسؤول المقصر على تقصيره في عمله ، و إعادة تفعيل القوانين تستلزم منهج واضح يؤصل الوعي عند المجتمع بأهمية القانون فدون وعي لن يكون لأي قانون أو لجنة يتم اقرارها مفعول فهي ستظل مجرد حبر على ورق و ميزانية مهدورة تمامًا كـ ( اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ) و التي يبدو أنها في طريقها لرقم قياسي جديد بمجالها يفوق عدد سنوات الدعوة الإسلامية نفسها على يد النبي الاكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - و هو 23 سنة !
الوعي الأسري هو فرعٌ عن وعي كل مسئول بمسئولياته و حرصه عليها ، فهو ليس عادة أو تقليد يتم نقله من جيل إلى جيل بطريقة مكتسبة ، إنما هي فطرة يحييها المجتمع الذي يصر عليها و يؤكدها ، كما أحياها الأروبيون في عصور التنوير بعد القرون الوسطى .كل المظاهر السلبية لا يمكن إلغاءها أو محوها من الوجود ، فهي متأصلة في الإنسان لأن الاختلاف سنة إلهية و ناموس طبيعي في الكون ، فكما أن البغاء يُعتبر أقدم مهنة في التاريخ ، فالأخلاق تعتبر أول فطرة فطرت بالإنسان ، المطلوب هو تقنينها و اخضاع الشاذ الظاهر منها لحكم القانون ، لذلك لو راجعنا تاريخ البشرية ، لرأينا قيام مجتمعات تحت أطر الدين و أخلاقياته و بيد أنبياء الله عليهم السلام ثم تنحل تلك الدول لتصل إلى مدارج الهبوط ، ثم تعود تلك المجتمعات نفسها بايقاظ الدين إلى الإلتزام بالأخلاق لتبدأ الصعود مجددًا و هكذا في دائرة ثابتة ، ما هو السبب الذي يجعل من هذه المجتمعات قابلة للحياة مجددًا ؟السبب هو معرفة العزف الصحيح على أوتار الأخلاق ، فالأخلاق موجودة في نفوس البشر و كل ما هي بحاجة له هو ايقاظ هذه الأخلاق لتأخذ دورها الصحيح لترسم سلالم صعود المجتمع ، و ايقاظها يكون بالوعي بها و إدراكها في مداركها الصحيحة ، لا بفرض الوصاية على الناس بها لأنها لو فرضت لمثلت نهاية لمفهوم الأخلاق فالنفس الإنسانية تأبى الفرض لانها حرة باختيارها و عملها و تفكيرها لا تقبل التكبيل .دستورنا كفل الحرية ، و لا تعارض بين الإسلام ( الحقيقي ) و الحرية أبدًا ، و لامعنى لأسلمة الدستور بنفس الصيغة التي يطرحها هؤلاء فليس في الدستور شيء ينكر الشريعة أو يقف ضدها و هذا علمٌ أكيد عند هؤلاء ، و لكنها كراسي الـ BMW 745 الوثيرة التي تفعل كل هذا ! ، بل إن مثل هذه اللجان ستوقع الكويت في مطبات لا غنى عنها أمام وكالات و لجان حقوق الإنسان في العالم ، لأنها تملك اتفاقيات و بيانات وقعت عليها الكويت و أصبحت ملزمة بها ، و يكفينا الملف المتخم بالتجاوزات في مجالها .