6 نوفمبر 2014

29: عن اليوم الضائع


كم مرة قرأت أو سمعت لمن يشتكي بذل نفسه للآخرين وحين يحتاجهم يصدّون عنه؟ شخصيًا، ربما مئات المرات ولا أبالغ إن عددتها بالآلاف! ومع هذا في كل مرة نُصدم حين يتجدد نفس الأمر معنا! وليست المشكلة في أننا لا نتوقع قدوم ذلك ولكن في أننا نعتبر الأماني بالتغير حقيقة، والحقيقة مجرد حدث شاذ لا يتكرر، ثم يتكرر ويتكرر!

أنا أعلم أن دائرة الزمن تدور وأن الأحداث والوقائع تكرر نفسها وأن الإنسان - كما قال هيغل في العبارة التي سئمت من قراءتها - تعلّم من التاريخ أنه لا يتعلم أبدًا من التاريخ ولكن كل هذه المسلّيات لا تفلح في صرف النظر عن الإحساس بالألم في كل مرة يتم صدّنا بها، ونعود بعدها لنشتكي من بذل أنفسنا لمن يسترخصنا! يبدو أن ذلك التشّكي والتذمر طبع إنساني أصيل فينا كبشر، وهو شيء بمثابة جزء لا ينفصم عن الفطرة البشرية التي هي الأرضية المشتركة بيننا كأبناءٍ لآدم وحواء، ولهذا لا نستطيع أن نتعلم كيفية تجاوز ألم الاسترخاص والصدّ بل نظل نشتكي، كما فعل الماضون وعلى سيرتهم سيكون القادمون، أما المعاصرين فها نحن نشتكي ونشتكي إلى ما لا نهاية!

إنك لا ترى أحدًا يستطيع أن يعلّم نفسه الصمت بعد أن ينطق لأنه بذلك ينعزل عن الناس والعزلة عند كائن واع واجتماعي ومدرك للعلاقات هي باعثة لخوف يفوق في درجته الخوف من الموت، فالموت مغادرة الناس والعزلة حبسٌ بين الناس! حتى ما يقوم به كهنة البوذ وسالكي طرق تهذيب النفس من نُذِر الصمت هي مجاهدة لترويض النفس، والجهاد هو صبر على ألم شديد، فكل ما فعله هؤلاء هو أن علّموا أنفسهم الصبر  وقاسوا ألمه وتقبلوه بدلاً من ألم اللذة المؤقتة الراحلة، ولم يزيلوا الألم كليًّا، ربما ذلك لأن الإنسان كائن متألم، يولد بآلام، ويحيا بالآلام، ويموت مخلفًا وراءه آلام! في تعلّمه يمارس الألم: ألم بطء قدوم المعرفة وممارستها، في عمله يتاجر بالألم: ألم حرمان النفس الذي يجعله يبيعها وهي أغلى ما يملك مقابل أرخص ما أبدعه الإنسان: ورق المال!، في نومه يغالب آلام التفكير باليوم، وفي يقظته يكابد آلام جهل ما هو قادم، في راحته يعاني ألم ترقب انتهاء الراحة وبدء المشقة، حتى في نُطقه يقع في ألم تحمّل الضوضاء حوله وهو ألم أهون من ألم الصمت والتفكر وضوضاءها داخله.

يريد الناس أبطالاً خارقين من صنف البشر العاديين حتى يكذبوا على أنفسهم ويوهموها بأنها تحتوي في داخلها كائنات خارقة لكنها تنتظر فرصتها! ثم تنتظر فرصتها كـ"غودو" الذي لا يأتي أبدًا!

 ليس ألم الانتظار -كما يقولون- هو المؤلم حقًا ولكنه الإحساس بأن الانتظار خدعة وأن الفرصة مجرد وهم ومع هذا نلبث في انتظار المعجزة، معجزة أن نجد شيئًا بلا ألم في هذا الوجود المحدود.

ليس عند الإنسان ما يعالج به ألمه، كل ما اخترعه وابتدعه هي ملهيات عن هذا الألم، لكن الملهيات تُوَلّد المفاجأة، لأنها تصفع بضربات استباقية، تستطيع أن تتغلب على ألم تتوقعه لكن الألم المفاجىء يطيح بصاحبه، لهذا السبب ربما في كل قرن ينجح الإنسان بأن يخترع أسلحة تفوق أسلحة خصمه ومع هذا قد يغلبه شرذمة لا يملكون سلاحًا ولكنهم يملكون قدرة المباغتة.

هو، هذا، ملخص التاريخ، الإنسان السوبرمان كما حلم به نيتشه يتغلب على كل شيء إلا على موت الإنسان، يميت كل شيء، وهو نفسه يموت، مقهورٌ في وجوده، وإن قهر الموجودات غيره!

انظر وإلتفت ‏إلى فطرة عشق الراحة التي يقاسي الإنسان الآلام لأجلها نيلها، ويتحمل الصدمات تلو الأخرى ليُثّبت لنفسه فطرة عشق الحرية ثم إلتفت وتأمل ما عليه هذا العالم من ضيق وموانع تحول دون نيل العاشق لمعشوقه، وستقطع بعدم وجود هذا المعشوق الذي فيه حرية بلا صدمة العائق وراحة بلا ألم في عالمنا الدنيوي.

إننا مخلوقات من جنس الآخرة، {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، نلبس أثوابًا منسوجة من خيوط الدنيا، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ}، ولشدة عشقنا لهذا الثوب نعمل كل ما يمكن لنقول أنه لا بدن لنا سواه! فهل رأيت مخلوقًا أتعس من الإنسان؟ حيث يمضي يومه في حفر الدركات خوفًا من ألم صعود الدرجات؟

ثم يحتفل بذلك اليوم!

عن الصادق عليه السلام: مَنْ تَعلَّقَ قَلبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا تَعَلَّقَ مِنْ ضَرَرِهَا بِثَلاثِ خِصَال : هَمٌّ لا يُفْنَى ، وأمَلٌ لا يُدْرَكُ ، وَرَجَاءٌ لا يُنَالُ.

21 سبتمبر 2014

مبدأ الضلال بين الكليني والنعماني

يُقال في المثل الفارسي ما ترجمته: العِلمُ كلبُ الشيطان. ومعناه أنّ العلم ليس عاصمًا للإنسان، بل قد ينهشه كما ينهش كلب الصيد طريدته، وهو في الحالة هنا كان كلبًا للشيطان أطلقه على الإنسان، فظنّ أنه قادر على أن يروّضه وانتهى به الحال ضحية له. ما تقوله الأمثال يمكن أن نعتبره شيئًا أشبه بـ"البديهة الإنسانية" فهي خبرة مشتركة بين كل الناس تختلف بألفاظها وتتفق بمضمونها. ومفادها أنّ هناك شيئًا دخيلاً لا يزال مجهولاً لم يناط لثامه بالكامل له دخالة بسلامة الإنسان وإنحرافه، شيء يفوق الأجوبة المعتادة من كون العلم أو المعرفة أو العقل قادرة لوحدها على عصمة الإنسان من الانحراف أو الضلال!


حين تقرأ تاريخ البشرية، لا تستطيع أن تهمل التساؤلات التي تتكاثر في الذهن عن الأسباب التي أدت لإنحراف جماعات، أو ضلال أفراد، أو كيف نشأت الكثير من الخرافات والمعتقدات، أو تسربت اعتقادات لأذهان أخرى فاختلطت مع أساطير وأوهام وعادات الآخرين. بل كيف نشأت الكثير من الفِرَق والمِلل، وكيف تم إعادة تشكيل الأفكار وظهور النِّحَل. ولست وحيدًا في هذه التساؤلات، فقد طرحت من كل صاحب فكر، وقدمت لها الإجابات من أصحاب النظر. وكنت أثناء مطالعتي تخطر علي هذه الأسئلة فأرى أحدهم تارة يصنّف فيها، وآخر يمر عليها عارضًا، وثالث يلمّح لها تلميحًا، إلا أنّ التساؤل لم يشبع، والنّهم لم ينته.

يذكر الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني (ت: 380 هـ) في مقدمة كتابه "الغَيْبَة" السبب الدافع لكتابته فيقول: «فقصدت القربة إلى الله عز وجل بذكر ما جاء عن الأئمة الصادقين الطاهرين عليهم السلام من لدن أمير المؤمنين عليه السلام إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي عمي عن حقيقتها ونورها من أبعده الله عن العلم بها...»، فهو يعتبر عدم العلم نوعًا من العمى يصدّ الإنسان عن رؤية النور (الذي هو نوع نور غير مادي يشير إلى صفاء الحقيقة حتى لا تحتاج لتوسط غيرها في البَين لبيانها)، لكن ما السبب الذي يجعل هذا الشخص مبصرًا والآخر أعمى؟ يشير النعماني إلى مفهوم "تشّكك الإيمان" أي تعدد المراتب للحقيقة الواحدة، فيقول: «وأكثر من دخل في هذه المذاهب إنما دخل على أحوال: فمنهم من دخله بغير رويّة ولا علم، فلما اعترضه يسير الشبهة تاه. ومنهم من أراده طلبًا للدنيا وحطامها، فلما أمالَه الغواة والدنيويون إليها مال مؤثرًا لها على الدين، مغترًا مع ذلك بزخرف القول غرورًا من الشياطين ... ومنهم من تحلى بهذا الأمر للرياء والتحسن بظاهره، وطلبًا للرئاسة، وشهوة لها وشغفًا بها من غير اعتقاد للحق، ولا إخلاص فيه، فسلب الله جماله وغير حاله، وأعد له نكاله. ومنهم من دان به على ضعف من إيمانه، ووهن من نفسه بصحة ما نطق به منه، فلما وقعت هذه المحنة التي آذننا أولياء الله صلى الله عليهم بها مذ ثلاثمائة سنة تحير ووقف ...».

ويمكن للحَذِق حين يَسْبُر هذه الحالات التي ذكرها النعماني أن يرى بوضوح أنها حالات نفسانية، وجدانية، تُتَرجم بالخارج إلى انتماء أو ترك لاعتقاد ما، فالرياء وطلب السلطة والعجلة والغرور وغيرها هي طبائع إنسانية تنشأ من الطمع والجشع، ولا يختص ذلك بالماديّات بل حتى بالأمور المعنوية، فالإنسان لا يبحث عن المال حتى يشبع نهمه فقط بل الكثير من الناس يبحثون عن فعلٍ يخلدهم، ولو كان بالسلب، فلا يمتنعون من ارتكاب العجائب كمن بال في بئر زمزم، أو أجرم وبطش في النّاس.

غير أنّ النعماني يرجع السبب في الإندفاع مع هذه الحالات النفسانيّة والطبائع الإنسانية بحيث تصبح سببًا لمبدأ كل ضلالة، إلى الجهل، والجهل قسمان عنده، جهلٌ يعني عدم العلم، وجهل يعني عدم أخذ العلم من موارده الصحيحة بل من أدعيائه، فيقول: «ولعمري ما أُتيَ من تاه وتحير وافتتن وانتقل عن الحق وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية والعلم وعدم الدراية والفهم، فإنهم الأشقياء، لم يهتموا بطلب العلم ولم يتعبوا أنفسهم في اقتنائه وروايته من معادنه الصافية على أنهم لو رووا ثم لم يدروا لكانوا بمنزلة من لم يرووا».

 والسبب الذي دعاه إلى وضع الجهل في هذا الموضع اعتباره أنّ العلم بما هو علم يرشد الإنسان لهداه، ويوضح له ما اشتبه عليه، ويوقفه على حقيقة الأشياء فيعرف منها النافع، ويتجنّب الضار، وبعبارته: «وتحقق فيهم وصف الفرقة الثابتة على الحق التي لا تزعزعها الرياح، ولا يضرها الفتن، ولا يغرها لمع السراب، ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم»، وبذلك يكون اليقين قرين الإنسان فلا ينقدح الشك في قلبه ليكون سببًا في الإقدام على ما اشتبه عليه: «بما أوجبته قبائح الأفعال ومساوئ الأعمال، والشح المطاع، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي، والشهوات المتبعة، والحقوق المضيعة التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس، فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه لكميل بن زياد في صفة طالبي العلم وحملته: (... أو منقادًا لأهل الحق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ...) حتى أدّاهم ذلك إلى التيه والحيرة والعمى والضلالة، ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين الله، وتمسكوا بحبل الله، ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم». فالثبات على الحقيقة هو جهاد يتطلب التعلّم الدائم، والمداومة على العمل بهذا العلم، ومقاومة نزعات النفس بجرّ هذا العلم إلى خانة الرياء أو التكسب أو الاستفادة في تحقيق المصالح الخاصة والأنانيّة، كما أنّ العلم ليس كل معرفة ملفقة بل هي معرفة تامة بذاتها لا تكون شرعةً لأي أحد بل لأهلها الذين استحقوا حملها.

يتضّح من هذا، أنّ النعماني يُرشد إلى أن الضلال والإنحراف ليسا قدرًا مفروضًا على الإنسان ولكنهما ثمرة طبيعية لغرس الجهل الذي غرسه في نفسه، وهذا الجهل هو ابن شرعي للشك، فإن نفي الحقائق، واخضاع كل علم للشك لا لإختباره إنما لنفي الحقيقة عنه يولّد اضطرابًا عند الإنسان يسلبه كل معيار سليم يستطيع من خلاله موازنة نفسه في الحياة، وأولى ضحايا هذا المعيار المفقود هو العقل الذي يصبح من قوّة ايجابية ضابطة للإنسان إلى قوّة سلبية تعمل عمل الخادم لرغباته وأهوائه واشباع شهواته وبقاء غفلته، وهكذا يميل مع كل من يغريه باشباع هذه الحاجات ولو كان على حساب إنسانيته، فلا تعجب من كون عبقريًا أو خارق الذكاء يكون سببًا لكل دمار وهلاك فالذكاء قوة خادمة وليس قوّة ضابطة كالعقل النامي بالعلم، رغم أن محلّهما هو المخ.

من جهة أخرى، لا يختلف الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت: 328 هـ) كثيرًا عن النعماني، إنما يصيغ عباراته بدقة، فيقول: «فقد فهمت يا أخي ما شكوتَ من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأزر [يضعف] كله وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا العلم وأهله» فهو هنا يشير إلى أن الجهل ليس عدم العلم، ولكنه علم مزيّف أو مزوّر بهيئة العلم الصحيح، فهو بنيان كامل بحيث يصبح وجودًا يُستدلّ له، ويُبرهن عليه ويُزادُ فيه، فتستطيع أن تقول أن الجهل هو وجود مليء بالمغالطات والتركيبات الخاطئة بحيث كلما زاد التعمّق فيها إزداد البُعد والانحراف عن جادة الصواب.

ويكمل الكليني حديثه مبينًا، أنّ مبدأ الضلالة والهداية لا ينشأ من النفس بل من العقل لكون العقل إذا كمل صار قادرًا على تمييز القبيح من الحسن، سواء كان ذلك القبيح من داخل النفس أو من خارجها، فيقول: «فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي، وجعلهم جل ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عزوجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير، والرجوع إلى قول أهل الدهر، فوجب في عدل الله عزوجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي، بالأمر والنهي، لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه ويوحدوه، ويقروا له بالربوبية، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم ...».

ومفاد كلامه  -رحمه الله- أن التكليف يدور مدار العقل، ولولا هذا العقل وقابلياته لما كان لله سبحانه أن يكلف العباد، والتكليف لا يكون إلا بالتعلّم والأدب ليعرف الإنسان ما ينبغي عليه وما ينبغي له، ولو كان الجهل جائزًا للناس لما أوجب عليهم التفكر والتعلّم والنظر، وقد يقول قائل فما بال المجانين وناقصي العقول ومن كانت استعداده للتعلّم قليلاً؟ فالجواب في طيات كلامه هو أن واجب المتعلّم تعليم الجاهل، ولو جاز للجميع البقاء على الجهل ما مضت الحياة وما استمرت، ولا امتاز النوع الإنساني عن غيره من البهائم، ولما صحّ أن يكلّفهم الله سبحانه لأن تكليف الجاهل العاجز خلاف الحكمة والعدل، والخالق سبحانه حكيم عادل بلا شك فلا يصدر منه -سبحانه- القبيح.

ويأتي الكليني بعد ذلك إلى السبب الذي يدفع الشخص إلى الخروج من اليقين إلى الشك، والنزوع إلى الجهل والضلال، فيقول: «والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محمودًا عند ربه، مستوجبًا لثوابه، وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لا يدري ما يؤدي، ولا يدري إلى من يؤدي، وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة مما أدى، ولا مصدقاً، لأن المصدق يكون مصدقًا حتى يكون عارفًا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عزوجل: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة، لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة، إلى الله جل ذكره، إن شاء تطول عليه فقبل عمله، وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} لأنه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم عليه السلام: "من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"، وقال عليه السلام: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال"، وقال عليه السلام: "من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن".».

فالنصّ يشير بوضوح إلى أنّ البقاء على الصحة والسلامة، وعدم الريب والزيغ، منوط بثلاثة أمور هي: العلم واليقين والبصيرة. بالعلم يعرف تكليفه ويعقله فلا يتجاوز حسنًا ولا يبقى على قبيح، وباليقين يكون عمله تامًا ومتقنًا، وبالبصيرة يكون واعيًا وعارفًا، ويظهر بهذا أن الجهل له ثلاثة مناشيء وهي عدم العلم والمعرفة، والشك، والإثنان الأوليان من مختصات العقل والثالثة من مختصات القلب، فالشكّ إذا خرج من كونه قنطرة لليقين إلى كونه قاطرة تهدم كل يقين، صار مرضًا قلبيًا يدل على عدم قدرة العقل على التوفيق بين ما يدركه وما ينبغي عمله، فلا يكون له القدرة على الترجيح واتخاذ الحكم، ولا تكون للنفس الثقة بحكم العقل لتذعن له.

وعلى هذا الأساس يشير الكليني إلى سبب نشوء الملل والنحل المختلفة: «ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتًا مستقرًا، سبب له الأسباب التي توديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارًا مستودعًا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، لأنه كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئًا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالِم عليه السلام: "إن الله عزوجل خلق النبيين على النبوة، فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية، فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قومًا إيمانًا فإن شاء تممه لهم، وإن شاء سلبهم إياه". قال: وفيهم جرى قوله: فمستقر ومستودع».

فهو بعد بيان دور الجهل والعلم، يأتي لدور العوامل الغيبية في تحديد هداية الإنسان وضلاله. والعوامل الغيبية هي عوامل معلولة أيضًا خاضعة لنظام الأسباب والمسببات ولكن نظامها غير منكشف بكامله عندنا، وإنما الثابت أن جزاء كل عمل هو ما يستحقه، فالهداية هي استحقاق لصاحبها نتيجة تهيئته لأسبابها فصار المقتضى لتحققها موجود والمانع منها مفقود، ويتضّح ذلك جليًا بنصه على «كلما رأى كبيرًا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله»، فتركُ العقل القطعي وجعل الهوى والميل ميزان للاستحسان والرفض للمعارف يجعل من ذات الإنسان هي الميزان، وذات الإنسان بحكم تركبها من عقل وروح، فكر وهوى، إلى آخر هذه الثنائيات فإنّ ميلها للدعة والراحة يجعلها تنزع نحو ما فيه لذة عاجلة على ما فيه لذة آجلة، لذلك يكون اختيارها لما يناسب الهوى أسرع من اختيارها لما يناسب العقل القطعي بما يتضمنه من تحليل وتركيب ونظر، ولمّا علم الله سبحانه بتوّطن نفس هذا الإنسان على ذلك كان استحقاقه للضلالة نتيجة حتمية له، فكما أن النار تنتج الحرق كذلك النفس المتوطنة على الميل نحو الهوى وعدم الفصل باستخدام العقل لا تنتج إلا الفساد.

قد يستشكل بعضهم بقول الكليني: «فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه»، والجواب في قوله تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا. كلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، فالمشيئة هنا باصرة إلى نيّة الإنسان وباعثه على عمله، لا على عمله فقط، فإن خالصًا عن نية سليمة هداه الله جزاءً لهذه للنية، وإن كانت مشوبة وملوثة قادته إلى الخذلان فالذي خبث لا يخرج إلا نكدًا، وكل ذلك بمشيئة الله سبحانه الذي خلق عباده مختارين لا مجبرين، حتى لا تكون لهم حجة.

الخلاصة:


مبدأ الضلال والإنحراف، ليس وجود شيء يسمى بالضلال والإنحراف في الخارج مع الإنسان، بل هما نابعان منه وهو مُوجِدهما، فهما قدرٌ متولد من الإنسان يختاره بمحض إرادته، يُنّظر له ويُقدم عليه، ليحقق غاياته وأطماعه، لذلك ترى كل ضلال وإنحراف خطابهما شعوريّ وحسي لا عقلي، وإن ظهرا بلغة العقل إلا أن العودة للقواعد العقلية القطعية والبرهانية سرعان ما تكشف هذه الدعوى وتظهر زيفها وبطلانها. ومن هنا كان جهاد النفس أشدّ وأقوى لأنه دائم ودقيق، وليس مؤقتًا وعامًا كما هو مع العدو الخارجي، فالعدو ينتهي مع مرور السنوات ويتبدّل أما الضلال الذي يتولد من سوء النفس وخبث سريرتها يتوالد ويتكاثر مع الأيّام. وعليه كل خطاب يتوجه لبيان مبدأ الضلالة لا يترك مربع النفس لغيرها لكونها المؤثر الأول فيه.
وهذه النفس هي التي فوق العلم والمعرفة والعقل، لأنها بمثابة التربة التي تهيئ لما سبق ذكره أن ينتج ثمره، فإن فسدت التربة فسدت الثمرة وإن كانت البذرة من أجود الأنواع، وهكذا هو الإنسان، فإن الضلال والإنحراف الذي ينتجه يعود لانحراف الساحة التي تمارس فيها قواه سابقة الذكر تأثيراتها فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:

جميع الاقتباسات هي من:

(1) كتاب الغّيْبَة، للشيخ الأجل محمد بن ابراهيم بن جعفر النعماني، المعروف بأبي زينب.
الطبعة الأولى، 2013م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ص (9-22).

(2) كتاب أصول الكافي، لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني.
الطبعة الأولى، 2005م، دار المرتضى، بيروت - لبنان، ص (5-9).

13 مارس 2014

صناعة الإنحراف

الانحراف ليس موقفًا، وليس حالة يمر بها الشخص بل هي طبيعة يُصنع عليها ويكبر. قد تكون كلمة الإنحراف ثقيلة على النفس، فمن يخوّلك أن تسمي فلانًا منحرفًا أم لا؟ من نصبك قاضيًا أو نبيًا يوحى إليه بحقائق الناس؟ حسنًا، مثل هذه الأسئلة صحيحة لكنها أيضًا ليست مطلقة. الانحراف صناعة يتم فيها نحت فكر الفرد، وصناعة شخصيته بحيث تعود كالمنخل لا يمر منه إلا ما يناسب المعايير المنحرفة التي زُوّد بها. لست بحاجة لأن تكون نبيًا أو قاضيًا حتى تحكم بانحراف شيء ما، فإن الحسن والقبح يدركهما العقل، كما يدرك تمامًا أنّ التعدي على ما هو حق للآخرين قبيح وأن الإصرار عليه انحراف، يدرك أنّ الأمانة – وهي قيمة مطلقة لا تتغير بتغيّر الزمان أو المكان – أمر حسن وأن الإصرار عليها هو سلامة في العقل والنفس. إن صناعة الانحراف تحاول تبرير انحرافها بأن تصور لك انعدام الحقيقة، بطرح صعوبة الوصول إليها أولاً، ثم تساوي كل الحقائق وتشكك فيها حتى تصل معك إلى أن الحقيقة هي ما تريده أو تشتهيه فيصبح معيار الصحة والسلامة نفسك وما تهواه وأما كل المعايير الخارجية فهي مجموعة أكاذيب لا واقعية لها، تحاربها بشدة.

لا يمكنك الحكم على نيّات الناس، لكن يمكنك محاكمة أفعالهم ومواقفهم وإن الخلط بين الاثنين لتخويف الآخر من ممارسة هذا الأمر العقلاني يعود في جذوره إلى الرغبة بعدم بيان خطا الانحراف. تراه سليط اللسان بالنقد والاتهام لكل ما لا يعجبه لكن ما أن تشير لخطئه في النقد وفقدان مقدماته تتملكه الثورة فيبدأ سيل اتهاماته بالتحجر والتخلف والجهل ومعاداة العقل! رغم أن العقل كقوة مدركة يحكم بوجود معايير خارجية تميّز الصحيح من الخطأ، لكن العقل كمصدر معرفي متوهم مثل الذي يدعون إليه يقول لك بأن الصحة منفعتك والخطأ هو إيقاف منفعتك لأجل الآخر، يضع لك المقاصد ويطلب منك أن تحوّر كل شيء وفقها، فهو عقل نفساني (سيكولوجي) محكوم بالرغبات والحاجات ومسيطر عليه بالمنافع والغايات. قد تضع رجلك أمام أحدهم وليس بنيّتك إهانته لكن فعل الإهانة قد تحقق بغض النظر عن النيّة، وتكرار الفعل يكشف عن نية ما لبثت أن تترجم نفسها لسلوكٍ دائم ومستمر. إن أكبر مورد لانتشار الدجالين وقبولهم بين الناس هو هذا التهوين والعبث بالحقائق وموازينها ونسف مقدماتها، بحيث يصبح لكل راية ضلال أتباع[1].

لكن ما هو منشأ هذا الانحراف؟ في القرآن الكريم التفاتات ظاهرية لطيفة جدًا، فهناك حقيقة قرآنية ملفتة للنظر هي أنّ الناس يؤمنون بدعوات الأنبياء بعد جهد جهيد وصراع مرير ولكنهم سرعان ما ينقلبون على أعقابهم بعد رحيلهم أو غيابهم، وفي الغالب الأعم – إن لم يكن الكل – لا يكون ذلك الانقلاب إلا بعد العلم والمعرفة وليس ناشئًا من جهل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[2] لكن العلم ليس هو السبب في الضلالة والانحراف كما قد يندفع الذهن لاستظهار ذلك إنما هو بمنطوق الآية (البغي) وهو شيء يتعلق بذات النفس الإنسانية لا بشيء آخر.

صحيح أن العلم والمعرفة يمتلكان القدرة على إنشاء هويّة متفردة للإنسان بين الباقين فيصبح ذاك مميزًا بالعلم أو عالمًا وذاك عارفًا لكن هذه الهويات لتعلقها بالإنسان تبيتُ وهي لها جانب شخصي يتعلق بصاحبها ويتبعه، وهذا الجانب الشخصي يتمثل في إعادة تفسير ذلك العلم ليناسب الهوى الذي يعارض حقيقة العلم {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}[3] وهذا العلم المُلّفق دائمًا ما يكون منطبعًا بالهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[4] لكن هذا الخطاب لمن؟

يظهر أنه متعلّق بعقلية المجتمع التي ترفض التنازل عن موروثاتها لأنها تعتبر ذلك الموروث هويتها {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[5] فمهما تعددت الهويّات المصنوعة من العلم فإنها تخضع بالنهاية للطبيعة الإنسانية المصطبغة بالهوى والرغبة والإتباع والانتماء لفئة وإرثٍ ما، وهذه الهويّة الموروثة تنشا من عاملين مودعين في النفس {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[6] ورغم أن الاختلاف والتباين بين الناس يتمظهر بصورة خلاف هويات في العادة، إلا انّ الاختلاف والتباين حقيقته ليس صراع هويات إنما صراع النفس الإنسانية ذاتها في داخلها وينعكس على الخارج بصورة خلاف هويات وأيدلوجيات، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[7] أي أنّه ما دام الإنسان إنسانًا يتنازع في داخله هذين العاملين سيستمر الخلاف ما بقي، فصراع الحق والباطل، الخير والشر، هو صراع الإنسان اليومي مع نزعة الفجور فيه ونزعة التقوى، لكن لأنهما داخليان وساحتهما النفس الباطنة فهو يرشحان للخارج بصورة هويات أو اعتقادات ما تلبث أن تحاول الانتشار وهي أسوأ أنواع الانحراف، لأنها تسوّق لك أهواء المنحرفين ورغباتهم بالتسلط على أنها حقائق يقينية وهي ليست سوى ظنون وهمية لا تملك قطميرًا من القبول العلمي.

لكن كيف تكون صناعة الانحراف؟ تتميّز صناعة الانحراف بأنها صناعة اجتماعية تقوم على تشويه المعرفة، ونقض أسسها، وتحطيم كل ما له علاقة بضبط ميزان العقل تجاه الحكم على القضايا. تبدأ بتغذية نزعة التشكيك من خلال التركيز على التناقضات لكنها أبدًا لا تعود للجذور لتوضيح السبب في نشوء التناقضات إنما تكتفي بأخذ ظواهرها[8]، وتتميز صناعة الانحراف بأنها لا تقدم علاجًا لهذه القضايا إنما تعمد إلى خلق وضع بديل بحيث ترمى كل المساوئ على الوضع الأول وتصور الحلول محصورة بالوضع الثاني. وهي تنزع إلى تبرير كافة الأخطاء وتسوّق لكافة الانحرافات حتى لا يكون هناك معيار واضح يمكن استخدامه في الاشارة إلى واقع هذا الانحراف المصطنع. وهذه علامة مميزة لصُناع الانحراف فإنهم لا يتعلمون العلوم للوصول إلى اليقين إنما لضرب بعضها ببعض لابقاء حالة التشكيك[9] لأنه في مثل هذه الحالة، يكون استقبال أي فكرة أو دعوى ترتكز على نسف كل معرفة وعلوم عقلائية معتبرة، في مورد القبول!

غير أنّ لُبّ سر صناعة الانحراف يكمن هنا، في أن العقل البشري غير قادر على تنقية ذاته بذاته، فهو كالآلة يعتمد على ما تغذيه به من معطيات[10] وعقلاً يتغذى المغالطات يتصور أن التفكير المنطقي السليم هو خطأ وعدوٌّ له، ومن ثم فإن المتلاعبين به ليس عليهم أن يشيروا له لمواضع الانحراف حتى يقبلها ويسير بخطاها بل سيتجه بنفسه بفعل ما ينتجه عقله من أفكار منحرفة إلى توليدها واتباعها فتبدأ ظواهر الانحراف تطفو على السطح من نكران البديهيات إلى كسر كل المحظورات الأخلاقية والإنسانية لتصل حتى إلى شرعنة المثلية والنفعية! وليس ذلك بسرّ، فإن أفكارًا كالنازية أو مذاهبًا كالخوارج أو سلوكيات كما كانت عند الحشاشين مات مُنّظروها منذ سنوات وقرون، لا يزال متبعوها يتكاثرون ويتوالدون لأن المنظومة الفكرية التي أخرجت هذه الأفكار المتصارعة والمتناقضة التي صيغت في بدايتها لخدمة أهداف معينة عند أصحابها في طلب القوة والسلطة لها خاصية العدوى كعدوى الجراثيم، سرعان ما تلتهم العقل وتخضع كافة قواه لسيطرتها وتعود قادرة على التكاثر بنفسها وتوليد ذاتها كالميكروبات في طول السلسلة البشرية، وحينها قد لا تعجب أن ترى بروفيسورًا في الطب يقدّس بقرة فإنّ بديهة المعرفة التي ترفض ذلك قد طمست بفعل ما آمن به من نكران المعرفة الحقيقية القائمة على البديهيات اليقينية فتراه لا يمانع أن يؤمن باجتماع الظلمة والنور في بقعة واحدة وزمنٍ واحد!

إن هذه العالم ليس بعالم الملائكة بل هو أقرب لعالم الأباليس، وكان إبليس أول من صاغ معرفة تقوم على تفضيل الذات على أساس انها الحقيقة المطلقة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[11] وعلى دربه يسير سُرّاق المعرفة وصُنّاع الانحراف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في الكافي، ج8، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما من عبد يدعو إلى ضلالة إلا وجد من يتابعه.
انظر أيضًا: سفيد: كلاوات العقل
http://safeed.blogspot.com/2011/01/blog-post_22.html
[2] آل عمران / 19
[3] البقرة /  145
[4] البقرة / 145
[5] يونس / 78
[6] الشمس / 8
[7] هود / 118
[8] إننا نرى الأفعى سامة والسم قاتل لنا، فنتصور ذلك شر من صنع الله – عز وجل – ولكن الواقع أنه ليس شرًّا بل بهذا السم تحيى الأفعى حياتها، فهو خير لها، وأن ميزان الأمور العدل وليس المساواة فكما زُوّدنا بما نحتاجه للحياة التي نحياها زُوّدت هي بما تحتاج للحياة التي تحياها في بيئتها ومحيطها. دون الرجوع إلى جذر المسألة وهو بيان مدى الاستعدادات والقابليات والطبائع فإن وجود السم عند الأفعى وانعدامه عندنا يمثل تناقضًا في نظام الوجود الخيّر بينما هو ليس كذلك!
[9] "فالشك ما هو إلا قنطرة ووسيلة ومقدمة لتمحيص الحقائق والمعتقدات، فإما أن يصل الإنسان بعد البحث والتحقيق إلى حالة الإذعان بالنفي أو الإذعان بالثبوت، وأما بقاؤه مرابطًا في منطقة الشك مع كفاية ما يصلح للاستدلال على الحقيقة فإنها حالة مرَضيّة غير طبيعية، فإن حالة الشك عبارة عن تذبذب واضطراب وتحيّر في النفس من جانب القوى العمليّة في انصياعها للقوى الإدراكية ومن ثم أرشدت الشريعة ونهت عن البقاء في حالة الشك وعن جعل اليقين شكًا..." انظر: بحوث في قراءة النص الديني، الشيخ محمد السند، ص 30 وما بعدها.
[10] وهنا البحث في افتراق العقل الذي هو قوة مدركة عن الفطرة أو العلم البديهي "النفس-أمري" كما يُصطلح عليه، فإن الأول يعمل عمل الآلة بينما الثانية تعمل عمل الوجدان وهي صوت التذكير بوجود الخطأ الذي قد يخرسه السخام الناتج عن الآلة (العقل).
[11] ص / 76

29 أكتوبر 2013

الإتصال والإنفصال في صناعة الأبطال

الشعور الأقلياتي ليس مختصًا بالأقليات العددية*، بل هو شعور يتنامى مع تنامي الإحساس بالاستقصاد والاستهداف**، وإن كان يستند الإحساس بالاستهداف إلى ماضٍ يثبت الواقع بأن هناك على مستوى ما من المستويات عملية استهداف مؤكدة إلا أنها في هذه الحالة تكون حالة مضخمة بدرجات أكبر. ويتعاظم هذا الإحساس أكثر مع الشعور المتجذّر باللاوعي بوجود الاختلاف رغم السعي على مستوى الوعي لنفيه وهو ما تراه من دعايات ساذجة تؤكد على هوية واحدة جامعة تصهر الجميع يكررها الناس رغم عدم إيمانهم بها. وقد ترى فئات عظيمة يتملكها الإحساس الأقلوي، وقد ترى فردًا ينتمي لأقلية لا يستحوذه هذا الشعور، وفي جميع الحالات المسألة خاضعة لنوعية الشعور وطبيعته لا لمجرد التصنيف العددي وحجم شريحة الانتماء الفكري أو الإثني.

يتميّز الشعور الأقلياتي بأنه ذو طبيعة مزدوجة، فتارة هو يفرض على صاحبه الإحساس بالإنتماء لمجتمع كبير وتارة أخرى متزامنة يدفع إلى خلق مجتمع جديد يعيش في حلقة تترابط مع المجتمع الكبير من جهة وتنعزل عنه من جهات كثيرة، ولتوضيح الفكرة يمكنك تصوّر عدة دوائرة مرسومة بداخل بعضها البعض، وعلى الرغم من وجود دائرة كبيرة تحيط بهذه الدوائر لتكون الدائرة الأم فإن الدوائر الأصغر بداخلها تمثل جزءًا من الدائرة الكبيرة وفي ذات الوقت دائرة متفرّدة بذاتها، ولهذا أنت ترى المسلم مثلاً في بريطانيا يصنف نفسه كجزء من المجتمع البريطاني تارة، وفي الأخرى يدعو إلى احترام خصوصيات المجتمع المسلم المستقل بذاته هناك، فلولا هذا الإحساس المزدوج والمتضاد بالإنتماء والإستقلال لما كان لمصطلح الأقلية - وما يستتبعه - أن يظهر. مع هذا، فإن التوصيف للأقلية كما مرّ ليس مختصًا بعدد أفراده إنما يتوّلد الشعور السابق عند أصحابه.

من هنا يمكن فهم الشعور الأقلياتي على أنه منهج في التعامل مع الواقع، فهو يعطي الشعور بالإنتماء وفي ذات الواقت يوهم بالإستقلال، لكنّ وجود نزعتين متضادتين عملّية منهكة جدًا، وهذا واقع كل نزاع يدور بين متعاكسين، فالقانون الأخلاقي في أنفسنا يتنازع مع رغبة التحرر من الإلتزام فينا، فتكون النتيجة {إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} للحفاظ على الإلتزام الأخلاقي مع مقاومة نزعة الإنعتاق من هذا الفرض، وهكذا، يبدأ الشعور الأقلياتي برسم ملامحه سواءً للفرد أو على مستوى أكبر لفئة ما.

أولى ملامح الشعور الأقلياتي هو التأكيد المبالغ فيه على الهويّة الجامعة بحيث تُلغى أي اشارة للهوية الذاتية إلا أنه سرعان ما يتم الرجوع لها بمجرّد الإحساس ببوادر الانفصال، فهي أشبه بلعبة حافة الهاوية، كما أن الشعور الأقلياتي يتميّز بعدم الرغبة على اثبات الذات إلا على مستوى القشور، أي تسجيل ما يعطي له التفرّد على الدائرة الأوسع وفي نفس الوقت لا يصبح دائرة مستقلة خارج الدائرة الأم. كما أنّ الشعور الأقلياتي يتمثّل في سعي أفراده للنزوع الشديد لتكوين جبهة معلّقة تبنى أساساتها على اعتقادات الفرد ويترجم سلوكها لسلوكيات الأغلبية، فلا يعود غريبًا أن ترى الشعور الأقلياتي يُصنَع من الاعتزاز بالهويّة لكنه في نفس الوقت ينبذ أي تمثّل واقعي لهذه الهويّة، يمكنك أن تفهم الصورة بشكل أوضح على سبيل المثال فيمن يدّعي الليبرالية في المجتمعات المغلقة كفكر ينتمي إليه ولكنه في نفس الوقت يدعو إلى الالتزام الشديد بالأعراف والعادات الاجتماعية وإن كانت غير صحيحة! إنّ الصراع الذي يمثله تضاد الدوائر الإنتمائية لدى الفرد يجعله مشتتًا فهو تارة داعية للحريّة في دائرة وإقصائي متطرف في دائرة أخرى ولا يرى بأسًا في ذلك لأنه محيط كل دائرة يجعله يتوهم غمتلاكه العذر في تذبذبه واختلاله هذا!

غير أنّ الشعور الأقلياتي يتجاوز الهويّة في كثير من الأحيان إلى أمر آخر على قدر كبير من الأهمية ألا وهو الاتجاه إلى صناعة "الأبطال" لكن على غير العادة فإن هذا البطل يتعاظم في مكانته وقيمته كلما كان "مزدوجًا" في شخصية وأفكاره التي يقدمها، وهذا خلاف العادة في اعتبار "البطل الأسطوري" يتمثل بشخصية الرجل "المبدئي" الذي يبذل كل ما يغليه في سبيل مبادئه والإبقاء عليها، وهنا يفترق "واقع الأقلية" عن "الشعور الأقلياتي" فواقع الأقلية هو السعي نحو الانكفاء وزيادة الارتباط للحفاظ على الهويّة بالإضافة إلى السعي نحو البقاء، أما الشعور الأقلياتي فهو يسعى نحو التذرر في الأكثرية وتضعيف الارتباط مع الأقلية مع الإبقاء على فوارق تحفظ لهم بعض الخصوصية التي تعيق الاندماج التام، والفارق الرئيسي بين "واقع الأقلية" وبين "الشعور الأقلياتي" هو أنّ البطل في واقع الأقلية عادة ما يكون أمثولة للنظام القِيَمي السامي لها بينما في الشعور الأقلياتي هو أمثولة للإحساس الكامن بالإزدواجية، فهو الحالة الأمثل التي تجمع التناقضات في نفسها دون أن يرف لها جفن لإزدواجيتها الواضحة.

إنّ طبيعة البطل الذي تصنعه دوائر الإتصال والإنفصال طبيعة احتفالية، أي طبيعة صاخبة تفقد صاحبها القدرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو مزيّف فيكتفي بطرح الكلمات والمفاهيم دون إنصات أو تفكير، ويتركز هجوم بطل الشعور الأقلياتي على القديم دون تقديم بديل واقعي لسبب رئيسي وهو اعتبار القديم هو المسؤول عن زرع الإحساس الأقلياتي ومن ثم عدم القدرة على الإندماج التام مع الباقين، ولهذا السبب بالتحديد يحاول بطل الشعور الأقلياتي اظهار التميّز بأيّ صورة كانت ولو على حساب مبادئه وتعاليمه السابقة، ويتبدى هذا التميّز في مخالفة السائد حتى وإن كان مبنٍ على أسس سليمة فقط لأن الشعور الأقلياتي يأنف من السائد الذي يجعله متقوقعًا في دائرته بدلاً من امتلاك مرونة الإنتماء والتحرك في أكثر من دائرة.

إنّ البطل في الشعور الأقلياتي هو الذي يستطيع أن يكون مصلحيًا لا مبدئيًا لكون كثرة التعامل مع المتناقضات واحتوائها لا تجعل ثابتًا إلا المصلحة وكل ما عداها متغيّر، وبناءّ على ذلك يكون البطل الأقلياتي مثيرًا للفوضى أكثر من جمعه للكلمة لأن الفوضى بطبيعتها تبرر المصلحة وتعطي الذريعة للتلّون لدرجة الإنقلاب على كل ما ادعاه صاحبها، وكلما تعاظمت المصلحة تعاظم معها الـ(أنـا) لهذا البطل تزامنًا مع تضخيمه من قِبل أمثاله لأنه حالة تعبّر عنهم، وهذه الأنا تلتهم أثناء تعاظمها الجميع حتى يصبح قولها قولهم، وفعلها فعلهم، وحكمها حكمهم ومن ثمّ يكون عقلاً وضميرًا وبطلاً لهم.

متلّسحًا بقوة الجمهور هذه، يصبح بطل الشعور الأقلياتي تحديًّا للواقع، يتعامل معه بالصدمات لا بالحلول، لإثبات أن القوة والشجاعة لا تنقصه، لتعويض الإحساس بالنقص عنده لعدم كونه إنبساطيًا يبسط وجوده على الجميع لا مجرد مماثليه من ذوي الشعور الأقلياتي، بل يصبح إنطوائيًا يمنعه جمهوره من أن يكون شخصية طبيعية لأنه يعتبر ذلك خذلانًا لهم رغم كل ما يمثلونه من تنافر مع الشخصية السويّة، وهذا الإنطواء هو دفاع عن الأنا التي تعاظمت حتى إلتهمت الـ"نحن" لتصبح رمزًا لهم، فبإنطوائه يفرد استاذيته وينتزع كافة القيود في تعامله دون أن يكون خاضعًا لمشرط النقد الأخلاقي.

إن الإحساس بالقوّة المستقاة من الجمهور تخفي في باطنها الضعف الذي يجعل من صاحبها عبدًا يستكبر حتى يدخل في دائرة الطغيان، وليس الطغيان منوط بالسلطة فقط بل يتعداه للقدرة على إطلاق الأحكام دون رادع داخلي أو خارجي وكلما استسهل المرأ هذا الشيء ازداد ارتباطًا بالدنيا فهو بالنهاية صنيعة أفرادها وصياغة أطماعها ومنحوتة لمصالحها وبُعدَه عنها والعودة للشخصية السوية يعني فقدان صفة البطل ولو على أُناسٍ لا بطولة لهم، وهذا أمر لا طاقة له به. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: مَثَل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ كلما ازدادت من القزّ على نفسها لفًّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمًّا***.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورد في سورة النحل {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} فالقرآن الكريم لم يشر لإبراهيم عليه السلام رغم كونه فردًا في وسط مجتمع إلا بكونه أمة وهي أكبر من المجتمع، وفي هذا إلتفاتة لطيفة إلى أن الشعور الأقلياتي ليس منوطًا بالعدد بقدر ما هو منوط بالفرد ذاته.
** هناك فرق جوهري بين الإحساس والوقوع، وقد يجتمع الإثنان معًا، إلا أن الفارق الأساس هو في التعامل مع هذا الاستقصاد والاستهداف فبدلاً من اعتباره علامة على الصحة والقوة يتم اعتباره عن أصحاب الشعور الأقلياتي علامة ضعف.
*** مشكاة الأنوار، الطبرسي، ح 1544.