20 فبراير 2011

الوردة التي عرّت الرصاصة

كنّا في جلسة مسائية كعادتنا كل ليلة في بيروت أيّام الدراسة، ومن تحت النافذة كان يصعد لنا صوت شجار تعودنا عليه كل ليلة بين مناصري فئة، ومعارضي الأخرى، أحدهما صاحب بقالة والآخر صاحب محل لتنجيد مقاعد السيّارات، يشربان الشاي صباحًا معًا، وبعد العمل يتشاجران على السياسة الداخلية لواقع متأزم في لبنان، دفع صوتهما المتعالي أحد الأصدقاء من دولة خليجية مجاورة، لسؤال الآخر، الذي كان بحرينيًا، عن الذي ينتظرونه لينتفضوا على الوضع المزري القائم عندهم، بطالة، وفقر، وتقسيم فئوي، وإثني، وتجنيس سياسي، وعنصرية بغيضة، وتفرقة طائفية، وقمع، وعنف، وسجناء رأي بالمئات بما فيهم مراهقين لم يتعدّوا الخامسة عشر من أعمارهم.

ابتسم الصديق البحريني، فهو نفسه كان سجينًا سابقًا، وتعرض لتعذيب في التسعينات أصيب على اثره بأمراض متعددة لازال إلى يومنا هذا يُعاني منها، مرددًا بيتًا من الشعر: لا تكشفنّ مغطـًا .. فلربما كشفت جيفة

ولم يخبرنا بما هي هذه الجيفة، فقد انشغلنا بمتابعة الشجار اليومي الذي كان يدور بالشارع عن اكمال حديثنا قبل الإنصراف.

وأنا أشاهد، وأتابع، وأراقب ما يجري هذه الأيّام عرفت معنى ما أراد إيصاله من هذا البيت. مستذكرًا تمام البيت:
إنّ الجواب لحاضرٌ .. ولكنّي أخفيه خيفة.

خيفة من التصنيف، وخيفة من التنميط، وخيفة من هلامية الشعارات، وخيفة من ازدواجية الفكر، وحولان البصر، وسوء النية، وبئس المنقلب.

خيفة من علمه أنهم لا يحاربون حكومة، إنّما يحاربون موروثًا عجنت فيه الإقصائية، والعنصرية، ويحاربون فكرًا تربى على مياه آسنة سممتها الفئوية والطائفية، ويحاربون نظامًا يستند على أعمدة مستوردة، والأَمَر من ذلك كله يحاربون واقعًا مريرًا تزاوجت فيه كل الأمور المذكورة لتخرج لنا مسخًا متعدد الجبهات يرى في مطالبة ابن الوطن أجندة خارجية، وفي قتله على يد مرتزقة من بلاد الهند والسند، بسلاح غربي، وغطاء فئوي أجندة وطنية، وهذه الرؤية تأتي من الناس حولهم، للأسف!

ولمَ كل هذا؟

الخوف من نفوذ «إيران».

الاسطوانة التي شغلها الهالك صدام، حامي البوابة الشرقية، حين مزق اتفاقية الجزائر معلنًا حربًا طحنت مليون مسلم امتدت على ثمان سنوات سوداء. نفسها اليوم تتكرر، بلا أي إضافة جديدة أو حتى تعديل على شعاراتها، تحت هذه الذريعة يتم التبرير لسفك الدماء. وكأن دروس الماضي لم تعلمهم، وحضارات اليوم لم توعيّهم بأن الخوف شعور لا يتملك إلا الضعيف، وهذا الضعيف وحده من يتحمّل تبعية هذا الضعف، والتضحية بالناس لا تكفي لتغطية ضعفك. هذه الدعاية المؤلمة، التي تؤكد بثناياها أنّ الوضع الحالي هو من أوصلهم لهذا الضعف ومع ذلك يرفضون إصلاحه أو تعديله، تحت ذرائع شتّى بطريقها توفر الغطاء لكل عمليات القمع والعنف الممارس.

وعليه، تطل الطائفية برأسها، وتمارس لعبة «التقوّل» بأبشع صورها، ويُتّهم كل من يطالب بإصلاح وطنه، وتوفير لقمة العيش، وإزالة كابوس الرعب والقتل بأنه يعمل لأجندة طائفية، ويتم تقويلهم ما لم يقولوا، تختم الصورة بأنّ هؤلاء العزّل الذين جابهوا الرصاص الحي بصدورهم العارية إيرانيون!
اسطوانة تذكرني باسطورة أم السعف والليف المخيفة التي لم تكن سوى النخلة المسكينة .. مطالبات وطنية من أبناء الوطن لم يريدوا بها سوى إصلاح الحال تُقدم على أوراق الورود ليمزقها رصاص مدّعي المبادئ، قبل رصاص البنادق!

لا يوجد أسوء من سلب إنسانية الإنسان من خلال العناوين التي تغلّفه، قد تملك رؤية، اعتقادًا أو فكرة ما تجاه أيّ أحد، لكنّ ذلك لا يعطيك الحق في نفي وجوده، ولا يبرر بأي حال من الأحوال عدم قبوله. هذه تسمّى اقصائية برزت بأشدّ صورها حين تواطأت وسائل الإعلام التي أشعلت الدنيا للتغيير في مصر وتونس على طمس ما يحصل، وسائل الإعلام التي عَبَرت القارات لتنقل الصورة ثم غرقت في شبر ماء يفصلها عن الأحداث الدموية بجانبها، وبرزت أكثر حين قام من يدّعي الديمقراطية، والعدالة، والحرية ويحمل مشاعلها بإعطاء الحق للقمع، والعنف خوفًا من اختيارات الأغلبية أو ميولهم.

ومما يؤسف له، أنه خوف يقوم على افتراضات مسبقة، وعلى نية مبيتة، تتجاهل كل الوقائع الثابتة بأنّ الحقوق للجميع، وليست حكرًا على طائفة أو فئة، وأنّ المطالبة سلمية لم تكن تريد سوى تنفيذ الوعود المقطوعة.
لتكشف لنا أنّ هذه القيم المذكورة هي «قميص عثمان» ترفع متى ما وافقت الهوى، وتنزل متى ما كانت تخالف التوجسات الموهومة، وأنها رائعة حين يتم توظيفها للمصالح الشخصية، وقبيحة حين تتطلب منك ما يتعدى مصلحتك الذاتية.

هكذا بدت في أحداث البحرين، وهكذا تبدو في أحداث البدون، بتغيير بسيط في العناوين العامة، وابقاء الجوهر كما هو، عنصرية مقيتة، وتبريرات واهية للإلتذاذ بالتعامل الإقصائي.

أثبتت الأحداث أن هذه المبادئ التي رفعت فوق كل زاوية هي مجرد كلمات تلوكها الألسنة، تنزلها في غير منازلها تارة حين تجعلها فرقانًا بين الحق والباطل في قضايا لا تحتمل هذا التقسيم، وتدفنها تارة أخرى في قضايا لا تقبل إلا الحق أو الباطل، لتؤكد مجددًا على أنّ الأزمات لا تولد إلا من أرحامٍ متأزمة "مبادئيًا"، هي بحاجة لتحرير هذه المبادئ قبل أن تدعيها، وترفع أشرعتها.

هناك 13 تعليقًا:

غير معرف يقول...

آه يا سفيد قلت الذي في القلب
لو انني كتبت هذا المقال بنفسي لما استطعت التعبير كما فعلت
هذا غيض من فيض
يبقى الواقع أشد إيلاماً ودمويةً وقبحاً من الصورة
شوارع تضرج بدماء الأبرياء
والأقبح من ذلك التصفيق والتطبيل لهذه المجازر
والأدهى من ذلك كله إعلان دول مجلس التهالك بتقديم كافة صور الدعم لحكومتنا السفاحة بل والمضي في ذلك بكل وقاحة
لا أريد أن اجر التعليق لزاوية الطائفية
ولكن ما يحدث في البحرين هو إبادة جماعية لطائفة معينة
أعذرني على الإطالة ولكن قلبي الدامي أبى إلا أن ينزف ها هنا
وقفة احترام لكلمة الحق
ولا تنسونا من صادق دعاءكم

بحرانية محتضرة

MoonFaCe يقول...

مقالة حزينة جدا...لا يسعني إلا الدعاء لشعب البحرين المضطهد و الترحم على شهدائهم.
(هذه تسمّى اقصائية برزت بأشدّ صورها حين تواطأت وسائل الإعلام التي أشعلت الدنيا للتغيير في مصر وتونس على طمس ما يحصل، وسائل الإعلام التي عَبَرت القارات لتنقل الصورة ثم غرقت في شبر ماء يفصلها عن الأحداث الدموية بجانبها،....) لقد قلتها...إقصائية فظيعة من قناتي الجزيرة و العربية...لا حول و لا قوة إلا بالله.

أحمد محمدي يقول...

عنصرية مقيتة، وتبريرات واهية للإلتذاذ بالتعامل الإقصائي.

احسنت !

المُهلجر يقول...

"ساكت وطلّعتوا روحي
وبس أثورن كلها صاحت.. طائفية!"

وما الحل يا سفيد؟ هل كُتب على الشيعة أن يكونوا مستضعَفين في الأرض، يُذبّح أبناءهم ويُريهم الظالمون صنوف العذاب، ثم بعد ذلك لا يحق لهم الصراخ من شدة الألم لئَلا يُتهموا بالطائفية؟ إلى متى يسكت المظلوم عن حقه مراعاة لمشاعر من لا يملك ذرة من إنسانية أو ضمير؟

يا أحرار البحرين، يا "بحرانية محتضرة"، لا يخوفوكم بالتحذير من التفرقة والطائفية وغيرها. 250 سنة من الحكم الجائر، ومن سكوتكم، ماذا جنيتم منها؟

لا أرى حلاً إلاّ بحق تقرير المصير والإستفتاء الأُممي. ليس الأكراد أو إقليم جنوب السودان بأقل مظلومية منكم، فلا تنخدعوا بوعود الفرعون أو ولي عهده أو بكلام المتخاذلين ممن هم منكم! واصلوا الثورة على الظالمين ولا تتخلوا عن أبسط مطالبكم مهما كانت التحديات، فسكوتكم في هذا الوقت بالذات يعني الهزيمة ونهاية قضيتكم العادلة.

http://www.youtube.com/watch?v=FoAduqlbFNI&feature=related

المُهاجر

غير معرف يقول...

شكرا لك ساعدني مقالك كثيرا في فض اشتباك داخلي سكنني طيلة الأيام الماضية بين انتماءتي وانسانيتي ..
اشتباك يفترض به أن لايكون لكن نشأتي وماتعلمته فرض حتميته ..
قارئة لك بصمت ولأول مرة أشعر بغضب يتوارى خلف كلماتك ربما لأن كل من حولنا يصرح دون خجل وبلامبالاة "شيعة..يستاهلون"! نسوا "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ..

Anonymous Farmer يقول...

كلام جميل وموزون ، إلا أنك لم تركز كما وجب على العامل الأساسي الخالق لتلك الطائفية في النفوس .

انها الحكومة ، وفي كل مثال ذكرته ، فالطائفية حكومية المنشأ ، ترعاها بازدواجية تطبيق القوانين ، أم تزيلها من خلال احترام مبدأ سواسية الأفراد في حقوقهم .

فلتعلو أصواتكم في البلد يا سفيد .

:-)

غير معرف يقول...

يعني لاحظت مثلي الهدوء بالبلد بين المعارضة والحكومة بعد أحداث البحرين كما كان متوقعا :)

عمي هذول أبناء النظام العربي وكل معارضتهم ومبادئهم ضمن حدوده لأنهم عارفين إنهم ما لهم خبزه في عالم يسوده القانون والمساواة والكفاءة ، إذا الرصيف مسبّب لهم عقدة ومو قادرين يستوعبون أهمية قيادة السيارة بين الرصيفين دون اللجوء الى طق أحدهما :)

هذول مو قادرين يستوعبون حدود اللعبة الجديدة وعايشين على طمام ريغن وبوش الأب أيام عصرهم الذهبي ، ومشان هيك لا تعوّر قلبك ولا تضيّع وقتك بجدالهم

احتفظ أنت بالوردة ودع لهم الرصاص ، خلّيه ينفعهم اليوم

ترانيم العشق يقول...

مجدداً
ومن رحم الواقع تولد مقالتك مسلطة الضوء على مانراه وقد نتجاهله
لتزكم أنوفنا بثقل الوضع القاتل
ولولا وعدٌ بتنفس صبحٍ قريب يبدأ تحقيقه منا
ربما كنا اختنقنا كمداً لما يجري
طريق الإصلاح طويل وشاق
فتراكمات العقود الماضية أو القرون الماضية
لا يكفيها هروب رئيس أو تحقيق الحد الأدنى للمطالب
والثمن غال

غير معرف يقول...

Ama an elaWaaN Lel Ham An Ynjlee

: )

DUBAI

Seldompen يقول...

في القلب جرحٌ دامي ..

وليت كلماتك تصل لمن يجب أن يقرأ
ليت هنالك من يعي ذلك الكلام حقاً !!

لا أستطيع قول شيء

إلا .. أدام الله لك هذا الفكر الذي به توصل صوت الكثير يا سفيد ..

=)

تحياتي ..

Safeed يقول...

بحرانية محتضرة،،
لطالما كان الواقع مرًا، لأن من يرسمه أمّر منه،
أنتم اليوم لا تواجهون طاغية، بل تواجهون طغيانًا
أحد أطرافه طاغية، وأطرافه الباقية هي فكر طاغوتي
إقصائي يرى في المخالفين له غير مستحقين لأي حقوق.
ما تفعلونه ليس مطالبة فقط، بل هز لعرش الطغيان، حفظكم الله
ورعاكم ونصركم في درب قال عنه أمير المؤمنين عليه السلام:
لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ..

====
CoConUt،،
باتت وسائل الإعلام اليوم مجرد غصن من شجرة الإقصاء
بعد أن بلع دعاة الحرية والثورات والحقوق ألسنتهم لأنهم لا يملكون
ما يواورن به عورات ازدواجيتهم التي كشفتها هذه الأحداث.
دعاؤنا دائم مستمر لهم إن شاء الله.
شكرا
====
أحمد محمدي،،
أحسن الله إليكم مولانا
====
المُهاجر،،
تذكرت كلمة الشيخ الوحيد حفظه الله حينما قالوا له
بأن موقفه من "بعضهم" يثير الفتنة فكان جوابه: منهم الفتنة وإليهم تعود.
وهذا هو الواقع.
من السفاهة أن يُلبس البريء رداء المتهم كما يحاولون الآن، فالفتنة بدأها وأقامها
من ظلم وتجبر وحرم الناس حقوقهم لا من طالب بها.
هذه العين العوراء التي ترى في ظلم الظالمين عدلا، ومطالبين المحقين جورا
لا تستحق أن يتم الإلتفات لها، فهي لا ترى إلا ما يناسب هواها الذي لا يعرف المبادئ
إلا حين تصب بمصلحته فقط.
نعوذ بالله من الهوى.
شكرا

Safeed يقول...

غير معرف،،
الغضب هو لأجل هذه الإزدواجية المقيتة في التعامل،
التي ترى "إنسانية الإنسان" حين يكون منها، ويصبح
العكس حين يكون مخالفا لها.
الغضب من أجل هذه الإقصائية المقيتة التي ترى
في المطالبات في كل مكان عدلا وحقا، إلا في البحرين
ظلما وجورا!
الغضب هو من موقف يرى نفسه حكما على الآخرين
وهو لم يكتو بنار ما اكتووا به، بل لما لمسته شعلة في يوم
هاج وماج ولو كان بيده لقلب عاليها واطيها، فهل مثل هؤلاء
لا يستحقون أن يحل عليهم الغضب؟
نعوذ بالله من الخذلان، ونقض الميثاق.
شكرا
===
Anonymous Farmer،،
أظن أن التركيز على الحكومة هو تبرئة للطائفيين،
فهي ليست سوى نتاجهم، وليسوا هم نتاجها.
ولولم تكن ترى الناصر لها على أفعالها لما تمادت إلى هذه الدرجة.
ويكفيك رؤية هذا التأييد الفاشي لقمعها وظلمها لتعرف من أي رحم ولدت
ومن أي ضرع سُقيت هذه الحكومة.
نعم، هي تتحمل جزءًا .. لكن الجزء الأكبر يتحمله من مهد لها الطريق
وحين قام الناس لتصحيح المسار .. هبوا للدفاع عن الطريق الإقصائي الذي رسموه.
شكرا
====
غير معرف،،
اختصرت الكثير بالقليل،
وبان اليوم عوار تلك الشعارات، والمبادئ التي ادعوها
رغم أنها ليست بالمرة الأولى، ولكنها الكاشفة الواضحة.
إن ألمي هو ممن يغتر بتلك الكلمات المدببة التي يستخدمونها
وتنكسر نصالها عند أول تجربة.
أملي، هو بان العالم لم يعد كما كان وباتت كلمة الناس
وحدها قادرة على كسر نصال أقلامهم المسمومة.
نعوذ بالله من عمى البصر والبصيرة.
شكرا

Safeed يقول...

ترانيم العشق،،
ومن رحم الواقع نكتشف زيف الدعاوى والمبادئ،
فسبحان من سخر الواقع، ليُسقط الأقنعة بهذه العجالة
ليري من غبش بصره، حقيقة موقفه ورأيه.
شكرا
====
DUBAI،،
قريبًا إن شاء الله .. فهو عليه السلام
القائل: إنا غير مهملين لمراعاتكم ..
شكرا
====
..pen seldom،،
"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"
هكذا كانوا، وهكذا سيستمرون ..
فالسنة الكونية أنّ الوعي بيد القلة الذين
حافظوا على نقاء قلوبهم من رين ما اكتسبوا.