تمثّل الدولة الأموية، وما شاكلها، دولاً بالمعنى المجازي، فهي تختزل كيان الدول برجالاتها، وتفصل ما بين الأرض والشعب وما بين نظام الحكم، وتعتبر الأوليين مجرد كماليّات يُتمم بها أُبهة السلطة، فنشوء وسقوط الأسر الحاكمة لطالما اعتبر نشوءًا وسقوطًا للدولة، وهكذا اعتبر أيّ اختلال واعتلال يمر عليها يستلزم اختلالاً واعتلالاً للدولة بأكلمها، فهي رأس بلا جسد.
هذه الدول كانت تسير بطريق أحادي الإتجاه، تفكيرها، وشعورها، وعملها، وسياستها كلها قائمة على رؤية واحدة لجميع أفراد المجتمع تتبع فيها رأي الحاكم أو القائد، فتمثّل الدولة كُلاًّ كاملاً مصطبغ بصبغة السلطة، بينما تمثّل الدولة الحديثة مجتمعًا متعددًا يمتلك فيه كل شخص آراؤه، وأفكاره، ومشاعره الخاصة به وتتمدد هذه التعددية إلى بنية السلطة نفسها، فتتحول الانتخابات إلى ما يشبه عمليّة ولادة متجددة للمجتمع والدولة، فتضفي عليها مرونة التعامل مع التغيّرات.
يمكن تشبيه الدولة ذات النزعة الأحادية بالأشجار التي تنمو رأسيًا، لا تملك القدرة على تغيير مكانها، ولا المرونة اللازمة لمواجهة الرياح العاتيّة وسلاحها الوحيد في مقاومتها هو غرس وتقوية جذورها، وتثبيت أركانها كحل أخير للتعامل مع ما يواجهها، بينما تحوّلت الدولة التعددية إلى ما يشبه النباتات المتسلقة، تلتف حول العقبة التي تواجهها وتستمر بالنمو متكيفة مع كل ما يحيط بها، فاستبدلت قوة الثبات، بقوة الإلتفاف، يكمن الفارق بين الإثنين في جمود الأولى ومرونة الثانية.
يتمثّل الجمود في الدول بمقاومة أيّة تحديات تراها، سواء داخليّة أو خارجية، ومجابهتها بالقوة، ولا تملك لغة للحوار غيرها لأنّ طبيعة تكوينها قائمة على رأي قاطع يصدره "رأس الدولة" وعلى الجميع الإلتزام به لأن الدولة ككل مختزلة به. هذه الدول تُحكم بواسطة صورة حاكمها أكثر من أفعاله، لذا تصر على زرع صورة القائد الحازم والصلب حتى وإن كان ذلك على حساب الشعب، والدولة، ومتطلباتهما، لأنّ اهتزاز صورته تعني اهتزاز ثقة الشعب بالدولة وقدرتها على البقاء. بينما باتت الدول التعددية تعتبر القوة قمعًا للشخصية الفردية التي تكوّن بمجموعها عقلاً يعتبر «السلطة» فعلاً يستلزم الممارسة الفعلية لا مجرد صورة.
في المجتمع الأول ينشأ الفرد مستلب الإرادة، يكتسب الثقة من الحاكم الذي لا يملك حق محاسبته أو تغييره، بينما ينشأ في الفرد في المجتمع الثاني حر الإرادة، تنبع ثقته من قدرته على تصحيح المسار متى ما انحرف، فالسلطة في المفهوم الأوّل حق مكتسب للحاكم تعطيه الذريعة للتصرف بما يشاء مثل حق التصرف بحياته دون مساءلة عن اختياراته، ، فالحق لا يمتلك أحد محاسبة صاحبه به. وفي المفهوم الثاني هي وظيفة أعطاها المجتمع بإرادته للحاكم مشروطة بمراقبة مستمّرة. ويتمايز المفهومان في كون الوظيفة محددة السياسات والمهام غير مرتبطة بشخص، وجلّ مهمته هو التنفيذ.
تتمايز الحالتان في «ماهيّـة الدولة»، بينما هي مجرد كيان يمثّل سلطة سياسية تتممن على شعبها في الحالة الأولى أي «كيان سلطوي»، تصبح في الحالة الثانية كيان ينفذ الإرادة العامّة لخدمة الشعب، وبكلمة أخرى «كيان خدماتي» مهمته خمة الشعب ورعاية مصالحه التي أناطها به.
غير أنّ الدمج بين الحالتين، حالة الدولة السلطوية والدولة التعددية (أو الديمقراطية بكلمة أخرى) أنتج كيانًا يستغل الخدمات من أجل فرض وتعزيز السلطة، مستغلاًّ بذلك الذهنية الشعبية التي لم تتطوّر لتواكب مفهوم «الإرادة الحرة» لأفراد الشعب وما توفره للتنوع العقائدي والإثني، كما أنّ النظام بحدّ ذاته توقف تجديده عند المشاركة في السلطة، ولم يرتفع السقف عن ذلك. وما بين قصور المجتمع، وتقصير السلطة برزت إشكالية «المساومة على الدولة».
أبرز مظاهر هذه الإشكالية هو مساومة الحكومة لمشاركيها، بخدماتها مقابل ممارستها لسلطاتها، فيتحوّل النائب إلى مخلّص معاملات حتى تتمكن الحكومة من ممارسة السلطة دون مضايقة، ومن جهة أخرى هو يساوم الحكومة على جزء آخر من الخدمات بعرقلة سلطاتها بواسطة الأدوات التي يمتلكها، حتى يستطيع أن يخلّص معاملاته بمساومته للحكومة. والضحية غالبًا هو القانون الذي ينفذه طرف، ويشرّعه الطرف الآخر لأجل عرقلة عمل كل منهما، واستخدامه كورقة ضغط لتحقيق مآربه ضمن معركة التنازع المستمرة، وعليه تندرس هيبة القانون الذي يوضع للكسر، ويسود الجمود رغم هذا التنازع لكونه يدور في مربع واحد لا يتعدّاه، وتمضي هيبة الدولة في الزوال لأن كل طرف هدفه تسقيط الآخر بما هو مباح، وغير مباح.
قد يقول قائل بأنّ هذه مشكلة السلطة في الأساس، وهذا صحيح حين يُشار لذلك على أنّه رأس الهرم، أما جسم الهرم فهو المجتمع ذاته الذي عجز عن كسر طوقه والأخذ بمسؤولياته فهو يتصرّف من ردّات الفعل، وينتظر الواقع ولا يصنعه. إنّ مثله كمثل الهرّ الذي رآى صورته منعكسة على سطح الماء ففزع وبدأ يضرب سطح الماء بمخالبه بدلاً من أن يشرب، هكذا هو قصور المجتمعات عن إدراك ما بيدها حين تلجأ إلى البحث عن شمّاعات تعلّق عليها عدم قدرتها على التعامل مع ما وُهبت إيّاه من سلطات، تلجأ للتعارك معه بدلاً من الاستفادة منها، لأنها لم تستطع نقل نفسها كليًا من دائرة الإتباع إلى المشاركة، ويكفي الدليل على ذلك هو البحث المستمر عن «شخص واحد» يرمى على كاهله أسباب التراجع أو الفساد، سواء كان وزيرًا أو رئيس حكومة، وكأنه منفرد بلا ضابط في سلطاته.
وصف العقاد الدولة الأموية بأنها عمّرت عمر رجل واحد، حيث لم تستمر إلا لقرابة تسعين سنة، معللاً ذلك بما يشبه «الحوبة» لما ارتكبته من الفضائع التي حسبتها بحسبة التجار الذين «ينحون منحى الحساب والجمع والطرح في الدفاتر»، فهي استمرت بتدعيم أركانها بالقوة، واستمر الناس في الثورة على هذه القوة، حتى هلكت طاقتها مبكرًا وهي تدور داخل المربع الأوّل.
إنّ أعظم خطر يواجه أيّ مجتمع، بسلطته وشعبه، هو ألاّ يعرف ما هو، وما يملك، قبل أن يحاول معرفة ما يريد.
إنّ أعظم خطر يواجه أيّ مجتمع، بسلطته وشعبه، هو ألاّ يعرف ما هو، وما يملك، قبل أن يحاول معرفة ما يريد.
هناك 8 تعليقات:
أحسنت أخي سفيد. أعتقد أنك وضعت يدك على الجرح. الفرد يلوم الآخر و الآخر يلوم المجتمع الذي لا مجال من تغييره أو الهرب من أفكاره الخاطئة و المجتمع يلوم هذا الرجل أو ذاك بأنه أساس البلاء. يقوم الفرد بنفس الأخطاء التي يلوم الآخرين على القيام بها بحجة أن الآخرين يأتون بها. لا يعي أنه بقادر أن يغير المجتمع إذا غير نفسه أولا و أبنائه ثانيا و أقاربه ثالثا. دمتم بخير.
تحية طيبة...
الدولة التي ترتكز على شخص او اسرة فأن مصيرها الانهيار عاجلا ام اجلا...اما الدولة التي ترتكز على مؤسسات منفصلة فأن مصيرها الاستمرارية الى ابعد مدى ولكن ليس للابد! فلا وجود ابدي لاي دولة مهما عاند المعاندون!...
دمت بخير...
[هو ألاّ يعرف ما هو].. لم أفهم مرادك بالـ[ما].. كأنك بها أطلقت المراد؟
[لم تستمر إلا لقرابة تسعين سنة].. لا أدري إن كنت تتفق مع العقاد أم لا لكني أعتقد أن الدولة الأموية ماتت كوجود ظاهري لكنها لازلت تحكم نفوس أغلب المسلمين.. أظن عمر الإنسان يحسب بعمر الأثر الذي يخلفه وراءه..
الويش دا تراقب التعليقات:)
أحسنت أخي سفيد
مقالة رائعة فقد و ضعت اصبعك على الداء
تحياتي
يعز من يشاء و يذل من يشاء !
دبي : )
CoConUt،،
أحسن الله إليكم،
أسهل شيء لتبرير الجمود هو اللعب على وتر المتناقضات. فيتم تبرير الأخطاء الذاتية بمقارنتها بأخطاء الآخرين، وكأن ذلك يضفي عليها صك السلامة والصحة.
يُنادون بالتغيير، وهم لا يريدونه، لأنهم لا يعرفون كيفيته.
شكرا :)
====
OPENBOOK،،
أهلا،
صحيح لا وجود أبدي لأي نظام دولة،
لكن الدولة بشعبها وأرضها قد تدوم.
أنظمة (الرجل الواحد) تنتهي وتنتهي معها الدولة بكاملها لأنها أسست على مبدأ كرسي الحاكم، لا ثبات الشعب والأرض.
شكرا
====
سراج،،
ألا يعرف ما هو، أي لا يعي ماهيّته.
أتفق معكم. الدولة الأموية سقطت كحكومة
لكن استمرت كنهج إلى يومنا هذا، وإلى اليوم الموعود.
فالعقد قاسها بالعمر الظاهري كحكومة، ولم يقسها بالعمر الواقعي كنهج :)
أراقبها بسبب كثرة الـ"سبام" بالتعليقات.
:)
مدونة مفيد،،
أهلا وسهلا،
شكرًا :)
===
غير معرف،،
ويمدّ لمن يشاء، أيضًا.
شكرًا.
====
غير معرف،،
الموضوع عام، ولا يختص ببلد معيّن.
فقضية الجمود السياسي وتكريس السلطة هي مظاهر مشتركة في أغلب دول المنطقة.
شكرا
إرسال تعليق