22 مايو 2009

صـح النـوم


« قبل سبعين سنة حين نزل – رحمه الله – للدراسة في النجف الأشرف كان على عكس أقرانه يبحث عن الأساتذة الكبار بالسن الذين تذكره رؤيتهم بالله عز و جل ، الذين تكون حركاتهم و سكناتهم امتثالاً لطاعته و استعدادا لملاقاته – سبحانه – بعيدين عن الدنيا و ما فيها ، أحدهم كان يجلس قبيل صلاة المغرب في الصحن الحيدري و يلتف حوله الطلبة الصغار و الجدد كل يوم يعطيهم كلمات بسيطة في ظاهرها عميقة بمعناها عن حقيقة الوجود و صيرورته ، كلمات نورانية فيها العبودية الخالصة لله سبحانه، كانت تصنف على انها مواعظ و ليست دروسا حوزوية ، و لكن كثرتهم حوله حولتها لدروس توقظهم من سبات الدنيا »

.

هذا جزء من كلمة انقلها بالمعنى عن السيد إمام الجزائري سمعتها منه في تأبين المرجع الراحل الشيخ محمد تقي بهجت رحمه الله قبل أيام قليلة، حين وصل لهذه الكلمة توقف ذهني عن متابعته و بدأت أسرح فيما بدأ يطرأ ببالي ، تذكرت قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الزمر.
.
فالله سبحانه و تعالى يُسمي النوم وفاةً ، يعني أن النوم هو ' بروفة ' مصغرة للموت ، تغادر النفس فيها البدن ثم ترجع أو لا ترجع فالروح باقية و البدن ميت[1] و معنى التوفي : قبض الشيء على الإيفاء و الإتمام ، يعني أن زمان بقاء هذه الروح حبيسة الدنيا قد انتهى ، وأن مهمتها قد أُتمّت دون اختيار منّا بل اختيار من قذفنا فيها، لا أعلم و أنا أضع رأسي على الوسادة كل ليلة إن كان ما سأراه طيفًا يمر أمام عيني بروجعها أم واقعًا جديدًا سأستيقظ عليه !
.
هنا بدأ فكري يغوص في هذه الآية على رغم كل المحيطين بي كنتُ كذلك الأعمى بين المبصرين ، هم يبصرون به و هو 'يتبصر' بهم ، و كلٌ بما لديهم فرحون .. لا أذكر الكثير مما قاله السيد بعد ذلك في التأبين لكني أذكر أنني تذكرت كلمة تروى عن أمير المؤمنين عليه السلام تزامنًا مع الآية يقول فيها : « الناس نيّـام ، فإذا ماتوا انتبهوا »[2]
.
و هنا بدأت أضواء الإشراق تتلألأ اما ناظريّ، كيف يُسمي الله سبحانه النوم وفاة و موت و يسميه الإمام – عليه السلام- الإنتباه ، أي اليقظة بعد النوم !
كيف أوفق ما بين نقلين فيهما معنى كبير ..
.
بدأ عقلي يجري معي ، حين ننام تنام عيوننا و تخرج أنفسنا و لكن تظل إدراكاتنا ، أحاسيسنا و أفكارنا حبيسة هذا البدن ، يستمر العقل بالعمل ، و تقوم أجهزة الجسد بوظائفها ، شهيق و زفير ، دورة دموية ، شعري ينمو و أظافري تطول ، و عيني تسبح تحت أجفانها يمينًا تارة و يسارًا تارة أخرى ، عجيب هو كمُّ القضايا التي يحلها عقل الإنسان و هو نائم ؟
و الأعجب منه هو استجابة هذا العقل و الإدراك لرغباته ليغذيه في أحلامه بما افتقده في واقعه، أحلامٌ تصور لنا المستحيل حقيقة ، و حقيقة بسيطة ، و البساطة سعادة!
.
النوم عن الواقع .. هو واقعُ النوم ، النوم ليس غيابًا عن الوعي و لكنه تغييرٌ له[3] يستجيب خلاله الإنسان لكل شيء و يتعامل مع كل الظروف التي تحيط به بلاإرادية ،يحتكم فيها لما سكن بنفسه و استقر بوجدانه، تخرج منه التصرفات على السجية،دون أن يعصف ذهنه وصولاً للفكرة،دون أن يتعب نفسه بتحريك بدنه و يكتفي بإدارة عقله لكامل وجوده و هو مغمض العينين ،و يحاول غالب الأحيان أن يصم أذنيه عن صوت المنبه ،أو يجعله جزءًا من حلمه حتى لا يستيقظ من فراشه الوثير.
.
نحن هكذا،نعيش كما يعيش النائم أحلامه ، نعتقد أننا نتحكم في دنيانا بكل شيء كما نتحكم بأحلامنا و الحلم الذي يرعبنا سينتهي بمجرد أن نفتح أعيننا !
.
نعيش هذه الدنيا كما لو أنها واجب لا نحبه و لكن نحله! نطفو مع أمواجها ،نمارس أعمالنا اليومية بروتين قاتل و نتصور أننا ملكنا أسباب كل شيء و نحن في الحقيقة لا نملك سوى أوهام نخدع بها أنفسنا، نقتل أيامنا بنومنا، و نعطل عقولنا بحجة أننا لسنا بحاجة للوعي طوال اليوم، و ما نمارسه فيه الكفاية لطاقة عقولنا على التحمّل.
.
نعتقد أننا أفضل من أولئك النائمين ، نومة صغرى كانت أو كبرى ،بسبب أننا قادرون على التصرف و الفعل و هؤلاء سُلبوا هذه القدرة و لكن لا نسأل ما فائدة هذه القدرة إذا كانت بلا جدوى؟
أو كانت موجهة لغير مقصدها؟
ما فائدة الفعل إذا كان منحصرًا فيما 'يفرضه' الواقع عليه، لا ما نفرضه على الواقع ؟
فيما يجبرنا عليه لا ما نجبره نحن عليه؟
.
أولئك النائمون يرسمون ما يشاؤون على لوحات أجفانهم، و نحن نكسر أحلامنا على صخرة 'جمودنا' ،اولئك يعلمون أنهم نائمون و لكن نحن غافلون عن هذه النومة، الأسوء من تجاهل الحقيقة بعد معرفتها هو التغافل عن وجودها!
كما يكره النائمون صوت المنبه ،كذلك نحن نكره المنبه الذي يذكرنا بحتمية الرحيل.
.
النائمون حقيقة أرواحهم نشطة ، و النائمون مجازًا أرواحهم مكبلة بقيود الإنخداع باليقظة ،هكذا نعيش حياتنا نمارس روتيننا اليومي و نجابه مصاعب الحياة على أنها مسائل بقاءٍ أو فناء ،ثم بعد أن تنتهي مهمتنا بالدنيا تتجلى الحقيقة أمامنا و هي أننا كنا نائمين و الآن نحن مستيقظون .. و أن الفناء و البقاء لم يكن أبدا متعلقا بأي من مصاعب حياتنا!
.
كنا نائمون لاننا نعتقد أن هذه الدنيا مثل ذلك الفراش نحن عليه كالنائم في حلمه، الذي يصنع ما يريد رؤيته ليشغل نفسه به هربًا من واقعه:الضعيف يتصور نفسه قويًا و الفقير يتصور نفسه غنيًا و الغني يتصور نفسه سعيدًا حتى إذا استيقظوا علموا أن ذلك ما كان إلا حلم من صنعهم.
.
هكذا نحن في حياتنا ،نائمون عن أنها دار عمّرناها لألاّ نمكث فيها ،كالقصور في أحلامنا نبنيها و لا نسكنها، هكذا تجلت عظمة تلك الكلمة عندي ، نحن نائمون عن حال هذه الدنيا و أنها دار ضيقة،و نخدع أنفسنا بأنها (الأجمل) و (الأفضل)، نتصور أن ما يكون بيدنا و نلمسه دائمًا خيرٌ من ذلك البعيد عنّا و نسمع عنه،لذلك هي أحسن على الأقل نحن نعيش بها و تآلفنا معها على عكس ذلك المجهول.
.
و لكن إذا مات الإنسان استيقظ و انتبه إلى أنه كان يعيش في محيط الخداع و الوهم،محيط الدار الضيقة التي سعى لأجلها مقابل الدار الواسعة التي لم يشأ رؤيتها أثناء نومه .
.
الله سبحانه و تعالى يرينا الموت كل يوم في أنفسنا قبل أي أحد آخر ،و مع هذا نحن ' نائمـون' لا ندرك هذه الحقيقة لأن إدراكنا تحول للأحلام و ترك الواقـع .. حتى ننتبه له فجأة .. كما ينتبه النائم على صوت منبه الاستيقاظ معلنًا له نهاية أحلامه!
.

_________________________________

[1] في إحدى دراساته يقول العلامة الطباطبائي :
« الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح و البدن باعتبار بدنه هو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه ، أما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافها بالموت .. »
" ماذا بعد الموت ؟ " للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله – ص 13

[2] رواها العلامة ابن ميثم البحراني في " شرح المئة كلمة " ص 54 و كذلك الميرزا محمد تقي سبهر في ناسخ التواريخ.


مصدر الصورة : اضغط

هناك 16 تعليقًا:

Ahmed.K.A يقول...

رحم الله الشيخ بهجت .. الذي كان مثالاً للصفاء الروحي و العرفاني ..

أحسنت .. موضوعك أتى في الصميم ..

لنا في كل يوم إشارات تذكرنا بالرحيل .. فماذا أنجزنا لذلك اليوم ..!!

الفيدرالي يقول...

عظم الله أجورنا و أجوركم عزيزي سفيد

رحم الله فقيدنا الغالي و أسكنه الله جوار من تولى

تحياتي لك

Mohammad Al-Yousifi يقول...

هم السابقون و نحن اللاحقون

الله يعيننا على سحبة الروح

غير معرف يقول...

لم أقرأ الموضوع لكني متأكدة من جودته كالعادة.. وبما إني على عجالة من أمري فسأمر به في وقت آخر لقراءته بتأني.. ما جذبني هو عنوان الموضوع .. والذي قادني إلى دعوتك لحضور مسرحية "فريج بني نايم" والتي ستعرض على مدى يومين يوم السبت والأحد 23-24/5 في تمام الساعة السابعة والربع على مسرح جامعة الخليج-مشرف..
مسرحية شبابية هادفة مقدمة من فريق وصال الإعلامي بالتعاون مع فريق شبابي مميز..
فكرة المسرحية: مسرحية كوميدية إجتماعية و إنسانية تعكس حياة فريج كويتي مميز و تدور الاحداث في يوم واحد بانتظار شروق الشمس..
حياكم الله ..
لمزيد من الإستفسار : wesal.media@live.com


مستعدة

Salah يقول...

عظم الله أجوركم

Yin مدام يقول...

قريت البوست الصبح ومن كثر ما أثر فيني للحين مو قادرة أنسى ولا يصفى البال :(
شرقت وغربت بالأفكار

عظم الله أجوركم


الله يزيدك من فضله وينير دربك ويقضي حوائجك وحوائج القارئين يا سفيد المفيد

بوست يخلي الواحد يعيد التفكير بكل أولوياته

:)
يالله حسن الخاتمة

TruTh يقول...

اللهم نسألك حسن الخاتمة

تسلم ايدك اخوي سفيد على هالمقالة الإيمانية و عسى الله يجعلها في ميزان حسناتك و عظم الله اجرك

بو محمد يقول...

بداية، أحيي فيك صفة التفكر يا سفيد

زادك الله حياة في قلبك و رزق المسلمين حياة في قلوبهم و جعل لي نصيا من ذالك

أعظم الله لك و لنا الاجر بالفقيد العالم الجليل الرباني رحمة الله تعالى عليه

ورد عن المصطفى صلوات الله و سلامه عليه و آله قوله
"إذا مات ابن ىدم انقطع عمله إلا من ثلاث" و كانت إحداها "علم ينتفع به" و ما ترك الشيخ الجليل للأجيال امتداد لحياته قدس سره الشريف



دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

اقصوصه يقول...

الله يرحمه ويغمد روحه الجنه

والله يحسن عاقبتنا يا رب

Corpse Bride يقول...

السلام عليكم..

رحم الله اموات المسلمين وعظم الله اجرك..

النوم والغفله هروب من الواقع..

ما يواجهه ولا يتعايش معاه..

يسجن روحه باحلام او ذكريات..تعذبه وتخليه ما يعرف للحياه طعم ولا يرتاح باله بسجنه الي بلا مفتاح..

مع ان المفتاح بيده..

مواجهه الواقع..

مبدع كما عودتنا..

bakah يقول...

صح بدنك .. :)
نسأل الله حسن الخاتمة ..
خصوصا ان نومي ثقيل .. :)
دمت بخير .. وعظم الله اجركم ..

الحــــر يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عظم الله أجورنا وأجوركم بوفاة منهج من مناهج العرفان الشخ بهجت رحمه الله واسكنه فسيح جناته
موضوعك اخي الكريم اعادني الى هاجس كان ملازما لي مدة طويله وسؤال حيرني وبعد ان قرأت هذه الايه من الكتاب الكريم
انت يا أخي الكريم اخذتك الأيه الي منحنى أخر من ما أخذتني إليه وهذا هو الأعجاز في الكتاب الكريم فكل كلمه في الكتاب هي موعظه وحكمه ومعلومه
أما السؤال الذي حيرني بعد قرائتي لهذه الأيه وإلى الآن يحيرني هو
إن كانت الأرواح تخرج من أجسادنا فمن توفاها الله تسير إلى رحمته ومن أجل موتها تعود والحياة بالجسد كما هي اذاً معنى هذا ان الروح ليست هي المسؤووله عن الحياة في اعضاء الجسم وإن كانت كذلك فمعناه ان الموت ليس خروج الروح فقط فكما قلت سابقا الروح ليست مسؤوله فما هو السر ما الشيء الأخر الذي لا نعلمه ؟
وانا اكتب السؤال ماني عارف اوصل الفكره عدل بس ان شاء الله توصل
طولت عليك اخوي سامحني هذي اول مشاركه لي وان شاء الله يدوم التواصل بينا للإستفادة منكم أخي العزيز

شكراً
:)

ساره النومس يقول...

يعطيك العافية ياخوي :)

Safeed يقول...

Ahmed.K.A ،
علي إسماعيل الشطي ،
ma6goog،
مستعدة ،
Salah ،
مدام Yin ،
TruTh ،
بو محمد ،
اقصوصة ،
corpse Bride ،
مطعم باكه ،

شكرا لكم جميعا ، اعتذر عن التأخير و لكن مشاغل كثيرة اقعدتني هذا الاسبوع.

آجركم الله أجمعين ، و غفر لنا و لكم ..
و رحم الله امواتنا و امواتكم بواسع رحمته.

.......

الحــر ،

أهلاً و سهلاً بك ،
و عظم الله أجورنا و أجوركم بفقدانه رضوان الله عليه.
في العزاء سألت أحد الذين تشرفوا بالحضور في دروسه الأخلاقية و سألته عنه جاوبني بثلاث كلمات : كان محضره ملكوتيا.

رحمة الله عليه ..

أما سؤالك فقد وصل ، و جوابه بحسب علمي القاصر و باختصار شديد جدا هو أن الإنسان مركب من ثلاث بدن و هو الصورة المادية له ، و روح و نفس.

الموت هو مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري ، بمعنى أن النفس هي التي تدبر حياة هذا الإنسان و متى ما قبضت مـات .

بينما الروح منفصلة تتعلق بالإدراكات.

هذا من ناحية ( علمية ) بحتة إن صح التعبير ، و لكن الدارج عند العموم هو الخلط و عدم التفريق بين الروح و النفس و البدن.

لاحظ ان الموت في قوله تعالى متعلق ( بالأنفس ) لا بالأرواح لان الأرواح مخلدة لا تموت في العالم الآخر بمشيئة الله سبحانه.

حياك الله ، و إن شاء الله يكون بهذا المختصر جواب :)

......

طموحة مملوحة ،

الله يعافيكم ،
شكرا :)

وردة فرح يقول...

الله يرحم الشيخ بهجت ،، يا رب ،،
بوست فيه عبرة ،،

يزاك الله خير ،،
و دمت بود ،،

Safeed يقول...

غير معرف ،،

شكرا .


........


إنسانة ،،


رحمه الله ،
شكرا