لا نمتلك لحظة الذكريات، بل تملكنا. لا نستطيع أن نجبر أنفسنا على عدم التذكر حين نمر في مكان كتبت فيه بعض سطور حياتنا. كما تمر على بستان في الخريف فتشم آثار الربيع فيه، كذلك هي تلك الأماكن التي تعيد نشوة زمن مضى، أو أحزانه. لا تملك المشاعر عقلاً تجعلها تعيد تصوير المشاهد كما تريد، لكنها تملك قوة لأن تدس بعض هذه المشاهد في زوايا ضيقة من الذاكرة بحيث لا نستطيع أن نستعيدها إلا بأن نمر في نفس تلك اللحظات مجددًا. كحبات الرمل الناعمة، ينزلق الزمن من بين أصابعنا فلا تبقى إلا خشونته كذلك هو يرسم علاماته، أو يضعها ولا نملك أمامها إلا التسليم، والإذعان.
.
كل البشر يخوضون يوميًا مئات الحروب 'الدونكيشوتية' ليحاربوا طواحين الذكريات، لعلهم يتخلصون من هذه الأحمال التي أثقلت ظهورهم، لكنهم لا يعلمون أن الذكريات لا نعيش معها فقط، بل تعيش فينا، وإذا استطعنا أن نخاصم أنفسنا استطعنا أن نتخلص منها، وحده الموت هو الذي يرسم حدود الهدنة ما بيننا وبين ذكرياتنا. يعتقد الكثيرون أنّه بإمكاننا أن نهزم ذكرياتنا، وإذا فشلوا بذلك آمنوا بأنهم مهزومون، تمثل هذه قمة الأوقات العصيبة عند الإنسان، حرب تخوضها نفسه بالإنابة عن نفسها. ليست كل الحروب قابلة لتحقيق النصر فيها، ثمة حروب يجب أن تخوضها، لمجرد خوضها. «رغم أنني مررت بكل ما أنا فيه الأن، غير أني لستُ نادمًا على أية صعوبات قابلتها، لأنها هي التي جلبتني إلى هذا المكان الذي أردت أن أصله. والآن كل ما أملكه هو هذا السيف، وأنا أعطيه لكل من يرغب مواصلة رحلته. إنني أحمل معي علامات المعركة وندوبها، إنها الشواهد لما عانيت، والمكافآت على ما فتحت».
.
الماضي ليس وقتًا كميًا، ليس ساعاتٍ، أو سنوات، أو أيام. الماضي هو صندوق تدخله من طرفٍ، لتخرج من الطرف الآخر له وأنت معجون بآلاف التأثيرات التي تعطيك الإجابة عمّن أنت؟ .. "من أنا؟ فأنا أنتظر الأكثر جدارة، وأنا لست جديرًا حتى أن أموت من أجله."، بعضنا يعيش هذه الحالة، ينتظر تلاشي الذكريات، وبعضنا يعيد إحيائها في كل لحظة لأنه لم يستطع أن يوجد ما هو أحسن منها، في كل الأحوال تبقى مندسة لتقفز في اللحظة المناسبة، في الوقت الذي يغلب فيه الظن بأنها اختفت وأن الإنتصار على بروزها الدائم قد تم، فالعيش معها هو إنهزامية تضفي الخجل، خجل من الحنين الدائم للماضي، أو من الهروب المتسرع إلى المستقبل.
.
«عليك أن تصبح طفلاً كي لا يزعجك الخجل» هكذا قال الحكيم ذات مرة. الطفولة لا تعود، ولكن الرغبة بها تعود، الطفل لا يعرف المجاملة، ولا الخجل فهو صريح إلى أقصى درجة، ولهذا يحنّ كل إنسان إلى طفولته، إلى تلك البراءة والمباشرة التي افتقدها، إلى عدم الخجل مما يريد، وما يرغب، وما يبحث عنه. لا أعلم ما حدث، لكني أعلم أن تلك اللحظة جرتني إلى الطفولة، لم تعد إليّ مجرد ذكريات حسبتها طويت، بل أحيتها فيّ للحظات.
.
لكل يوم من أيام الأسبوع، طعم وشعور، يوم خفيف وآخر ثقيل، لم يكن الناس يستسيغون الجمعة فهو أثقل أيام الأسبوع، ولكن هل رأيتم يومًا بدايته ثقيلة ونهايته خفيفة؟ على غير العادة، كان الجمعة كذلك عندي. يبدء يومًا ثقيلاً فصباحه آخر صباح في العطلة، وينتهي خفيفًا، يحكى أنّ أحدهم سأل آينشتاين مرة عن النسبية، فكان جوابه: إن الساعة التي تقضيها مع إمراة قبيحة تشعر بها كالدهر، والساعة التي تقضيها مع إمرأة جميلة تمر كدقيقة. ربما، يقدم هذا المثال اجابة سؤال: لماذا ينتهي ذلك اليوم خفيفًا؟ لا زلت أذكر أنني سمعت باسم «محمد بن الحنفية» لأول مرة في ذلك اليوم، ولعل ذلك يرجع لأنها الجملة العربية الوحيدة التي فهمتها، بالنسبة لطفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، ليس من اليسير عليه أن يلتقط جملة مفيدة من محاضرة طويلة بلغة غريبة عليه حينها.
.
كان إمام المسجد رحمه الله- شيخًا مسنًا، منبره على يسار المحراب، عدة درجات في نهايتها مقعد صغير من الخشب القديم المغطى بقطعة من القماش الأسود، بينما ظل المحراب أبيض اللون كلون الحيطان التي امتزجت بلون السجادة الخضراء التي بدت وكأن خيوطها قد ألقت بظلالها على الحوائط. الباب من الحديد المصنوع يدويًا عند أحد الحدادين، بعد الدخول منه ستصادفك على اليمين دورات المياه، وخارجها محلات الوضوء، وبظهر المتوضي تبقى إحدى أجمل المكتبات التي ارتبطتُ بها، كانت مساحتها صغيرة لدرجة أن متوليها بالكاد يكفيه المكان داخلها ولكني كنت أراها عظيمة. يُقال بأن أعيننا لا يتغير حجمها منذ الولادة، وهذا صحيح، فإن الأشياء هي التي تكبر وتصغر بقدر تأثيرها، وتأثرنا بها.
.
مغرب كل يوم جمعة هو الموعد الحقيقي لابتدائه، كانت الصلاة بهذا المسجد الصغير المختبئ وسط الشجيرات طقس لا يكتمل هذا اليوم دونه، وثاني الطقوس كنت أحضره متفرجًا لا أفهم معظم الحديث الذي يدور بين الرجال، كل ما أتذكره هو أنه بكل أسبوع كان «خالد خلف» المحامي يلفت ناحيتي قائلاً: "كله من يدّك! قص على أبوي وخلاه يتزوج هندية معاه" ثم يضحك وهو ممسك بسيجاره الكوبي خلف مكتبه، المكتب الذي يقع تحته واحد من أشهر مطاعم الكويت .. (نــوارة)!
.
لا أظنها صدفة أبدًا، أن أقف بالأمس على أطلال ذلك المسجد الصغير في شرق، الذي كان ينتهي مساء كل جمعة بنظرة لمأذنته الصغيرة وهي تتوارى من بعيد خلف الأشجار، بعد أن كان يبتدئ بالصلاة خلف إمامه المسن، وبين مقابلتي اليوم لمؤذن المسجد. أعادت رؤيته لذاكرتي عشرات الأوجه التي جرفتها الدنيا ولم اعد أراها، أو أضحت ضيفة تحت التراب، يبدو الخجل في أعلى درجاته الآن لأني وقفت حائرًا والذكريات تهاجمني من كل ناحية وأجد نفسي عاجزًا عن البوح بها كلها، ليس أسوء من الحديث سوى عدم القدرة عليه! كثيرة هي الأثقال التي تكبل الألسن وتسلب منا سرعة البديهة في الرد أو اتخاذ الموقف، ويهونها أنها أثقال مؤقتة إلا في مثل هذه المواقف حيث تعجز حروف اللغة الثمانية والعشرون عن تكوين كلمات تعبّر عمًا يجيش في الصدر، فنقف صامتين، ومتأملين، نتحسر على زمن الطفولة!
.
لست أدري ما الذي دفعني لأن أقود سيارتي إلى هناك مجددًا، لأقف على أطلال المسجد، ربما الشوق إلى تلك الأيام، أو الحنين إلى شعور الدفء الذي كانت تضفيه جدرانه على المصلين، أو الرغبة بالانعزال والهروب من البشر إلى الخالق عز وجل، أو لعلها الرغبة الجامحة في العودة إلى لحظات كان يجمع فيها المسجد أرواحًا ليست بيننا اليوم، وأفتقدها.
حاولت أن ألملم شتات ما بقي مندسًا بذاكرتي عن تلك الأيام، في بعض الصور، لعلها تعيد إحياء بعضًا من لحظاتي المندسة في جوانب الذاكرة.
غريب هو، كيف أنه بهدم شيء، تبنى صروح الذكريات، وكأنه درس من الحياة يعلمنا أنّ «هناك لحظات على المرء فيها أن يتصرف، ولحظات أخرى عليه فيها أن يتقبل».
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين الأقواس مقتبس من:
فارس النور، كويلو.
هكذا تكلم زرادشت، نيتشه.
هناك 15 تعليقًا:
السلام عليكم اخ سفيد
ما شاء الله
موضوع جميل
واستحضر بعض الذكريات الجميلة والتي لا تستطيع الا ان تجر بعض الثقيل منها ايضا
:)
اعجبني مقطع الذكريات المكتوبة على الجدران
وذهبت الى بيت جدي
والكلمات التي سطرناها على طابوق البيت
البيت بيع لناس والى الان احلم بزيارته
:)
الذكريات شيء جميل في حياة الانسان
حتى السيئة منها
فانها تساعد على ان يكتشف الانسان نفسه ما يعجبه وما يستفزه ويضحك عليها حتى لو كانت ليست جميله
سنظل نحتفظ بها ونتذكرها ولانها ما تبقى من ايام مضت راحت ولن تعود مرة اخرى
الله يجعل الايام القادمة احلى واسعد
تحياتي اخي الكريم
:)
كم عانيت قديما من الذكريات
من سيل تدفقها الجارف
الذي يعيد الينا الام مضت الى حالها
ليجبرنا ان نعيش اهات الماضي من جديد
احيانا يجب التخلص من الماضي
وإإستئصاله بلا رحمه
لئلا نسمح له ان يعيث الفساد
بما تبقى لنا من ايام !
للاسف نحن الآن في عصر التقبل، وقلة منا في التصرف إذا كان في اصلا.
رائع كالعادة :)
تحياتي
سلام ياحلو
صار لك فتره عليك غياب بدون عذر
تحياتى
ليش ضاق خلقي
!!
مقال ثري بالأحاسيس
أنا أشاطرك هذه الجزئية في الشخصيةعزيزي أبا البيض
أحاكي المكان بعيوني و أختزن الزمان في كياني
نحن نحتاج إلى الرجوع إلى محال النقاء كلما ازدادت قذارات الحياة التي تنالنا بروائحها الكريهة
الموضوع عميق و الكلام فيه يطول
وفقك الله و أنار قلبك و دربك
دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله
من متابعين مدونتك الرائعه وقلمك السلس العجيب بصمت ..،
أول تعليق اعلقه في مدونتك ،،
بانتظار باقي تدويناتك
ذكريات جميله حقا
لاأدري هل تقصد مسجد شيرين القديم أو بن نخي القديم خلف دسمان
وأتذكر مسجد بن نخي القديم كانت القبلة قليلا الى اليسار من بناء المسجد فكانت الصلاة بإتجاه يسار المحراب لوجود خطأ أو تعديل بالبناء
ذكريات جميلة وستظل هكذا خصوصا مع هذا الوضع المتردي الحالي
دمتم بود
يبدوا أن الحنين إلى الماضي بالنسبة لك قد أرانا منك جانبا آخر ..
وبمعنى أصح .. جعلتنا نتذوق حديثك بـأسلوب آخر , لم نعتادهُ منك
:)
كنت دائما من صغري , حتى هذه اللحظة
أقدَس الذكريات بكل ماتحويها ..
وأشتاق إلى الأركان التي كانت منبع ذكرياتي كلها ..
وكتبت يوماً حينما علمت بأني راحلة عن مكان أحبه :
" على أركاننا نحكي حديث الهامسين ..
بأن ياركن لا تنسى .. كنا جالسين ..
بأن بالأمس هاهنا .. وغدونا راحلين "
لا يأسرني الماضي .. ولكني أحب كل تفاصيله ..
.
.
أبدعت " الحروف الثمانية والعشرين " بين يديك في خط كلمات صادقة , تعنيك وتعنينا جميعاً ..
تحياتي ..
Manal،،
وعليكم السلام ورحمة الله،
يُقال بأن الذاكرة بما فيها من ذكريات هي التي تغذي المخيلة، والمخيلة هي التي تقود إلى التأمل.
والتأمل هو تفكر: سؤال ومحاولة لوضع إجابة لهذا السؤال.
بالمحصلة، تكون الذكريات في الغالب هي المؤثر الأكبر على الإنسان، تارة نحو المزيد من النجاح أو التكيف، وتارة بالعكس.
وكثير من الذكريات بحاجة لمنصة إطلاق حتى يبدأ مفعولها، ومنصتها هي العودة للمكان أو الشخصيات التي ارتبطت بها.
لذا، تعتبر المتاحف لا مجرد أرشفة لتاريخ الأمم، إنما حافزًا لابقاء (ذاكرتهم الأزلية) كما يعبر عنها حيّة.
لنا أجمعين إن شاء الله.
شكرا
====
اقصوصه،،
قد تكون الكثير من الذكريات حزينة،
ولكنها شيء لابد منه.
بواسطتها نتعلم كيف نتعايش، ونتكيّف، والأهم من ذلك كيف نحفظ أنفسنا من خلال إدراكها.
هذا الذي يتخلص من الماضي، لن يعيش حاضره، ولن يرى مستقبله، فكلهم نتائج لماضيه وطريقة تعامله معه.
شكرا
====
Yang،،
عاش من شافك :) .. مختفين من مدة، عسى ماشر؟
كثرة التقبل تمسخ الإنسان، وتجعله بلا هوية.
من يفتقد لأبسط المواقف، يعني انه عاجز عن التعامل مع واقعه،
لذلك يهرب من ذكرياته، فهي تمثل التذكير الدائم له بما فشل من التعامل معه.
سلامي لك، وللعائلة الكريمة.
شكرا :)
====
Panadol،،
وعليكم السلام ورحمة الله،
أنا بدأت أراقب، أكثر مما أشارك.
لسبب في نفس يعقوب، يمكن اقوله في يوم من الأيام.
شكرا للسؤال.
الزين،،
يمكن لأن تذكر الماضي، يحسسنا بمقدار عجزنا كبشر ..
بحيث حتى ما صنعته أيدينا في يوم من الأيام، نحن عاجزون – الآن - عن إدراكه وتغييره.
مهما يتطور الإنسان، يبقى إنسانا غير قادر على تقبل فكرة أنه كائن لا يملك الوصول إلى التحكم بكل شيء.
شكرا
=====
بومحمد،،
ينقل لي أحدهم، أنه سُئل العلامة الطباطبائي رحمه الله قبل وفاته بفترة بسيطة
بأن يوصيه، فكانت وصيته: محاسبة النفس. وكررها عدة مرات.
ومحاسبة النفس ليست سوى استذكار لما مضى، وتقييمه.
الذكريات مهما كانت سيئة، تعيسة، أو مشؤومة في التفكر فيها
فائدة، وهي: أن نتعلم ألا نسلك الطريق الخاطيء مرتين.
وأحيانا نحتاج إلى أن نقف على الطريق الخاطيء، أو الصحيح .. ونتأملهم
حتى ندرب أنفسنا على تحسين اختياراتنا.
شكرا
=====
Haydar Al.Maateeq،،
أهلا وسهلا،
شكرا لمتابعتك، وللطف مرورك.
:)
====
رهبري،،
هو مسجد (الإمام الحسين عليه السلام) أو المعروف بمسجد بن نخي القديم،
الذي أصبح اليوم، ويا للأسف، مجرد أكوام حجارة وتراب،
وكأنه مصداق لقول أبي فراس: .. وكل الذي فوق التراب ترابُ.
شكرا
====
..pen seldom ،،
أما أنا فيأسرني الماضي، لأنه كتاب مفتوح ..
لا يبخل على قارئيه بشتى العبر.
ولا يمكن لنا أن نفصل الماضي عن الذكريات،
بدونها لا وجود لشيء اسمه الماضي ..
هي –كما قال الحلاج يوما-: روحين حلَّا في جسد.
ومهما حاولنا أن ندسها في زاوية ما، حتى لا تؤرقنا
تظل موجودة ..
"يعرف الفارس أن النجم المُرمى في أقاصي الكون، يُفصح عن نفسه في الأشياء التي تحيط به"
شكرا
:)
ماشر انشاء الله، بس مشاغل الحياة.
بس هذا ما يعني اني ما اقرأ لأحد، تقريبا اقرأ للكل بس ماكو وقت للتعليق :(
ذاك اليوم دشيت والا اشوف بومحمد حاط بوست استانست :-)
وأقرا اول سطر والثاني والثالث وووو، ويوم اطالع وإلا الحبيب كاتب جريدة، جان اهون عن القراءة كلش، وحتى المسج الاسبوعي اللي بيني وبينه ماراح ادزله :( وراح اقطع العلاقات واسكر السفارات بيني وبينه :)
مشكلتي بالوقت، وإلا الكل عزيز وغالي.
تحياتي
Yang،،
هو هذا الوقت اللي ذابحنا. غريب شلون البركة سُلبت منه في هذا العصر.
المهم هو وجودكم بخير وعافية، وعلمي بمروركم يكفي .. بس طمنا عليكم كل فترة :)
بعد ساعات قليلة سأكون عند أمير المؤمنين إن شاء الله، إذا تيسرت الأمور بحول وقوته، ولن ننساكم من الدعاء إن شاء الله. :)
سفيد
الله يسهل اموركم
ولا تنسانا من دعائكم
والله يرزقنا الزيارة ان شاء الله
=)
Manal،،
وأنتم بلاشك من أهل الدعاء إن شاء الله.
رزقنا الله وإياكم وسائر المؤمنين زيارتهم في الدنيا، وشفاعتهم في الآخرة.
إرسال تعليق