24 نوفمبر 2010

دروشة النفس


تظل النفس إلى اليوم لغزًا لم يُحلّ، ولا أظن أنّ لهذا اللغز حلاً يلوح بالأفق.

سر أركع البشر إلى يومنا هذا، علماء نفس، حكماء، فلاسفة، عرفانيون، متكلمون إلى آخر ما ظهر من اصطلاحات تشير إلى متخصصين بعلمٍ من العلوم التي تقع النفس في دائرتها، كلهم لا يزالون عاجزين عن فهمها وإدراكها. فكان من درسها عن طريق تحليل الحالات التي تعتريها كما فعل ويفعل معظم علماء النفس والتحليل النفسي، وهناك من حاول دراسة ماهيتها، ومعنى الماهية هو تحقق الوجود، أي دراسة هذه النفس من حيث كونها موجودة ودلائل وجودها كالفلاسفة أو الحكماء بالإصطلاح الإمامي. وما بين الإثنين عشرات المصنفين والتصنيفات.

وقد اعتبرت النفس على الدوام أنها طريق الكمال، والبدن على أنه منبع النقص والخسران. فـ"الإنسان ينتظم ذاته من جوهرين: أحدهما نوراني، والآخر ظلماني. أما النوراني فهو النفس، وأمّا الظلماني فهو الجسد. فالنفس حيّة علاّمة فعّالة خفيفة، والجسد ميّت جاهل ثقيل"[1].

حاجات البدن في الإنسان كلها محدودة، ومقيّدة بشهوات واستمتاعات قائمة على دفع الألم الحسي، وكلها تدور في دائرة الماديّات الحسيّة التي تعتبر أخلاقيًا مبتذلة لكونها تمثل الجري خلف أشياء فانية تستهلك العمر لأجل الدنيا مهملةً كل الأخلاقيات وحاجات الروح، فتطغى النفعية وتبرز الأنانية ويتشتت الانتباه عن التجربة الجمالية في هذه الحياة.

بينما حاجات النفس ليست ماديّة، لذلك هي تنجذب نحو الكمال والجمال، الإبداع والتأمل والسمو، وهي مفاهيم وأشياء ذهنية/عقلية بحتة، وإنما تكون قوى البدن المادي آلة لتحصيل تلك الكمالات، وبحسب العلامة الطباطبائي "فالنفس جوهر مجرد من المادة ذاتًا متعلّق بها فعلاً" أي أنّ «النفس في مقام فعلها محتاجة إلى المادة: فتبصر الأشياء بواسطة العين (الأداة الباصرة) وتسمع الأصوات بواسطة الأذن (الأداة السامعة) .. إلخ»[2]

وبحسب "أفلوطين" فإن النفس ذات وجهين: أعلى وهي التي تعلو على المادة، وأدنى وهي التي ترتبط بالجسم وهي ما تُسمّى بالطبيعة[3] ففجور النفس هو بجانبها الذي يتعلق بالطبيعة التي تسيطر عليها القوى الغضبية والشهوية والسبعية (الحيوانية)، ورفعتها أو تقواها هو بقواها العقلية التي تستغني بها عن البدن، لذلك اشتهر الدراويش والكهنة بأجسامهم الناحلة وعيونهم الغائرة في كل زمانٍ ومكان.

«ولهذا يُرى الإنسان كلما كمل عقله وازداد في عمره وحصل له تجاربه التي كانت في قوته، ازداد في بدنه وهنًا وفي قواه كلالاً وضعفًا –لاستغنائه عنه شيئًا فشيئًا- فكلّما ازداد الروح حياةً في تحصيل الكمال، ازداد البدن موتًا، إلى أن يحيي ها كلاً، ويموت هذا كلاً- سواء كانت كمالاته مُسعدة أو مُشقية»[4]

ومعنى ذلك، أنّ ارتقاء النفس نحو الكمال الذي هو غاية الجمال يتطلّب تجريدها من متطلبات البدن، فمجاهدة النفس تعني محاربتها، وتقليل حاجات البدن يؤدي إلى ضعفه، وإذا ضعف قل ارتباط النفس بالبدن، وتوجهت إلى تلبية الكمالات الأخرى (الأخروية). وعليه مضى المتصوفون بقولهم: (التخلية قبل التحلية) أي اخلاء النفس من ارتباطها بهذه الدنيا، «فأما الفضائل أنفسها فليست تحصل لنا إلا بعد أن نطهر نفوسنا من الرذائل التي هي أضدادها، أعني شهواتها الرديئة الجسمانية ونزواتها الفاحشة البهيمية»[5] وتلك هي الخطوة الأولى للوصول إلى مرتبة "المَحْق"[6] في النهاية، كما يعبر عن ذلك الجنيد البغدادي:

وجودي أن أغيب عن الوجودِ .. بما يبدو عليَّ من الشهودِ

والحلاّج:

منية المتمني غيبتني بك عني .. أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني

ومنذ عهد أفلاطون وما تلاه ترسخت هذه النظرة حتى باتت مشاهدة في كل الأديان، والطرق، والمذاهب في أنّ الوصول إلى الكمال والجمال هو بالزهد في الدنيا، وتركيع حاجات البدن، ومجاهدتها حتى تتروض فتطيع النفس، لا أن تتروض النفس لتطيع البدن. فتميّز كل فكر إنساني بجانبٍ تصوّفي يجذب الإنسان بعيدًا عن دوامة الحياة الخانقة التي تحجبه عن الوصول إلى درب الإرتفاع عن سفاسف المتناهيات.

يقول "بوذا" في (الداماباد):

«في التخلّي تُنشد المتعة،

حيث المتعة تبدو صعبة.

في التخلّي عن المسرّات كلها،

في التخلي عن الممتلك كله.

يتطهر الحكيم مما يُثقل ذهنه.»[7]

ولكنّ ترويض البدن، بمنعه وحبسه، لا يعني الوصول أبدًا إلى الطريق الصحيح. والسعي نحو الإشراق[8] أو حتى الوصول إليه ليس دليلاً على السلامة، ولا دليل أوضح من رهبان التيبت وكهنة الصين ودراويش الهند الذين مع عظم مجاهدتهم لأنفسهم ما وصلوا إلى «البرهان العرشي» الذي يراه أصحاب القلوب الصافية المتجلية بنور الدين وطاعة الشرع المبين، فإذا كان عملهم غير مقارن برؤية البرهان ومؤيدًا بتأييدٍ إلهي ومؤكدًا بالعناية الأزلية، «لم يزدهم إلا عجبًا، وحسبانًا، وغرورًا، وقساوة وطغيانًا»[9].فليس سلوك الطريق هو المهم، إنما اختيار الطريق الصحيح القائم على البرهان هو الأهم.

يقول المولى النراقي: «الأمراض النفسانية هي انحرافات الأخلاق عن الاعتدال»[10]. فالزهد والبعد عن ملهيات الحياة الدنيا والإنعزال عن الناس وترويض النفس ومجاهدة الشهوات هي أرقى الأفعال الإنسانية، ولكن كما يُعطي الغني رغبة بالسمعة، كذلك يروّض بعضهم نفسه طمعًا بها. وكلهم تحكمهم الأنانية وهي رأس الإنحرافات الأخلاقية وهم لا يشعرون. فالنفس الدنيا خدّاعة[11]، «إن كثيرًا من الأشخاص يحيون الليالي في السهر والإعتكاف، لا يحصّلون أكثر من الهم والغم والنحول واصفرار الوجه، ومع ذلك لا يُعدّون من أهل الله، وذلك لأنهم غافلون منذ البدء عن حقيقة التصوّف، واعتقادهم لا يخلو من الخداع وحب الدنيا..»[12].

لا أظن أن زمنًا يحرم فيه البدن ويروّض مرّ كزمننا هذا، فجلّ الناس يعملون ويعانون ويقاسون ويصبرون لذلك، ولكن لا تهذيبًا للبدن ولا ابتعادًا عن الرذائل حتى تنعتق النفس فيصلون إلى قمة السعادة بقربهم من الكمال ولا ترويضًا لشهواتهم، ولكن إما اتباعًا لأهواءهم في "الريجيم" و "الموضة" لمسايرة مقاييس المجتمع الشكلية وإمّا طمعًا في الحصولهم على الثناء من أفراده!
فصارت الدنيا أكبر همهم ولو على حساب أنفسهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كسر أصنام الجاهلية – الملا صدر المتألهين. ص49

[2] بداية الحكمة – العلامة الطباطبائي. ج1 ص 365

واللفظ للعلامة الحيدري في شرحه للمطلب.

[3] خريف الفكر اليوناني – عبد الرحمن بدوي. ص 146

[4] الإنسان في منازل خلقه وموته وبعثه – الملا الفيض الكاشاني. ص 25

[5] تهذيب الأخلاق – ابن مسكويه. ص 91

[6] المحق: المرتبة الأخيرة بعد (المحو) و (الطمس) وتعني فناء وجود الشخص في وجود الله تعالى، أي أنه لا يرى –بالمعنى المجازي- سوى الله عز وجل، حتى نفسه لا يشعر بها في حضرة الجليل عزّ وجلّ.

[7] الداماباد – الكتاب المقدس لبوذا. ص 30.


[9] كسر أصنام الجاهلية – الملا صدر المتألهين. ص 46.

[10] جامع السعادات – محمد مهدي النراقي. ج1 ص 92.

[11] [12] «..إنّ من يعد نفسه من أهل الحقيقة يجب أن يبتعد عن دنس الدنيا ومنازع النفس الأمّارة والهوى، لان أنفاس الدنيا الشيطانية وتجلياتها المتنوعة تخدع الناس كل ساعة بأسلوب، وكل لحظة بشكل مختلف، تنقلهم من حال إلى حال دون علم منهم أو معرفة ..» التدين والنفاق.. – العلامة البهائي. ص 78 و ص116.

هناك 11 تعليقًا:

غير معرف يقول...

نرفع القبعه تحيه لك عزيزي سفيد وتقبل الله طاعتك

متى نرى كتاب فلسفي يحمل اسمك الكريم ؟

Anonymous Farmer يقول...

Piggy-backing,

"Bitter practice, sweet mind"

"True happiness through renunciation"

Relevant quotes

غلبت الجميع أنت اليوم

:-)

أحمد محمدي يقول...

الحياة مليئة بالالغاز والجواب بالموت !

peaceful-space يقول...

اه من قلت الزاد و طول السفر

غير معرف يقول...

"الانسان عباره عن عقل والأبدان هي اداة لتنفيذ الافكار الموجوده في العقول"
واول ما خلق الله هو العقل فبداية الخروج من دوامة الدنيا هي اصلاح العقل من اوهام الدنيا الفانيه.

دائما اقول ان القرآن قبل ان يكون كتاب للتعبد فهو مشروع حضاري بجانب روايات وفكر أئمة أهل البيت عليهم السلام و هدفهم هو اصلاح ما افسده الزمن في الانسان

بعث الله الانبياء لإصلاح الافكار في الاقوام ويكون النبي هو حجة الله امام هؤلاء الأقوام يوم لا ينفع مال ولا بنون

124 الف نبي بعث للإصلاح وتهيأة الأمر لقيام دولة الله العادله في الأرض ونهاية الرساله السماويه هي غدير خم وقال الله لرسوله بما معناه اذا لم تعلن ولاية امير المؤمنين علي ابن ابي طالب فلن تكون هذه الرساله السماويه التي بدأها الله في آدم مرورا بهؤلاء الانبياء كامله ولكن ....


اللهم العن الجبت والطاغوت
اللهم صلي على محمد وآل محمد

غير معرف يقول...

هنيئاً لهذا القلم الراقي
نسأل الله صلاح أنفسنا قبل خروج الروح

Safeed يقول...

غير معرف،،

منّا ومنك صالح الأعمال إن شاء الله.
أما الكتاب، فرحم الله امرء عرف قدر نفسه :)

شكرا :)

====

Anonymous Farmer،،

في الحقيقة ردك هو الذي أخرني عن التعقيب، لأنني كنت أبحث عن مقطع صوتي يتحدث عن هذه النقطة بالتحديد، وقد وجدته ولله الحمد
وساضيفه لاحقًا.

شكرا

====

أحمد محمدي،،

ألغاز الحياة، تُحل بالحياة، ولكن أيُّ حياة؟
الموت هو مجرد ممر عبور ما بين هذه الحياة، وما بعدها وفيها الإجابة :)

شكرا

====

peaceful-space،،

"وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"
وعلى هذا الأساس كان التحلي بالفضائل يقوم على مجاهدة النفس، ولكن سبحان الله كيف شوّه هذا العصر هذا الأمر، وجعل مجاهدة النفس لا للتزود للآخرة، إنما للانطماس في الحياة الدنيا ولهوها!

شكرا

====

غير معرف،،

كتب الشيخ الأنصاري في مقدمة تحقيقه لكتاب "سليم بن قيس" تمهيدًا حريّ أن يُكتب بماء الذهب ويعلق في كل بيت فقد اختصر تاريخ البشرية ومسيرها ببضعة سطور وهو يستعرض تاريخ أوصياء الأنبياء عليهم السلام.

فكل الفضائل إذا لم تكن لغاية سامية، فهي والرذائل سواء.

وللأسف أن هذا الكتاب استعاره أحدهم منّي، ولم أره إلى اليوم :(!
وإلا لوضعتها هنا شاهدة على ما أقول.

شكرا.

====

غير معرف،،

آمين.

شكرا

:)

الطوسي يقول...

تقابل العارف أبوسعيد أبو الخير مع الشيخ الرئيس ابن سينا واعتكفا لمدّة من الزمن ..

وبعد انفصالهما ذهب كل واحد الى طلبته وقوبل الشيخ الرئيس بهذا السؤال ماذا وجدت من أبوسعيد .

فأجاب ..

ما نحن نعلمه هو يراه .



أما اجابة أبوسعيد لطلبته كانت ما نحن نراه هو يعلمه .


***

لقد أثرت نقطة جميلة في بيانك وهي أن تهذيب النفس بحد ذاته لن يجدي دون برهان قويم , لكني أختلف معك بجزئيّة أن تهذيب النفس أقله يجعل صاحبه يعمل بالموازين الأخلاقيّة .

***

ان الاختلافات بين المناهج الفلسفيّة سواء كانت اشراقيّة أو مشائية أو حتى ما يجمع بينهما قائم على كيفيّة تكوين رؤية كونية .

فهناك من التزم بأن العلم ليس بكثرة التعلم انما نور يقذفه الله في قلب المؤمن .

وهناك من التزم بهاتوا برهانكم ان كنتم صادقين .

وهناك من التزم بالاثنين معا .

مع عدم اغفال أن المدرسة الاماميّة مدرسة عقليّة أولا وبالذات .

***

كلامك " بعد جبدي " يقع في نقد تحليلي لمنهج الاشراق ولو بطريق غير مباشر لكن الشواهد والقرائن تقول أن هذا المنهج أثبت فعاليّته ولكن عابه عدم وجود برهاني استدلالي على المشاهد وهذا ما يميّزه .

***

أختم بأن الاتصال بالمعصوم هو الطريق الأنجع والأنفع في الوصول الى الكمال , وفي هذا بيان أختصره بــ :

خصوصيّة الشعائر الحسينيّة , وذاك الضلع المكسور خلف الباب , وانتظار حامي الشريعة .

.......

Safeed يقول...

الطوسي،،

يُقال بأن عمل الأشياء بطريقة صحيحة أولى من عمل الأشياء الصحيحة.
فإلتهذيب النفسي والتربية الروحية إن لم تكن مبنية على أسس سليمة
فهي بحسب تعبير العلامة الطباطبائي رحمه الله: هروب من الأشقى إلى الأسهل.
لأن فكل الأمارات الأخلاقية الظاهرة إنما هي نتيجة ترويض النفس السلوكي وهي
كلها قابلة للتبدل والإنسحاب بلحظات، إن لم تكن منحرفة في ذاتها بداية فـ(الموازين) الأخلاقية
موازين مائلة عندهم.
وهذا التاريخ حافل بهم.
...
سألت أحد تلامذة الشيخ الوحيد حفظه الله عن الإشراق.
فقال لي بأنه لا يعتبرها فلسفة. الفلسفة هي مشاء فقط.
أما الاشراق فسمه حكمة، كشف، .. إلخ إلا فلسفة.
أنا لست في مقام الناقد أو المقيّم لأي شيء، بل في مقام المشاهد
إن تهذيب النفس وتربية الروح هي حالات فردانية لا يمكن تعميمها.
...
وأختم بانه لاشك بما ختمت به.
أسأل الله عز وجل أن لا يفرق بيننا وبينهم عليهم السلام
طرفة عين أبدا.
شكرا جزيلا لك مولانا العزيز على مرورك وتفضلك :)

محمد سعد القويري يقول...

تحية عطرة معطرة
Attention Please >>>>
المعذرة .. هذا تعليق خارج النص ..
دعوة للمشاركة في
مشروع مقروءاتي الثالث
للمشاركة ولمزيد من التفاصيل .. هنا
http://qweary555.blogspot.com/2010/12/1431.html
ــــــــــــــــــــــــ
وإن شاء الله تكون هذي بداية سلسلة من الزيارات 

Safeed يقول...

محمد سعد القويري،،

أهلاً وسهلاً.
شكرا لدعوتك، وإن وفقني الله سبحانه، فسأجيبها بكل رحابة.
شكرا