هناك شعور متجذر بالدين عند الإنسان، فـ"الحاجة الدينية مغروسة في الشروط الأساسية لوجود النوع الإنساني" بغض النظر كون هذا الدين مرتبط بالله الواحد الأحد أم بغيره من المخلوقات. يُعرّف إريك فروم الدين على أنه: "نظام للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعًا يكرس من أجله حياته"[1]. وعليه يكون تعريفه شاملاً لكل الأنظمة الفكرية بما فيها الإلحادية على أنها دين يعتنقه أفرادٌ من النّاس. وهذا التحزّب أو التنمّط أو الاعتناق هو استجابة لشعور متجذر بضرورة الإرتباط بما يغذي الجانب الروحي عند الإنسان على تفاوت مراتب هذا الغذاء، سطحيًا كان أم عميقًا.
للعلامة الطباطبائي استنباط لطيف مرتبط بهذه النقطة في ذيل الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فهو يشير أن غاية خلق البشر والجن غرض مرتبط بهم، لا بالله عز وجل، «و أن الغرض هو العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودًا للناس» فلو كان خلقهم كي يصبح معبودًا لكان يريد الاستكمال بعبادتهم، «فقد قال "ليعبدون" و لم يقل لأعبد أو لأكون معبودا لهم» كما في الحديث القدسي "خَـلَـقتُ الخلق لكي أُعرف" لا لكي يعرفوني. فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليها هي وما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك [2].
وقد يُطرح سؤال عمّا هي العبادة؟
وجوابه: بمعناها الشامل لاتقتصر فقط على مجرد أداء الشعائر الدينية الجسمية الروحية من صلاة وصوم وحج وغيرها ، وإنما تعني الالتزام المخلص والأمين بمباديء الإسلام وتعليماته فى كل شؤون الحياة . فحسن استغلال البيئة عبادة والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر إلى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتي يرث الله الأرض ومن عليها عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة وعدم تلويث الماء والهواء عبادة، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة (مدارس ـ مستشفيات ـ مصانع وغيرها) بأسلوبٍ راشدٍ عاقلٍ عبادة[3].
العيد في كل الأديان هو عنصر جوهر من عناصر العبادة[4]. حتى في الأنظمة العلمانية، والشيوعية التي هي أكثرها معاداةً وانفكاكًا عن الدين بمعناه الخاص جلّ ما فعلته هو استبدال الأيام المقدّسة، الأعياد التي هي «المحفل المقدس» كما يعبّر عنها في العبرية أو «أيّام المقابلة مع الله» كما في المسيحية[5]، إلى أيّام المقابلة مع فكر القيادة والاحتفاء بالشجرة والجيش! إنزالٌ من المقدّس العالي إلى تقديس الداني كمحاولة للتغلّب على هذه الضرورة التي لا تغيب عن الإنسان.
تكمن إحدى فلسفات العيد في إعادة الإنسان إلى توازنه بعد الاستغراق إما في الدنيا، وإما في العبادة، فكلاهما يعمل على فصله إما عن واقعه الخارجي المتمثل بما يحيط به، أوعن واقعه الداخلي المتمثل بجوهره النفساني الذي يربطه بـ اللا متناهي، الوجود الأعلى. كانت الطقوس الدينية المرتبط بالأيام المقدسة في الأزمان القديمة تعبيرٌ عن الشعور الوجداني عند الإنسان بوجود قوة قاهرة تتحكم في مسير حياته، وهذه القوة تدفعه إلى أن يحاول استرضاءها نتيجة إمّا بُعده عنها باقي الأيام، أو نتيجة احساسه بأنّها تملّ من كثرة إلحاحه عليها، ويكون ذلك بتقديم القرابين أو بممارسة شعائر يتفرغ فيها إلى خدمة هذه القوة بما يتصورّه مستجلبًا لرضاها ومن ثم لا تتدخل سلبًا في حياته.
الشعوب البدائية كانت تعيش حالة مستمرة من الخلق اليومي لعالمها، بمعنى أنّ العقاب والجزاء لا يرتبط بمرحلة الزمن الأخروي إنما الزمن الأول – الذي يعيد انتاج الأحداث اليومية دائمًا - وطالما مارست طقوسها الدينية بشكلها الصحيح - كما تتوهم - فإنها تخلق نوعًا من الأبدية الدائمة لـ يومها، وما يرتبط به فقط دون أي أثر أو اعتبار لمفهوم المعاد بمعناه الدارج[6]، فهي تعيش ضمن دائرة مغلقة هي مبتدأها ومنتهاها ولاشيء قبلها أوبعدها.
هي نفسها الشعوب التي نتيجة لرؤيتها السطحية هذه للزمن، تصوّرت الإله في التجلّيات التي رأتها لقدرته في فيضان الأنهر، أو الأعاصير وأعراضها، أو حيوانات الطبيعة المفترسة التي تهدد وجود هذه التجمعات البشرية وتُحّجم من قوتها، وتهددها. كثيرة هي التفسيرات التي حاولت تفسير هذا الخلط ما بين تجلّي القدرة وما بين صاحب [علّة] القدرة، الدكتور شايغان يطرح فكرة «الوعي غير الناضج» أي أنّ الـ أنا عند أفراد هذه المجتمعات غير منفصلة عن وعيهم، ومن ثمّ فإن إدراكهم لأي شيء هو إدراك بصورة مشوّهة ومنقوصة للواقع لكونه قائم على صور جزئية تزوده بها حواسه المحدودة، ولم يتطور الوعي بالأنا إلى درجة فصلها عمًا سواها. كان لا يتصور وجود الفاصلة ما بين ذاته هو وما بين فعله، كما لم يتصور أنّ حالاته البشرية من غضب وفرح وحزن وإحساس بالرغبات العارمة هي أشياء لا تنطبق على تلك القوة القاهرة، لقد تصوّرها بذهنه، مثله .. إنسانٌ إنما بطاقة أكبر.
ورغم تطوّر الوعي الإنساني بإحداثه لشرخ جعل وعيه يستقل عن الـ أنا[7]، ومن ثم تطور مفهوم الزمن عنده، ومن خلال هذا التطور توسعت مداركه وبات أكثر فهمًا لمنظومة العالم، إلا أنّ هذا الإحساس لم يسلب منه الشعور بالتوجه ناحية شيء ما يقهره بغيبه وغموضه وسطوته مهما اختلفت تسمياته: اليد الغيبية للطبيعة، أو الإرادة العبثية، أو الوجود، أو العلم الذي بات يرتدي أثوابًا ليست له ليتقمص دورًا ليس له، أو الدولة، وصولاً إلى كل المفاهيم التي اخترعها ليبتعد عن الله عز وجل، رغم أنّ كماله في التوجه له لا لغيره. ونتيجة لذلك لا يزال للعيد ذلك المعنى الذي لم يندثر رغم تطور الإنسان، «ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى ، غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الإجتماع ، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية»[8]
هكذا، يظهر أن كل الأشياء ليست خاضعة لمفهوم التبدّل والتغيّر، قد نضيف عليها بعض الأشياء كنكهات وبهارات لكنها تحت أطنان الماكياج هذه تظل كما هي بصورتها الأوليّة، منها العبادة التي هي دورٌ لن يستطيع الإنسان تجاوزه. إحساسه بالنقص يجبره على استلهام عبادة يسد بها هذا الشعور، ومهما وصل به غروره واستكباره فإن غاية ما يفعله هو "تحوير" لمظاهر ومعاني عبادته ويظل جوهرها واحدًا، ويبقى العيد يعود دائمًا مذكرًا الإنسان بأنه بحاجة لأن يتطهر من الأدران التي يكتسبها من معيشته بكل ما فيها من مماحكات ومراوغات وإلتفاف على الذات ولا يكون ذلك إلا بالتوجه لمن له القدرة على ذلك، وأنه بحاجة لأن يعيد للزمن اعتباره كشاهٍد على كون الإنسان مهما أتى بتعاريفٍ جديدة له فإنه يتوقف على اعتابه معتبرًا إياه دائمًا المنطلق نحو «البداية الجديدة» لكونه إلى اليوم لازال يكرر نفس نهايات الإنسان الأوّل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الإنسان بين الحقيقة والمظهر، ص127 و128
[2] راجع تفسير الآية في الميزان المجلّد 18 والتفصيل في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري الدرس 46
[3] راجع العدل الإلهي، الحيدري، درس 46 وفيه عدة إشكالات وأجوبتها على هذه الآية.
[4] الأعياد السيدية، الأب يوحنّا ميشيل.
[5] المصدر السابق.
[6] داريوش شايغان، الأصنام الذهنية، ص 134.
[7] نفس المصدر
[8] الطباطبائي، الميزان المجلّد 4.
هناك 3 تعليقات:
السلام عليكم...
عيد سعيد مبارك عليكم وعلى الجميع...اعاده الله تعالى عليكم بالخير والبركة والسرور في هذا العام وكل عام...
خالص تقديري ومحبتي...
مقال جميل رغم الاستغراق في التفصيل، اعتقد انك بحاجة للهروب من بوتقة التكرار لبعض الأفكار في مجمل مقالاتك.
وكل عام و انت بخير
الموسوعة الحرّة،،
وعليكم السلام ورحمة الله.
أسعد الله أيامك بالخير والمسرّات،
وتقبل الله أعمالكم ورزقنا وإياكم العود بعد العود إن شاء الله.
شكرًا.
====
سرقالي،،
لا أخفيك أن هناك بعض التكرار، وتعليلي الوحيد هو أن تركيزي على هذه الأفكار، وأن أسئلتها هي التي تُطرح في بالي بصورة حثيثة هذه الأوقات.. فصارت هذه المقالات انعكاسًا مباشرًا لها.
:)
كل عام وأنت بخير وعافية إن شاء الله، شكرًا
إرسال تعليق