12 فبراير 2009

السـوي و المتوتـر




من إحدى إفرازات المدرسة التحليلية في علم النفس و دراستها لشخصيات الناس تصنيفها بحسب تصرفاتها و أفعالها إلى ما يُعبّر عنها و عن جوهرها ، إحدى تصنيفاتهم التي تتناول شخصيات الإنسان من خلال نقيضين هي دراستها لشخصية الإنسان السوي و دراستها للإنسان المتوتر .
.
من وجهة نظر إسلامية تتفق مع ما تصيغه هذه النظرية ، تعبر هذه المدرسة عن الشخصية السويّة : بانها الشخصية التي تحمل موقفًا توافقيًا تجاه الآخرين ، و يتمثل هذا الموقف التوافقي بالصفاء النفسي و العفو و الإحسان ، أن تكون تصرفات الإنسان الظاهرية معبرة عن بواطنه الداخلية قادرة على اكتساب الصداقات وفق أسمى معاني الأخلاق ، و من هذه الشخصية ينطلق ما يسمى بــ " الموقف التوافقي " أي حمل المودة و الحب و إظهارها للآخرين كموقف ابتدائي.
.
أما الشخصية المتوترة فهي تعني تلك الشخصية التي تحمل موقفًا متذبذبًا تجاه الناس ، فهي تارة تتصرف وفق مبادئ الحضارة و تارة تتصرف وفق مبادئ القيم العشائرية لها ، تارة تتميز بالغضب و النفور و تارة تبدي الإنفتاح تجاه الآخرين و كل هذا يعتمد على الموقف الذي تكون فيه ، فهي تستلهم منه طريقة تصرفها و لا تتصرف بناءً على السجية الطبيعية لها .
.
يستشهد الدكتور علي الوردي بصورة كاريكتيرية يلخص بها شخصية المتوتر تمثل هذه الصورة احد أبناء المدن العراقيين و آخر يرتدي الكوفية و العقال كلباس اهل العشائر ، و هذان الاثنان داخل حافلة لنقل الركاب و قد طرح صاحب الكوفية ابن المدينة أرضا واضعاً مسدسه على رأسه و هو يقول له : و الله لا يمكن أن تدفع ، بل أنا الذي سيدفع الأجرة .
.
يظهر صراع هذا المتوتر الذي يمثله الرسم في ازدواجيته ما بين الكرم الذي تفرضه قيمه العشائرية و ما بين استعداده للقتل في سبيل اثبات قيمة الكرم نظرًا لأنها مقدسة و تمثل علامة فارقة في مجتمعات ريفية تعاني من الفقر و الجوع عادة و ما بين القتل الذي لا يمثل سوى جريمة أقل مرتبة من جريمة تكفّل الضيف بنفسه ، فهو عنده الاستعداد لأن ينهب لكي يهب في مثال واضح على الخلل في صياغة إطار هذه الشخصية و أفكارها ، و لا أظن أن غالبيتنا لم يمروا بموقف مشابه في يوم من الأيام.
.
في علم الأخلاق ترتكز الدعوة إلى رفض هذه المظاهر و هذه القيم و تُرجع جميع تصرفات الإنسان إلى شريعة واحدة ثابتة غير متذبذبة حتى تتولد الشخصية السليمة عند معتنقيها و بالتالي يَسلم المجتمع من شرورها ، فهي لا تتردد في وصف القتل بانه جريمة عظمى و إن كان بهدف نبيل في ضوء تقاليد المجتمع كما حدث في الطرفة سابقة الذكر ، و تؤكد في خلق الشخصية السوية على ابداء الموقف التوافقي و جعله أصلاً في ابتداء أي فعل يقوم به الإنسان من خلال التعبير الحركي عن الحب الذي هو أحد مصاديق الشخصية السوية ، أي اظهار البسمة و طلاقة الوجه و حسن التعامل .
.
و يبدو أن الإسلام قد سبق المدرسة التحليلية في تحديد الشخصية السويّة و من ثم تحديد نقيضها المتمثل بالشخصية المتوترة و أثرُ ذلك في دعاء " مكـارم الأخلاق " [1] ، و كيفية وصف الإمام زين العابين عليه السلام لأسمى الصفات التي يجب أن تتحلى بها شخصية المرء .
.
طبيعة قلب الإنسان أنه متوحش لا يقبل بالقادمين الجدد و غالبًا ما يظهر تعبير الوجوم على وجوهنا حين مقابلتنا لأناسٍ جدد في العمل في المدرسة في الجامعة او إدارات الدولة أو باي مكانٍ آخر ، هذا التعبير يولد حاجزًا يفصل ما بيننا و بين هؤلاء ، لاحظ في نفسك إن قابلت شخصًا لأول مرة و أظهر تعابير الوجوم و الإنقباض منك كيف سيكون مردود ذلك في نفسك و لا أظن أنني أخطئ أنك ستصنفه في باب العداوة أو عدم الرغبة بمقابلته مجددًا و بذلك تخسر صديقًا و ربما سنيدًا جديدًا ، فالانقباض من الناس يولد نفس الشعور عند الطرف الآخر مما يحيي هذا التوتر القائم و يديمه [2] في الرواية عن الإمام علي عليه السلام : الإنقباض من الناس مكسبة للعداوة .
.
يؤكد علم الأخلاق في الإسلام على ضرورة ترويض النفس للتغلب على تقاليد و عادات ( آداب ) المجتمع في الإنسان من خلال الإيمان بمبادئ الأخلاق التي سبق و أن بينّا أنها ثابتة غير متحولة [3] بعكس الآداب، فهو يؤكد على الابتسامة في وجه الجميع و يعدها من الصدقات المندوبة ، و يدعو للأحسان و هو الإعطاء دون مقابل رغم أن هذا يعارض الأنا الفردية المسؤولة عن الأنانية في الإنسان و لكن ترويض النفس لا يكون إلا بمجاهدتها و هو أحد أهم المبادئ التي يدعو إليها الأخلاقيون .
.
الشخصية المتوترة هي قبل أن تكون شخصية مريضة ، شخصية غير قادرة على تحديد هويتها و العيش وفق هذه الهوية و إذا ما انتشرت في مجتمع ما و قوبلت بالمثل تكون سبيلاً لأن يُصاب هذا المجتمع بإزدواجية تزيحه من مراتب الحضارة إلى الخلف ، و نحن الآن في الكويت نعيش بعض مظاهر هذه الإزدواجية .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[3] راجع مقالة سابقة لي في المدونة : الأخلاق .. و الفعل الأخلاقي .

هناك 17 تعليقًا:

كبرياء وردة يقول...

قرأته على السريع

وانبغى أن أشيد عليه

وأثني على المجهود الواضح

بس لي عودة :)

الفيدرالي يقول...

أخي العزيز سفيد

موضوع جميل و رائع

و مدونة تستحق المتابعة

تمنياتي لك بالتوفيق و النجاح

TruTh يقول...

اخوي سفيد القصة اللي انته كتبتها عن ولد المدينة و الثاني اللي من العشائر ضحكتني و ذكرتني في فيديو باليوتيوب كان في اثنين من العشائر و واحد منهم يبي الثاني يشرب جاي قبل ما يطلع من عنده و الثاني مو راضي و قام الأول يتهاوش معاه و يغلط عليه و يدززه لأن غصب يبيه يشرب جاي و آخر شي قال له:والله أطخّك بالنار قسما بالله

قاعد يهدده يذبحه لأن مو راضي يشرب جاي لوووووول

شوف الفيديو
http://www.youtube.com/watch?v=WF9RnTFWKyI

ويعطيك الف عافية على الموضوع
:)

فريج سعود يقول...

شتقول في مجنمع كامل سلبي

في دول عربية معينة ان نزلت بها تكره اليوم الي انولدت فيه

|:| DUBAI |:| يقول...

فعلا مدونة ثرية باسلوب جدا راقي !

Manal يقول...

مساء الخير اخ سفيد

موضوع جميل
كالعادة

احب قراءة الامور المتعلقة بالشخصية والتحليل النفسي للامور التي تدور من حولي

كثيرا ما نرى الشخصية الحقيقية التي يتاثر بها اي شخص وقت المواقف الحاسمة

بعيدا عن القصة التي ذكرتها

فان الحياة مليئة بالمواضع والمواقف التي تترك الاثر الكبير على طريقة تجاوب الناس بها واظهار شخصيتهم الحقيقية

اما بالنسبة لما ذكرت عن الشخصية السوية
"
الشخصية السويّة : بانها الشخصية التي تحمل موقفًا توافقيًا تجاه الآخرين ، و يتمثل هذا الموقف التوافقي بالصفاء النفسي و العفو و الإحسان ، أن تكون تصرفات الإنسان الظاهرية معبرة عن بواطنه الداخلية قادرة على اكتساب الصداقات وفق أسمى معاني الأخلاق
"
فان من النادر وجودها في هذا الزمن
لا اقول انها ليست موجودة
بل هي موجودة
ولكن يصعب علبهم التعامل مع المجتمع وما يحويه
فانهم بنظر الاغلبية ناس سذج
ومساكين

اتوقع ان البيئة هي التي تفرض الشخصية على الانسان

اعتذر عن الاطالة
ودمت بالف خير اخي الكريم
ودائما ننتظر منك ما يفيد ويساعدنا على التفكير والتامل
:)

دمت بالف خير

Salah يقول...

حضارة القرن الواحد والعشرين هي حضارة غربية، ان كنت تعيش في الكويت أو في امريكا فلا فرق... الحضارة واحدة في هذا العصر...

والحضارة الغربية لا تتوافق مع المبادئ الاسلامية... على الأقل ليس دائما هناك توافق....

وكنتيجة كل المؤمنين في هذه المبادئ سيشعرون في الازدواجية... يعانون من التناقض بين القيم التي يؤمنون بها وبين الحياة التي يجب أن يعيشونها.

ولهذا تجدهم يشعرون في الغربة حتى في أوطانهم.

ZooZ "3grbgr" يقول...

يايه عندي حجي وايد بقوله في التعليق بس الله يغربل ابليسج يا تروث


آنا شفت الفيديو وغشيت ضحك عيوني دمعت ونسيت كل اللي بقوله

احسنت سفيد الله يعطيك العافيه خوش موضوع بس سامحني ماني قاده اقول شي

ولك اقعددددددددددد

ههههههههههه

والله لو انا اشرب مطاره كامله مع اني ما احبه

Safeed يقول...

كبرياء وردة ،،

شكرا للمرور :)
.
.

علي إسماعيل الشطي ،،

مرورك الاجمل ،
شكرا :)

.
.
TruTh ،،

أنا شفت الفيديو و صج ضحكت على تهديده بالطراق .. :)
صحيح إن الفيديو مضحك لكن مؤلم لأنه يبين مقدار ( التناشز الإجتماعي ) بين القيم العشائرية اللي كانت سائدة في فترات انعدام الدولة و بين المفاهيم الإسلامية و القانونية الحديثة لحرية و اختيار الإنسان و ما فرضته من عادات و قيم جديدة علينا ككل .
القتل كان أمر اعتيادي في تلك العصور ، و لكن قد تقوم حروب لا تنتهي و عداوات تظل لمئات السنين لمجرد أن ضيف رفض شرب القهوة ، ليس هناك تناسب ما بين جرم كل منهما لان القيم العشائرية لا ترى في سلب الحياة سلبية بقدر ما تراه في رفض صفة الكرم - مثلا - عنها .
و هذه مشكلة لا تزال باقية إلى اليوم .

شكرا للمرور ، و الله يعافيكم .

Safeed يقول...

فريج سعود ،،

طبيعة المجتمعات انها قابلة لأن يتم تعميم الاحكام عنها .
و هناك بلدان عربية محددة لم تعرف التنظيم " المدني " إلا متأخرًا فقد ظلت معظم تاريخها خاضعة للقيم تتنافى في جوهرها مع احكام الدين الأخلاقية أو نظم الانظمة المدنية الحديثة ، و الآن لا تزال الكثير من شعوبها تعاني من التوفيق بين موروثهم الماضي و قيمهم الحالية .
هذا إلى جانب وجود أسباب أخرى لمسألة خلق الهوية " المتوترة " لبعض المجتمعات تعود إلى موارد أخرى ربما ياتي ذكرها في احد الأيام .
شكرا للمرور .

.
.

|:| DUBAI |:| ،،

شكرا للمرور :)

Safeed يقول...

Manal ،،

- في الحقيقة فإن التعريف المكتوب للشخصية السوية و الشخصية المتوترة هو تعريف يستند إلى مصطلحات علم النفس للمدرسة التحليلية و لكن بنظرة إسلامية ، و إلا فغن الشخصية السوية هي الشخصية التي لا تملك تنافرًا ما بين فعلها و تصرفاتها و بين اعتقادها و باطنها ، أي أنها تملك تناغما ما بين ما تحمله من فكر و ما تظهره من تصرفات ، أي أن الشخصية السوية الحكم عليها ينبع في مناسبتها لمجالها فالمجرم الذي يظهر تصرفات إجرامية كما يحمل فكرها فهو يحمل شخصية سوية و لكنها في الجانب السلبي أي شخصية " سلبية " و إن كانت سوية على الصعيد النفسي و العملي .

- أما وصفها بالسذاجة فهذه طبيعة بشرية لأنها ناقصة فهي لا تستطيع رؤية ما يقرب للكمال في غيرها ، العيب ليس في هذه الشخصية إنما في الناظرين لها ، أحدهم كما تروي كتب السيرة حين سألوه عن إمامة علي (عليه السلام ) و خلافته قال إن فيه دعابة !
أي أنه استغل طلاقته في وجه الآخرين ليصفه بأنه صاحب دعابة فلا يستحق تلك المكانة بسبب ( العيب ) بنظره !

- هل تصرفات الإنسان تظهرها طبيعة مجتمعه ؟ أو أنها قابلة للظهور على خلاف بيئته ؟
لا يمكن اختزال تصرفات الإنسان على انها وليدة البيئة فقط لأن الفطرة تنفي هذا الشيء و قابيل هو مثال لا زال يُضرب عند علماء التربية و الأخلاق على كون أن البيئة مجرد حافز فقط .

شكرًا للمرور ، و دمتم بعافية .

Safeed يقول...

Salah ،،

في المنهج الأرسطي هناك قاعدة ملخصها البسيط أن التعميم يكون صحيحًا إذا كانت صفة ما هي الغالبة على أفعال الإنسان .
يؤيد ذلك نص ديني عن الأكرم صلى الله عليه و آله معناه أن المؤمن يبقى مؤمنا و إن تعرض لبعض الحالات التي يُزال فيها إيمانه ثم يعود له .
على هذه القاعدة فإن من الممكن أن تكون الصفة الغالبة على الإنسان هي الموقف التوافقي و إن شذ عنه في بعض الحالات نظرا لطريقة سير المجتمع ، في النهاية يبقى المرء إنسانا ناقصا لا يقرب للكمال ، فالحكم عليه يكون بما يصح تعميمه عليه .
الواقع أن الحضارة الغربية الحالية أي الليبرالية لا تملك منظومة اجتماعية بعكس الشيوعية مثلاً ، فالعيب ليس فيها في خلق هذا التناقض و لكن في فهم المجتمعات لها و تطبيقهم السيء لها و اعتبارهم لها مضادة للدين ، و هذه الأزمة هي من صنع ابناء المجتمع تماما مثل ازمة العقل و الدين عند بعض ( المعقدين ) من مفاهيم الدين .
نحن المطلوب منّا أقلاً أن نسعى و نتحلى بهذه المواصفات حتى تصبح حكما جاريا علينا قدر ما نستطيع و نسال من الله سبحانه التوفيق .
شكرا للمرور :) .

.
.

ZooZ ،،

عودا حميدا .
و الله يعافيكم .. شكرا للمرور .

@alhaidar يقول...

جعلنا الله وإياكم من الشخصيات السوية ..

Safeed يقول...

أحمد الحيدر ،،

آمـين إن شاء الله ،
على الأقل و إن علمنا بنقصاننا الذاتي فنسأل الله عز و جل ان لا يجعله من مؤثرات ظواهرنا الخارجية .
أي تكون شخصياتنا تستحق و لو الإشارة لها من باب الشخصيات السويّة .

شكرا للمرور .

كبرياء وردة يقول...

و لكن ترويض النفس لا يكون إلا بمجاهدتها و هو أحد أهم المبادئ التي يدعو إليها الأخلاقيون

قال رسول الله (ص): جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم.

وعن الامام علي علي أفضل الصلاة والسلام:
إن الجهاد الأكبر جهاد النفس، فاشتغلوا بجهاد أنفسكم تسعدوا.

يعطيك الف عافية اخوي سفيد

وعظم الله لك الأجر

Safeed يقول...

كبرياء وردة ،،

أجورنا و أجوركم ،
أقف عاجزا عن شكركم على هذه الكلمات النورانية ، بها يستتم المعنى و يكمل .
شكرا .

غير معرف يقول...

لدي بعض الحكمة الرائعة.