22 يناير 2011

كلاوات العقل


كلاوه هي لفظة من اللهجة العراقية، مشتقة من كلمة كرديّة، تعني الضحك على الذقون، أو الخداع بمعنى آخر. ومنها جرى اشتقاق معانٍ عدة (كلاوجي) للمخادع، و (كلاوات) للخدائع. وأصبحت الكلمة عندي مرتبطة ارتباطًا شرطيًا –بحسب نظرية بافلوف- بالعقل.

تتبعت الفلاسفة فوجدتهم تناطحوا حتى تصارعوا ببراهينهم وأدلتهم وكلٌّ منهم يدّعي العقل والبرهان، ساء المتصوفة ذلك فقالوا إنّ براهين العقل «أقدامها من خشب» فهي صعبة وتمثل عقبة لدرجة لا تمّكن صاحبها من الوصول إلى الحقيقة والواقع، فليست مضمونة، والوصول إلى الحقائق المهمّة يحتاج إلى «طورٍ من وراء طور العقل»، وهو الكشف والإشراق.

هكذا بالمختصر: إن صَعُب عليك شيء، فانفه! ومع هذا تصارع العرفاء والمتصوفة فيما بينهم، وكلٌ يدّعي كشفه هو الصحيح فضاعت أكف الميزان بينهم.

ذهبتُ إلى الغربيين فوجدتهم أكثر حيرة في هذا العقل! يؤمنون بالمحسوس، ولا يعرفون الحس. يَخضعون المعرفة للتجربة والإحساس، وعليها يفسرّون كل شيء، وما لم يقبل التفسير فالنفى حكمه والمنفى مكانه.

ويبقى السؤال: بأيِّ الحواس أثبتم الحس؟ كالعادة بلا جواب.

فلا هو خاضع للتجربة، ولا سلّم زمام أمره للحواس المعلومة.

أكبر الجرائم اليوم ترتكب بإسم العقل، وغالب التوهمّات إنما تصدر تحت اسم العقل، وإذا ختم على شيء باسمه، فأي موقف تتخذه يخالف هذا الختم، يعني وصمك بمخالفة العقل، ولكن ما هو هذا العقل؟

العقل – بمعناه العام - أوسع من استعماله كمرادف للثقافة، أو الفكر، أو طريقة الاستدلال المنطقي الخاصة. وهي التفسيرات التي يُشير لها العقل في اصطلاحه الحالي. هذا التشويش في معنى العقل، هو الذي يجعل كل من هبّ ودب يعتبر أن المنهج العقلي هو منهج خاص به يُقابل المناهج الأخرى، وهنا سأستعير اقتباسًا من الشيخ مالك العاملي يُظهر الخلل في مثل هذه المقايسة: «ليس البحث إذن في حاجة تلك المناهج مجتمعة أو متفرقة إلى المنهج العقلي أو العقل، بل في حاجة العقل إلى تلك المناهج أو بعضها».

وهذا هو لُبّ الموضوع.

العقل أداة، وهذه الأداة كالآلة لا تعمل بمفردها، ولا تتصرف من تلقاء نفسها بل هي بحاجة لبرمجتها، وتزويدها بطريقة العمل حتى تؤدي المطلوب منها. دور المنطق بالنسبة للعقل، كدور التعليمات بالنسبة للآلة وهو تزويدها بنظام عمل يكفل لها ألا تحيد عمّا هو مطلوب منها.

العقل يقودك إلى الإلحاد، كما أنّه يقودك إلى الإيمان، هو إن أخذناه بمعناه الدارج، أداة محايدة لا يصح الاستناد عليها إذا لم تكن هناك أرضية مشتركة يمكن الاحتكام إليها. يمكن تشبيهه بالمعالج في جهاز الحاسب (processor) يأخذ البيانات وعلى ضوء ما أعطي له يعالجها.

بينما هو بحسب المعارف الدينية، أحد قوى النفس، وبحسب المهتميّن، يصنّف ضمن مراتبها، ولذا يقول المولى المازندراني: إن العقل هو النفس الناطقة، إذا تعلّق بالبدن [أي ارتبط به] صار اسمه نفسًا، وإذا تجرّد وانتسب إلى عالم القدس يُسمى عقلاً، لأنه عقل نفسه من الشرور والمفاسد في هذا العالم*.

النفس الإنسانية تعيش ضمن واقع ظلماني مليء بالشرور، يحيط الإنسان بالنقائص من كل ناحية، وتتنازع فيه الأنا والهوى والرغبة والحاجة. الأنا التي تبحث عن المصلحة الشخصية، والهوى الذي يجعل الإنسان يرى في نفسه الصوابية المطلقة، والرغبة بالاستعلاء، والحاجة إلى الاجتماع مع الناس، كلّ هذه تتفاعل مع بعضها البعض بدرجات متفاوتة، وتقود العقل لترى ما تريد رؤيته فقط.

ومراتب النفوس تتفاوت، من كاملة إلى ساعية نحو الكمال إلى غارقة في بحر الظلمات، وعلى تنّوع هذه النفوس تكون العقول، فالطاغية يرى في طغيانه عدلاً، والجاهل يرى في جهله علمًا، والمجنون يرى في جنونه عقلاً، كل هؤلاء يملكون ذات العقل لكنّهم قادوا العقل وفق أهواءهم، فخلصوا إلى صوابيّة مواقفهم، وآرائهم.

إن العقل يعتمد على مدى مجاهدة هذه النفس الأمارة بالسوء، أولاً، ومدى القدرة على تجريده وفق المنطق السليم، ثانيًا، بلا هذين الإثنين يكون العقل مَقودًا، لا قائدًا.

فمصيبة العقل ليست فيه، إنما فيمن يدعيه وهو لا يعرف ما هو، ولا يريد استعماله كما هو. ويُصاب بالذعر حين يرى أن العقل المنطقي لا يقبل مغالطاته، فيُحارب العقل باسم العقل! كما قيل: لا يستطيع الاستدلال على ما يهوى، فحارب الدليل بما هوى!

«دير بالك من كلاوات العقل» هكذا دائمًا يبدأ أحد الأفاضل مبتسمًا نصيحته لنا، بمجرد أن تُنطق هذه الكلمة من لسانه فهذا يعني موعدًا مع نصيحة يريد جرّنا لاستماعها. وتحذيره دائمًا من تصديق خدع العقل يعود إلى أنّ العقل بات اليوم تبريرًا لكل اشتطاط فكري، ونفسي، ومسوغًا لكل مرفوض على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي، وصولاً إلى الديني.

دير بالك، هي تحذير من الإنجرار خلف السفسطة والمغالطة التي يقدمها هؤلاء باسم العقل. فهذه المغالطات تبدو في ظاهرها منطقية، ورائعة، وقابلة للتسويق بين النّاس لكنها لا تصمد أمام المنطق السليم الذي يهذب آلية عمل العقل. إن طريقة الاستدلال نصف النتيجة، والحكم عليها، وحين ترى أحدهم يستدل بالمغالطات، ويضع النتائج قبل المقدمات، كمن يضع العربة أمام الحصان، أو يلوِ عنق الحقائق ليًّا لتناسب ما يشتهي، فاعلم أن «كلاواته العقلية/النفسية» قد سيطرت علىيه حتى بات عقله خصمًا له بدلاً أن يكون قاضيًا، يورده المهالك وهو يظن العكس.

« .. فلو أن الباطل خَلُص لم يخف على ذي حجى ، ولو أن الحق خَلُص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن ذاك ضغث، فيمزجان فيجيئان معًا، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى.. »*



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لاشك أنّ هذا الاختصار مخل بالمعنى. فالعقل مراتب وكمالات، لا يمكن جمع براهينها وتفسيراتها كلها هنا.

للمزيد من الإطلاع على بيان المولى المازندراني للعقل، راجع: شرح أصول الكافي، ج1، ص 65 وما بعدها: هـنـا.

** مقتطف من خطبة للإمام علي عليه السلام. الأصول الستة عشر/ أصل زيد الزراد، ص 25

هناك 6 تعليقات:

Mohammad Al-Yousifi يقول...

good luck maqal

غير معرف يقول...

AL-Ka3bi

شكرا على المقالة الرائعة أخي سفيد

أنت قلت : "إن طريقة الاستدلال نصف النتيجة".

ولهذا يجب على الفكر البشري أن يقسم لاستدلال إلى قسمين : الأول الاستنباط والثاني الاستقراء حتى نصل الى مقدمات نخرج منها أي نتخذ من تلك المقدمات سببا كافيا لتبرير الاعتقاد بهذه النتيجه .

وبذلك نبعد الانسان عن "كلاوات العقل".

آسف على الاطاله واذا وجدت خطأ فيما كتبت أرجو التصحيح فانت استاذي الافتراضي الذي اتشوق الى معرفته وشكرا

أحمد محمدي يقول...

لو بكتب مقالك في اربع كلمات لقلت
تفوو على المخنثين فكريا :)

Safeed يقول...

ma6goog،،

merci

:)

====

AL-Ka3bi،،

طريقة الاستدلال نصف النتيجة، تعني أن منهجية الاستدلال هي التي تحدد هل ما سأصل إليه صحيح أم لا؟

الاستقراء والاستنباط منهجين عقليين في الوصول إلى النتائج، يعتمدان على تمدهما به من معلومات، ولا يكلفان لك بنفسيهما نتيجة صحيحة.

فهما يعتمدان على مدى صحة المقدمات التي تضعها ضمن عملية الاستقراء أو الاستنباط. وهذه المقدمات ليس من مهمة المنطق ايجادهما بل من مهمة العلوم المختصة بهما.

لذلك يجب دائما الانتباه إلى الحقائق التي تستخدم في الوصول إلى النتيجة.

حياكم الله،
وأنا أقل من مقام الاستاذية.

شكرا

=====

أحمد محمدي،،

من البلاغة أحيانًا، كما هو مقرر في الكتب، الإطالة.. :)

فالاختزال الكثيف يسلب لذة الكتابة :)

شكرا

الموسوعة الحرة يقول...

تحية طيبة...
مقال في غاية القيمة المعرفية...
بوركت عليه...

Safeed يقول...

OPENBOOK،،

شكرا :)